ولما فرغ عليه السلام من استدلال الإنسان بأحوال نفسه على حدوثه المستلزم أنه لا بد له من محدث حكيم أخذ في إرشاد طالب النجاة إلى الاستدلال بأحوال غيره من أصناف العالم، فقال: [ وشاهدت الأشياء تحدث ] كالحيوانات والأشجار والثمار والأنهار ونحوها [ بعد أن لم تكن ] وهذا أمر ضروري لا يمكن دفع العلم به عن النفس بشك ولا شبهة، فإنه إذا كان فصل الشتاء وانصرمت ثمار السنة الماضية كانت الأرض حينئذ خلية عن الثمار والزرائع حق السنة المستقبلة وما بعدها من السنين، وكذلك الأشجار تنبت منها ما نبت بنفسه ومنها ما يغرس ثم يحصل النمو فيها والتزايد والثمر فيما يثمر منها، وكذلك الحيوانات تتوالد وتتكاثر والكل كما ذكر عليه السلام من قوله: بعد أن لم تكن، ثم أخذ عليه السلام في تفصيل الاستدلال بكل صنف من أصناف العالم على حدته فقال: [ فرأيت الولد ] وهو يعم الذكر والأنثى مأخوذ من الولادة فيعم جميع الحيوانات إلا أن لفظ الولد قد يراد به الإنسان فقط ويقال في سائر الحيوانات نتاج [ يخرج ] من بطن أمه [ ولا يعلم شيئا ] كما قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل:78]، [ ثم يصير رضيعا ] فعيل بمعنى مفعل كنبي بمعنى منبي مع ما في ذلك من الآية الباهرة والحكمة الظاهرة لما كان في تلك الحال لا تصلح له المآكل الجسيمة ولا يقدر على تناولها، وتناول شرب الماء جعل الله له رزقا في ثديي أمه وألهمه المص عند أن يوضع الثدي على فمه، وألهم الدواب مع كونها بلا عقل ولا دراية أن لا يتصرف ولا يتطلب ذلك في غير ذلك الموضع والأم أن تمكنه من ذلك، فسبحان المدبر لكل شيء والملهم لكل حي بما فيه صلاحه واستمرار حياته ونمو ذاته، [ ثم ] يصير الولد من الآدميين بعد ذلك [ طفلا ] والطفل يطلق على الإنسان إلى حين التمييز، [ ثم ] يصير [ غلاما ] إلى حين البلوغ، [ ثم بالغا، ثم شابا، ثم كهلا ] وهو ما بين الشباب والشيخوخة أو من بلغ الأربعين، [ ثم شيخا ] وهو من طعن في السن وجاوز الستين السنة، ثم إذا بقي بعد ذلك وبلغ الثمانين صار هما ضعيفا قد سلب أكثر الحواس وقلت معه لذة المأكل والمشرب وسائر المشتهيات اللذيذة وربما ذهب سمعه وبصره وإعقاله المعقولات ورد إلى أرذل العمر كما قال تعالى: {والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير} [النحل:70]، [ ونحو ذلك ] أي نحو خلق الإنسان وسائر المخلوقات [ من هبوب الرياح ] والهبوب - بالضم - مصدر هب يهب يقال هبت الريح تهب هبوبا والرياح جمع ريح وتجمع على أرواح لأن الأصل روح فقلبت الواو إلى ياء على القاعدة، وحقيقة الرياح حركات متداركة على الهواء وهي أربع: شمال: وهي الآتية من جهة الشام إلى جهة اليمن، وجنوب: وهي بالعكس من ذلك، وصبا: وهي الآتية من جهة المشرق إلى جهة المغرب، ودبور: وهي بالعكس من ذلك، يجمعها قول الشاعر:
شملت بشام والجنوب تيامنت .... وصبت بنجد والدبور بمغرب
وكل ريح اعترضت بين ريحين كالآتية مما بين المشرق والشام يقال لها نكبا، قال شيخنا صفي الإسلام رحمه الله تعالى ودلالتها على الله ظاهرة لأن هبوها حال [ وسكونها ] حال [ بعد ] الأول، فلابد من فاعل لذلك.
Bogga 61