(ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) الزمر 70
وهكذا كانت الآية السبعون ، هي الفاصلة فيما يفعلون
فالله هو الأعلم بالعباد وأفعالهم ، وهو الذي يوفيهم بأعمالهم
فلا يخاف مسيئهم ظلما في العقاب ، ولا يخاف محسنهم هضما في الثواب فالكل أمام الله السريع الحساب ، وهكذا فإن الجميع في الختام
وبعد انقضاء الأحكام ، يتوجهون بالحمد والتسبيح لربهم العلام
(وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر 75
إن الحمد هنا يعني أن الله حكم بالحق ، الذي لا يرد ولا يسبق والذي يقبل به الكل بلا اعتراض ولا نكران ،
لأنه قضى بالعدل والميزان وهو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض
ولا أقل من ذلك من أعمال الإنسان فسبحانه الرحمن الرحيم ولا شريك له في الحكم
(أليس الله بأحكم الحاكمين) التين 8 ،،،،،،،هل الشفاعة واقعة ،، أم هي أماني ضائعة؟؟ ¶ إنه سؤال هام ، بل هو استفهام يجب أن يعم الأنام ، فكم من أمم وأقوام على هذا الحلم اطمئن ونام ، لكن جواب السؤال في الختام ، يمكن أن يوقظ النوام ، ويهتك سجف الأحلام ، ويمزق دجى الظلام ، ويصحح خاطئ الأفهام ، ويفتح العيون والأبصار ، على طريق السلام ، ويسمو بنا إلى مقام ربنا العلام الذي لا يشرك في حكمه أحدا ، ولا يتوسط احد إليه أبدا ، ولا يحول بينه وبين عبيده أحد من البشر ولا يعلم احد عن عبيده منه أكثر ، بل هو العليم والأخبر ، وهو الذي يعلم السر مثلما ظهر ، إنه هو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وهو الذي خلق الإنسان وهو أعلم به ، وكيف لا وهو يقول (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق 16 فهل بعد هذا العلم من مزيد ، وهل هناك شيء أقرب إليك من ربك المجيد ، كلا بل هو اللطيف الخبير والقريب البصير ، وهو العليم بذات الصدور. ¶ وعلى هذا الأساس فلنناقش الشفاعة وعلى هذا الفهم لرب العالمين ، فلنفرد آيات القرآن المبين ، ومن هذا المنطلق الثابت المقدر لله حق قدره ننطلق ثابتين على حكمه وأمره ، ونقترب من الشفاعة مبصرين ، ونناقشها مؤمنين ، ولله مستسلمين وله مقدرين معطين ، وبعلمه المحيط معترفين ، وبجهل سواه موقنين ، فلا نجعل له أندادا ، ولا نسوي به عبادا،فإن فعلنا فإننا إذا من الظالمين ، وإن سوينا به سواه كنا مشركين. ¶ قد تفاجئون إذا قلت لكم إن الاطمئنان إلى شفاعة الشافعين ، إنما هو شرك واضح مبين ، بل هو ضلال سواء كان هؤلاء الشفعاء من الملائكه أو من النبيين ، وسواء كان الشفيع كما تظن من المقربين أو من الشهداء والصديقين ، وكيف لا وكلهم لا يعلمون عن العباد شيئا ، بل لا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فكيف يكون لهم العلم المحيط بما اختفى ، إن هذا هو ما اختص به الله دون سواه قال تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7? الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 6-8. ¶ إذا كان ما قلته قد أفزعكم ، إذا كان ما صرحت به قد أزعجكم فلنعد إلى الموضوع بهدوء معكم ، ولنبدأ من حيث نستطيع أن نصل إلى الحقيقة المصيبة ونستكشف المعاني العميقة في هذه القضية،، لنبدأ من معرفة معنى كلمة (شفيع) في اللغة ، إنه اسم بمعنى السبب الذي يتوصل به إلى سواه من الأحداث التي تراد أو هو الوسيلة التي تتخذ وسيطة بين المريد والمراد،، فأنت قد تتوسل إلى الماء ، لتشرب بالدلو إن كان في بئر ، أو بكاس إن كان في قدر ، أو بيدك إن كان في الأرض أو بشفتيك إن كان على يدك ، وتريد أن تشرب، ألا ترى كم توسلت إلى أسباب لتشرب ، كل هؤلاء شفعاء لك عند ربك ليصل الماء إلى فمك ، ثم أن الماء بحد ذاته سبب للارتواء الذي تريد ، فهو شفيع لك عند ربك لترتوي ، إذا شاء ربك لك الارتواء. إذا لكل تلك الأسباب المتوالية أن تؤدي مهمتها من البداية حتى يصل الماء إلى فمك ، هل تظن أن الأمر انتهى هنا ، كلا بل لابد أن يأذن الله للسانك أن يذوق الماء ، ويطعم ويشم الماء ثم يستسيغ الماء ، ثم يأذن للبلعوم أن يبلع الماء ، إلى ما ورائه من الأعضاء ، ثم يأذن للمعدة أن تهضم وتقبل الماء ، ثم يأذن للأمعاء وبقية أجزاء الهضم أن تنشر الماء إلى الجسد المتتابع الظامئ ، ثم يأذن للجسد الظامئ أن يقبل ويتفاعل وأن ينتفع بالماء ، ثم يأذن لأجهزة الشعور والإدراك المحيطة أن تشعر أن الجسم قد ارتوى ، وأن تدرك أن الماء قد أدى المهمة التي شرب لها ،وعند ذلك يكون الماء قد أصبح السبب الظاهر الذي أرواك ، وهو الشفيع الظاهر الواصل إلى المشاعر والإدراك. لكن قل لي هل الماء أنت أنزلته ، هل أنت أجريته على الأرض معينا ، هل أنت حفظته في الأرض ينابيع ، ثم هل البئر هي التي أهدته إليك ، وهل الدلو هو الذي رفعه ، وهل يدك هي التي أوصلته إلى فمك ، وهل فمك هو الذي ذاق وهضم ، وهل بقية أعضائك المتداولة للماء ، عملت ذلك الإرواء والاكتفاء ، والشعور الجميل بالهناء هل هي التي عملت ذلك بعلم منها ، وهل هي التي أشعرتك بالارتواء وهل كان ذلك بقدرتها ، كلا بل كل ذلك لم يتم إلا بإذن الله لكل الأسباب المتوالية مجتمعة ، وهو الذي دبر الأمر من البداية ، حتى وصل إليك بصورة ممتعة ، فكل الأسباب عملت بإذنه وعلمه ، وكل الوسائل تيسرت وتدبرت بقوته وحكمه ، وكل النتائج توفرت برحمته ، وكل المنافع تأكدت بإذنه وتدبيره ونعمته ، فهو السبب الأول والأخير ، وهو السبب الظاهر والباطن ، وهو الشفيع الحق بلا جدال ، وهكذا ندرك أن كل الشفعاء ، ما كانوا مؤثرين لولا الإذن من ذي الجلال ،، وهكذا فلندرك ما معنى الشفيع فهو السبب ، والأسباب كثيرة لا تحصى . بل أن الشفيع أو السبب متنوع الأنواع والأجناس في الظاهر والخفاء فكل الأشياء من حولنا شفعاء وأسباب لحياتنا ،وكل الأجرام والأحياء في الأرض والسماء أسباب لقيام حياتنا ، ولكن بإذن الله ربنا فهو الذي يسخر ، وهو الذي يدبر ، ولو شاء لما أذن وأمر (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ) القصص 71 . ¶ وإذا كانت كل الأسباب أسبابا للإنسان ، فإن الإنسان بحد ذاته سبب وشفيع لسواه من الأشياء والأجناس وهو لا يدري ، بل شفيع لبعضه البعض ، ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) الزخرف 32 . وعلى هذا فإن الإنسان قد يكون شفيعا لسواه باختياره وقد يكون بدون اختياره ، وهو في الحالة الثانية مسخر ومسير وهو في الأولى مختار لكنه مع ذلك مختبر ، وهو في حالة الإحسان والإساءة يثاب ويؤجر بما يستحق وبما اختاره الله وقدر، وهكذا فإن الإنسان يكون سببا لأخيه الإنسان ، فينال مع أخيه نصيبا من الإحسان ، الذي ناله أخوه بسببه ، وينال حظا من الإساءة التي وصلت إلى أخيه بسببه ، وإن شفاعته مطلوبة محسوبة ، وهي بأمر الله مقدرة مكتوبة ، ولهذا قال تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا) النساء 85 .وإذا عرفنا أن معنى كلمة مقيت في آخر الآية هو الحفيظ أو المقتدر أو الشهيد ، فإن الختام يعني أن كل شفاعة من إنسان لإنسان لا تعني أن الإنسان هو الذي أجراها ، ولكن الله هو الذي دبرها ويسرها وهو على فعله شهيد ، فهو حفيظ محيط ، فلا يفوته ولا يغيب عنه بل يسجله ويعلمه ويكتبه ويحكمه ، فلا قدرة للإنسان أن يعمل شيئا دون إذن الله وأقداره ، وكيفلا وهو كما يقول (وكان الله على كل شيء مقيتا) أي مقتدر ، فهو الذي أقدرك يا شفيع الحسنه ، وهو الذي أقدرك يا شفيع السيئة ، وهو عليكما الشهيد والحفيظ ، وإذا فالفعل فعل الله والشفيع هو الله ، والشفاعة منه ، وإذا كان هذا هو علم الإنسان أمام أخيه الإنسان ، وأمام اتخاذه أسبابا ، ليتوصل بها إلى أي شأن فإن هذا يعني أن لا فعل لأحد ، إلا الله ولا سبب يفيد أو يضرإلا بإذن الله وتيسيره ، وأن الشفاعة لا تعني إلا سببا هيئه الله وأذن به وأن الله يجعل الإنسان سببا للعمل والتأثير ، ¶ ولكن المؤثر والعامل هو الله وعليه فإن كل صناعة وزراعة ، وبناء وهدم ، إنما قام به الإنسان كسبب ، هيئه الله ، وبهذا يقول تعالى (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ?41? وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ?42?) يس 41/42 فلقد أسند الخلق إليه ، مع أن صناعة الفلك والسفن ، هي بيد الإنسان وقال على لسان إبراهيم عليه السلام ، مخاطبا قومه الذين يعبدون الأصنام (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا )العنكبوت 17 فسمى نحتهم للأصنام خلقا ، وأسنده إليهم ، لكنه في آية أخرى يقول في نفس الموضوع (قال أتعبدون ما تنحتون ?95? والله خلقكم وما تعملون ?96?) الصافات 95/96 ¶ ولو تأملنا كثيرا في الآيات ، لوجدنا أن الله ينسب الفعل إلى الناس ولكنه في نفس الوقت يعيد الفعل إليه وحده ، فلتقرأ ما فعلة فرعون حين خرج موسى مع قومه من مصر (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ?53? إن هؤلاء لشرذمة قليلون ?54? وإنهم لنا لغائظون ?55? وإنا لجميع حاذرون) الشعراء 53-55 فها هنا الله ينسب حشر الناس إلى فرعون ، ولكنه عقب ذلك بقوله (فأخرجناهم من جنات وعيون?57? وكنوز ومقام كريم?58?) الشعراء 57/58 إن الله يسند الإخراج إليه وحده ، وما كان حشر فرعون للناس ، إلا سببا وشفيعا لتنفيذ إرادة الله ، وتحقيق فعله ، فهو الفاعل الحقيقي ، والشفيع الحق ، حتى مع المسلمين يقول الله عنهم وعلى لسانهم (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) التوبة 52 فالمعذب هو الله ولكن الأسباب متعددة ، لأنه هو المسير والمدبر لها والشفيع المنفذ ، بل ويقول في نفس القول وفي أية قالها موجها الخطاب للمسلمين ، يأمرهم بقتال الناقضين للعهود من الكفار (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) التوبة 14 فالعذاب هو عذاب الله ، والمعذب هو الله ، ولكن المسلمين يد القدرة وسبب الإرادة ، وهكذا يريد الله أن يكون أمام الأعين لكل فعل سببا ظاهريا ، ولكن السبب الحقيقي هو الله فلا تقل أنا انتصرت أو نصرت ولا عذبت ولا شفيت أحدا ، ولا أخزيت فلانا ، أو صنعت حلا،، فالناصر والمعذب والشافي والمخزي هو الله لا سواه ، ولو استعرضنا الآيات لطال المقال ، ولكني سأدخل إلى عمق الموضوع وسيتضح لكم أن الله هو الشفيع ، ولكي يتجلى لنا الأمر بوضوح ولكي نصل إلى الهدف الصحيح ، تعالوا نقسم آيات الشفاعة إلى قسمين رتيبين في القرآن. ¶ القسم الأول ¶ الشفاعة في الحياة الدنيا ¶ القسم الأول من الآيات هو الذي يتحدث عن الشفاعة في الحياة الدنيا إنها التي يوضح لنا الله فيها أن كل ما تتوهمه سببا أو شفيعا هو وهم وظن لا يغني عن الحق شيئا ، وأن الشفيع الحق والسبب الأصل هو الله الذي يدبر الأشياء ، وأمام هذا الوهم الساذج والظن الساذج توجه الناس إلى الأسباب ليعبدوها ، فمنهم من عبد الشمس والنجوم ومنهم من عبد الليل والبحر ، ومنهم من عبد الملائكة والجن ومنهم من عبد البقر أو بعض الحيوانات الضارة أو النافعة .