ولو كنت هنا إنما آتي بما فيه ركانة وأصالة، دون ما فيه سخافة ورذالة، لزال عن الملح اسمها، وارتفع عنها وسمها، وخرجت عن حدودها، وأفلتت من قيودها. ولا بد من توشيحه بلطئاف من الجد، وظرائف من القصد، تتعلق بأغصانه، وتتشبث بأفنانه؛ ليكون استراحة للناظر، وإجمامًا للخاطر؛ وكما يمل الجد، فيدخل فيه الهزل؛ كذلك يمل الرقيق فيحتاج إلى الجزل. والله أستغفر مما شغل به الخاطر، وأتعب له الناظر، وصرف إليه الفكر، واستخدم فيه السر، مما غيره أعم فائدة، وأتم عائدة؛ فهو الرؤوف الرحيم، والجواد الكريم.
من ملح أشعب
قيل لأشعب الطماع: لقد لقيت التابعين وكثيرًا من الصحابة، فهل رويت مع علو سنك حديثًا عن النبي ﷺ؟ فقال: نعم، حدثني عكرمة عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: خلتان لا تجتمعان في مؤمن. قيل: وما هما؟ قال: نسيت واحدةً، ونسي عكرمة الأخرى.
وقيل له: كم كان أصحاب النبي ﷺ يوم بدر؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر رطلًا.
وهذا كما قيل لطفيلي: كم اثنين في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة.
وسألته صديقة له خاتمًا وقالت له: أذكرك به. قال: اذكري أنك سألتني فمنعتك.
وساوم بقوس بندق، فقال صاحبها: بدينار، فقال: والله لو كنت إذا رميت بها طائرًا وقع مشويًا بين رغيفين ما اشتريتها بدينار.
وأهدى رجل من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج فالوذجة وأشعب حاضر فقال: كل يا أشعب، فأكل منها، فقال له: كيف تراها؟ قال: الطلاق يلزمه إن لم تكن عملت قبل أن يوحي ربك إلى النحل، أي ليس فيها حلاوة.
وبأشعب هذا يضرب المثل في الطمع. قال الشاعر:
إني لأعجب من مطالك أعجب ... من طول تردادي إليك وتكذب
وتقول لي تأتي وتحلف كاذبًا ... فأجيء من طمعٍ إليك وأذهب
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب
وقيل له: أرأيت أطمع منك؟ قال: نعم كلبة آل أبي فلان، رأت شخصًا يمضغ علكًا، فتبعته فرسخًا تظن أنه يرمي لها بشيء من الخبز.
ومر أشعب برجل يعمل طبقًا من الخيزران؛ فقال له: أريد أن تزيد فيه طوقًا أو طوقين. قال: فما فائدتك؟ قال: لعل أحدًا من أشراف المدينة يهدي لنا فيه شيئًا.
وكان أشعب يعشق امرأة بالمدينة ويتحدث فيها حتى عرف بها، فقال لها جاراتها: لو سألته شيئًا؟ فأتاها يومًا فقالت: إن جاراتي يقلن ما يصلك بشيء. فخرج عنها ولم يقربها شهرين. ثم أتاها فأخرجت له قدحًا فيه ماء، فقالت له: اشرب هذا للفزع! فقال: بل أنت اشربيه للطمع، ومضى فلم يعد إليها.
وأشعب هذا: هو أشعب بن جبير مولى عبد الله بن الزبير، وكان أحلى الناس مفاكهةً.
قال الزبير بن بكار: أهل المدينة يقولون: تغير كل شيء من الدنيا إلا ملح أشعب، وخبز أبي الغيث، ومشية برة. وكان أبو الغيث يعالج الخبز بالمدينة؛ وبرة بنت سعد بن الأسود؛ وكانت من أجمل النساء وأحسنهن مشية.
وكان أشعب قد نشأ في حجر عائشة بنت عثمان بن عفان ﵁ مع أبي الزناد. قال أشعب: فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا الغاية.
قال: وأسلمته عائشة إلى من يعلمه البز؛ فسألته بعد سنة أين بلغت؟ قال: نصف العمل وبقي نصفه، قالت له: كيف؟ قال: تعلمت النشر وبقي الطي.
وكان أشعب أطيب الناس غناء، وأكثرهم ملحًا، ونسك في آخر عمره ومات على ذلك رحمه الله تعالى. وكان يوم قتل عثمان غلامًا يسقي الماء وبقي إلى خلافة المهدي.
وخرج سالم بن عبد الله متنزهًا إلى ناحية من نواحي المدينة ومعه أهله وحرمه، فبلغ أشعب الخبر، فوافاهم يريد التطفيل؛ فصادف الباب مغلقًا، فتسور الحائط عليهم. فقال له سالم: ويلك يا أشعب! معي بناتي وحرمي! فقال له أشعب: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد. فضحك منه وأمر له بطعام أكله وحمل منه إلى منزله.
وكان يقول: ما أحسست قط بجار لي يطبخ قدرًا إلا غسلت الغضار، وكسرت الخبز، وانتظرته يحمل إلي قدره.
1 / 26