رسالة من صاحب الاعتراف
مقدمة لمؤلف الاعتراف
ذكرى الطفولة
ظل الطهر
أزهار الشباب
شعر الألوان والروائح
سماء الأمل
أحلام الأدباء
أطوار العقيدة
لذات الحياة
Bog aan la aqoon
عشق أصحاب الفنون
الإحساس والحياة
الغرور
الخوف والعي
وسائل النجاح
الحياء والوحشة
الحياة والرحمة
ضعف العزيمة
سلطان القضاء
خواطر الانتحار
Bog aan la aqoon
العجب واليأس
الكذب
الخوف والوهم
سوء الظن
الفزع من التهم
الحذر
الخوف والرحمة
داء الضمير
المجرمون والأبرياء
أمواج النفس
Bog aan la aqoon
الأبد في دقيقة
جنون الأماني
الضاحك الباكي
عبث الفكر
طعم الذل
سخر القضاء
الإنسان والكون
بقاء النوع وتعاسة الفرد
ظل الموت
الخاتمة
Bog aan la aqoon
رسالة من صاحب الاعتراف
مقدمة لمؤلف الاعتراف
ذكرى الطفولة
ظل الطهر
أزهار الشباب
شعر الألوان والروائح
سماء الأمل
أحلام الأدباء
أطوار العقيدة
لذات الحياة
Bog aan la aqoon
عشق أصحاب الفنون
الإحساس والحياة
الغرور
الخوف والعي
وسائل النجاح
الحياء والوحشة
الحياة والرحمة
ضعف العزيمة
سلطان القضاء
خواطر الانتحار
Bog aan la aqoon
العجب واليأس
الكذب
الخوف والوهم
سوء الظن
الفزع من التهم
الحذر
الخوف والرحمة
داء الضمير
المجرمون والأبرياء
أمواج النفس
Bog aan la aqoon
الأبد في دقيقة
جنون الأماني
الضاحك الباكي
عبث الفكر
طعم الذل
سخر القضاء
الإنسان والكون
بقاء النوع وتعاسة الفرد
ظل الموت
الخاتمة
Bog aan la aqoon
الاعتراف
الاعتراف
وهو قصة نفس
تأليف
عبد الرحمن شكري
رسالة من صاحب الاعتراف
صديقي الأعز
لقد مللت الحياة في عالم المدنية، فرأيت أن أهيم في مجاهل السودان؛ لأن صحراءها أشبه بالأبد الذي أحببته من المدن، وستضيق الصحراء بنفسي كما ضاقت بها المدن. وقد رأيت أن أودع عندك «مذكراتي»؛ كي تذكرك بي، وبما كان بيننا من الود. فإذا مضت سنة ولم أراجعك، فانشرها إذا وجدت في نشرها ما يفيد.
المخلص
م. ن.
Bog aan la aqoon
مقدمة لمؤلف الاعتراف
لقد مضت سنوات لم أسمع في خلالها شيئا عن صديقي م. ن. صاحب الاعتراف، فجعلت أسأل عنه حتى علمت أنه صار يهيم في فيافي السودان، حتى وصل إلى بلاد نيام فأكله أهلها رحمة الله عليه. لقد كان يحتقر الإنسانية؛ فانتقمت منه بأن أكله أبناؤها، ولكنه انتقام يثبت أنه كان مصيبا في احتقاره إياها. وقد زعم أناس أنه لم يمت، وأنه توغل في أواسط أفريقيا إلى مواطن الزنوج، فأسرته قبيلة منهم تدعى قبيلة الشنانجة، ولكنهم أعجبوا بسكوته وعبوسه وكسله وقلة مبالاته ما يقع حوله من أمور الحياة؛ فاتخذوه إلها، حاسبين هذه الصفات من صفات الله! فإذا صح ذلك كان صديقي إلها لا يزال حيا يرزق، يعبده زنوج قبيلة الشنانجة في أواسط أفريقيا. وليت شعري ما حاله؟ وما خواطره؟ وهل هو سعيد بمنزلته بين أولئك الوحشيين الجهلاء؟
وقد رأيت أن أجمع هذه المذكرات وأن أنشرها؛ لأن في نشرها عبرة كبيرة لمن يعتبر. وسيرى كثير من القراء نفوسهم مكبرة مرسومة في هذه الصحائف؛ لأننا في حياتنا الاجتماعية سواسية مثل أسنان الحمار - هذا إذا صح أن أسنان الحمار سواسية، ولا أظن ذلك - أو مثل أسنان المشط. وسبب ذلك أن العوامل الاجتماعية التي تعمل في نفس الفرد منا، تعمل أيضا في نفوس سائر الأفراد. فصفات الشاب المصري هي صفات م. ن. صاحب الاعتراف.
فالشاب المصري في حالة أمتنا الاجتماعية الحاضرة عظيم الأمل، ولكنه عظيم اليأس، وكل منهما في نفسه عميق مثل الأبد؛ والسبب في ذلك أن حالتنا الاجتماعية تستدعي شدة الأمل وشدة اليأس. وما زلت أجد بين حالة الأمة الاجتماعية وبين نفوس أفرادها رابطة متينة. والشاب المصري يكثر من إساءة الظن، وهي صفة اشتهر بها المصريون. والسبب في سوء ظنه عصور الاستبداد الطويلة التي مرت على مصر، فإنها أبقت هذا الإرث في نفوس الأفراد؛ لأن الاستبداد يبعث سوء الظن. والشاب المصري ضعيف العزيمة، كثير الأحلام والأطماع والأماني، يمضي أيامه في الأحلام بدل أن يمضيها في مزاولة الأعمال. وكذلك الخوف فيه، فإن شجاعة الشاب المصري شجاعة متقطعة مبتورة، شجاعة تستحي من نفسها، وأما خوفه فهو مبدأ عام.
والشاب المصري عنده ميل شديد إلى مزاولة الأعمال العظيمة المجيدة، ولكن يعجز عنها! والشاب المصري مهيج العواطف، ولكنه غير عظيمها. وهو كثير الغرور؛ لأنه كثير الأحلام والأماني، وهو ليس عنده شيء من الاعتماد على النفس. وهو شديد الإحساس، ولكنه يبكي في ضحكه، ويضحك في بكائه . وهو كثير الشكوى والتضجر، قليل الصبر مثل صاحب الاعتراف، تحز في نفسه قيود القدر المحتوم، فيجتهد أن يصدعها عنه فلا يقدر؛ فيزداد حزنا ويأسا ... ويفكر، ولكن تفكيره غير منتظم! وهو كثير الحيرة والشك، بالرغم من غروره يترك ما يعنيه لما لا يعنيه، لا يعرف أي أفكاره وعاداته القديمة خرافات مضرة، ولا أي أفكاره وعاداته الجديدة حقائق نافعة؛ من أجل ذلك يضره القديم كما يضره الجديد، فهو من قديمه وجديده غريق بين لجتين، أو مثل كرة في أرجل المقادير، فإلى أين تقذف به تلك المقادير؟
أما م. ن. فإنه - رحمه الله - كان شابا يحب القراءة والتفكير، وكانت تلوح في عينيه علامات السأم والحزن والتفكير، وقد تقلصت شفته السفلى تقلص السخر. ولكن كان يلوح على وجهه، بالرغم من ذلك، أنه كثير الحنان رقيق القلب، وأحيانا كنت لا ترى في وجهه شيئا من الحزن أو الألم، وفي بعض الأحايين كان وجهه مثل السماء التي تراكمت سحائبها وتلبدت غيومها. وكان كثير من الناس يسيئون فهمه؛ فأساء فهمهم، كما هي الحال بين الناس قاطبة.
وكان أحيانا شديد التواضع، وأحيانا شديد التكبر. كان لا يعرف كيف يعاشر الناس ويداريهم، ويأخذ ما صفا ويتغاضى عما كدر، ويحتال للحياة ولاستجلاب السعادة؛ فضاقت بنفسه الصحراء، بعد أن ضاقت بها المدن كما يقول في رسالته.
ذكرى الطفولة
إن المرء إذا جعل يتذكر أيام طفولته؛ أحس لذة مثل لذة الرجل عند رؤية ابنه الصغير. فإننا ننظر في أعماق السنين إلى ذلك الطفل الذي كناه في طفولتنا؛ فنحنو عليه ونقبله بفم الذكرى، وهو لدينا مثل وليد لنا رضيع. ولقد يجول بخاطر المرء أن ذلك الطفل الصغير الذي كانه ليس بذلك الرجل الكبير الذي يحنو عليه، الذي يعبث بالذكرى، ويكشف عن الطفولة حجابا مثل حجاب الحسان. فإن أكثر المرء مكتسب من الأيام والحوادث؛ ومن أجل ذلك صار يعد شخصه في الطفولة جزءا صغيرا منه، ولو تفهم المرء تقلبه في أطوار عمره لرأى أنه ينتقل من حياة إلى حياة، وأنه يخلع كل يوم حياة ويلبس أخرى.
