مموه الإنشاء، يرى فيه أناس ينتسبون إلى أمم مختلفة من يونان، وهنود وفرس، وتتر، وعرب، ويتجادلون هم والحيوان حول منافع الإنسان والحيوان النسبية، وذلك أمام تلك الجن، فلما رأى الإنسان أن جميع المنافع التي كان يظن إمكان استخلاصها من دقة ملاذه الحسية وكمال حرفه ومهنه قد ردت إلى العدم، اضطر إلى الاعتراف بأنه لا فضل حقيقيا له على الحيوان إلا بخلقيته. وقد عبر عن هذه النتيجة بهذه العبارة:
25 «والآن ثق ، يا أخي، بأن هذه الصفات التي انتصر بها الإنسان على أنواع الحيوان أمام ملك الجن تقوم على التزام هذه العلوم والمعارف التي جمعناها في هذه الرسائل الإحدى والخمسين مع الإيجاز والاستقامة ما أمكن.» وهذه إشارة إلى أسلوب في الدعاية على أساس خلقي.
ومن التسلية أن تجد في هذه الرسائل بعض المناظر الدنيا لنظريات فلسفية راقية جدا بنفسها، فاتفق لها بهذه الأشكال الغليظة رواج عظيم حتى أيامنا. ومن ذلك أن نظرية فيثاغورس العميقة في الأعداد ظهرت فيها، كما تعرض على الفتيان في الوقت الحاضر أحيانا؛ وذلك أن الخالق نظم الموجودات وفق سلسلة الأعداد،
26
وأن كل نوع من الوجود يناسب عددا معينا، فأشياء تتصل اثنين اثنين؛ أي تتصل الهيولي والصورة، والعلة والمعلول، والليل والنهار، والذكر والأنثى، وأشياء تتصل ثلاثة ثلاثة؛ أي تتصل أبعاد الحيز الثلاثة، وأقسام الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ووجوه الأمور الثلاثة: الممكن والمحال والواجب، وأشياء تتصل أربعة أربعة؛ أي تتصل الطبيعات الأربع: الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة، والعناصر الأربعة، وأمزجة بدن الإنسان الأربعة، والفصول الأربعة، والجهات الأربع ... إلخ، وهذا من الفلسفة الشعبية تماما.
وهنالك نظرية أخرى كانت واسعة الانتشار في القرون الوسطى، وهي من أصل بالغ السمو، وهي نظرية العالم الأكبر والعالم الصغير. فالعالم إنسان كبير، ويكون الفلك الخارجي جسمه وتؤلف أجزاء العالم أعضاءه، والعالم كالإنسان حي بالنفس العامة، وكما أن الإنسان يدير نفسه بعقله يدار العالم بالعقل العام، وتعد قوى الطبيعة قواه المحركة. وعلى العكس يعد الإنسان عالما صغيرا، ويعد بدنه طرفة الطبيعة، ويدرك خياله وعقله مجموع الموجودات، وتنطوي فيهما خلاصة جميع الأشياء.
وتكون هذه المقارنات جميلة أول وهلة، ولكنها إذا ما أصر عليها لم تدع للاعتبارات العلمية مجالا، وقد أصر إخوان الصفا عليها، وكان إصرارهم عليها ضمن معنى أفلاطوني جديد بالغ،
27
وذلك أن الله تام الوجود والجلال، وهو عالم بجميع الأشياء قبل أن تكون، وهو قادر على دعوتها إلى الوجود متى أراد، وهو ينشر الفيض والفضل بحكمته، كما تنشر الشمس النور، ويدعى بدء هذا السكب الذي يصدر عنه بالسبب الخلاق، وهذا جوهر بسيط ونور خالص متناهيا الكمال، وتوجد فيهما صور كل شيء كوجود صور الشيء المعلوم في النفس العالمة، وتحدث النفس العامة درجة ثانية من السكب؛ أي تحدث الجوهر الروحاني البسيط، ويخرج من النفس فيض آخر يدعى المادة العامة.
وأول صورة تتلقاها هذه المادة الأصلية هي صورة البعد، وتصير المادة الثانية التي تنشأ عنها مادة الأجسام، فعند هذه النقطة يقف الفيض، ثم تتحد النفس بالأجسام، وتمنحها الكمال والجمال. والصورة الأولى التي توجدها النفس في الجسم هي صورة الفلك السماوي، والأرض هي أكثف الأجسام وأكثرها ظلاما؛ ولذا فإن الله يغضي عن هذا الخلق، ولكنه يريده، ويعلمه بالفعل.
Bog aan la aqoon