95

Jabir Ibn Hayyan

جابر بن حيان

Noocyada

تلك لمحات عن خصائص الأشياء وحدودها، وعلى أساس هذه الخصائص تنبني موازين الأشياء، وميزان الشيء هو الحكم عليه لا من حيث كيفه بل من حيث مقداره؛ وبغير معرفة المقادير، ينسد طريق العمل أمام العالم الذي يتناول الأشياء بتدبيره وتصريفه.

ولعل فكرة «الميزان» أن تكون أدق وأعسر وأهم فكرة لجابر بن حيان، وسأحاول هنا عرضها عرضا مبسطا أتخلص فيه من التفصيلات التي تعقد الفهم ولا تفيد كثيرا في رسم الصورة العامة التي نحاول أن نقدمها عن جابر.

يقول جابر - على سبيل الإجمال: إن «العلة الأولى هي العقل، والعقل هو العلم، والميزان هو العلم، فكل فلسفة وعلم فهو ميزان، فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته هي وكل ما يتصل بها من فروع.»

32

ومعنى ذلك أن المبدأ الأول الذي يجوز لنا أن نتصور كل شيء آخر متفرعا عنه، لكننا لا نتصور ما هو أسبق منه، هو العقل؛ فلولا وجود العقل بادئ ذي بدء، لما كان كون؛ وإذا كان هذا هكذا، فكل شيء في العالم إنما يسير وفق مبادئ العقل، وليس الأمر متروكا للمصادفة العمياء؛ «فالعلة الأولى هي العقل»، والعقل والعلم اسمان مترادفان على مسمى واحد، فما تسميه عقلا هو نفسه ما يصح أن تسميه علما؛ لأن العلم عقل جسد وتبلور في قوانين تسير عليها الطبيعة؛ وما كانت هذه القوانين لتصاغ إلا إذا عرفنا طبائع الأشياء ومقدار هذه الطبائع في كل شيء على حدة، ومن هنا كان «الميزان هو العلم»، لولا أن كلمة «ميزان» أعم من كلمتي علم وفلسفة؛ لأن كل حصر لمقادير الأشياء ميزان، وبعض هذه المقادير يندرج تحت عمل الفيلسوف وبعضها يندرج تحت عمل العالم؛ «فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته، هي وكل ما يتصل بها من فروع.» وفي هذا المعنى نفسه يقول جابر في موضع آخر: «إن قواعد الفلسفة هي قواعد الميزان، أو بعض قواعدها قواعد الميزان.»

33

أي أن عمل الفيلسوف إما أن يجيء متطابقا مع العلم بالموازين تطابق المتساويين، وإما أن يكون علم الموازين شاملا للفلسفة بجانب منه دون جانب.

وخشية أن يختلط أمر «الميزان» في الأفهام، بسبب تعدد معاني هذه الكلمة، قال ابن حيان منبها: إن هنالك نوعين من الميزان؛ فهو إما ميزان للطبائع، وإما ميزان وزني؛ فأما ميزان الطبائع فهو العلم الذي نعلم به كم من الطبع الفلاني (الحرارة، البرودة، اليبوسة، الرطوبة) موجود في الكائن الفلاني؛ هل تغلب عليه الحرارة أو البرودة، واليبوسة أو الرطوبة؟ فإن كانت الحرارة غالبة عرفنا أن البرودة فيه مستكنة مستبطنة، وإن كانت البرودة غالبة عرفنا أن الحرارة فيه هي المستكنة المستبطنة، وكذلك قل في صفتي اليبوسة والرطوبة؛ وما دمنا قد عرفنا أي الطبائع قد غلب فظهر، وأيها قد انكمش فاختفى، فإن طريق العمل ينفتح أمامنا لإجراء التجارب التي نحول بها الجسم على أي نحو أردنا، فنقلل من حرارته لنزيد في برودته، أو نقلل من صلابته لنزيد من ليونته، وهكذا؛ وسنذكر بعد قليل لمحة من وزن هذه الطبائع بمقادير كمية متفاوتة كيف يكون.

هذا هو ميزان الطبائع، وأما «الميزان الوزني» فهو أن يكون مقدار الوزنين في الميزان مقدارا واحدا؛ على أن «للميزان الوزني» معنى آخر ، وهو أن يتماثل الشكلان؛ فإن كان أحدهما مدورا كان الآخر مدورا كذلك، أو مسطحا كان مسطحا.

ومن معاني الميزان كذلك أن يحلل الشيء المركب المخلوط إلى عناصره التي منها ركب وخلط، وفيها يقول جابر: «أما موازين الأشياء التي قد خلطت، مثل أن يخلط زجاج وزيبق على وزن ما ... فإن في قوة العالم في الميزان أن يكون لك كم فيه من الزجاج وكم فيه من الزيبق، وكذلك الفضة والذهب، والنحاس والفضة، أو ثلاثة أقسام أو أربعة أو عشرة أو ألف إن جاز أن يكون ذلك، فإنا نقول: إن هذا من الحيل على تقريب الميزان وهو حسن جدا، ولو قلت إنه كالدليل على صحة هذا العلم - أي علم الموازين - لكنت صادقا ...»

Bog aan la aqoon