لست أعجب من شيء عجبي من أني لا أزال أذكر حوادث من حوادث الطفولة. وإن المرء ليزهى بالمقدرة على ذلك التذكر، كأنه قد سلب جزءا من الخلد، وصفة من صفاته. ولقد تمر بالمرء ساعات يتوق فيها إلى طفولته، ويناجي شخصه الصغير الذي كان يعمرها قائلا: يا بني قد جعلت بيني وبينك الأيام سدا، فنحن لا نلتقي حتى يلتقي الأزل والأبد، أمد يدي إليك كما يمد الأعمى يده إلى قائده، وأقول لك: أين أنت؟ فيجيب الصدى قائلا: أين أنت؟
Bog aan la aqoon
ظل الطهر
على ذكر الطفولة وأيام الصغر، أقول: تحزنني رؤية علامات الشر على أوجه الأطفال والغلمان الصغار، فإنها - بالرغم من طهارة الطفولة - تلوح على أوجه الصغار كما تلوح على أوجه الكبار. وأما الطهارة التي تنسب إلى الطفولة فهي عجز الطفل عن مواقعة كثير من الشر؛ لأنه ليس عنده من القوة والدهاء والتفكير ما يعينه على ذلك. وقد تجد الطفل يتعجب من وقوع الشر من غيره ويحزن لذلك، لا سيما إذا كان الشر واقعا به، ولكنه لا يحس ما يفعله من الشر، ولا يعرف أنه شر! وهذه الخصلة موجودة في الرجال أيضا؛ فإنهم يفعلون الشر فلا ترتاع ضمائرهم، ولكن إذا فعل غيرهم الشر اهتاجت لواعجهم، وارتاعت ضمائرهم من أجل ذلك! وهذا دليل على أن الضمائر آلة من آلات العواطف والرغائب تحركها كيف شاءت.
إني أرى على أوجه الأطفال ما تكنه أخلاقهم من أوائل الجشع والبخل واللؤم والقسوة، ولكن ضعفهم وقلة مكرهم تسدل على هذه الملامح حجابا مضيئا رفرافا كالسراب. وتبعثني رؤية هذه الملامح إلى التفكير فيما يستقبل من حياة هؤلاء الأطفال الآمنين المطمئنين الضاحكين. فكأني بأوائل شرهم صارت نهاية، وبنضارتهم شحوبا، وبضعفهم الذي يلين لهم قلوبنا قوة ومكرا. وكأني بذلك السراب الرقراق الذي كان يلوح لنا في وجوههم؛ سراب الطهر والعفة، قد اختفى ولم يبق مكانه غير آثار العواطف قد ارتسمت على أسرة تلك الوجوه، فخدود شاحبة من معاناة الأقدار، وشفاه مقلصة من الضعف أو السخر والكبر، وعيون غائرة يلوح فيها بريق الشهوات، وابتسامة كلها خبث ودهاء، وجبهة قد رسم الدهر بها خطوطا، فكأنما طيات تلك الجبهة المعقدة أطلال سني العمر الماضية.
أزهار الشباب
هل تذكر طيش الحب في أول الشباب، وما كان يغريك به من نزوات وهفوات حين أفقت من غفلة الصغر، فأحسست تلك العاطفة في قلبك؟ إن الحب لا بأس به إلا إذا أغرى المرء بأعمال تزري بعقله. ولكن من ذا الذي لم ينز به الحب في شبابه نزوات التيوس أو العصافير؟! فإن طيش المحب مثل طيش العصافير في حركاتها، وإنه ليخيل له أن الحب قد أنبت في كتفيه أجنحة يطير بها إلى حيث يشاء، فيحسب أنه لو رمى بنفسه من نافذة منزله لم يسقط ولم يصبه أذى، بل يطير به الحب! ويخيل له أنه قادر على أن يقفز من شارع إلى شارع فوق المنازل من غير أن يلمسها! ويسمع المحب أنغاما وألحانا غريبة لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة! ويرى أزهارا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات.
ويحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن حبه موجود من الأزل خالد إلى الأبد، مثل جمال حبيبه. ويحسب أن هذا الوجود لو أصابه العدم، لبقي حبه مستقلا عن الوجود! وتراه يتصيد أصحابه، فيخبرهم كل خبر تافه عن حبه، حتى يتضجر جليسه، وهو لا يرى شيئا من ضجره. بل يحسب أن جليسه مصغ إليه كل الإصغاء، وأنه يجد لذة في حديث حبه كأنما هو قصيدة من قصائد النسيب والغزل، فيا بؤس من يجالس المحب!
ثم يفيق المرء من حلم الحب الذي يشبه أحلام معاقر الأفيون، فيخجل من جنون أحلامه، ويتذكر الساعات التي قضاها تحت نافذة حبيبه، والحالات التي كانت تعتوره كلما نظر إليه حبيبه نظرة غضب أو رضا، أو إدلال أو إغراء أو زجر، أو أمر أو نهي، أو تشجيع أو تثبيط، ويتذكر رسائله إلى حبيبه، وكلمات العشق التي كان يتلوها على سمعه، ويتذكر ما كان يضل عقله من المواعيد، وكلما خاف أن يفوته ميعاد من حبيبه بحث عن نعله وهو لابسه، وسأل عن عصاه وهي في يده!
شعر الألوان والروائح
الشباب كثير الألوان، جم الروائح، فهو حديقة من حدائق الربيع، وروح من أرواح الفردوس، وهو الحياة ولا حياة بعده. والألوان والروائح من أشد الأشياء إثارة للعواطف، وإني لأجد لذة في النظر إلى الألوان المختلفة؛ من الحمرة أو الزرقة أو البياض أو الصفرة أو البنفسج أو الخضرة، وأجد في كل لون معنى ولحنا من معاني العواطف وألحانها، فالألوان والروائح تبعث الذكر والأماني، ألم تر قط لونا بديعا، أو رائحة ذكية فأذكرتك حبيبا مضى، وعهدا تقضى؟ أم لم توقظ ذكرى الساعات اللذيذة، والأماني والأحلام الحلوة، التي هي جمال الحياة، حتى كأنك تسمع تغريد العصافير في صدرك، وتجد لذة ليس بعدها لذة في النظر إلى الأشياء، حتى كأن الله قد كسا وجوه الحياة بنور من نوره؟!
ولقد تنقلب الألوان في أيام الشقاء والتعاسة، فتصير جمرات مختلفة الألوان؛ فتحس لهيبها في العين والقلب. وكذلك في الروائح لذة وألم، فإني أحيانا أشم الروائح العطرية بعنف، كما يلتهم الجوعان طعامه. ولكني تؤلمني الرائحة الكريهة مهما خفيت، وأتأذى بها كما أتأذى بالخطب الجلل، وأتمنى أحيانا لو تكون الحياة في يدي خرقة أريق عليها ما أشاء من الروائح العطرية. آه، ما أجمل الحياة التي يشم صاحبها منها رائحة الفل أو الياسمين أو البنفسج!
Bog aan la aqoon
إن لذات الحس قد تبلغ بالمرء جنون اللذة، ولكنها تبلغ به أيضا جنون الألم، ومن كان كذلك لم ترج له سعادة؛ فإن السعادة أن لا يكون إحساسك شديدا.
آه، ليتني أمد يدي إلى السماء فأختطف بها الضوء، وأخط به على القرطاس خدودا مثل خدود الحسان، وعيونا مثل عيون الملاح؛ تلك العيون التي تضيء وجه النهار، وتلك الخدود التي تنير وجه الحياة!
سماء الأمل
إن الأماني والأطماع من أسباب الشقاوة، ولكنها أيضا من مصادر السعادة. وهي بنات الخيال المستفز. ويخيل لي أحيانا أنها تملأ هذا الهواء الذي أنشقه! وقد يخيل لي أني إذا نظرت في المنظار المكبر ، رأيت جراثيمها في الفضاء كالذباب الكثير الألوان الذي يتهافت على الرمم.
