وقلبت الورقة فإذا عليها هذا العنوان:
إلى هنري سميث في بلدة ن ... نافذة البريد.
الفصل السابع
وفي اليوم التالي عند الظهر، كان شاب وامرأة يخترقان حديقة «القصر الملكي» وذراعاهما مشتبكان تحت أشعة الشمس. دخلا مخزن صائغ واختارا خاتمين متشابهين، فقدم كل منهما خاتما إلى الآخر وهما يبتسمان، وسارا في نزهة قصيرة ثم دخلا مطعم «بروفينسو»، وصعدا إلى إحدى غرفه المطلة على أجمل مناظر الدنيا، وهنالك انفردا بعد انسحاب الخادم، وتقدما إلى النافذة يسرحان النظر ويد كل منهما تربط على يد رفيقه.
وكان الشاب مرتديا أثواب السفر وقد طفح وجه بشرا كعريس يري عروسه لأول مرة مباهج باريس، وكان مرح هذا الشاب حبورا هادئا ينم عن سعادة لا اضطراب فيها. ولو أن رجلا مرت به تجاريب الحياة نظر إلى هذا الشاب لتبين فيه طفولة تستحيل إلى رجولة، وعزما تستقيه العاطفة من التفكير.
وكان هذا الشاب يتطلع إلى السماء ثم يتأمل ملامح رفيقته، فتنحدر من أجفانه دموع يتركها سائلة على وجنتيه وقد أنارتها ابتساماته.
أما المرأة فكانت شاحبة، وقد انطبعت على ملامحها آثار التفكير العميق، وهي لا تحدق إلا في وجه رفيقها، ولا تملك نفسها من مسايرة مرحه، غير أنها في الوقت نفسه لا تحاول إخفاء ما يطفو على وجهها من قرارة قلبها.
وكانت إذا ابتسم رفيقها ابتسمت له، فكأنها في حبورها تساير مسايرة ولا تختار اختيارا، فإذا ما تكلم تكلمت، وإذا ما قدم لها طعاما أكلت، ولكنها كانت تذهب في نفسها من حين إلى حين كأنها في غيبوبة عما حولها، وكانت سكنات هذه المرأة وحركاتها كلها تنم عن استرخاء تستسلم فيه لرفيقها استسلام التابع الضعيف يستمد حياته من متبوعه، وقد أصبح خيالا له، وصدى لصوته، وما كان الشاب مخدوعا بحالة رفيقته، بل كان ينفذ إلى سريرتها وفيه شيء من الغرور وكثير من الرضى، فإذا هي تراخت وألصق تذكارها عينيها بالأرض، هب يعالجها بقوته متكلفا المرح لينقذها من ضعفها؛ فقد كان بين هذين الرفيقين تمازج غريب من الفرح والحزن، والاضطراب والسكون، فإذا ما نظر إليهما متأمل خالهما تارة أسعد الناس، وتارة أشقى من في الحياة، وغاب عنه هذا السر يشد أحدهما إلى الآخر برابطة الأسى عقدت على عاطفة أقوى من الحب. وهل أقوى من الحب سوى عطف الصديق على الصديق؟
وما كان يلوح في عيونهما شيء من لمعات الشهوة ويد الواحد تشد على يد الآخر، فكانا - ولا ثالث بينهما - يتحدثان بصوت خافت، فيسندان جبينا إلى جبين كأنهما يتعاونان على التذكرات المرهقة دون أن تتجاذب الشفاه إلى قبلات الغرام. ودقت الساعة تؤذن بالأولى بعد الظهر وكل منهما محدق في عيني رفيقه يستنجدهما، فكأنهما ضعيفان يتلمسان من الضعف مخرجا إلى الصلاح، وتنهدت المرأة وقالت: لعلك مخطئ يا أوكتاف.
فقال: لا، لست مخطئا يا صديقتي، ثقي بما أقول. إنك مقدمة على تحمل العذاب، ولقد يطول صبرك عليه. أما أنا فلا نهاية لعذابي، ولكننا سنشفى كلانا. لك الزمان أنت، وأنا لي الله. - أوكتاف ... أوكتاف ... أأنت واثق من أنك لست على ضلال؟ - لا أعتقد بأن أحدنا سيسلو الآخر يا بريجيت، ولكنني واثق من أن ليس لنا أن نتبادل المغفرة الآن، غير أن هذه المغفرة محتومة علينا حتى ولو قدر علينا ألا نلتقي بعد. - ولماذا لن نلتقي يوما؟ فأنت لم تزل في ريعان الشباب.
Bog aan la aqoon