الامعان في مفردات القرآن
هي قراءات متأنية لتصحيح معاني أهم المفردات التي اختلف حولها المفسرون أو فهموها فهما سطحيا لم ينفذ إلى عمق دلالاتها الحقيقية فكان التفسير لها غير منسجم مع سياقها القرآنيالامعان في مفردات القرآن ¶ هي قراءات متأنية لتصحيح معاني أهم المفردات التي اختلف حولها المفسرون أو فهموها فهما سطحيا لم ينفذ إلى عمق دلالاتها الحقيقية فكان التفسير لها غير منسجم مع سياقها القرآني
نزل وأنزل
لعل هذا الموضوع في نظر البعض غير مهم ولا يحتاج لاهتمام، لكنه موضوع هام يحتاج إلى التأمل بإمعان؛ لأنه متعلق بآيات القرآن؛ ذلك أن الكلمتين وردتا في القرآن متكررة وفي آيات تتحدث عن مصدره، وعن مصدقه ومنكره. وإذن فلا بد من تأمل معناهما بإمعان، لنصل إلى الفهم الذي يليق باليقين في الإيمان.
لقد دفعني إلى البحث والتفكير في معنى الكلمتين ودلالتها ما لحظته في كتب اللغة والتفسير من اضطراب في معناهما وهو اضطراب مثير لا يليق ببلاغة القرآن، ولا يصح أن يترك بلا بيان؛ وكيف لا وهو منزل من الرحمن؛ ولهذا فقد طفقت أتابع الكلمتين في الآيات، وأتأمل في سياقها بحثا عن الدلالات؛ حتى وصلت إلى الفهم الشافي، والتفسير الوافي، بعون الله الكافي ، ولقد كان مفتاح الباب إلى تتبع المعنى والتنقيب الدائب ما قاله العلامة الرضي في شرح شافية ابن الحاجب، حول الأفعال المضعفة. فلقد أشار إلى أن تضعيف كلمة أنزل بأن يقال [نزل] لا يدل على التكرير، كما زعم رجال التفسير؛ بل لها معنى آخر يلوح لمن له قلب مستنير. ودلل على قوله بآية كريمة، تدعم ما يذهب إليه من نظرة سليمة، وتدحض النظرات السقيمة؛ تلك هي قوله تعالى في سورة الشعراء: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) [الشعراء:4].فإن ورود كلمة (ننزل) المضعفة في هذا السياق لا تدل على التكرار؛ لأن الآية تنزل دفعة واحدة بلا تكرار ولا تتابع، هذا أولا - وهو قول صحيح ودليل واضح على ما ذهب إليه- ثم ما ورد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) [الفرقان:32]. فلقد وردت كلمة (نزل) مضعفة مع أنهم طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، وهذا يعني أن الكلمة لا تعني التكرير والتتابع.
إذن فإن كلام الرضي قد أثار السؤال عن المعنى الجديد، ولكنه لم يوضح المعنى المراد بل ترك الباب مفتوحا لمن أراد البحث عن المعنى بالتحديد. وهذا هو الذي أثار عندي التساؤل حول المعنى المراد، ودفعني إلى البحث والتأمل في الآيات باطراد. وعليه: فقد أضربت صفحا عن مراجعة أقوال المفسرين، فإنهم لم يأتوا بالقول المبين، واتجهت إلى الآيات موقنا بأن فيها النبأ اليقين. فالقرآن يبين بعضه بعضا، ومن تدبر وصل إلى ما به الله يرضى، وبعد أيام وأيام وتأمل وإمعان، ومقارنة بين مواضع ورود الكلمتين في القرآن، تبين لي بسهولة ويسر أن المعنى واضح وليس فيه لبس ولا في فهمه عسر. وإليكم النتائج التي وصلت إليها، والدلالات التي اطمأنت نفسي إليها، وها أنذا أضع أمامكم المعاني التي تدل كلمتا "نزل وأنزل" عليها؛ مؤيدة ببعض الآيات التي يدل سياقها على معانيها.