ومن أجل ذلك صرت كأني مريض بالأماني، وكانت الأطماع تحوم حولي من صغري، وتطن في أذني طنين الذباب، وتارة تسمعني ألحان البلابل. وتليح لي بضياء يملأ السماء، فكأنها قد فتحت أبوابها وخرج منها ذلك الضوء الذي يعشي البصر، وكأن هذا الضوء سلم ممدود بيني وبينها فأحب أن أتعلق به، وأبلغ به طبقاتها العالية. وإني لأذكر فرحي بقوس قزح وأنا غلام صغير؛ إذ كنت أصفق وأرقص طربا برؤيته، وأتمنى لو كنت مثله أزين السماء بتلك الألوان الرائقة، وكلما كبرت تمكنت من قلبي تلك الأمنية، فأتمنى لو أعيش كالشمس ... أشرق كشروقها، وأغرب كغروبها، وأملأ السماء ضياء، وأنشد قول الأحوص:
إني إذا خفي الرجال وجدتني
كالشمس لا تخفى بكل مكان
هكذا خلقت كثير الأماني والأطماع، ومن أجل ذلك كنت أيضا كثير البأس؛ لأن من سما به الأمل إلى سمائه، لا بد أن ينزل به البأس إلى حضيضه.
ولقد كنت وأنا غلام صغير أصعد إلى سطح المنزل بالليل، وأسهر الساعات الطوال؛ كي أرى ليلة القدر، ثم أحدث نفسي قائلا: ماذا أطلب من الله؟ أطلب الغنى، أم الصحة والعافية، أم السعادة، أم التقوى، أم القوة، أم كبر العقل ورجاحة الفضل؟ فتدركني الحيرة، وأخشى أن تظهر ليلة القدر وتنقضي وأنا في تلك الحيرة، لم أختر بعد الشيء الذي أطلبه، وعند ذلك أطلب من الله أن يؤخر ظهورها قليلا، ثم أرى أن أطلب كل شيء! وصارت هذه الأطماع تعظم كلما كبرت، فصرت أقضي الساعات في أحلام الأماني، فتارة أحلم أني زوس سيد الآلهة ورئيسها، أو هرقل إله القوة، أو مارس إله الحرب. وتارة أحلم أني أفلاطون الفيلسوف أو باكون، وتارة أحلم أني شكسبير أو ملتون أو وردزورث أو جيتي أو ابن الرومي أو المتنبي. وتارة أحلم أني نابليون أو إسكندر الأكبر، أو يوليوس قيصر، أو كريستوف كولومب. وتارة أحلم أني جمس وات أو فارداي أو أركميدس. وتارة أحلم أني جمعت كل هؤلاء في شخص واحد، فكأني لبست كل أزياء العظمة، وكتبت كل شيء جليل في الشعر والأدب والعلوم والفلسفة، واخترعت كل مخترع، وغزوت العالم وفتحت السماء والأرض ... ثم أصحو من هذا الحلم فأسمع توبيخ المدرس الذي يطلب مني أن ألتفت إلى الدرس، فأتعجب من جرأة هذا المدرس على توبيخي بعد أن عملت هذه الأعمال العظيمة!
هكذا كنت، ولكن رياح الحوادث قد أطفأت نور هذه الأطماع، فلا أستضيء الآن إلا بنار اليأس.
Bog aan la aqoon
أحلام الأدباء
إن كل أديب أو شاعر أو فيلسوف في أول أمره؛ أي في شبابه، يحسب أنه مركز هذا الوجود، وأن كل شيء فيه من أجرام أو علوم، أو آداب أو أنظمة، أو آراء أو عواطف تدور حوله، منجذبة إليه؛ فيظهر الشاعر وفيه من الكبر والغرور ما لو وزع على الناس لملأ نفوسهم. فيرى أن أشعاره هي الشعر وليس غيرها شعرا، وينظم القصيدة فكأنه قد تمخض عن وليد! ويحسب أنه لو وضع شعره في كفة ميزان، ووضع الوجود في كفة أخرى لرجح شعره، ويرى أن الذكاء مقصور على الشعراء، ويحسب أن كل حسناء تنشد قول شوقي:
أنتم الناس أيها الشعراء
فإذا نشرت له قصيدة في الجرائد حسب أن قد قرأها جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وأنها قد سارت بها الركبان، وأن ليس للناس حديث غيرها، وأن الملائكة تتغنى بها، وتحدو بها الأفلاك في دورتها، وأن أهل الجنة يتخاطفون الجريدة التي نشرت فيها، وأنهم يتسابقون إلى قراءتها، وأنها تلهيهم عن الرحيق وعن غير ذلك من ملذات الجنة، وأن الحور والولدان ترقص في الجنة على نغمها، وأنهم أرسلوا إليه وفدا يهنئه بها ويشكره عليها.
ما أشد الدافع الذي يدفع المرء إلى ما تتهيأ له نفسه وما يميل إليه قلبه من الأعمال، حتى ولو كان رزقه في غيرها! إنه ليلهي المرء عن معاشه ومورد كسبه ورزقه، وإنه ليلهيه عن كل ما تطيب به الحياة من الجاه والمنزلة العالية. إني لأذكر يوم نشرت لي أول قصيدة، وقد اشتريت الجريدة التي نشرت فيها، وصرت أقرأ القصيدة مرات عديدة، وكان يخيل لي أن الحروف ترقص على الجريدة. وصرت أخبط خبط الضال في الطرق والأزقة، وكلما نظر إلي أحد حسبته قد قرأ القصيدة وأعجب بها. وكان يخيل لي أنها أحدثت أثرا باقيا في نفوس الناس، وأنها أصلحت من عواطفهم وقوتها، وزادت في عظم نفوسهم، وأنها ستحدث تغييرا كبيرا في سنن الوجود وأنظمته. وخيل لي أن الهواء الذي كنت أنشقه في ذلك اليوم غير الهواء الذي أنشقه كل يوم، بل ذاك كان أرق وأحلى!
ولا يعدل مقدار هذا السرور شيء غير الحزن والغيظ الذي نالني حين قرأت نقدا لها في إحدى الجرائد، فخيل لي عند قراءته أن هناك مؤامرة في هذا الوجود، يراد بها ضري والإساءة إلي.
ولكن بعد ذلك ألفت المدح والذم. وإلف المدح والذم يفيد في الحياة، أليس يغيظك أن يمدحك رجل ثم يغضب إذا لم تشكره على مدحه؟ فإن هذا المادح إنما مدحك كي تغتبط بمدحه، وهو يحسب أنه لو ذمك لحزنت لذمه! هذا ولا شك غرور منه وعدوان؛ أي رغبته في أن تعلق فرحك وحزنك بحسن رأيه أو سوء رأيه فيك.
ولا أكتمك أني أحتقر رأي الجماهير؛ فإن ذوق الجماهير في الآداب والفنون فاسد في كل مكان، فهم يحسبون أن من أجاد التهاني والمدح والمراثي والأهاجي، وأوصاف الحوادث اليومية الحقيرة، كان من الصنف الأول من الشعراء. وأنا لا أعد هذا من الصنف العاشر، هذا شاعر الحقائر، شاعر المظاهر الكاذبة والقلوب الكاذبة. وإنما الشاعر شاعر القلب، فهو الذي يصف عواطف النفس وأطوارها؛ فيصف عواطف الحب والجمال والجلال، والخوف والفزع والأمل، واليأس والرحمة والكره والحقد، والبخل والجود، والشجاعة والجبن ... وغيرها من عواطف النفس وأحوالها. وهو الذي يصف أساليب الحياة التي تجول فيها هذه العواطف كل مجال، ومظاهر الوجود التي تتعلق بها العواطف، فهو الشاعر الذي عواطفه مثل عواطف الوجود، مثل الأمواج أو الرياح أو الضياء أو النار أو الكهرباء، فإن هذه عواطف الكون. وهو الذي يحكي قلبه الأركستر الكثير الآلات، الكثير الأنغام. ولكن ينبغي لمن يحس في نفسه عظمة الفكر وجلاله وقوة العواطف ألا يغتر بها؛ فإن الناس يهمهم اسم الأديب أو العالم، ويحفلون به أكثر مما تهمهم مؤلفاته حتى بعد موته. أليس الناس تهمهم أسماء شكسبير وفكتور هيجو وجيتي وأفلاطون وأرسطاطاليس أكثر مما تهمهم مؤلفاتهم؟
أطوار العقيدة
لقد كنت في صغري كثير الاعتقاد بالخرافات، وكنت ألتمس العجائز من النساء، أسمع قصصهن الخرافية، حتى صارت هذه القصص تملأ كل ناحية من نواحي عقلي، وحتى صارت عالما كبيرا، ملؤه السحر والعفاريت، وحتى صارت العفاريت حولي، تحل حيث أكون. وأذكر أني رأيت مرة عفريتا على سطح منزلنا، وكان أسود الجسم، شخصه مثل شخص الإنسان، ولكن جسمه يعلوه الشعر الكثيف، ولا أدري أكان عفريتا، أم كان من مخلوقات الخيال، أم من ظلال الثياب التي كانت معلقة على الحبال لتجف؟ ولما حدثت العجائز بأمر هذا العفريت، جعلن يعلقن على جسمي التمائم، ويرقينني بالرقى.