المهم أن الناس توجهوا إلى الأسباب ليعبدوها كالأرباب ، فما ظنوه ينفع عبدوه لنيل نفعه ، وما ظنوه يضر عبدوه ليجنبهم ضرره وما ظنوه مقرب إلى الله كالملائكة عبدوه ، لنيل وساطته وشفاعته وبهذا الوهم نقرأ في أسماء آلهة قوم نوح نفس المعاني التي يوضحها كبارهم لصغارهم ، وينصحونهم بالاستحسان بها ، ¶ لأن لديها ما يطمحون من الأمان (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا) فهذا هو الله الذي يمنحهم الود والأمان والحنان ( ولا سواعا ) وهذا هو الإله الذي يبادلهم ويساويهم المنافع ، فهم يعبدونه ، ليستفيد منهم العبادة ويستفيدوا منه الإفادة ( ولا يغوث ) وهذا هو الإله الذي يغيثهم بما يحتاجون ويرفع عنهم ما يشكون ، ومع هذا فإن لهم إلها يعيق عنهم ما يتوقعون من الشر، ولكنه لا يعطي شيئا ، وهو قولهم ( ويعوق ) وأخيرا (ونسرا) وهو إله القوه والعلو ، فهو يمنحهم القوة والسمو ويجلب لهم العلم بما يغيب ، ويكشف لهم أسرار الغد البعيد والقريب ، فهم في عبادته في أمان مما يفاجئهم ، وفي منعة مما يخيفهم ، وفي علو على ما يحيط بهم؟. ¶ وعلى هذا الأساس انطلق الملأ من قوم محمد ينصحون أصحابهم بالتمسك بالآلهة التي تحمي وتصون وعدم الاعتماد على الإله الذي يدعو إليه محمد الأمين (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) ص 6 وقبلها قالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) الأية: 5]إن هذا هو الوهم الذي سقط فيه الإنسان ، واستمسك به ، ونسى ربه الوهاب ، بل إنهم إذا رأوا الرسول يشعرون بالذعر لأنه يدعوهم إلى التخلي عما يظنونه يحمي ويصون (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ?41? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) الفرقان 41/42 لكن الله يؤكد لهم أن هذا هو الضلال الحقيقي فيقول في ختام الآية (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) الأية: 42 (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ?43? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) الفرقان 43/44. ¶ وهكذا كان موقف قوم هود ، وهو الاستغراب ، ثم الذعر من ترك عبادة الآلهة المدعاة (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) الأعراف 70 ¶ إن العذاب لديهم أهول ، من ترك آلهتهم ، بل أنهم في موقع آخر يتهمون هود بأنه مصاب من الآلهة (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) هود 54 لكن هود يدعوهم إلى الله ويتحدى ويقول ¶ (قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ?54? من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) هود 54/55 لماذا هذا التحدي ، ولماذا هذا الصمود؟ لأنه يوقن أن الله هو الضار والنافع ، وهو الملجأ والمقصد ، والرب المعبود المحمود (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود 56 فهو الشفيع ، والمسبب النافع ، وهو الرب القريب العليم ، المدبر الواسع وهكذا كان موقف نوح (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) يونس 71 . ¶ ولن نطيل الاستعراض لموقف الموهمين ، ومواقف الفاهمين ،ولن نزيد من أدلة ضلال المستشفعين بالأسباب ، وأدلة كمال المستشفعين بالله مسبب الأسباب ، فذلك واضح لأولى الألباب ، لكنا سنعود إلى الأساس الذي سقنا له هذا المقال ، فنقول أن المنخدعين بالأسباب قد أشركوا بلا ارتياب ، لقد جعلوا لله شركاء باتخاذ الشفعاء وادعوا أن الله لا يعلم من الأعمال والأقوال شيئا ، فتوسلوا إليه بهؤلاء لينبئوه بما يجهل وليعلموه بما نعمل ، "تعالى الله وجل" . نعم إن من اتخذ شفيعا إلى الله ، حتى ولو كان هذا الشفيع ملكا أو رسولا أو نجما مضيئا ، أو قمرا منيرا ، أو شمسا ، أو كوكبا كبيرا ¶ فإنما جعل لله شريكا في علمه بالخلق ، وتدبيره للأرض والسماء أو ظنه بعيدا عن الخلق ، غافلا عما يجري في الأرض والسماء وهذا لا يليق بالله الذي يعلم السر والخفاء ، والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أكبر ولا أدنى ، كلا بل هو محيط بكل شيء ، بل هو الذي بين الإنسان وقلبه ، وهو الذي يعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، فكيف يحتاج إلي شفيع ينبئه بما يجري في الأرض وما يعمله العبيد وكيف يحتاج إلى من يقرب الناس إليه زلفى ، لأنه كما يتوهمون بعيد كلا إنه على كل شيء شهيد ها هو يخاطبنا ، يؤكد لنا قربه وعلمه بكل خفي وظاهر قال تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور?13? ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) الملك 13/14 ويقول قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء?5? هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم ?6?) آل عمران 5/6 وإذا كان الأمر كذلك ، فهو الذي يدعى بلا واسطه ولا شفيع فهو القريب السميع ، وهو الذي يرجى بلا شيء يقربنا إليه زلفى فهو الذي يعلم ما يخفى ، وهو الذي يعتمد عليه ويتوكل عليه ،وهو الولي والمولى ، ومن اتخذ دونه وليا وتقرب إليه بسواه فقد غوى ، لأنه الرب القريب المجيب ، السميع العليم وله وحده يتوجه العبد ، ذو القلب السليم (لا إله إلا هو العزيز الحكيم ?6?) وهكذا يختم الآية ، ليؤكد لنا أنه هو الإله الحق ، الغني عن الخلق الحكيم فيما يديره ويقضيه ، وكيفلا وهو يقول في سورة طه (الرحمن على العرش استوى ?5? له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7? ¶ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 5-8.وعلى هذه الحقيقة الناصعة في حق الله ، وعلى هذا المقام الرفيع لله الرفيع الدرجات ، فإن من ظن أنه يحتاج إلى شفيع ، ينقل علم الأرض والناس إليه ، فقد ظن في الله ظن الجاهلية ، وجعل لله شريكا في أمره وما قدر الله حق قدره (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . ¶ وبعد أيها الأخوة ، فإننا على هذا النور المبين ، وعلى هذا الفهم المستنير نتقدم إلى الآيات التي تتحدث عن الشفاعة ، أو بالأصح نستقرأ الآيات التي وردت فيها كلمة شفاعة ، أو شافعين أو شفعاء ، ليتضح لنا الأمر بجلاء ، ولنكون على بينة من أمرنا ، وأنا هنا لا ادعوكم لتسلموا ولكن لتفكروا ، ولا ادعوكم لتجادلوا في الله ، ولكن لتقدروا الله حق قدره ولا ادعوكم بلا دليل ولكني أقدم الدليل ، ولا أعدكم بالدليل الذي من أقوال الناس ، ولكن من قول الجليل ، فهل بعد هذا من إنصاف قد تسألون كيف أن هناك شفاعة في الحياة الدنيا وشفاعة في الحياة الأخرى ونحن لا نعرف إلا أن الشفاعة في الأخرى فقط ، وأنا أقول لكم هذا هو الغلط فالموضوع يبدأ من هنا من الدنيا ، لأن