وأخيرا، إليك نداء من الإخوان إلى أتباعهم،
28
يؤلف أطرف مثال على توحيد ما بين الآراء، فهم يقولون: «فهل لك يا أخي، أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة، التي بناها أبونا نوح، فتسلم من أمواج بحر الهيولي، ولا تكون من المغرقين؟ أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السماوات التي رآها أبونا إبراهيم لما جن عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟ أو هل لك يا أخي أن تتم الميعاد، وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن، حيث قيل: يا موسى، فيقضى إليك الأمر فتكون من الشاهدين؟ أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي ينفخ فيك الروح، فيذهب عنك اللوم حتى ترى الأيسوع عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب، أو ترى من حوله من الناظرين؟ أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن، حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريحون؟ أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون، حتى ترى الأفلاك التي يحوكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية، لا ما يشير إليه المنجمون؟» •••
لقد انتهينا إلى حد القسم الأول من كتابنا، وقد سرنا أربعة قرون، متتبعين حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي. وقد رأينا قيام عمل هذا الزمن على وضع المعضلة الكلامية الفلسفية على الخصوص، وعلى استخلاص حلولها بالتدريج، والآن نقف. ونحن إذ نقيم على أرض ثابتة ندقق - على مهل - في الحل الكبير الأول لهذه المعضلة على يد ابن سينا.
الفصل الخامس
ابن سينا: سيرته، كتبه
ترجمة الفيلسوف لنفسه - حال الدولة في عصر ابن سينا - صلة ابن سينا بأمير بخارى - بعض مصنفات الشيخ الرئيس في الفلسفة، والمنطق، والأخلاق، والتصوف، والطب. ***
يجب على القارئ - الذي تفضل باتباعنا حتى هذا الموضع - أن يتخلص الآن من بعض المبتسرات، التي يمكن أن تكون لديه عند تناول هذا الموضوع. والواقع أن مما يفترض بعض الناس، بسماعهم إيانا نتكلم عن فلاسفة عظماء من العرب، كون هؤلاء الرجال لم يكونوا عظماء إلا بالنسبة إلى زمنهم وأمتهم، فمن التهور أن يذهب إلى مقارنتهم بالفلاسفة والعلماء المشهورين، الذين ظهروا في بيئات أخرى.
وأما نحن فنقول: إن من الجلي أن فضلاء كالذين ذكرنا - من أمثال سرجس الرأس عيني، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، والكندي، والفارابي - يستحقون بقوتهم الطبيعية وأصالة طبعهم - كما بعدد مؤلفاتهم وقيمة كتبهم - أن يصفوا بين أحسن أكفياء الذهن البشري من غير نظر إلى البيئة والزمان. ومع ذلك فإنني أرى عند الكلام عن ابن سينا أن من غير الممكن بقاء أي شك حول المقام الذي يجب أن يوضع فيه أمثال أولئك الرجال، وإنه - بعد النظر إلى هذا الرأس المنقطع النظير، ونضج مواهبه، وسرعة ذكائه، وسمو عقله، وجلاء ذهنه، وقوة فكره، وكثرة آثاره، واتساع مؤلفاته، التي وضعها في أثناء ما كان يساور حياته من اضطراب متصل، وإلى صولة أهوائه وتنوع ميوله - يقنع بأن حاصل النشاط الذي بذل في مثل حياته يفوق - بمراحل - نشاط ما تستطيعه المثل البشرية المتوسطة، حتى في زماننا أيضا.
نعرف سيرة ابن سينا من مصدر رائع، قل وجود مثله في الأدب العربي، وهذه ترجمة كتبها الفيلسوف بنفسه فاقتطفها وأتمها تلميذه الجوزجاني، وقد حفظ ابن أبي أصيبعة لنا هذه الوثيقة الثمينة،
Bog aan la aqoon