Bog aan la aqoon
ثم أتى علي بعد ذلك دور التعبد؛ إذ كنت كثير الصلوات، كثير الأوراد، أكثر من قراءة كتب المتعبدين، فكنت أقرأ فيها عن العبد الصالح، والعبد الفاسق، وعن عقاب الله الفظيع. وكانت هذه الكتب تشرح لي عقاب الله بالغا من الفظاعة حدا لا يطاق، فكنت أقوم من النوم مذعورا حينما كنت أحلم بذلك العقاب. وكنت أقرأ في تلك الكتب عن كرامات الأولياء من إحياء الموتى وإماتة الأحياء، ومن إزالة العمى عن أعين أهل العمى، وإزالة البصر عن أعين أهل البصر. ولم يمنعني هذا التعبد الشديد من مواقعة الشهوات، بل كانت كثرة مواقعة الشهوات بقدر شدة التعبد، فلم يمنعني تخويف تلك الكتب وإرهابها من اللذات، بل كان يفزعني من عواقبها في الآخرة. وقد كنت أحسب من فزعي أن كل كلمة أقولها، وكل عمل أعمله جريمة كبيرة، فكنت أبكي وأنتحب خشية عقاب الله، حتى إذا قضيت حاجة أعصابي المهيجة من البكاء والانتحاب رجعت إلى مواقعة الشهوات، من غير أن يعوقني عنها ذلك الفزع وذلك البكاء؛ لأن الفزع نتيجة قراءة تلك الكتب والبكاء حاجة يستلزمها هياج الأعصاب.
كما أن للشهوات حوائج أخرى قلما يعوق عنها الفزع من عواقبها، وقد بلغ بي الفزع من عقاب الله أني كنت يخيل لي - وأنا نائم - أن فوق الفراش عقارب وثعابين بعثها الله لعقابي، وأحيانا يخيل لي أن الفراش كله من جمرات نار؛ فأنتبه مذعورا صارخا!
ثم تركت بعد ذلك قراءة كتب التعبد، وجعلت أقرأ كتب الشعر والأدب؛ ففطنت إلى جمال الحياة، وقللت مطالعتها من ذلك الفزع الذي كان باعثه الدين. ثم أتى علي دور الشك والبحث، والشك إذا أبحته العنان جرى بك في كل مكان، حتى يريد أن ينزل الله عن عرشه، وأن يعزله عن ملكه! وما يزال الشك بالمرء حتى يدفعه إلى الإنكار والجحود.
نحن الآن في عصر لا نرقى معه إلا إذا خلصنا من رق الأوهام والخرافات التي هي كالأغلال والقيود، ومن أجل ذلك صرت أتعصب للإنكار والجحود بقدر ما يتعصب غيري للإيمان، غير أن هذا الإنكار يخيفني ولا يرضي ذهني، فلا يفسر لي شيئا، لا يفسر لي: من أنا؟ ولماذا خلقت؟ وإلى أين أذهب؟ فنفسي من النفوس التي لا تقنع بالإنكار؛ لأن لها حاجات دينية ليس لها غنى عنها. ومن أجل ذلك كان الإنكار يورثني اليأس والحزن، فكنت أهيم في شوارع المدينة ليلا؛ لأن الليل أشبه بما كنت فيه من اليأس والحزن. وكنت أنظر إلى النجوم وهي تنظر إلي بحزن وإشفاق، وأسألها عن الحياة والموت، عن البقاء والفناء، عن الله والإنسان، عن الدنيا والآخرة، فتنظر إلي بحزن وإشفاق، ويخفق سهيل كأنما يهز رأسه قائلا: لا أعرف عنها شيئا! فتصير الحياة أثقل من الكابوس، أو كأنها حلم فظيع يروع ويقلق ولا يبعث الطمأنينة والسكينة.
فأعيد النظر إلى النجوم وأقول: هل فيك من كوكب كريم يضحي نفسه خدمة للناس، فيصادم كوكبنا الذي نسميه الأرض فيهشمه ويتهشم، ويستريح جميعنا من عبث الحياة وأمراضها ومصائبها، وبؤسها وشقائها، وجرائمها وحماقتها، وذلك الجهل العظيم الذي يضغط علينا كالكابوس؟ اللهم أرسل كوكبا نشيطا من عندك يقوم بهذا الأمر. فتومض النجوم كأنما وميضها وميض أسنانها حين تفتح أفواهها قائلة: آمين ... آمين!
وقد رجعت إلى الإيمان لأستفيد منه شيئا جديدا، فعلمني الإيمان أن للوجود روحا كبيرة لها حياة وشخصية، وأن هذه الروح توحي إلى أرواح الأفراد بما تريد، ولها من المقادير جنود. ولكني على شدة إنكاري لمعتقدات العامة، تمر بي حالات أعتقد فيها كل شيء حتى السحر، وحتى ما يخرق سنن الطبيعة ويعلقها عن العمل كما يقول النحويون.
أما السحر، فإني أفسره بتغليب إرادة على إرادة، وأنه نوع من التنويم المغناطيسي. أما السنن الطبيعية فإني أبغضها؛ لأنها تعوقني عن أطماعي وآمالي، ومن أجل ذلك لا أرى بأسا في خرقها. وأكثر ما أكون إيمانا عند المصيبة أو المرض، فإن أمثال ذلك يذل قلب المرء ويخيفه ويوهن عزمه، وفي بعض الأحايين أخاف خوفا شديدا أن يظهر لي إبليس، وأن يخدعني كما خدع فوست فأتلفت كي أثق أنه لم يظهر بعد. وفي بعض الأحايين أعتقد وجود العفاريت والجن، كما كنت أعتقد في أيام صغري.
لقد سمعت البارحة القطط تعوي وتصرخ مثل عواء المجانين، أو عواء الأرواح الحائرة المعذبة التي تتخذ الليل جلبابا، ثم تفرغ في ذلك العواء ما تقاسيه من العذاب. فلما سمعت عواء القطط كأنها الخرس إذا حاولت الكلام، لم أشك في أنها عفاريت من الجن، وأصابتني رعدة شديدة. ومما زاد الطين بلة - كما يقولون - أن النافذة كانت مفتوحة، وكان يصيبني منها تيار بارد من الهواء، فحسبت رعدة البرد من فعل العفاريت. وقد سمعت مرة عواء الخنازير كأنه عواء جنية أصابها الموت في ولدها.
إن النفوس تتأثر بالأصوات تأثرا غريبا، لا سيما عند هياج العواطف، انظر مثلا إلى صوت قرع الباب في قصة ماكبيث، أو إلى صوت البومة الذي يسمعه الخائف في المكان الخراب الموحش، أو إلى صوت الغراب الذي يسمعه المتشائم، أو إلى صوت الرعد الذي يسمعه القاتل!
لذات الحياة
Bog aan la aqoon
نرى في الناس الضاحك الجذل الذي يزل الخوف عن صفحات قلبه زلول الماء عن صفحات جلده، ونرى فيهم الحزين الباكي، الذي يبكي على الحياة والناس والدنيا، والذي يرى النعيم والشقاء كبلين من كبول الحياة؛ الذي يرى أن الأرض قبر الأحياء، وأن السماء غطاء ذلك القبر. ولكني وجدت نفسي تارة أقرن مع الأول وتارة ألز مع الثاني، فإني أرغب في لذات الحياة حتى لو اختبأت مني لذة تحت قدم نملة ما. فإنني أرى في الضياء لذة، وفي الظلام لذة، لذة في النعيم ولذة في الشقاء، لذة في الألم وألما في اللذة.
أرى لذة في استنشاق الهواء حتى ولو كان كله جراثيم، أرى في النشاط لذة، وفي الكسل لذة، وفي الاستضاءة بالقمر لذة، ولذة في الاستضاءة بالشمس، ولذة في الاستضاءة بالفتيلة. أرى لذة في الاضطجاع على الأرائك، ولذة في القعود على الأرض، لذة في الطعام الفاخر واللباس الفاخر، ولذة في المش والفجل، والثياب ... الثياب الخلقة. أرى لذة في حرارة الشمس، ولذة في برودة الهواء، لذة في المطر والغيم، ولذة في الصحو.