هناك من عبد غير الله جاعلا له شفيعا إليه ، وهناك من اعتمد على أسباب الحياة وظنها هي سر الحياة ، فاعتقد أن المال والرجال تحمي وتقي وتعز وتبقي ، ونسي أن الله هو الذي له البقاء وكل شي هالك فاني ، وأن الله هو المؤثر الفعال ، وكل شي عاجز ضعيف فقير ، فالاعتماد على غير الله من المتكأ والملتحد الذي لا يملك من نقير والتوكل على غير الله ، إنما هو اتكاء على ما لا يملك من فطير ، وإن السير على طريق المعتمدين على الوسطاء ، والمستشفعين إلى الله بالشفعاء والمتخذين أولياء ليقربوهم إلا الله زلفى ، ¶ فإن السير على هذا الطريق هو المسير المدمر الخطير ، ولهذا فإن أول الآيات التي سنستقرأها الآن تطرح في وجوه هؤلاء الغافلين ، وتصفهم بالمشركين ، وتنزه الله عما يصفون. ¶ فلنقرأ (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) يونس 18 يا للهول المهيل ، ويا للجهل والغفول ، هل الله بعيد ، هل هو لا يعلم حال العبيد ، بل هو العليم ، وبكل شيء محيط ، وبهذا يرد عليهم منبئا ومستنكرا (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) يونس 18 إنه سؤال مهم ، فهل الله لا يعلم بما يجري ، وهل الله يجهل ما يحدث كلا إنه منزه عن هذا الوهم ، فيقول عن هذا الظن المظلم (سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 إن وهم التوسط بين الله وعبيده ، جهل وغفول مظلم ، وإن اتخاذ الوسطاء له ، شرك وظلال عظيم ، ¶ فهل الشفعاء يعلمون من حال العباد ما لا يعلمه الله الخلاق العظيم ،"سبحانه وتعالى"، عن هذا الجهل والشرك العظيم ، إنه يعلم كل ما في السماوات والأرض وبكل شيء محيط ، ومن ادعى أن الشفعاء يعلمون ما لا يعلم وينبئونه بما لا يعلم ، فقد جعلوا لله شركاء في علمه وتدبيره ، وحكمه وتقديره وجعلوا له أندادا في رحمته وحكمته ، وفي أرضه وسماواته "تعالى عن ذلك علوا كبيرا" ¶ أفهمتم أيها الناس ماذا تعني كلمة شفعاء عند الله ، إنه سب لله الجليل وإنه عدوان وظلم وويل ، وإنه لشرك وضلال جهول إذا صح أن الشفعاء يوصلون إلى الله ما لا يعلم من شؤون الخلق ¶ فقد ادعى الناس ما يهدم الخلق ، ويمحو الحق لقد جئتم شيئا إدا،، (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) مريم 90 وكيفلا وها هو يقول (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 93 فالكل محتاج إليه فقير ، والكل لا يعلم من الخلق قدر قمطير ولا يدري من الأمر قدر نقير ، فكيف يكون شيء من الخلق ندا للعليم القدير ، وكيف يكون شريكا للطيف الخبير إن هذا هو الضلال الكبير. ¶ والآن لنعد إلى بداية سورة يونس ، فإن فيها التأييد الأقوى الموضح لكم أمر الشفاعة في الدنيا يقول تعالى(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) يونس 3 ¶ بماذا استوى ، وما هو الإستواء ، ها هو البيان (يدبر الأمر) إنه المدبر لا سواه ، لكل أمر ، وهو المقدر وحده ، لكل شأن وهو المسير لا غيره لكل الأشياء ، ولا شريك له ولا ند أبدا وهذا هو معنى قوله (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) إن هذه الجملة تأتي جواب لسؤال كان أحد الغافلين يسأل هل تدبير الأمر كامل شامل ، وهل الشفعاء ليس لهم طائل مع أن لنا إليهم وبهم إليه الوسائل ، فجاء الجواب قاطف كل شيء باطل (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) فإذا ظننت أن مالا ينفع ، أو جبلا يمنع ، أو دواء ينفع ، أو طعاما يشبع أو ماء يروي ، أو شمسا تضيء ، أو سحابا تهمي ، أو رجلا أو حزبا يقي أو ملكا أو رئيسا يجدي ، أو يشفع مما يؤذي إذا ظننت هذا فأنت غافل ، وأنت بربك جاهل بعيد عن الحق في مراحل وفي ظلمات من الباطل ، إن الله هو المدبر بلا ند ولا شريك ، وهو ذو العرش المجيد ، الفعال لما يريد ، وكل شيء سواه مقهور ضعيف ، وهو الواحد القهار ، إذا فهو الرب الذي يفيد ، في كل أمر وشأن وهو الولي الذي يستنصر ، في كل زمان ومكان ، وهو القريب لمن دعاه في كل حال ، وهو المجيب للسؤال ، القدير على الوفاء بلا مطال فاتخذه وليا بلا جدال ، ولتتجه إليه بالآمال ، ولهذا قال في ختام الآية (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) يونس 3 هكذا إذا يوجهنا الله ، إن كل الشفعاء والأسباب محكومه منه مسيرة بإذنه ، مقدره بقدرته ، مدبره بتدبيره ، فلا شأن ولا أمر يجري إلا بعلمه وتدبيره ، ولا حال يكون إلا بإذنه وتقديره ، فهو الله الرب الذي يعبد ويحمد ويرجى ويدعى ويطاع ويخشى ، وإليه تتوجه الوجوه وبحكمة ترضى ، وله تستسلم القلوب وبذكره تطمئن ، وبه تزكو النفوس وبطاعته تأمن ، وله تنشرح الصدور وتستنير ، وعلى حكمه كل شيء يسير ، وبعلمه يستقيم المسير ، وبغيره يضل ويبور ،فلنكن من المتذكرين ، إنما يذكر أولوا الألباب ، ولنكن له عابدين لننال عطائه الأرحب ، ولنكن له محببين لنكون ممن أحب ،ولنعتمد عليه بلا شفعاء ، لنكون عنده من المقربين السعداء ، ولنقدره حق قدره لنسموا في مقام الأنبياء ، ولنكن على يقين بأن إلية الرجعى ليجزي كل نفس بما تسعى ، فإن له الأولى والأخرى ، (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) يونس 4 . ¶ ولأنه يدبر الأمر في السماء والأرض ، وفي قلب الإنسان وفي قلب الأكوان ، فإنه يقول : (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون) يونس 5 أليس هذا التقدير والتدبير دليل ، على أن كل شفيع إليه يعود ، فها هي الشمس المعبودة مسيرة ، وها هو القمر المعبود مقدر ، فكيف غفل الناس عن هذا الرب الأقدر ، كيف جهلوا قربه من كل صغير وكبير ، ومن كل ذرة في الأرض أو في السماء ، وعلمه محيط بكل شيء في أعماق الحجار ، وعروق الأشجار وظلمات البحار وفي بروج النجوم والأقمار ، فهو الرب المدبر والمسير ، بلا ند ولا شريك ، ولا ولي ولا عضد ابدا (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف 26 أسمعتم آخر الآية! بل وأولها (ما لهم من دونه من ولي) ¶ فهو الولي الذي يرجى ويدعى ويستنصر ويخشى وهو الذي يدبر ويسير ، وهو الذي يحكم ويقدر ، ويعلم بما حكم وقدر ويستمر متابعا فيما حكم به ، وكلا فلا يشترك أحد معه في التقدير والتدبير ، ولا في الحكم ، ولهذا قال (ولا يشرك في حكمه أحدا) فمن ذا الذي يتطاول أو يقدر أو يتكبر أو يدبر دون الله المدبر المتكبر ومن ذا الذي يشفع وينفع ويدفع سوى الله الذي يعلم كل خفي ويسمع ¶ ولا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ، ولا يعزب عنه ولا يعجزه شيء ، ولا يفوته ولا يسبقه حي أو شيء ، الكل له عايدون عبيدا والكل له محتاج فقير (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? لقد أحصاهم وعدهم عدا) مريم 93/94. ¶ والآن وقد عرفنا معنى الشفيع ، وتأكد لنا أنه السبب ، وعلمنا أن الأسباب لا تنفع ولا تدفع ولا تشفع ، إلا بإذن الله المدبر المقدر ، وحتى ولو كان هذا السبب إنسانا نبيا من الأنبياء ، أو ملكا من الملائكة ، فإنه لا ينفع ولا يقطع ، إلا بإذن ربه.إذا عرفنا وعلمنا ذلك بلا خفاء ولا غموض ، فإن من المناسب أن ننتقل إلى آية أخرى تؤكد ذلك الأمر ، وتلك الحقيقة ، وتدعم اليقين بأن الله هو الشفيع الحق ، والولي الفعال ، (الم ?1? تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ?2? أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) السجدة 1-3 إنه رب العالمين ، فهو يعلم كل شيء في الأرض والسماء ، ويعلم ما يعمله الناس في كل حال وحين ، ولهذا فإن تنزيل الكتاب منه بلا ريب لأنه وحده الذي يعلم الغيب ، وكيف لا وهو رب العالمين ولأنه يعلم كل شيء فإنه يدري أن الناس غافلين ، يقولون أن القرآن مفترى لأنهم يظنون أن الله بعيد في السماء ، لا يعلم ما يجري في الأرض ولا يدري ما جرى ، ولكن الله يقول (بل هو الحق من ربك) فالله هو الحق وهو الرب الحق ، ولهذا لا بد أن يدعو إلى الحق ويهدي إليه عباده ولأجل هذا أرسل الرسول إليهم وأنزل الكتاب عليهم (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) أليس أن الله يعلم أن هؤلاء القوم لم ينذروا من قبل هذا الرسول ولهذا أرسله رحمة بهم (لعلهم يهتدون) نعم لعلهم فإن الهدى هو الرخاء ، الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان فإذا اهتدى فقد نجى ، وقد نال الخير والحب من ربه الأعلى الذي يعلم السر واخفى ، ويعلم ما يحتاجه الإنسان من عطاء ، ولأن الإنسان الغافل قد يستغرب ويقول كيف يمكن أن يرسل الله العلي العظيم رسولا ، وكيف يمكن أن يدنو الله إلى هذا الرجل ويؤتيه بالعلم ، ويوحي إليه بالذكر والهدى ، وهو بشر مثل الناس الذين يعيشون في الأرض بعيدين عن الله الساكن في السماء وحوله الملائكة والملأ الأعلى ، وهم بالإرسال الأولى ، فلماذا يرسل الله رجلا ، ولماذا يبعث بشرا رسولا ، وحوله الملائكة وهم من الله الأقرب والأدنى ، هكذا يفكر الغافلون وهكذا يتصور الله الجاهلون ، وهكذا له يجسدون ويتصورون (ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ?74? الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ?75?) الحج 74/75 لعل هذه الآيات تفصح عن قدرة الله وعزته وعلمه وقدرته وقربه من كل الخلق بعلمه ورحمته ، وأن إليه وحده ترجع الأمور ، وله وحده الاختيار لما يشاء ، وكيفلا وهو الله السميع البصير. ¶ لا تلوموني على هذا الإستقراء ، ولكن قولوا إذا كان هذا هو شأن الله ،، لنقرأ معا كيف يوضح لنا علمه المحيط ، وتدبيره الذي بلا وسيط وليس فيه شريك ، ولا ند ولا عضد ، فيما يريد كلا بل هو الولي والشفيع الذي يعلم كل قريب وبعيد ، ما لي أسرح وأسبح وأطلق العنان لقلمي ولساني ، ولماذا أتقدم وأستبق البيان الرباني ، فاعذروني أيها القراء ، وها هي الآيات أمامكم يا إخواني (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) السجدة 4 هكذا يبدأ البيان لمن جهل ربه ، من بني الإنسان فهو الخالق السماوات والأرض ، والخالق ما بينهما من كل نراه ، وما لا نراه ، ثم هو المدبر لكل ذلك ، ويعلم حاجة كل شيء ، وما سأله يؤتاه وهذا هو معنى (ثم استوى على العرش) إن كلمة ثم لا تعني التراخي الزمني كما هو شأنها في حروف العطف ، ولكن تعني أن الخلق كان بعض الشأن وأن الإستواء على العرش شأن أهم وأسمى ، لأنه يعني التدبير والتسيير لكل الخلق في الأرض والسماء ، ولكل نجم وقمر ، وكل نملة وحبة تبذر ، وكل شمس تضيء وتشع ، وكل ثمر ينفع ، وكل كوكب سبح ، وكل عطر نفح ، وكل زهر تفتح ، وكل فكرة تسير وكل خاطرة تدور ، وكل ما في أعماق الأقمار والشموس ، وكلما في خفايا النفوس وكلما في السحاب ، من ماء وبروق ، وكل دم في العروق ، وكلما في الأجواء يتقلب من ليل ونهار ، وزمن يدور ، وكلما تفكر به القلوب التي في الصدور ، نعم هكذا هو المعنى الأعم ، وهذا هو الاستواء على العرش ، ¶ ولهذا قال بعد ذلك موجها خطابه إلينا لنعلم أننا في الخلق مدبرون ومسيرون ، وأننا عليه معتمدون ، فإذا قال استمعوا وعوا (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) السجدة 4 أسمعتم ليس هناك أحد إلا الله ، وليس هناك معتمد ومتكل سواه فلنكن على علم بذلك ولنتجه إليه بانتباه (أفلا تتذكرون) السجده 4 فلتكن من المتذكرين فذلك هو شأن الإنسان العاقل (إنما يتذكر أولوا الألباب) الرعد 19إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) فاطر 28 ولكي يؤكد الله لنا ما أعلن من أنه الشفيع والولي في السر والعلن أردف الآية بآية أخرى ، فيها البيان الأوفى فقال (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجدة 5 فهو المدبر لا سواه ، في السماء وفي الأرض ، وهو الذي يرجع إليه الأمر ويعرج فلا يفوته شيء ، ولا يعزب عنه شيء ، مهما تمادى به الزمن وطال ، ومهما تقدم به في الماضي ، أو كان في الاستقبال ، فكل شيء وحال ، يدبره الله ذو الجلال ، ولذلك أعقب الآية بما يقطع الجدال فقال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) السجدة 6 فهو عالم كل غيب ، وهو عالم كل شهادة ، وهو الرحيم الوهاب وهو الغني الغلاب ، فأين ومن أين يمكن أن يكون من دونه لنا شفيع أو ولي ،.. كلا فلا شيء ، ولا حي ، يعلم الغيب إلا الله العليم القوي ،، ¶ إن الشفيع يعني كما أسلفنا أن هناك من يعلم ما لا يعلمه الله ، وأن ينبئ الله بما أحاط به من دون الله تماما كما جاء الهدهد إلى سليمان (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) النمل 22 وفعلا فلقد أحاط الهدهد بما لم يعلم به سليمان ، فهل هذا يجوز على الرحمن ،.