Islam Sharikan
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
Noocyada
هكذا يكون الاتجاه السني الأساسي في نظرية الدولة الإسلامية قد أفرغ تصورها القديم من مضمونه، وهل بقي هناك معنى للقول إن الخليفة يحافظ على شريعة الله إذا كان هذا الخليفة تابعا تبعية تامة للقوة المسيطرة؟ الواقع أنه قد أصبح من الممكن الاستغناء عنه من الناحية العملية وتكليف القائمين على السلطة الفعلية - مع ما في ذلك من تضحية بالوحدة السياسية للإسلام - بالمحافظة على الشريعة. ولا بد أنه قد وجد - تحت حكم المغول - من يرى أن الأمير الكافر العادل خير من الأمير المسلم المستبد بطغيانه،
40
أي إن الشريعة الإسلامية قد صارت مهددة بأن تحل محلها شريعة غير إسلامية. بيد أن المسلمين لم يتعرضوا لهذا الخطر؛ لأن المغول دخلوا في الإسلام، كما لم يبق في أرجاء العالم الإسلامي حاكم واحد لم يدخل في الإسلام. وقد بذل بعض مفكري الإسلام، بعد أن فقدت الفكرة القديمة عن الخلافة قيمتها، ما في وسعهم للإبقاء على ارتباط الأمراء بالشريعة،
41
كما أن المسلمين لم يكفوا أبدا من الناحية العملية عن قياس السلطات المهيمنة عليهم بهذا المقياس، ولكن النتائج الملموسة التي ترتبت على ذلك قد خيم عليها في معظم الأحيان ظل الفكرة الراسخة بأن من الواجب إطاعة السلطة دون سؤال عن شرعيتها، كيف أمكن أن تتحول الصراعات السياسية العنيفة في صدر الإسلام إلى هذه «التقية»؟ ... من الممكن بطبيعة الحال أن نرجع ذلك لأسباب تاريخية. فالصراعات العنيفة التي دارت في العصر الإسلامي المبكر بعثت في النفوس الخوف من تفكك الجماعة الإسلامية وانتشار الفوضى والاضطراب، كما جعلت النظام والوحدة هدفين جديرين بالسعي إلى تحقيقهما. ولم توجد في داخل الدولة المنظمة والموحدة مؤسسات أو تنظيمات يمكن أن يلجأ إليها الناس وتكون أداة لإرادتهم السياسية، ولما كان الإسلام منذ البداية دولة، فقد حال هذا دون قيام تنظيم ديني، كالكنيسة المسيحية التي كانت في العصور الوسطى، تواجه الدولة القائمة كقوة مضادة تراقبها وتعارضها في وقت واحد. أضف إلى هذا أن الدولة الإسلامية لم توجد التنظيمات الكفيلة بتحقيق المبادئ التي ارتكز عليها التصور القديم للدولة المثالية، فتتولى على سبيل المثال تنظيم انتخاب الخليفة، وتعيين الأشخاص الذين يستشيرهم، أو تتولى خلعه عند الضرورة من منصبه. وكان الجيش في البداية يمثل حلقة الوصل بين الشعب والدولة، ثم جاء العباسيون وأقاموا جيشا من المرتزقة الأجانب الذين زادوا من انفصال الشعب عن الدولة. ولما كانت أغلبية الأمراء والسلاطين قد خرجت من صفوف هذا الجيش، فقد كان لذلك أكبر الأثر على الرعية التي فقدت بالتدريج اهتمامها بالسلطة الحاكمة. وقد تأثر العباسيون كذلك بالتقاليد الفارسية القديمة عندما أوجدوا طبقة بيروقراطية من الموظفين الذين سعوا إلى تحقيق مصالحهم، وعملوا على فصل الخلافة عن الشعب بدلا من أن يعملوا على الربط بينهما.
