أفد طبعك المكدود بالهمّ راحةً ... براحٍ وعلّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
بدء الكتاب
وهذا حين أبتدىء متصرفًا بك من بلاغة خطاب، إلى براعة جواب، وصريح منادرة، إلى مليح مهاترة، وغريب مراجعة، إلى عجيب منازعة، وتشبيه واقع، إلى مثل صادع، وغير ذلك مما يحي موات القلوب، ويشفي نجي الكروب، مما تجذل له الخواطر، وترتاح إليه السرائر، وتنفتح به الأسماع، وتنشرح له الطباع.
فما مر به من هذه النوادر فلا تنظر إليها نظر المنكر فتعرض عنها صفحًا، وتطوي دونها كشحًا، إذا وقعت فيها كلمة قذف، أو لفظة سخف. وتقول: قد قال عمر بن عبد العزيز ﵀ لغلامه ورأى روث دابة: نح ذلك النقيل تصونًا عن اسم الروث. وقال: عرضت لي دمل تحت يدي فآلمتني، ولم يقل تحت إبطي.
وكان الحجاج على قبح أفعاله، وسوء أحواله، يتنزه عن أن ينطق بلفظة سخيفة. وقد قال لمن اتهمه بمال ابن الأشعث: لو خبأته تحت، حتى قال: تحت ذيلك، لم يكن بد من إخراجه. وإنما أراد أن يقول تحت استك.
وأكثر القاذورات وردت بالكنايات؛ كالغائط وهو المطمئن من الأرض. وكانا إذا أرادوا قضاء الحاجة ذهبوا إلى ذلك الموضع؛ فسمي ما يخرج من الإنسان باسم موضعه. وكذلك الاستنجاء أيضًا مأخوذ من النجو، وهو المكان المرتفع؛ لاستتارهم وراءه. والحش: البستان. والعذرة: فناء الدار. وكذلك وصفهم لطيب الأردان، وهي الأكمام، وإنما يراد ما تحتها، وإنما ذلك كله للفرار من النطق بأسماء الأقذار.
وليس في كل موضع أعزك الله تحسن الكنايات عن لفظ فحش، ولا بكل مكان يجمل الإعراض عن معنى وحش. فيكون كما حكى الجاحظ: أن رجلًا بعث غلامه إلى غريم له، فأساء الغلام خطابه، فخرق الغريم ثيابه؛ فرجع إلى مولاه، فقال: ما لك؟ قال: شتمك يا مولاي، فلم أحتمل الصبر، فرددت عله، فحل بي ما ترى، قال؛ وما كان شتمه؟ قال: قال لي: أدخل هن الحمار في حر أم من أرسلك. فقال له مولاه: دعني عنك مما جرى، ولكن لم لم تجعل لي من الوقار ما جعلته لأير الحمار حين كنيت عن ذا ولم تكن عن ذا! فلو صرح بالجميع لكان أسلم له من الذنب، وآمن من العتب.
وقد قال أبو فراس الحمداني لرسول أرسله إلى من يهواه، فجفا في جوابه، فلطف الرسول رسالته فتبين أبو فراس ذلك فأنشده:
وكنى الرسول عن الجواب تظرّفًا ... ولئن كنى فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول ولا تحاش، فإنّه ... لا بدّ منه أساء بي أم أحسنا
الذنب لي فيما جناه لأنني ... مكّنته من مهجتي فتمكّنا
أخذه بعض المتأخرين فقال:
يا رسولي خلّ عنك الظّ ... رف إن كنت رسولا
لا تقل ما لم يقله ... واشف بالصدق الغليلا
وهذا وإن لم يكن من محض هذا الباب، إذ كان إنما يستطاب، لأنه من الأحباب، كقول الآخر:
أتاني عنك شتمك لي وسبّي ... أليس جرى بفيك اسمي فحسبي
وكما قال منصور النمري:
لا يطيب الهوى ولا يحسن الح ... بّ لخلقٍ إلاّ بخمس خصال
بسماع الهوى وعذل نصيحٍ ... وعتابٍ وهجرةٍ وتقال
وكقول الآخر:
دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فإنّ الأذى ممن يحبّ سرور
غبار قطيع الشاء في عين ربّها ... إذا ما تلا آثارهن ذرور
وقول الآخر:
لولا طراد الخيل لم تك لذّةٌ ... فتطاردي لي بالوصال قليلا
هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذةٍ حتى يصيب غليلا
فهو يلم ببعض جهاته، ويتطرف بإحدى جنباته.
وفي مثل التهاتر يمكن قول العتبي فيما سهل سبيله من ترك الإعراض عما كان مثله بالقول لقائله كالولد لناجله: ما على مبصره أن يراه شريرًا فاتكًا، دون أن يراه وقورًا ناسكًا. وإنما تلزم عمدته، وتعود عهدته، في سخفه وجهله، على نفسه وأهله. وقد قال بعض الظرفاء:
إنما للناس منّا ... حسن خلقٍ ومزاح
ولنا ما كان فيا ... من فسادٍ أو صلاح
1 / 25