كلا كلا إن هذا هو البهتان ، ولكي نقطع أوهام الشيطان ونمحو عن عقولنا الظنون ، فلنستمر مع آيات السجدة ساجدين فالله بعد أن أكد أنه (عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) أراد أن يوضح لنا نتائج العلو والعزة ، وأن يدلنا على آثار رحمته وحكمتة فقال مبينا المعنى بأسلوب أدق(الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ?7? ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ?8?) السجدة 7/8 فها هو ينتقل بعقل الإنسان ، من خلق السماوات والأرض إلى أقرب شيء من الإنسان ، وهي خلقه هو ، وإلى أخص شيء به وهو وجوده وأصله ، فالله هو المحسن لكل ما خلق ومن إحسانه وإتقانه وعزته ورحمته وعلمه وحكمته ، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نقله من حال إلى حال أرقى وأزكى ، وأسهل للتوالد والبقاء ، وهو (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) فبهذه السلسلة المائية تتم الزوجية وبهذه الزوجية وفيها يبذر الإنسان ويتوالد في الأرض ، وينشر بشرا رجالا ونساء كثيرا ، فسبحان المحسن المتقن ، البديع الجميل ، وبهذا الإبداع والجمال أكمل الخلق للإنسان ، وسواه على أحسن صورة ومثال فقال (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) السجدة 9 إنه تكريم للإنسان ، وتفضيل وتصوير ، في أجمل تمثيل ، وتقويم في أحسن تقويم ، وكيف لا وهو الله العليم القدير ، الذي يعلم الغيب والشهادة وهو السميع البصير ، وبهذا سوى الإنسان ، ونفخ فيه من روحه وعلمه من علمه ، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة ، وأهله وكرمه ليكون لعطاء ربه سميعا بصيرا ، ثم ليكون لربة شكورا ، ولا معنى للشكر إلا أن يفي لربه بما وهب له ، وما أعطى ويقدره حق قدرة وينزهه من الشريك في ملكه ، ومن الشريك في علمه ، ومن الشريك في حكمه ، ولكن الإنسان بقي دون ذلك ، فكان بعض الناس كما وصفه الله أنه (قليلا ما تشكرون) ومن لم يشكر بذلك المعنى السامي التام فهذا هو الضلال المبين ، والسقوط المهين ، عن مقام الشاكرين فالشاكرون في الناس قليلون ،وهم الذين لا يظنون سوى الله شفيعا ولا يتخذون من دونه وليا ، ولا يستنصرون بما لا يبصر ولا يسمع شيئا بل الله ربهم هو الشفيع ، النافع والقدير ، المانع والعليم ، الواسع والقريب النافع المجيب ، لمن دعا بقلب خاشع. فهو المدعو والمرجو والمعبود ، وهو الملجأ والمراد والمقصود وهو المعطي والوهاب المحمود ، إنهم على الله يتوكلون ويعتمدون ، وبه هم يقدرون ، وبه لا يشركون ، وهم له بإخلاص شاكرون.أما غير هؤلاء الشاكرين ، فإنهم في ظلمات الضلال تائهون وفي مهاوي الهوان هاوون ، وفي سحيق الجهل ساقطون يا حسرة على العباد يتخذون ، دون الله الأنداد لا تنجي ولا تؤذي وأمام هذا الجهل المظلم ، الذي سقط فيه الإنسان المكرم ، فإن الآيات تؤكد للإنسان ، أن يرتفع ويسمو إلى المقام ، الذي شاءه له الله عالم الغيب والشهادة ، وأن يزكو ويتذكر ، كما يريد له ربه رب العالمين الذي أنزل الكتاب لعلهم يهتدون ، وأن يكون على علم أن الله لا سواه هو المدبر العظيم ، والعزيز الحكيم ، والولي الرحيم والشفيع العليم ، فلا اعتماد ولا ركون ولا توكل إلا عليه ، ولا توجه ولا إلتجاء إلا إليه ، ولا عبادة ولا حمد ولا سجود إلا له ، ولا شكر ولا تسليم إلا له ، فهذا هو التذكر والإيمان ، وهذا هو التقى والإحسان وهو السلام والأمان ، وسوى ذلك هو الضلال والهوان ، والخوف والأحزان والندامة والخسران، في الدنيا والآخرة ، وفي كل حال وآن فيا حسرة على العباد ، الذين يتخذون لله الأنداد ، التي لا تضر أو تنفع بل ضرها أقرب من نفعها ، فبئس من تولاها واستشفعها . ¶ وهكذا ندرك ما يعنيه الشكر من الشاكرين ، ونعرف علو شأن الرجل الشاكر في سورة يس ، وسر جدارته بمقام المكرمين (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ?20? اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ?21?) يس 20/21 لقد أعلم قومه أجمعين ، أن الرسل هم الذين يجب أن يتبعوا لأنهم يهدون إلى الله رب العالمين ، واليه يدعون ، وله وحده يعبدون ¶ فاتباعهم إنما هو بعبادة الله ، أحسن الخالقين ، ولهذا أعلنها الرجل بلسان مبين فقال (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) يس 22 إن صفات الله التي وردت في كلام هذا الرجل ، تختصر أهم صفات ربه العظيم ، فالذي فطر السماء ، هو الذي يعلم كل خفي ومعلن ويحيط بكل شيء علما ، ويدبر كل شيء رحمة وحكما ، وأنه الذي إليه وحده يرجع الناس أجمعون ، هو الذي له الملك في ذلك اليوم الموعود وله العلم والحكم في ذلك المقام المشهود ، فلا يخفى عليه شيء من خفايا العباد ، ولا يند عنه أحد من الأمم والأفراد ، فهو المتصرف يوم المعاد وكلهم آتيه مستسلما عبدا ، وكلهم آتيه مستجيبا فردا ، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو الذي يتصرف في العباد وله التدبير فلا يشاركه أحد في حكمه ، وهو الذي وسع كل شيء