ثالثها: أنها أسماء للملائكة، وأنها إذا تليت كانت للنداء لملائكتها وتصغي الملائكة إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون: صدقت؛ إن كان ما بعدها خبر، ويقولون: هذا مؤمن حقا، نطق حقا، وأخبر بحق، فيستغفرون له، وهو قول محيي الدين بن عربي صاحب الشطحات الصوفية المتطرفة في كتابه (الفتوحات المكية) وما هو إلا خبط بلا هاد ولا نظر، فإنه قول بعيد عن أسلوب القرآن ومقاصده.
رابعها: أنها رموز لأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف، كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنى به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكنى به عن محمد، وما ماثله كمبشر ومنذر، ونسب ابن عاشور هذا القول إلى الشيخ محمد بن صالح التونسي المعروف بابن ملوكة في رسالة له، ثم قال: وعلق على هذه الرسالة تلميذه شيخ الاسلام محمد معاوية تعليقة أكثر فيها من التعداد وليست مما ينثلج بمباحثه الفؤاد، ويرد هذا القول إلتزام حذف حرف النداء، وما قاله من ظهوره في { يس } مبني على قول من قال إن { يس } بمعنى يا سيد، وهو ضعيف لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء، ولأن الشيخ نفسه عد { يس } بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من { كهيعص }.
خامسها : أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل، قاله أبو العالية استنادا إلى ما رواه البخاري في تأريخه وابن اسحاق وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رئاب، قال:
" مر أبو ياسر ابن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } ، فأتى أخاه حيي ابن أخطب في رجال من يهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه { الم ذلك الكتاب.. } فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب.. } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب - وأقبل على من كان معه -: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد؛ هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: { المص } قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: { الر } قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مئتان، فهذه إحدى وثلاثون ومئتا سنة. قال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم؛ { المر } قال: فهذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مئتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا، ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون مائة، ومئتان وإحدى وثلاثون، ومئتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره "
قال ابن جرير: ويزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
[آل عمران: 7].
وليس في هذه القصة دليل على صحة هذا القول، ولو قدرنا صحتها - فما بالكم وسندها ضعيف بالاتفاق - فإن القرآن لا يعول في تفسيره على خرافات أهل الكتاب التي لا تستند إلا على الأوهام، وليس في إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لما ذهبوا إليه من أنها ترمز إلى مدة بقاء هذه الأمة، وإنما يحمل ذلك - لو صح وما هو بصحيح - على قصده عليه أفضل الصلاة والسلام إبطال مزاعمهم وتفنيد فهومهم على الطريقة المعروفة عند أهل الجدل بالنقض، ومرجعها إلى المنع، وقد قيل إن المانع لا مذهب له، ولا يستفاد من ضحكه صلى الله عليه وسلم إلا الاستغراب من جهلهم.
أفاد ذلك الإمام ابن عاشور.
وإن تعجب فعجب كيف يستند أئمة التفسير في بيان مراد الله من كتابه بدعاوى أهل الكتاب الذين لا يتورعون عن تحريف الكلم عن مواضعه في الكتاب الذي أوتوه، فما بالك بتحريف التأويل فيما هم بصدد اللدد والكيد له، وتكذيب الرسول الذي أنزل عليه ومثل هذه الأقوال جديرة بنفيها عن ساحة التفسير، وعدم شغل دواوينه بذكرها، لولا بغية التحذير منها والتنبيه على زيفها حذر اغترار العامة بها أثناء اطلاعهم عليها في أمهات التفسير القديمة.
Bog aan la aqoon