لقد تأكد لي بما لا يدع مجالا للشك، أن كلمة (نزل) بالتضعيف تأتي في السياق الذي يدل على تنزيل خاص لفرد خاص أو مجموعة خاصة وبصفة خاصة بينما كلمة (أنزل) بالهمزة والتخفيف تأتي في السياق الذي يعني إنزالا عاما لا يخص فردا معينا ولا جماعة مخصصة ولا حالة خاصة ولكن للناس عامة وللأمم عامة ولحالات عامة بدون تخصيص ولا تحديد. ثم إن كلمة (نزل) تعني إلى جانب ما تعنيه من الخصوصية الاهتمام الخاص بالمنزل إليه والعناية الخاصة بالمنزل عليه؛ بينما لا تفيد كلمة (أنزل) الإشارة إلى هذا الاهتمام بل تأتي في سياق الإلقاء للخاص والعام. وهكذا يكون الفهم لمعنى الكلمتين في سياق الآيات.
لنقرأ قوله تعالى، حاكيا تعنت الكفار وطلبهم المعجزات من الرسول في سورة الإسراء فلقد أورد عددا من المطالب حتى وصل إلى قوله: (أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)[الإسراء: 93]. تأملوا قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى (تنزل) علينا كتابا نقرؤه). إن كلمة (تنزل) جاءت لتدل على أن المراد "التنزيل الخاص" الذي يصل إليهم بعناية واهتمام، ويخصهم بالخطاب والكلام. ثم إن مثل هذا الطلب المتعسف، ورد في سورة الزخرف: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) [الزخرف: 31]. فإن كلمة (نزل) وردت لتدل على أن المراد تنزيل خاص إلى شخص مخصوص وبعناية واهتمام يليق بالرجل العظيم، ويتناسب مع مقامه المزعوم. ولتأكيد هذه الخصوصية وردت الكلمة في سورة الإسراء: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)[الإسراء: 106]. فلقد تنزل القرآن على رسول الله محمد تنزيلا خاصا ليقرأه على مكث على الناس وليبلغه إلى الناس بشكل واضح مبين. ولنعرف أن هذا المعنى هو المراد، فإن الآية التي سبقت هذه تستعمل كلمة أنزل لتدل على أنه إنزال عام: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) فهو بالحق متلبس، وهو له ملابس في حالة الإنزال وفي حالة النزول؛ ليكون للعالمين الدليل على أن الله هو الهادي إلى سواء السبيل، وأنه الهادي إلى الحق لا سواه؛ ولهذا فإنه وحده المتفرد بالحكمة والإرسال، والوحي والإنزال؛ ولكنه يختار من الملائكة والناس ما يختار من الرسل وهو السميع البصير.(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور) [الحج: 76].
وعليه: فإنه يعتني باختيار رسله من الملائكة ومن الناس فإذا تحدث عن إنزال الملائكة استعمل كلمة (نزل) المضعفة التي تدل على العناية والاهتمام الخاص؛ (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون(1) (ينزل) الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) [النمل: 1-2]. لاحظوا كلمة (ينزل الملائكة) فإنها مضعفة. وكذلك قال في سورة الإسراء: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [الإسراء: 95]. وحين يتحدث الملائكة عن أنفسهم يستعملون نفس الكلمة: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) [مريم: 64]. وحين يتحدث الله عن القيامة يقول: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) [الفرقان:25]. وقوله عن ليلة القدر: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4)سلام هي حتى مطلع الفجر(5)) [القدر: 4-5]. وحين يريد الله أن يؤكد أن القرآن منزل من عنده بلا ريب فإن كلمة (نزل) ومشتقاتها ترد متوالية، سواء في الحديث عن الملائكة أو عن القرآن كما ورد في سورة الحجر، فالله يحكي قول المكذبين فيقول: (وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) [الحجر:6]. فهم ينادون النبي بما يدعيه ويستعملون الكلمة التي تدل على الاختصاص (نزل) كما يدعيه بأنه منزل عليه، وهم بهذا يسخرون أو يطمعون أن يكون التنزيل لهم معه؛ ولهذا فهم يطلبون دليلا على ما ادعاه وهو قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) [الحجر:7]. لكن الله يجيب بلهجة التهديد، والتلويح بالوعيد، ويستعمل كلمة (ننزل): (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) [الحجر:8]. ثم يؤكد أن القرآن منزل من عنده بعناية واهتمام ويستعمل كلمة (نزل): (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر:9].
ومثل هذا جاء في سورة الإنسان: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا(23)فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا(24)) [الإنسان:23-24]. أما حينما يتحدث عن الكتاب ويصفه بصفات خاصة فإن استعمال كلمة (نزل) المضعفة هي المناسبة بلا إشكال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر:23].
Bog aan la aqoon