أرى لذة في الصباح وحسن مرآه، ولذة في الظهيرة المكسال، لذة في المساء ووقاره، ولذة في الليل وسواده ونجومه ونسيمه. أرى لذة في الماء، ولذة في النبيذ وغير ذلك من الأشربة ...
ولكني بالرغم من ذلك كثير التفكير فيما أعانيه ويعانيه الناس، وما قد عانيناه وما سنعانيه من آلام الحياة ومصائبها وأدوائها. وأرى كأن الحياة حمل ثقيل وحلم يروع، ففي بعض الأحايين أحسب أن شقائي في الحياة أعظم من لذتي فيها، ولكني أراجع نفسي فأحسب أن لذاتي في الحياة أعظم من شقائي! ولا عجب في ذلك الشك؛ فإن من كانت لذاته عظيمة كانت شقاوته عظيمة، حتى إنه ليشك فلا يعرف أي الجانبين أرجح! نعم، قد شربت كأس الشقاء حتى لم أدع فيها بقية، ولكني جرعت أيضا كأس اللذات حتى لم يبق فيها سؤر، وحتى امتصصت ما علق بالكأس من حلاوة الحياة. وكنت وأنا أنعم بالحياة كأني قد استعرت من الوجود عظمه وعواطفه، فكنت لا أبالي في حب الحياة كل رادع أو زاجر، أو مانع أو لوم، أو أمر أو نهي. كنت أحس أن نفسي غير مقيدة بقيود العادات والحزم، كنت أحس أن نفسي إله أعظم له أن يفعل ما يشاء. وكنت أتمنى أن أقطف أزهار الحياة كلها، وأن أخرج من الحياة عطرها، فإن للحياة عطرا كما أن للزهر عطرا.
كنت أتمنى أن أمتع نفسي بكل شيء في هذا الوجود، وفي كل وجود تتصوره وتتوق إليه النفس. كنت أتمنى أن أعانق الوجود، وأن أقبله قبلة أمتص بها كل ما في روحه من الجمال والجلال، فأتذكر عند هذا التمني قول الشاعر:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
عشق أصحاب الفنون
Bog aan la aqoon
إن ألذ شيء في الحياة هو قدرة المرء على أن يجعل إرادته غالبة لإرادة مخلوق جميل، وبواسطة ذلك التغليب يبحث عن روح ذلك المخلوق الجميل، ويعطيها من آرائه وعواطفه وخيالاته؛ فحينئذ يكون كأنه أعطى لآرائه وعواطفه جسما جميلا هو جسم ذلك المخلوق الجميل، ويكون مثله مثل صانع التماثيل، الذي يودع آراءه وعواطفه في ذلك الرخام الذي يصنع منه حسان الدمى. ولكن الشاعر المحب أجل صنعة؛ لأنه يودع عواطفه وآراءه في روح حية وجسم جميل حي. وينظر الشاعر المحب إلى جسم حبيبه كأنه ينظر إلى تمثال آرائه وخيالاته وعواطفه.
آه، ما ألذ تلك الساعة التي تشعر فيها أن حبيبك يجد لذة وسعادة في حبك إياه! إن حب الشاعر أو غيره من أصحاب الفنون الجميلة غير حب الفرد من أفراد جمهور الناس؛ لأن حب الأول وسيلة، ولكن حب الثاني غاية يسعى إليها. أما حب أصحاب الفنون الجميلة، فإنه وسيلة يريدون أن يوقظوا بها قواهم وملكاتهم الكامنة، ويشعلوا بها التخيل ويهيجوا بها العواطف، ويجعلوا حبيبهم تمثالا لما ينشدونه في فنونهم من الجمال.
لقد مضى علي زمن كنت أعد الجمال فيه عقيدة، ولكني الآن أكاد أعد هذه العقيدة خرافة مثل غيرها من الخرافات التي كنت أحسبها عقائد؛ لأني صرت أشك في الفنون وقيمتها في الحياة.
الإحساس والحياة
ليس الشاعر من يملأ أذهان قومه بالمعاني الجديدة والآراء الجليلة، وإنما الشاعر الذي يملأ قلوبهم بالرغائب الجديدة، والذي يقوي عواطفهم؛ لأن العواطف هي القوة المحركة في الحياة. والأديب العظيم هو من كانت كلماته كهرباء النفوس، هو الذي يحرك النفس كما يحرك العواد عوده، فيوقع عليها من الألحان ما تهتاج له قوى النفس في أعماقها. هو الذي يجعل لكل عاطفة من عواطف النفس روحا وحياة وشخصية؛ لأن النفوس يعلوها صدأ مثل صدأ المادة، ولا يجلو عنها هذا الصدأ إلا ما يحرك أعماقها في النفس، كالماء الراكد الذي تعلوه المواد العطنة. وكما أن هذا الماء الراكد لا يجدده غير تيار جديد، كذلك الروح ينبغي أن تكون معرضة للتيارات الروحية، وليست حياة الأديب إلا تيارا من تلك التيارات التي تحرك النفس.
لقد كنت في أول الأمر أحسب أن الأديب حلية لقومه، وأن الأدب زينة؛ فكنت أقضي الأيام في تصيد الألفاظ، واختلاس الأساليب اللفظية. ولكني ضجرت من هذه المنزلة الحقيرة، وقلت: إن كان الأدب في تصيد الألفاظ، فلا خير في الأدب! ثم فطنت بعد ذلك إلى الحياة وأساليبها، وإلى الروح وعواطفها، وعلمت أن الشاعر هو الذي يعبر عن أساليب الحياة وعواطف النفس، ولا يستقيم له ذلك إلا إذا تقلب في أساليب الحياة، وكانت عواطفه مثل البحر الزاخر، بل كانت كل عاطفة فيه عاصفة تبعث الخوف والجلال. ومن أجل ذلك صرت أجد لذة وألما في هياج العواطف، وكنت أبحث في عواطفي وهي هائجة، كأني أنظر إلى الرياح الهوج العمر، أو الحريق المتلف، وأجد في تلك العواطف ما أجده في قوى الطبيعة. وكنت أبحث في قلبي بعد سكون هذه العواطف، فكأني أنظر إلى مكان خراب دمرته العواصف، أو إلى ميدان الحرب بعد الحرب، كله أشلاء وأطلال. ولكن الضرر الذي يحدثه هياج عواطفي أقل من الضرر الذي يحدثه خمودها وسكونها؛ لأن روحي لا حياة لها إلا إذا اشتعلت، فهي تحيا بأن تحترق وتفني نفسها.
فإذا خمدت عواطفي أحسست كأن هذا الوجود كله يضغط على قلبي، فأحس كأني أكاد أختنق. وفي مثل هذه الحال يخيل لي أن لو وضع هذا الوجود كله في كفة ميزان، ووضع ضجري ومللي من الحياة في كفة، لرجح مللي وضجري؛ ومن أجل ذلك أجتهد دائما أن أهيج عواطفي فرارا من ذلك اليأس الذي يأتي به جمودها. ولقد بلغت بي تلك الحاجة إلى تهييج العواطف أني أحيانا أطل على الأماكن المنخفضة من الصخور أو البيوت العالية، فأحس دوارا غريبا وكأن نفسي أعمق من الأبد، وكأن فكري يهوي في عمقها الذي لا نهاية له، ثم أرمي بنفسي إلى الوراء؛ لأني أحس اندفاعا إلى ذلك المكان المنخفض. وأحيانا أقف على شاطئ البحر، وكأن عيني زجاج آلة التصوير؛ فينطبع هياج الأمواج في نفسي وفي عواطفي. وأحيانا أحس كأني سهم قذف به في الفضاء، فهو إلى الأبد يخترق ذلك الفضاء الذي لا نهاية له.
أذكر أني رأيت مرة حريقا هائلا في جنح من الليل، فهيج في قلبي عواطفه، ولم يهيج سطح العاطفة، بل هيج أعماقها. وجعلت أشعر بالجلال؛ جلال ذلك المنظر الهائل، وبرقت عيناي حتى كدت أرى بريقها. وصارت النار تأكل المنازل؛ فتتهدم وتنهال وتتصاعد ألسنة النار، والدخان يعلوها، والظلام حولنا، وعلى أوجهنا نور يزيدها شحوبا، فكأنما نحن في الأحلام، وكأننا لا نرى حريقا، بل قطعة من الجحيم. وكنت أحس لفح تلك النار في خيالي وذهني. وأذكر أني رأيت هياج الأمواج في المحيط؛ فأحسست ضعف الإنسان وقوته: ضعفه أمام قوى الطبيعة، وقوته التي في خياله وقلبه، والتي تمكنه من أن يجد لذة حتى في مظاهر الطبيعة التي تهيج خوفه، وتبعث في قلبه الإحساس بالجلال.
