Jamic Bayan
جامع البيان في تفسير القرآن
قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان أحدهما: { أم تقولون } بالتاء، فمن قرأ كذلك فتأويله: قل يا محمد للقائلين لك من اليهود والنصارى «كونوا هودا أو نصارى تهتدوا»: أتجادلوننا في الله أم تقولون إن إبراهيم؟ فيكون ذلك معطوفا على قوله:
أتحآجوننا في الله
[البقرة: 139]. والوجه الآخر منهما «أم يقولون» بالياء. ومن قرأ ذلك كذلك وجه قوله: «أم يقولون» إلى أنه استفهام مستأنف، كقوله: { أم يقولون افتراه } وكما يقال: إنها لإبل أم شاء. وإنما جعله استفهاما مستأنفا لمجيء خبر مستأنف، كما يقال: أتقوم أم يقوم أخوك؟ فيصير قوله: «أم يقوم أخوك» خبرا مستأنفا لجملة ليست من الأول واستفهاما مبتدأ. ولو كان نسقا على الاستفهام الأول لكان خبرا عن الأول، فقيل: أتقوم أم تقعد. وقد زعم بعض أهل العربية أن ذلك إذا قرىء كذلك بالياء، فإن كان الذي بعد أم جملة تامة فهو عطف على الاستفهام الأول لأن معنى الكلام: قيل أي هذين الأمرين كائن، هذا أم هذا؟. والصواب من القراءة عندنا في ذلك: { أم تقولون } بالتاء دون الياء عطفا على قوله:
قل أتحآجوننا في الله
[البقرة: 139] بمعنى: أي هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله، فتزعمون أنكم أولى منا، وأهدى منا سبيلا، وأمرنا وأمركم ما وصفنا على ما قد بيناه أيضا، أم تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن سمى الله كانوا هودا أو نصارى على ملتكم، فيصح للناس بهتكم وكذبكم لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه، وغير جائزة قراءة ذلك بالياء لشذوذها عن قراءة القراء. وهذه الآية أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى الذين ذكر الله قصصهم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتحاجوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا، وأنكم على هدى ونحن على ضلالة ببرهان من الله تعالى ذكره فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى على دينكم؟ فهاتوا على دعواكم ما ادعيتم من ذلك برهانا فنصدقكم فإن الله قد جعلهم أئمة يقتدى بهم. ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد إن ادعوا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان أم الله؟ القول في تأويل قوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهدة عنده من الله }. يعني: فإن زعمت يا محمد اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك كونوا هودا أو نصارى، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، فمن أظلم منهم؟ يقول: وأي امرىء أظلم منهم وقد كتموا شهادة عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا مسلمين، فكتموا ذلك ونحلوهم اليهودية والنصرانية.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى. فيقول الله: لا تكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم. وقد علم أنهم كاذبون. حدثني المثنى قال: أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة فيهم إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني إسحاق، عن أبي الأشهب، عن الحسن أنه تلا هذه الآية: { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل } إلى قوله: { قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادة أن أنبياء برآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلوها؟. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل: أنهم لم يكونوا يهود ولا نصارى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان. وأنه عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارى إن ادعوا أن إبراهيم ومن سمي معه في هذه الآية كانوا هودا أو نصارى، تبين لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم كذبهم وادعاءهم على أنبياء الله الباطل لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم، وإن هم نفوا عنهم اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين، فإنا وأنتم مقرون جميعا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدين الذي كانوا عليه. وقال آخرون: بل عنى تعالى ذكره بقوله: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } اليهود في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية والنصرانية، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } قال: الشهادة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم، وهو الذي كتموا. حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو حديث بشر بن معاذ عن يزيد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } قال:لهم يهود يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم، فيكتمون الصفة. وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك لأن قوله تعالى ذكره: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } في أثر قصة من سمى الله من أنبيائه، وأمام قصته لهم. فأولى بالذي هو بين ذلك أن يكون من قصصهم دون غيره. فإن قال قائل: وأية شهادة عند اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؟ قيل: الشهادة التي عندهم من الله في أمرهم، ما أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرهم فيها بالاستنان بسنتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حنفاء مسلمين. وهي الشهادة التي عندهم من الله التي كتموها حين دعاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا له: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا له ولأصحابه:
كونوا هودا أو نصارى تهتدوا
[البقرة: 135]. فأنزل الله فيهم هذه الآيات في تكذيبهم وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطل والزور. القول في تأويل قوله تعالى: { وما الله بغفل عما تعملون }. يعني تعالى ذكره بذلك: وقل لهؤلاء اليهود والنصار الذين يحاجونك يا محمد: { وما الله بغافل عما تعملون } من كتمانكم الحق فيما ألزمكم في كتابه بيانه للناس، من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط في أمر الإسلام، وأنهم كانوا مسلمين، وأن الحنيفية المسلمة دين الله الذي على جميع الخلق الدينونة به دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل. ولا هو ساه عن عقابكم على فعلكم ذلك، بل هو محص عليكم حتى يجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهل في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . فجازاهم عاجلا في الدنيا بقتل بعضهم وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مجازيهم في الآخرة العذاب المهين.
[2.141]
Bog aan la aqoon