فإذا كان أبقراط قد أوضح فى جميع كتابه على المياه والأزمان والمواضع أن أمزاج البدن تابعة لأمزاج الأزمان وكذلك فوى النفس أيضا، وليس التى للنوع الغضبى أو التى للنوع الشهوانى فقط بل التى للنوع الفكرى أيضا، فإنه شاهد ينبغى أن يصدق ويقبل قوله أكثر من جميع الناس، إن كان الإنسان يبرهن على حقائق الآراء وصدقها بالشهود كما نجد ذلك عادة لبعض الناس، وإلا أنى أنا ليس أصدق هذا الرجل وأقبل قوله من أجل شهادته على قولى كما يفعل ذلك قوم كثير بل لأنى أجد براهينه على الأشياء حقا، ومن أجل ذلك أمدح أبقراط. فمن تراه لا يبصر أن الناس الذين يسكنون الجربياء هم ضد الناس الذين يسكنون قريبا من موضع الاحتراف فى أبدانهم وأنفسهم؟ أو من تراه لا يعلم أن الذين يسكنون فى الوسط فى بلاد معتدلة هم أفضل فى أبدانهم وأخلاق أنفسهم وفهمهم وعقلهم من سائر الباقين الذين ذكرتهم؟ ولكن لموضع قوم يسمون أنفسهم أفلاطونية ويظنون أن النفس إنما يعقوها البدن بأمراضه، وأنه إذا كان صحيحا فعلت أفعالها الخاصية لها، وليس تقبل منه منفعة ولا مضرة، هوذا آتى بشهادات من كلام أفلاطن بينت فيها أن ما ينفع ويضر فى الفهم من قبل أمزاج البلدان من غير أن يمرض البدن. منها قوله الذى وصفه فى أول كتاب طيماوس، فإنه قال: فلما رتبنا الله تعالى بهذه الرتبة والترتيب أولا اختار لنا موضعا يمكن فيه اعتدال الأزمنة فأسكنناه، لأنه علم أن مثل هذا الموضع سبب لكون ذوى العقول الراجحة من الناس. فقد ثبت أفلاطون وبين بلا شك أن اعتدال الأزمان يولد أناسا ذوى فهم فاضل. ومن بعد ذلك أتبع ما قدم، فقال: لأن الله ليس بمحب للقتال حكيم اختار أولا موضعا من شأنه أن يتولد فيه ناس يقتدون به فأسكنهم فيه. فقد بان وعلم مما سلف ومن هذا أيضا أن أفلاطن يجعل للمواضع حظا عظيما فى أخلاق النفس والفهم والعقل، أعنى بالمواضع مساكن الأرض. وكذلك أيضا فى المقالة الخامسة من كتاب السنن يقول: وإنها يا ماجل وقلينيا، فليس ينبغى أن يذهب هذا علينا من أمر المواضع فيظن أنه ليس يخالف بعض المواضع فى توليد بعضها قوما ذوى فضلية وبعضها قوما ذوى دناءة. وهاهنا أيضا قد بين فى قوله أن المواضع تولد أناسا أكثر فضيلة واأقل فضيلة. ومن بعد ذلك أيضا يقول: إن بعض الناس من قبل الرياح المختلفة ومن حرارة الشمس يكونون أوحادا فى حالاتهم غرباء، وبعض الناس يكون كذلك من قبل الماء، وبعض يكونون أجود وأردأ من الغذاء الواصل الى أبدانهم من الأرض التى يمكن أن تفعل ما أشبه ذلك فى النفس ليس بدون فعله فى البدن. وقد أوضح فى هذا الكلام وبين أن الرياح وحرارات الشمس تغير أخلاق النفس جدا من غير أن يمرض البدن. وزاد فى قوبه أيضا: والغذاء من الأرض وطبائع المياة البلدية.
وهذه فيما أحسب أبلغ فى من ينفر من قولنا: إن قوى النفس تابعة لأمزاج البدن، إلا أن يكونوا يرون أنه يمكن أن يكونوا الناس فى أنفسهم أكثر فضيلة وأقل فضيلة من قبل الرياح وحرارة الهواء المحيط ينا وبرودته وطبيبعة المياة والأغذية إلا أن هذه ليس تفعل الجودة والرداءة فى النفس بتوسط المزاج، وهذا العمرى تابع لفهم هؤلاء القوم وآدابهم. وأما نحن فنعلم علما يقينا أن جنيع الطعام إذا ابتلع نزل أولا إلى البطن، فإذا استحال وتغير فى البطن ثم تأدى إلى العروق التى تجىء إلى البطن من الكبد كانت الكيموسات التى فى البدن، وهى التى يتغذى بها جميع الأعضاء التى منها الدماغ والقلب والكبد، وإذا اغتذت سخنت أكثر مما كانت عليه أو بردت أو يبست أو رطبت، وذاك أنها تتشبه بقوة الكيموس الغالب.
Bogga 34