رحمة وعلما (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 وهكذا استطاع الرجل أن يصف ربه بما يستحقه وبما يليق به إذا فهو المعبود والمحمود والمقصود وهو الملجأ ، وإليه المئاب والمرجع في اليوم الموعود ، ثم انطلق يوضح للناس خطر الشرك بالله والاستشفاع بسواه ، فقال مستنكرا مستغربا مستعجبا مستفهما (أأتخذ من دونه آلهة) سؤال مهم ، وإن الجواب عليه لا بد أن يوضح لمن لا يفهم ، ولقد جاء الجواب بأسلوب الشرط الأهم (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) هكذا استبان له أن ربه هو المدبر النافع ، والمتصرف والشافع فلا يشفع سواه شيء ولا ينفع ، ولا يضر ولا يدفع ، فكل شيء أمام ربه الرحمن عاجز ، مسير ضعيف ، وبه مستجير ، وكل شيء لربه مستسلم واليه فقير ، فإذا أراد الرحمن شيئا فلا راد لما أراد ، وهو الحامي والفاطر للعباد ، وهو الذي عنده ينال الأمل والمراد ، وهو الذي أخذ لكل دابه بالقياد ، وهي له مستسلمة الانقياد ، فمن استشفع بسواه فقد ظل وخاب ما اراد ، وما أمل وسقط في ظلمات الجهل والخبل ، ¶ فلا شفاعة القوى السماوية والأرضية تغني ولا تدفع عن الإنسان ما يضره ولا ثني، لأن الرحمن هو المدبر القوي وهو الوهاب الوفي ، وهو الوافي والحامي ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي تسير الأمور إليه ، وكل شيء وكل حي رزقه لديه ، فالاعتماد على سواه من الخلق أجمعين سواء الملائكة أو النبيين ، أو الطغاة الأشرار ، أو الأفلاك والنجوم والأقمار ، إنما هو ضلال مبين ، وهوان مهين ، فكل شيء تراه ينفع أو يفيد ، فهو وهم وجهل شديد ، وكل شيء تظنه منك قريب ، فهو بعيد بعيد ، لا يبدي ولا يعيد ، والله هو وحدة النافع المفيد ، والقريب المجيب للعبيد (إنه هو يبدئ ويعيد ?13? وهو الغفور الودود ?14? ذو العرش المجيد ?15? فعال لما يريد ?16?) البروج 13-16 فإن لم تلجأ إليه وتستشفع به فأنت في هاوية سحيقة الأغوار وأنت في ظلام وبوار ، وهذا هو ما عبر عنه الرجل في الختام ، فقال (إني إذا لفي ضلال مبين) نعم هكذا هو الحال لكل الذين يعدلون برب العالمين ، ويشركون بالله عبادة العاجزين ، ولهذا أردف الرجل كلامه بما يؤكد التوحيد الأكبر ، واليقين بربه الودود ، فأعلنها مدوية أمام الجمع والحشود (إني آمنت بربكم فاسمعون) فماذا يعني قوله آمنت بربكم؟.. أولا أنه أثبت أنه ربهم الذي خلقهم فيجب أن يؤمنوا كما آمن به ، ثم أنه يعني أنه آمن بربه وبربهم الذي يعلم ويقدر ، ويشفع وينفع ويضر ، ويحكم ويدبر ولكل شيء يسير ، وهو الذي يحاسب الناس ، ويعذب ويغفر فهو الذي يطاع ويخشى ويستغفر ، لأنه هو الذي يعلم ما نخفي وما نظهر ، وما نبدي وما نضمر ، وهو الذي إليه الرجع والمصير وإليه ترجع الأمور ، فليسمع الناس هذا الإيمان العميق البيان وليتبعوه ليفوزوا بالأمان ، وليسمعوا هذا البيان الهام ، فإنه طريق السلام. ¶ إن هذا هو ما أعلنه إبراهيم ، فلقد أعلنها أمام قومه وأبيه ببيان واضح وإيمان راسخ (قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) الأنبياء 56 وهذا هو الذي أعلنه أصحاب الكهف على الملأ ، والفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا)الكهف 14 ¶ وهذا هو ما أعلنه مؤمن آل فرعون أمام الملأ (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) غافر 28 وهذا هو ما أعلنه محمد خاتم النبيين أمام الملأ المكذبين قال تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) الرعد 30 (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) الجن 20 (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) الأنعام 14 وهكذا فإن الربوبية هي أهم صفات الله ، وأن الإيمان به هو الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ?161? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ?162? ¶ لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ?163? قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ?164?) الأنعام 161-164 (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) آل عمران 51 (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) الزخرف 64 بل وهذا هو ما جاء به موسى وهارون ، وأعلناه أمام فرعون ولأمر الله مبلغين ، وبه معتصمين ، وهو معهما يحفظ ويعين (قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ?15? فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ?16?) الشعراء 15/16 ولهذا فإن السؤال الذي وجه إليهما من فرعون هو عن هذه الربوبية (قال فرعون وما رب العالمين) الشعراء 23 ولقد كان الجواب من موسى بالتوالي هكذا (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ?24? قال لمن حوله ألا تستمعون ?25? قال ربكم ورب آبائكم الأولين ?26? قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ?27? قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) الشعراء 24-28 وهذا هو ما سأل عنه فرعون في سورة طه ، ولكنه هنا سأل (قال فمن ربكما يا موسى ?49? قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ?50?) طه 49/50 غير أنه في سورة الشعراء ، سأل عن ماهية الرب ، وهنا سأل عن من هو الرب ، لكن الجواب في الحالين كان عن من هو الرب لا عن الماهية ، فهو الرب الذي خلق كل شيء ، وليس كمثله شيء فلا يوصف كما توصف الماهيات. وعلى أي حال فإن الربوبية هي التي جاءت لتأكيدها الرسالات والنبوات وهو التي تؤكد عليها الآيات البينات ، وتدعو الناس إليها في كل الأمكنة والأزمنة ، بصفة ثابتة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت 30 (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) الأعراف 54 ثم قال (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) الأعراف 