هذه هي المناظر التي ألتذها، ومن الغريب أني يخيل لي أن هذه المناظر وما تبعثه من الإحساس تعين المرء على تفهم معاني الحياة ومعرفة سرها، ولكن كيف؟! هذا لغز أشد غموضا من لغز الحياة نفسها. أستغفر الله! أنا لا أعتقد أن للحياة لغزا؛ لأن هذا الاعتقاد يكون إحسان ظن بالحياة، وهل من العقل أن نحسن الظن بالحياة إلى هذا الحد؟! ليست الحياة لغزا، بل هي نكتة باردة لا معنى لها. أستغفر الله! لقد حرت في أمري، فلا أعرف هل الحياة لغز عجيب جليل، أم هي نكتة باردة؟!
أكبر ظني أن الخيال هو الذي يجعل الحياة لغزا؛ لأنه يعطيها قيمة أكبر من قيمتها، وهو الذي يجعلها نكتة باردة؛ لأن المغالاة بقيمتها تؤدي إلى اليأس منها.
Bog aan la aqoon
الغرور
إني إذا قلت كلمة أو فعلت فعلا يبعث سخر الناس؛ أعاني من توبيخ الضمير من أجله أكثر مما أعاني إذا أتيت جريمة، فإن المرء مهما عظم احتقاره الناس يتألم من سخر الناس أكثر مما يتألم لهم إذا أصابهم بسوء، فليس الذي يصيبه بشر أعز عليه من نفسه حتى يتألم له. ولو كان تألم المرء إذا أتى جريمة لمن وقعت عليه الجريمة، لما تألم كثير من الناس من جرائمهم. وإنما تألم المرء إذا أتى جريمة أن إتيانها يفسد أعصابه، مثل إدمان الزنى أو إدمان معاقرة الخمر، فهذا التألم ناشئ من تأثير الجريمة في أعصابه ونفسه.
فإذا سخر الناس من رجل من أجل كلمة قالها، أو فعل فعله؛ عانى هذا الرجل من ضميره تأنيبا على ما قال أو فعل، لا سيما إذا كان كثير الإحساس. فإن المرء ليس عنده شيء أعز عليه من نفسه، فإعجاب المرء بنفسه أعز عليه من فضائله ومن رذائله - وبعض الرذائل عزيز - ومن حسناته ومن سيئاته. فإعجاب كل امرئ بنفسه جزء من حياته، لا تستقيم الحياة إلا به، والناس أشباه سواسية في هذا الإعجاب، سواء الأمير وسائق الحمير، فإن كل الناس مغرور، ولكن على حسب طبائعهم تختلف أنواع غرورهم. والغرور من أسباب سوء الظن، فإن من كان مغرورا خشي أن يهينه أو يؤلمه الناس، وهذا الخوف قد يزداد بالمرء حتى يجعل إحساسه مثل جلد اللديغ الذي إذا احتك به الحرير آلمه.
وما يدريني! ربما كانت معائب الإنسان في الإنسان مثل الملح في الطعام، أليس غرور الناس من التوابل التي تسيغ بها الناس؟ ولا أنكر أن التوابل والأملاح إذا أكثرت منها أتلفت عليك الطعام. وكذلك الغرور، إذا أكثرت منه لم تسغك الناس، ولكن هذا الإكثار لا يقلل من فضل التوابل ولا من مزايا الغرور. والغرور شيء يصح أن تصرف به الضمائر، فتقول: أنا مغرور، وأنت مغرور ... إلى آخر ما ذكر النحويون من الضمائر.
استعرض على خيالك جماعة من الناس ليس عندهم شيء من الغرور، إنك لتكلف نفسك شططا؛ لأن المرء إذا لم يكن فيه نوع من الغرور؛ فإنما سبب ذلك أن فيه نوعا آخر من أنواعه. فالضاحك مغرور، والباكي مغرور، والفقير مثل الغني مغرور بما يجده في العيش من اللذات والآلام، فهو في ذلك مثل الغني حذوك النعل بالنعل، لا يختلفان إلا بمقدار ما تختلف القدم اليمنى والقدم اليسرى، والجواد مغرور بماله مثل البخيل، والغبي مغرور بعقله مثل غرور صاحب الذكاء بذكائه، وصاحب التقوى مغرور بتقواه، مثل غرور صاحب العهر بعهره.
الخوف والعي
إن الرجل الذي يخشى إيلام الناس إياه مثل النبات الذي لا يعيش إلا في بيوت الزجاج. فإن خوف المرء أن يؤلمه مؤلم، يضعف عزيمته، ويمنعه من العمل والسعي إلى ما فيه منفعته، ويعوده البأس من الناس، ويورثه العي، ويغطي على فصاحته، ويلبسه ثوب الغباوة، فيخفي ذكاءه؛ خشية أن يكون في كل قول يقوله، أو عمل يعمله ما يبعث إهانة الناس إياه، أو سخرهم به. ومن أجل ذلك تقف الكلمة في حلقه؛ خشية أن يصيبه من جراها ما يؤلمه، فيتردد في إخراجها، فيكون كالأخرس إذا حاول الكلام، فتسقط الفرص من يديه كما يسقط الماء من ثقوب الغربال.
ومن أجل هذه الصفة التي أعالجها وأعانيها، صار من لا يعرفني إذا سألني سؤالا وترددت في إجابته ولم أحسن الكلام، يحكم علي بالعي والغباء. ولو تفرس في وجهي في تلك الساعة، وكان أكثر الناس معرفة بالفراسة؛ لقال: هذا ملك الأغبياء؛ والسبب في ذلك أن كل عصبي المزاج مهيج العواطف تختلف هيئات وجهه حسب ما في نفسه وذهنه. وقد لاحظت ذلك بالنظر إلى أوجه الناس، فإن الوجه يختلف حسب أطوار النفس وأحوالها، حتى كأن للمرء أوجها كثيرة، ومن أجل ذلك تختلف صور الرجل العصبي الفوتوغرافية، حسبما يجيش في صدره من العواطف.
إني في خلوتي بنفسي أعد الكلام البليغ والحجج الراجحة، والكلمات البليغة ، وأتخيل محادثات تجري بيني وبين الناس، تكون كل كلمة من كلماتي فيها آية من آيات البلاغة. ولكني إذا لقيت هؤلاء وحادثتهم لم أجد في كلامي هذه الآيات البينات، ثم إذا خلوت بنفسي بعد ذلك أقول: كان ينبغي أن أقول لهم كذا وكذا، فينطلق لساني بالكلام الفصيح البليغ. ولكن أي مزية في أن يكون المرء عييا في المجالس، فصيحا في الخلوات؟! وهذا سبب من أسباب انفرادي ووحدتي، ويرى الناس سكوتي ووحدتي فيحسبون حياتي هادئة مطمئنة، وتغرهم مظاهر سكوتي كما يغر مجاور البركان الذي لا يعرف متى يثور مظاهر سكوته وخموده. فإن سكون المرء يخفي عواطف نفسه، إلا ما بدا للناس منها في عينه وأسرة وجهه، ويحسب الناس أني سعيد وما أنا بسعيد.
إن العواطف سبب شقاء الناس وعظمتهم، وسبب سعادتهم وتعاستهم، وسبب مصائبهم ومحامدهم، وهي سبب لذاتهم وآلامهم. إنها تملأ الحياة نارا، ولكنها أيضا تملأ الحياة نورا، فما أقبح الحياة، والحياة وابزدها وأغثها لولا جمال العواطف! وما أجمل العواطف لولا مصائبها وآلامها! آه يا صديقي، أبعد تمرسي بالحياة والنظر فيها، تطلب مني أن أؤمن بها وبما للناس فيها؟! ولو كان ذلك موكولا إلي لآمنت بها، ولكن للنفس أطوارا وأحوالا يستحيل فيها الإيمان بالحياة.
Bog aan la aqoon
وسائل النجاح
من العيوب التي حالت بيني وبين النجاح في كثير من أمور الحياة أني أحتقر الأشياء الصغيرة، فلا أتطلب معرفتها. وإنما وجه العيب في ذلك أن الحياة مكونة من هذه الأشياء الصغيرة، انظر إلى الساعة من ساعات العمر، تجدها مملوءة من الحوادث الصغيرة والأشياء الحقيرة الدقيقة التي لا يحويها إلا التفصيل. ومن أجل ذلك كان الرجل الذي تمرس بأسباب النجاح لا يهمل شيئا مهما صغر، ولا يحتقر شيئا مهما كان دقيقا. فلا تعرض عليه شيئا من الأمور اليومية وحوادث الساعات إلا فصله وشرح لك كنهه ومصدره وقيمته.
