فيه التوجه إلى الله، وإلى رحمته التي وسعت كل شيء .. فيه أنفاس قول الله تعالى في ندائه الأقدس: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (^١) وذنوب العبد -مهما عظمت- فإن مغفرة الله وعفوه أوسع.
ويعلمنا رسولنا كيف ندعو ربنا: "اللَّهُمَّ مَغْفرَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبي، وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلي". وفي شرح ابن رجب لهذا الحديث يسوق الآيات والأحاديث والرقائق والشعر، في ابتهال كأنك معه في جوف الليل في استغفار عميق، وصدق توجه إلى قَيوُّم السماوات والأرض: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (^٢).
ما اختاره النووي هو "واحة" الاستغفار، بعد رحلة الحياة الطويلة، بكل ما فيها من معاناة يرجو بعدها من ربه الجزاء الأوفى: درجات منه ومغفرة.
ويأتي ابن رجب فيختار ختامًا جديدًا، مع احتفاظه بالختام القديم .. كأنه رواق يضيفه إلى المبني، يتكامل معه، ويثريه موضوعيًّا، مع المحافظة على هندسة الكتاب الأولى.
والحديث الذي اختاره، كأنما هو جامع لجوامع الكلم، حتى في صياغته، ولنقرأه معًا:
عن عبد الله بن بشر قال: أتى النبيَّ ﷺ رجلٌ فقال: يا رسول الله! إنَّ شَرَائِعِ الإِسْلام، قَدْ كثُرَتْ عَلَيَّ، فَبَابٌ نَتَمَسَّك بِهِ جَامعٌ؟ قال: "لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله".
وفي شرح الحديث تحس أن ابن رجب يختم الكتاب كله .. وأن الشرح هو كلمة الوداع بعد معايشة مؤمنة لعمل جليل، يسلمه إلى تراثنا الكبير، وأنه اللمسات الأخيرة في هيكل ضخم شادته اليد والعقل والقلب، والنشيد الختامي في هذا الديوان المنير، وفيه يبذل ابن رجب طاقته، وذوب قلبه، في إبراز مكانة الذكر والذاكرين، ونماذج من إقبالهم على الله. ويذكر من الشعر في شرح هذا الحديث ما لم يذكره في الكتاب كله، وينتقل بعد هذا إلى بيان وظائف اليوم والليلة، كأنما يضع للمسلم برنامجًا لحياته اليومية ودورتها السنوية، على هدى من مأثور ذكر الله في كل أحواله. ويكاد هذا الفصل أن يكون خلاصة لكتاب كامل ألفه ابن رجب في هذا الموضوع هو "لطائف المعارف فيما
_________
(^١) سورة غافر آية: ٦٠.
(^٢) سورة غافر: ٧.
1 / 36