Bani'aadam ka soo jeeda Lubnaan
قصة إنسان من لبنان
Noocyada
لقد كثر أمثال هؤلاء في المجتمع العربي، وكثر ضررهم وعم بلاؤهم، وخدعوا الرجل البسيط بعذب حديثهم ومعسول أسلوبهم، فإذا بالجهل يمد بساطه، وبالفكر ينكمش ويكاد يتوارى.
وأخيرا وقد ضاق هذا الولد ذرعا بما يناله من تثبيط وتهديم، وتأثرت مشاعره الرقيقة من ترداد هذه الأشياء على مسمعه كل حين، أن توقف عن الرسم وعن التفكير به، وصادف أن زار المدرسة أحد الرجال الذين فتح الله عليهم، وأنار بصائرهم فتحرر عقلهم بالنسبة لأبناء جيلهم، فسأل الصبي عن حال الرسم، فأخبره هذا بتركه، وبين له ما سينتظره في الآخرة من عذاب أليم ونار شديدة أعدت خصيصا لأهل الفن! وما إن سمع الرجل من الصبي هذا الحديث الطريف حتى انفجر من الضحك، وفكر بانتشار السخافة والجهل والشعوذة بين الناس، ثم التفت إلى سليم بلطف وطمأنه بمداخلته لدى رب العالمين بالعفو والمغفرة لأهل الفكر والأدب والفن إلى يوم الدين.
واقتنع الولد بهذه الوساطة، واطمأن قلبه، وأمن نار جهنم فعاد سيرته الأولى.
وشاءت العناية أن تهيئ لهذا الصبي طريق التقدم، فسلكت به على أيدي بعض الناس سبيل التعرف إلى أوساط أجنبية، قدرت فيه هذا الاستعداد فحدبت عليه وشجعته كل التشجيع، وليس هذا بعجيب، فمن يعرف شيئا عن حقيقة الحضارة الأوروبية يدرك أسباب هذا التشجيع.
فالأمم كالأفراد تماما؛ لها طفولة، ولها شباب، ولها نضج، ولها شيخوخة، ولها خرف وموت. فأوروبا في مطلع القرن العشرين كانت في تمام نضجها وذروة حضارتها.
ومن غريب أمر سليم أنه كان في أوقات الفرص المدرسية والأعياد يذهب إلى شاطئ البحر، أو إلى الطبيعة حيث يقضي أوقاته منفردا يتأمل ما حوله من جمال بعين واعية، ثم يعود للبيت يسجل ما علق في نفسه من مناظر الطبيعة الجميلة.
وعندما كانت تلامذة المدرسة تقوم بنزهة بإشراف المعلمين، كان يرى سليم منتحيا مكانا منفردا ينظر إلى الطبيعة، فلا يقترب من أحد ولا يعاشر أحدا، وكان يلاحظ عليه هذه الحالات سواء في البيت أو المدرسة، وصادف أن مرضت أمه وجاء الطبيب لمعاينتها، وهي أول مرة يرى سليم طبيبا يفحص مريضا بآلته، فيتناول قلمه ويرسم هذا المشهد خفية خشية الضرب، ولكن الطبيب لمح الصبي وهو يرسم، فتعجب لسرعة خاطره وقوة ملاحظته، وقد أخذته الدهشة لما رأى، فالتفت إلى الأم وهو يشير إلى الرسم: «من يكون هذا الولد؟» قالت: «ولدي.» قال: «عليك بالعناية به، فله موهبة نادرة.» أجابت الأم: «وما فائدة ذلك؟ إنها إضاعة للوقت، فلو أنه ينصرف لتعلم مهنة أو حرفة لكان أجدى له.»
أما الطبيب فلم يشاركها هذا الرأي، بل قال لها: «إنك مخطئة يا خالة، إنه لفن جميل، هو موهبة من الله، فلا يمنحه لأي كان، عليك بتشجيعه كي يتقدم ويصبح فنانا تفتخر به البلاد ...» فضحكت الأم من كلام الطبيب وهي تهز رأسها متمتمة: «إن ابن جارنا معروفا خير منه، فهو لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك فهو يربح كل يوم ثلاثة غروش وأحيانا بشلك.»
ومن طريف حوادث سليم في هذا العمر أن أمه ضايقته يوما لكثرة ما أثنت وأطنبت بمهارة ابن جارهم معروف، ومعرفته في كسب المال وجلب الحلويات وغيرها لأهله، بينما هو لا فائدة ترجى منه ومن رسومه التي ليست سوى مضيعة للوقت، وقد حز هذا في نفس الصبي سليم، فعزم على إخراج صورة أحد بائعي الحلو المعروفين وقتئذ في البلد، وقد أبدع فيها، لا سيما في توسيع العيون وتكحيلها، ثم بالعناية في الشوارب التي كان للناس في ذاك العصر أهمية خاصة بها وولع شديد بتوقيفها، ثم قدمها له بواسطة ابنه الذي كان رفيقا له، فكان إعجاب بائع الحلو بصورته بالغا؛ لذلك أرسل لبيت سليم هدية ممتازة من حلوه، وكتب عليها: «إلى سليم أفندي.» فكان لهذه المفاجأة عند المساء أثرها، لا سيما عندما جلس جميع إخوانه يأكلون من طيباتها أثناء الحرب، وكان مجلس سليم هذه المرة في صدر المكان، بعد أن كان قبلا في الزاوية.
وكان هذا الحادث انتصارا عظيما لسليم وللفن؛ إذ برهن أن باستطاعته أن يأتي بفائدة محسوسة وحلوة، ولم تنس أم سليم أن تقدم في الصباح شيئا منها لأم معروف.
Bog aan la aqoon