يكذب الناس أحيانا وهم يعرفون أنهم كاذبون، وأحيانا يكذبون وهم لا يعرفون أنهم كاذبون. والمغالاة باب إلى الكذب، أعرف رجلا يتعمد الكذب، ثم يخادع نفسه حتى يعتقد أن كذبه صدق لا شك فيه، وأكثر الناس مثل هذا الرجل، ولكنهم لا يشعرون.
إني قليل الكذب؛ لأن الكذب يوقفني مواقف تخجلني وتؤلمني، فإن ذا الشعور الشديد يكره أن يأتي الكذب خشية الفضيحة؛ فيصير ضحكة إذا عرف كذبه، فتهتاج لواعجه من سخر الناس وضحكهم. ولقد كذبت مرة كذبة بغضت إلي الكذب، حتى صرت لا أستخدمه الآن إلا بقدر اللازم منه، ولا أرى هذا اللازم كثيرا.
أما قصة هذه الكذبة فهي أني كنت مرة أجالس جماعة من الناس، فجعلنا نتكلم في تقتير بعض الأغنياء، فقال صديق: إني رأيت فلان باشا مرارا قاعدا في عربة الدرجة الثالثة من الترام. ثم مضت أيام وجلسنا مجلسا آخر نتذاكر بخل الأغنياء، فقلت: إني رأيت فلان باشا مرارا قاعدا في عربة الدرجة الثالثة من الترام! ومن الغريب أني وجهت كلامي إلى الصديق الذي قال هذه الكلمة في مجلسنا السابق؛ فتبسم، وخجلت خجلا شديدا. وأكره الغش أيضا وأبغض إتيانه؛ لأن انكشافه مؤلم. أذكر أني مرة حاولت الغش في امتحان مدرستي فوضعت المذكرة في ثيابي، ثم أردت أن أخرجها وقت الامتحان، ولكن خجلت حينما وضعت يدي في ثوبي لإخراجها، واحمر وجهي حتى صار كالجمرة، وخفت أن يرى المراقب خجلي فيعرف سببه؛ فتركت المذكرة في ثيابي ولم أستخدمها.
الخوف والوهم
إن للخيال تأثيرا كبيرا في الحياة، سواء النوم واليقظة، فالإنسان محكوم بخياله في آرائه وخواطر باله ومساعيه وآماله، وما يزعم من الحقائق وفي معاملته الناس. ومن أجل ذلك كنت أتهم رأيي فيعود اتهامه بالوبال؛ إذ يدعو إلى التردد والإحجام عن المضي فيما يحاول الإنسان عمله. والخيال يشرك المرء في عواطف الناس وحالاتهم؛ مما يدعو إلى التعاطف والتفاهم، ولكنه يخلق من الصغيرة كبيرة ومن الكبيرة صغيرة. والخيال جنة الأحلام وجحيمها، ألسنا نمضي الحياة بين أحلام النوم وأحلام اليقظة، بين أزاهير الأحلام وأشواكها، وبين ملائكة الأحلام وشياطينها؟ فتارة أحس كأني نقلت إلى وجود غير هذا الوجود، إلى حيث الهواء شذا والماء عطر، والناس من الحسن والفضل في الكمال، فيخيل لي كأني:
أكاد أرى الفردوس خضرا غصونه
فليت مقاما في الجنان مقامي
وأبصر فيها الضوء لا ضوء مثله
له بهجة في زهرها المتسامي
وأسمع منها الطير تشدو فأنثني
Bog aan la aqoon