فأحست سلمى بانقباض عند سماعها عبارة العجوز، إذ أدركت أنها تشير إلى خطاب سليم الذي حملته إليها، لكنها تجاهلت وقالت: «لا أدري كيف تخلص منها، وعلى كل حال متى حضر سنعرف كل شيء.»
فسكتت سعيدة وخرجت من الغرفة متظاهرة بإنجازها بعض الأعمال، ثم غادرت المنزل خلسة وتوجهت مسرعة إلى بيت داود، فقصت عليه ما سمعته، فقال لها: «هذا كله سببه حمق سيدتك وردة وتسرعها عليها لعنة الله. فهي التي فضحتنا وسببت فشلنا بإرسالها إلى سليم خطأ ذلك الخطاب الذي كتبته إلي، وجاءني بدلا منه الخطاب الآخر الذي كتبته باسم والدته تدعوه فيه إلى الحضور.»
ثم واصل حملته على وردة ونعتها بكل نقيصة متأثرا بضياع آماله في المكافأة التي وعدته بها. فلما طلبت إليه سعيدة أن يكف عن حملته على سيدتها، بادرها بالشتم ورفسها في بطنها رفسة قوية أوقعتها على الأرض، فصرخت من شدة الألم، وانطلقت تسبه وتلعنه مما زاد في ثورته وغضبه فاستأنف رفسها وهي توالي الصراخ حتى اجتمع عليهما الجيران والمارة، وخلصوها من بين يديه وهي مشرفة على الهلاك. ثم جاء رجال البوليس، فحملوها إلى القسم بين الموت والحياة، وقادوه مكبلا بالقيود للتحقيق معه في جريمة شروعه في قتلها.
اجتماع الشمل
تفقدت سلمى سعيدة بعد انصرافها من غرفتها فلم تجدها بالمنزل، وعلمت أنها غادرته دون علم والدتها، فقلقت لذلك، ثم اشتد قلقها حين جاء المساء دون أن تعود. وفيما هي كذلك سمعت طرقا على باب المنزل، ثم سمعت والدتها ترحب بالقادمين وهي تقودهم إلى غرفة الاستقبال. وخفق قلبها بشدة إذ طرق سمعها اسم سليم، وظنت نفسها واهمة، لكنها ما لبثت أن سمعت صوته هو نفسه فكاد يغمى عليها من فرط الفرح، وازداد خفقان قلبها وبردت أطرافها، فسارعت إلى استنشاق بعض الروائح العطرية، ولبثت ترهف سمعها فسمعت صوته وأصواتا أخرى عرفت من بينها صوت حبيب ووالدته، وعجبت لسماعها صوت سيدة أخرى لا تعرفها. ثم شعرت باقتراب الأصوات ووقع الأقدام في اتجاه غرفتها، فلم تعد ساقاها تقويان على حملها، وجلست على السرير محاولة التجلد. ثم فتح باب الغرفة ودخلت والدتها ووالدة حبيب ومعهما سيدة متوسطة العمر بسيطة الملابس يفيض وجهها بالطيبة والبساطة والوقار، فهمت سلمى بالوقوف لاستقبالهن فبادرتها هذه السيدة بالكلام قائلة: «لا تتعبي نفسك يا حبيبتي!» وهمت بها فقبلتها في حنان وهي تقول: «سلمت ألف سلامة، وسلم هذا الوجه اللطيف من كل سوء.» فقبلت سلمى يد السيدة شاكرة وعيناها تدمعان تأثرا، وما كادت تسمع والدتها تقول: «هذه خالتك العزيزة والدة عزيزنا سليم.» حتى ازداد تأثرها، وعادت إلى تقبيل يدها والدموع تنهمر من عينيها.
ثم تقدمت والدة حبيب وقبلتها بدورها، وقالت لها: «الحمد لله على سلامتك يا بنيتي.» ثم جلسن حول سريرها وأم سليم لا تني عن التطلع إليها في إعجاب ملحوظ، معربة عن أطيب تمنياتها لها بالشفاء التام والسعادة.
وبعد قليل قالت والدة حبيب لسلمى: «إن قلوبنا قد اطمأنت برؤيتك اللطيفة يا عزيزتي. ولكن قلب سليم لا يطمئن إلا إذا حظي برؤيتك هو الآخر، فهل أدعوه من غرفة الاستقبال؟» قالت ذلك ونهضت وهي تنظر إلى سلمى، فلما رأتها أطرقت حياء وسكتت، ومضت إلى غرفة الجلوس وعادت ومعها سليم، وما كادت عيناه تقعان على سلمى حتى هاجت أشجانه لما شاهد من نحولها وذبول خديها وتكسر أهداب عينيها، وهم بيدها فأمسكها مصافحا والعبرات تتساقط على خديهما وهما يرتجفان. وبقيا كذلك هنيهة وهما لا يستطيعان الكلام، ثم قال سليم وهو ما زال ممسكا يدها: «اصفحي عني يا سلمى، اصفحي عن ظلمي وجهلي وحماقتي، إني لا أستحق الصفح ولكنك ملاك طاهر رحيم، وعفوك أعظم من إساءتي مهما تكن قد سببت لك من الشقاء والعناء!»
وخنقته العبرات فعاد إلى سكوته وإطراقه، فشهقت هي الأخرى بالبكاء، وترنحت في وقفتها وازداد امتقاع لونها، فأجلسها مترفقا على السرير، وجاءتها والدتها بزجاجة بها رائحة عطرية رشت وجهها بقليل منها. فلما أفاقت نظرت إلى سليم وهو واقف أمامها في خشوع وقالت له: «إن الله يغفر الذنوب جميعا، وحسبي من الدنيا أنك عدت إلى اعتقادك بوفائي وإخلاصي.»
فشعر لدى سماعه ذلك منها بكثير من الارتياح، وتنهد ثم حاول الكلام ليشكرها فلم يستطع لفرط تأثره وبكائه. فهمت والدته بسلمى وربتت كتفها قائلة: «إن هذا لأكبر دليل على عراقة أصلك ونبل أخلاقك يا بنيتي. والحقيقة أني أنا المذنبة في حقك لا سليم؛ لأنني انخدعت بوشاية المغرضين.» ثم أخذت هي الأخرى في البكاء.
وهنا نهضت والدة حبيب، فأجلست والدة سليم بجانب سلمى، وأجلسته أمامهما بينها وبين والدة سلمى، وقالت: «الآن يجب علينا أن نحمد الله على اجتماع الشمل وحبوط مكايد الوشاة والحساد. فلنترك البكاء ولنتهيأ للأفراح.»
Bog aan la aqoon