وقد حدثني رجل من أهل النجاح مازحا، قال: قد يكون النجاح في الحياة رهينا بإجادة مشية خاصة، أو بأن نعرف أن في دكان فلان يباع الشيء الفلاني، أو بأن تعرف أن فلان بك الذي أنت صنيعته يعرف فلان باشا، وأن فلان باشا يحب كذا من أنواع المأكولات، وكذا من أنواع النساء، أو بأن تذكر دائما أن فلان بك يكره من يذم أمامه الكذب، وأن الشيخ فلان يبغض من يمدح أمامه الأمانة. هذه أشياء صغيرة، ولكن العمل بها قد يكون سببا من أسباب النجاح، كما أن إهمالها قد يكون سببا من أسباب الفشل!
هذا ولا شك مزح، ولكنه مزح ترقص فيه الحكمة رقص العربيد. وأنا من الناس الذين لا يعرفون الفرق بين الخروف والدجاجة، ولا أيهما أحلى في حلق فلان بك، ولا يهمني أن فلان بك يحب رأيه أكثر من حبه الحق والصواب، وأنه مفتون بمكانته مغرور بجاهه. ثم إني أجهل أثمان الأشياء وأستحي من شرائها؛ ومن أجل ذلك أود لو أمد يدي فآخذ كل ما أريد من الهواء. ومما زادني رغبة في هذه الأمنية الكسل وحب الغريب المعجز؛ ومن أجل حب المعجز أتمنى لو أملك خاتم سليمان الذي يسخر لي الإنس والجن.
آه ما ألذ المعجز، وما أجل المستحيل! وما أحلى أن يستحيل المستحيل على غيري من الناس، وأن لا يستحيل علي!
لو يستحيل المستحيل على الورى
وأنال من أحلامه ما أطلب
لجننت جنة قادر متحكم
يرضى على هذا الأنام ويغضب
وأخذت من هذي الحياة لبانتي
Bog aan la aqoon
وشربت من أكوابها ما يشرب
إن الوراثة والبيئة والتربية رأس مال السعيد، وإنك ليخيل لك أن في الناس من تسعدهم هذه العوامل حتى إنهم لو تطلبوا الشقاء لما وجدوا إليه سبيلا. هنيئا لهؤلاء! فإنهم أبناء هابيل الذين يحبهم الله. وإن في الناس من تشقيهم هذه العوامل حتى يأنسوا إلى الشقاء، يا بؤس هؤلاء! فإنهم أبناء قابيل الذين يبغضهم الله. هؤلاء الذين رأس مالهم القمل والذل والمسكنة والجهل والآلام والمصائب. وهم الذين أراد الله أن يخلقهم بهائم لا تحس، ولكنه رأى أن يعذبهم في الحياة الدنيا، فخلقهم من البشر، هؤلاء هم أهل الفشل.
إن النجاح في الحياة يستلزم طبائع لا يستقيم إلا بها، وإنه ليخيل لي أحيانا أن ليس عندي هذه الطبائع، مثل: التمليق والرياء والنفاق والضعة والاهتمام بالأشياء الدقيقة الحقيرة والمكر والتطفل وارتقاب الفرص الوضيعة، واتخاذ كل وسيلة مهما كانت دنيئة؛ لاكتساب ثقة الناس، والإلحاح في طلب المنافع منهم، وإظهار الحاجة إليهم والتذلل لهم، والتهافت عليهم وإخفاء مقابحهم مهما عظمت، أو إظهارها في مظاهر المحامد والفضائل، وأن أكسر لهم سلسلة ظهري الفقرية احتراما وتبجيلا، وأن أضحك أو أهش أو أقهقه إذا تبسط أحدهم بالفكاهة الغثة الباردة، وأن أضعهم في منزلة أفلاطون وسقراط إذا اجتهدوا أن يجدوا بالحكمة العالية، وأن أبتسم إذا ابتسموا، وأن أعبس إذا عبسوا، وأن أجعل عرضي لهم خرقة أمسح بها أعراضهم النجسة.
كل هذه الصفات ليس عندي منها إلا القليل النادر - هذا ما أظن - وافتقادها هو سبب من أسباب فشلي في كثير من المساعي. ولا أكتمك أني أحاول التخلق بها، فلا يقربني ذلك التخلق من رغائبي شبرا، كأنما هذه الصفات مثل كلمات السحر التي تؤذي من يفوه بها، إلا إذا كان قد أجاد معرفتها. فأي ساحر كريم يعلمني كلمات السحر التي أفتح بها باب النجاح! فقد طرقت الباب حتى كل ذراعي، وناديت بأعلى الصوت: افتح يا سمسم، فما فتح سمسم ولا صنوبر!
ومن أسباب الفشل في المهن، أن رئيسك أبدا يحاول أن تكون لك أربعة أرجل؛ ضعة وذلا، وأنت تأبى إلا أن يكون لك رجلان ويدان. فإن بعض الرؤساء يجد شهوة في تنفيذ أوامره، ويلتذ تعذيب مرءوسه كما يلتذ أهل نيام الزنوج شي لحوم أسراهم من البشر. إن رئاسة هؤلاء الرؤساء من حجج أهل الفوضى، ومن بواعث التذمر في صدور أهل التذمر.
الحياء والوحشة
إن الحياء من أكبر أسباب الفشل في الحياة، وهذا الحياء يعتادني إذا جالسني أو حادثني من لا أعرفه. وإذا كنت في رفقة كلهم لي صديق، غير واحد؛ صاروا كأنهم كلهم أجانب لا أعرفهم. ومن أجل ذلك صرت أستر هذا الحياء بالكبر والاحتجاز والتصلب واعتزال الناس؛ كي لا يزري بي ويخفض من شأني، فإن الحياء ينزل الرجل منزلة الصبيان الصغار، ويغطي على فضله وأدبه وعلمه. ولو شئت سردت لك من نوادر الحياء ما يوضح ذلك. ولكن ليس فريضة على صاحب الاعتراف أن يذكر كل نقائصه، هل فعل ذلك روسو أو جيتي أو شاتوبريان؟ كلا، إن النفس لا تسخو بذلك ولا تطيب، فإنها لا تقدر أن تنزع عنها غطاءها كل النزع. ومهما عظم نصيب صاحب الاعتراف من الصراحة، فلا بد أن يكون عنده من الجبن والحزم واحترام النفس ما يغريه بإخفاء كثير من نقائصه ومعانيه.
لعلك أيها القارئ قد رأيت أو سمعت بغلام صغير إذا نظرت إليه خجل، وإذا كلمته خجل، وإذا دعوته خجل! إني ما رأيت غلاما كهذا إلا أشفقت عليه مما يستقبل من حياته؛ لأن هذا الخجل الشديد هو رأس المصائب، فلا ينتفع المرء معه بحياته. وإنه لفرض على الآباء والمعلمين محو هذا الخجل، وأن يعودوا الغلام الجرأة؛ فإن الوقاحة أقل شرا من الحياء. ولا يعرف قدر المصائب التي يأتي بها هذا الخجل إلا من عالجه وعاناه، وهو أكبر عيوب التربية المنزلية عندنا.
لقد كنت في صغري كثير الحياء، وكنت أنظر إلى جرأة أترابي من الغلمان، وحسن لهجتهم، وأعجب بها وأتمنى أن أكون مثلهم. ولكني لم أعود ما عودوه من الاعتماد على أنفسهم. أذكر أن أبي زار بي صديقا له من الفرنسيين، وكنت صغير السن، وكان لصاحب البيت ابن في عمري، فجاء الغلام وصافحنا وحيانا بفصاحة وطلاقة ورشاقة أعجب بها الحاضرون، وصاروا ينظرون إلي ويضحكون من خجلي. ثم جاء الغلام ومد ذراعه إلي كي نذهب فنلعب، ولكني انزويت وراء أبي، فلم أخرج إليه إلا بعد القيل والقال. وهذه قصة توضح الفرق العظيم بين تربيتنا وتربيتهم. وكنت أخجل في صغري من الزائرين والزائرات، وأستحي من النظر إليهم أو إليهن، وبقيت متصفا بهذا الحياء حتى بعد أن عاشرت الكثير من الناس. وليس سببه الهيبة والاحترام أو الخوف، فإني لم أجد عند الناس من كبر العقل ورجاحة النفس ما يسوغ أن أخجل منهم. وليس إعجاب المرء بنفسه ولا إحساسه أنه يفضل الناس ذكاء وعلما بمانعه من الخجل منهم، إذا صارت هذه الصفة طبيعة فيه.