وينبغي علينا في هذا الموضع أن نقول كلمة عن تلك الفئة التي كتب عليها فيما يبدو أن تكون حلقة وصل دائمة بين الشعب والحاكم، وأعني بها فئة «العلماء» أو علماء الدين الذين يملكون الخبرة والقدرة على تفسير الشرع، وهو حق ثابت لكل مسلم، والذين كان لهم الفضل - باعتبارهم أهل الحل والعقد - في أن تؤثر «النظرية» في الواقع الفعلي وتقوم بدور مهم في الحياة العامة. وقد رأينا كيف وقفت أغلبية «أهل الورع» أو العلماء المبكرين موقف المعارضة للدولة الأموية. ولما حاول العباسيون بعد ذلك أن يضفوا على دولتهم طابعا دينيا صريحا، بذلوا كل جهدهم في تقريب العلماء منهم. وقد اهتموا قبل كل شيء بتأسيس دور للقضاء يشغل فيها العلماء مناصب القضاة وينطقون فيها باسم الشرع، لكن هذا القضاء لم يكن مؤسسة مستقلة تمام الاستقلال عن الخلافة، إذ كان القضاة خاضعين لتعليمات السلطة. كذلك كان من عادة الخلفاء العباسيين أن يتدخلوا في الخلافات والمناقشات الدينية والكلامية، ويحددوا ما يتفق مع الشرع وما يخرج عليه، ويكافئوا الأتقياء الصالحين ويضطهدوا الزنادقة وأهل البدع. صحيح أن هذا قد اجتذب الغالبية من فئة العلماء إلى صفوف الدولة، ولكنه جعل منهم موظفين خاضعين وتابعين لإرادتها وأدوات لتحقيق أغراضها. ومع ذلك كان هناك عدد كبير من «أهل الورع» الذين ابتعدوا بأنفسهم عن الدولة ولم يقبلوا أن يكونوا أدوات لها. وعندما ضعفت الدولة وبدأت بالتدريج تفقد قوتها وسلطتها، انصرف العلماء عن الوقوف بجانبها وأخذوا يسيرون في طريقهم ويبحثون بأنفسهم عن رزقهم. وهكذا لم تؤد «السياسة الكنسية» - كما يصفها جولدتسيهر
42 - التي انتهجها العباسيون إلى الاقتراب من المثل الأعلى للدولة الإسلامية، بل مهدت لتلك الحقبة المتأخرة من العصر الوسيط التي حاول فيها العلماء أن يحققوا هدف الإسلام ومطلبه الثابت - وهو المحافظة على الشرع وعلى وحدة الجماعة بعيدا عن الانخراط في السياسة. وقد رأى «جب» أن فشل العباسيين في إقامة دولة قوية حية على أساس فكرة الخلافة هو السبب الرئيسي في فشل التصور الإسلامي القديم عن الدولة بوجه عام، وفي انتصار نزعة التقية بوجه خاص في الإسلام،
43
مما جعل معظم العلماء وأهل الورع ينضوون تحت سقف كل سلطة، حتى ولو كانت هي تلك التي لا تفكر أدنى تفكير في تحقيق المثل الأعلى للدولة الإسلامية.
ومع ذلك فلم يخل الأمر أبدا من علماء أتقياء وشجعان لم يترددوا عن توجيه النقد للسلطة، ولا عن التمسك ببسالة برأيهم وعقيدتهم ولو أدى الأمر إلى استشهادهم. وأشهر الأمثلة على ذلك هو الموقف الصامد لأحمد بن حنبل عندما وقف في وجه «محكمة التفتيش» العباسية التي حاولت أن ترغمه على الاعتراف بأن القرآن الكريم مخلوق وليس قديما. ومع ذلك فإن أحمد بن حنبل نفسه، الذي لا ينكر أحد شجاعته في تلك «المحنة»، قد رفض أن يعلن غضبه على الخلفاء الذين اضطهدوه أو حتى أن يمتنع عن الاعتراف بهم، وذلك على الرغم من أنهم كانوا في رأيه على ضلال. والواقع أن السياق التاريخي لا يكفي وحده لتفسير هذا الموقف الذي يعد سابقة خطيرة أسهمت بدور كبير في تطور النزعة إلى «التقية» في الإسلام. لذلك ينبغي علينا الرجوع مرة أخرى إلى النظر في بعض العناصر الأساسية في الدين الإسلامي.
Bog aan la aqoon