114

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

١١٩- ولم يكن ذلك الجدل بين الفقهاء وحدهم، بل كان بينهم، وبين علماء الكلام من المعتزلة والجهمية والمرجئة وغيرهم، وبين علماء الكلام بعضهم مع بعض، كما كان يجري بين المعتزلة والجبرية، وبين علماء الكلام وغيرهم من المهاجمين للإسلام، أو بينهم وبين الفلاسفة غير المسلمين الذين أقاموا بالديار الإسلامية، كأولئك الذين انتحلوا نحلة السوفسطائيين، كما جرى مثلا بين النظام، وبعض هؤلاء الشكيين، وبين النظام والمانوية، وغيرهم.

وفي الجملة إن ذلك العصر كان عصر احتكاك فكري بين نحل مختلفة، وبين مذاهب عقلية مختلفة، وبين آراء فقهية مختلفة، ومن طبيعة الاحتكاك الفكري أن تتولد عنه المناظرات التي يقصد بها الوصول إلى الحق في القضايا المتنازعة، والمجادلات التي يقصد بها الغلب العقلي والسلطان الفكري(١).

والنوعان كانا كثيرين في هذا العصر، فهناك جدل كان للغلب، واحتياز المجالس وجدل كان لتحري الحق.

(١) قد صور ابن قتيبة في كتابه (اختلاف اللفظ) الجدل الذي كان يغلب على ذلك العصر فقال: ((كان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع، وقد صار الآن يسمع ليجمع، ويجمع ليذكر، ويحفظ ليغالب ويفخر، وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح، وفيما يغوب الناس، فينفع الله به القائل والسامع، وقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وصار الغرض منه إخراج لطيفة، وغوصا عن غريبة وردا على متقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة وهذا يرد على مالك، والآخر على الشافعي بزخرف من القول، ولطيف من الخيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صوابا عند الله بتمويهه، فقد تقلد المأثم عن العاملين به دهر الداهرين، وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف، وهو يرى، وبالإبداع في دين على آخر، وهو يبتدع وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر والشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس وتمع الهوى، وقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة، والجزء والعرض والجوهر، فهم دائجون يختبطون في العشوات قد تشعبت بهم الطرق، وقادهم الهوى بزمام الردى.

وكان آخر ما وقع من الاختلاف، من الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالاتباع قاهرين، يداجون بكل بلد ولا يداجون، يستتر منهم بالنحل، ولا يستترون، ويصدعون بحقهم ولا يستغشون، لا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلا من وضعوا ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا.

وابن قتيبة توفي سنة ٢٧٦ فهو إذ يحكي هذا الجدل إنما يذكر العصر الذي عاش فيه أحمد، وما قاربه، وفيه نرى أن الجدل قد ساد التفكير في ذاك العصر

(٨)

113