ومن أجل هذا الحياء صرت لا أأنس بالناس، وأحس قلقا شديدا عند رؤيتهم، فيه شيء من المقت والاحتقار، فلا أحضر مجالس الناس، ولا أتخذ صاحبا جديدا إلا في القليل النادر. ومن أجل ذلك صرت أعوذ بنفسي أن أجالس أهل الجاه والثراء، والذين لا يبالون عواطف جلسائهم. وصرت أحب الوحدة فأتجول منفردا في الأماكن الخالية، وصرت لا أحب الأماكن التي يزدحم فيها الناس، بل أبغضها كل البغض. ولا تحسب أني أجد لذة في الوحدة، بل إني أحس فيها وحشة وغربة، فأحس كأن قلبي صحراء مقفرة، ليس بها أنيس ولا رفيق. ولا تحسب أني أستميحك الشفقة بوصف هذه الوحشة والغربة، فإن رحمة الناس تقلل من احترام المرء نفسه ومن احترامهم إياه.
Bog aan la aqoon
الحياة والرحمة
ولكن أي الناس في غنى عن الرحمة، إنها مصدر قوة لمن أحسها، ولمن وقعت عليه؛ فإنها تزيد المرء ثقة بنوع الإنسان، وتعده لاستئناف مكافحة الحوادث ومناجزتها. وليس القوي العظيم، ولا الملك صاحب الجند والحرس، ولا المصارع الجليد، ولا السري المنعم، ولا الوارث المترف، ولا صاحب الدهاء والقدرة، بأقل حاجة إليها من الأرمل المريضة، أو الطفل الرضيع، أو الشيخ الضعيف. وهي أساس كثير من أنواع الحب. وقد يصدر عنها من الأعمال ما يدل على أنها مظهر من مظاهر القوة.
والناس في حاجة إلى الرحمة حتى ولو كانت رحمة عاقر، لا يصدر عنها عمل جليل، فإن إحساسها يولد التفاهم الذي يوقظ قوى النفس وينعشها، يقول نيتشه: إن الرحمة تضر نوع الإنسان ... إلا أنه لأحوج الناس إلى الرحمة. وأي الناس يقدر أن يمحو من قلبه عاطفة الرحمة إذا زار مستشفى ورأى الأمراض والأدواء، وكأن المرضى تماثيلها؟! أليست هذه الدنيا أيضا مستشفى كبير ونحن فيه تماثيل الأمراض والمعائب والنقائض والحماقات والخرافات والجرائم؟ وإن من كانوا كذلك لخليقون بالرحمة.
ضعف العزيمة
إن ضعف العزيمة له مظاهر كثيرة، من مظاهرها عند المفكر أنه يفكر في ألغاز الحياة التي يود أن يوفق إلى حلها، وهي ليست لها حل. وإني أحيانا أسلي نفسي بالتفكير فيها، وأتتبع ما يصدر عن الناس من أقوال وأعمال، وأجتهد أن أجد فيها حلا لهذه الألغاز، وأحيانا أتعب نفسي وأجلب لها الهم بهذا التتبع والاجتهاد في حل ما ليس له حل. والسبب في ذلك ضعف عزيمة المفكر، فلولا ضعف عزيمته لما خطر بباله أن يجتهد في حل ما ليس له حل من ألغاز الحياة، ولوجد في الحياة والعمل من اللذات ما يلهيه عن هذا التفكير ويغنيه عنه. وضعف العزيمة صفة فينا تلحقنا من طريق الوراثة، كما تلحقنا من التربية المدرسية والمنزلية، فينبغي أن تعود التربية المرء الاعتماد على نفسه؛ ذلك الاعتماد الذي يبعث في المرء نشاطا وثقة بنفسه.
والتفكير إذا تملك المرء، وكان الصفة الغالبة عليه، يفقده الإقدام والنشاط وغير ذلك من مميزات الرجل الذي طبعه يميل إلى العمل، وكل شيء عملي من أمور الحياة. وليس معنى هذا القول أن التفكير ينفي قوة العزم، ولكن الصفتين لا تجتمعان إلا في القليل النادر من الفحول. وفي بعض الأحايين أقول: لو كان لي عقل أفلاطون لبعته بذهن من الأذهان التي يعيش بها الجماهير من الناس وعزيمة كبيرة؛ فإن التفكير يغري بالتفكير، وهذا التفكير يغري بغيره، فتضيع الفرص قبل انتهاء المفكر من تفكيره وابتدائه في عمله.
ومثل هذا التفكير المطرد المتسع مثل الدائرة التي يصنعها الصخر إذا قذف به في الماء، فإنها ما تزال تكبر وتتسع حتى تفنى. ولكني لا أجهل لذات التفكير، وإن كنت لا أحمد آلامه؛ فإنه المعين على الحياة، يكبح من جماح الخيال والعواطف، وما تغري به العواطف من الأعمال. نعم، إن صاحب الخيال والعواطف يحس لذات الحياة أكثر مما يحسها غيره، ولكنه يحس متاعبها أكثر مما يحسها غيره من البشر؛ ومن أجل ذلك كان في كل يوم من أيام حياته، من الحزن والسرور، ومن النعيم والشقاء، ما ليس في السنة من سني غيره. وماذا تفيده عظم لذاته إذا كانت شقاوته عظيمة، بقدر عظم لذاته؟ وماذا تفيده تلك العواطف التي تتضارب في صدره؟
ولقد يخيل لي أحيانا أن تلك العواطف شياطين تجذب أعصابي، وتجري مع الدم في العروق، وتريق فيه السم. وماذا يفيدني أن في تلك العواطف شيئا من اتساع الأبد؟ فهي لا حد لها ولا نهاية. هذا هو الشقاء الذي ليس بعده شقاء، فإن المرء مقيد بقيود الضرورة، ومحدود بحدود القدر. حولي أسنة المقادير وسيوفها تشير إلي، فإذا سعيت إلى يساري وخزت جانبي الأيسر، وإذا سعيت إلى يميني وخزت جانبي الأيمن، وإذا سعيت إلى أمامي أو إلى ورائي أحسست وخزها، وإذا هممت أن أطير وجدت سيوف المقادير معلقة فوق رأسي. وقد تمر بي ساعات تهبط فيها السماء وتضيق فيها الأرض، حتى أحسب الحياة أضيق من تنور عبد الملك بن الزيات. وفي تلك الحال أحس كما يحس المجنون المقيد الذي يريد أن يفك عنه سلاسله، وأن يهيم على وجهه لا يقر في مكان.
ولكن إلى أين يفر أسير الحياة؟ إلى أين يفر من عواطفه وآماله وأفكاره وذكره، ومن الزمن الذي يعيش فيه؟ فالإنسان لا يقدر أن يفر من كل ذلك إلا إلى الموت. فلو كان للإنسان أن يهيم في فيافي الأزمان، كما يهيم في فيافي الأرض فيفر إلى الزمن الماضي، أو إلى الزمن الآتي! آه لو أمكن ذلك! كأني بك أيها القارئ تعجب من هذا التمني، وتراه ضربا من الجنون! هبه كذلك، فما ألذ الجنون! ألم تجن قط؟ ألم يخطر ببالك أن هذه الأرض إنما هي مارستان كبير، وأن هذه الأعمال التي تعملها والمساعي التي تسعى إليها إنما هي جزء من الدواء، جزء من طريقة العلاج، وأن هذه النجوم والأفلاك التي في السماء إنما هي لعب معلقة فوق رءوس المجانين، وأنها أيضا جزء من العلاج، وأن هذه العلوم والفضائل التي نفاخر فيها هي الأكاذيب والقصص والخرافات التي يقصها الممرض أو الطبيب على المجانين، وأنها أيضا جزء من العلاج؟
إني لا أريد منك أن يكون هذا رأيك في الحياة، وإنما أريد أن أبسط لك أسباب الشقاء، فأليح لك أحيانا بالجحيم الذي يخلقه الخيال، والذي تؤججه العواطف. فإذا كان هذا الجحيم الذي يخيفك ويفزعك، فاطو هذا الاعتراف واقرأ قصة من القصص التي أعمق عاطفة يشرحها الكاتب فيها، لا يبلغ عمقها سنتيمترا واحدا، فأنت من الناس الذين يريدون أن يكون الشعر والأدب بمنزلة التثاؤب والتمطي.
Bog aan la aqoon