55 (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر 60 إلى أن يقول (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) غافر 62 وقال في الأنعام بعد أن أورد عددا من صفاته وقدراته ، وتدبره للأمر (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ?102? لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ?103?) الأنعام 102/103 . ¶ وعلى هذا الأساس ، وعلى هذه الحقيقة ، يتضح أنه الله هو الشفيع وهو الولي وهو المولى ، وهو الذي يدعى ويرجى ، وهو القادر على كل شيء ، فلا يغفل ولا ينسى ، وهو المدبر لكل أمر وشأن ¶ في كل حال وزمان ، ولا يتم شيء أو شأن ، إلى بإذنه وعلمه وبتقديره وحكمه ، ولكي يتضح الموضوع أكثر ، وعلى بر الأمان نرسي ، لنقرأ معا آية الكرسي ، فإن فيها النبأ اليقين. إن كثيرا من الناس يظنون أنها تتحدث عن الشفاعة في الأخرى وليس الأمر كذلك ، بل هي تتحدث عن الشفاعة في الدنيا ، وتؤكد أن كلما يجري لا يتم إلا بإذن الله ، وعلمه بلا مراء (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) فهو الحي وحده ، وكل حياة منه ، وهو الذي لا يموت وكل شيء يفنى ويموت ، وهو القيوم الذي لا يغفل ولا يعزب عنه شيء في السماء والأرض ، ولا يعجزه شيء ولا يفوته ، بل كل شيء به يقوم ، وهو القيوم ، وكل شيء ينوم ويغفل وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، وإن من هذه صفاته ، وذلك شأنه فإنه الجدير بأن يحيط علما بكل ما في السموات والأرض وأن يدبرهما وما بينهما ، وأن يحكم ويتصرف بما يشاء ، وكل سبب إنما هو بإذنه لا سواه (له ما في السماوات وما في الأرض) يعني إن له تدبيرها بلا عون ولا شريك ، وكل شيء بأمره وإذنه يتحرك ، وكل سبب بعلمه يؤثر (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) فإذا كان السبب أو الشفيع أثر ، فالله هو الذي أذن له ويسر وهو الذي قضى وقدر ، وإذا تنفذ ما أمر ، بواسطة هذا الشفيع أو السبب فإن الله يعلم البداية والنهاية ، والأثر والغاية ، والمبتدا والعقبى والظاهر والباطن فيما جرى ، وكيفلا وهو يقول (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) فكل سبب سواء كان سببا عاقلا ، كالملائكة أو البشر أو الجن أو سببا غير عاقلا ، كالشمس والكواكب والأقمار ، والليل والنهار والأحجار والأشجار ، بل وكل مخلوق سواها ، كل هؤلاء الأسباب لا يخفى على الله من أعمالها وآثارها وأفعالها شيء ، ولا يخفى على الله من عقبى آثارها شيء أبدا ، ثم أنها لا تعلم ما يريده الله ، ولا ندري ما يقدره إلا بالقدر ، الذي يشاء وبه يرضى ، فكل شيء جاهل غافل مسير ، والله هو الحي القيوم المدبر والمسير ، والعليم بكل ما يخفى ويظهر ، ويتقدم ويتأخر ، لأنه وسع كل شيء علما (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) فعلمه وسع كلما يجري ويتحرك ، وهو الحافظ لذلك ، وبه مدرك وهو الممسك ، وكل شيء به متمسك ، ولا يثقل ذلك عليه أبدا ، بل هو المعتمد أبدا ، وهو مع ذلك علي على كل شيء ، والرفيع الدرجات الذي ليس كمثله شيء ، ¶ وكل مخلوق ضعيف صغير حقير ، إليه فقير وهو الله العظيم ، الذي لا يحتاج إلى أحد ، ولا إلى شيء والغني عن العالمين ، والذي يخشاه الخلق أجمعون ، وهم من خشيته مشفقون ، وله مسبحون ساجدون ، لا يفترون ولا ينامون ولا يتسحرون (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ?17? وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ?18?) الروم 17/18 (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) الإسراء 44 (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد 15 (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) الحديد 1 (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم) الجمعة 1 (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ?1? هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ?2? خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ?3? يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ?4?) التغابن 1- 4 إن هذه الآيات تفصح بجلاء ، عن علم الله الذي يحيط بكل الأشياء وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ،وأنه عليم بما نعلمه نحن وما نسره على السواء ، وكيفلا وهو العليم بذات الصدور ، وبما نعمله بصير ، وهو الذي إليه المصير ، ليجازي كل إنسان بما عمل بلا ظلم ، فسبحانه العلي الكبير ، حتى إذا حان موعد النشور ، جمعها وأحيا ، وأعادها كما بدا ، حتى ولو كانت حجارة أو حديدا لأنه يعلم أين توزعت ، وكيف تحولت ، وأين استقرت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سبأ 3 . ¶ وإذا فإن المتفكر يوقن بأن ربه هو المدبر وهو الذي يحيي ويميت ويحفظ ويقيت ، وهو العليم بحالك ، والمسير لشانك في اليقظة والمبيت والمقدر ذلك بلا تفويت ، وعليه فهو الذي يدعى ويرجى ويطاع ويخشى ويحمد ويعبد ، ويشكر ويقصد ، بلا واسطه ولا شريك ، ولا ند ولا شفيع ولا ولد ، فهو الله الواحد الأحد ، ولا يشركه في حكمه من أحد ولا يتخذ في ملكه وليا ولا عضد ، وكما اتضح لنا علمه بما نخفي وما نعلن على السواء ، وتدبيره لكل ما نعمله ونسعى له ، فإن الله يوضح لنا علمه بما يجري عليها من تغير الأحوال ، وأنه المدبر لما يطرأ علينا ، من نوم ويقظة ، وطفولة وكهولة ، وشباب وشيخوخة وموت وحياة ، فيقول في سورة الزمر (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر 42 هكذا يدعونا للتفكر ، فيما يحدث علينا من تغير ، لنعلم أنه هو المدبر فإن المتفكر في هذا ، يوقن أن الله هو الرب ، الذي يحمي ويقي ويميت ويحيي ، ويحفظ الأنفس في النوم ، ثم يطلقها لأجل مسمى في حفظه وتدبيره ، حتى ينقضي أجلها المسمى ، في هذه الدنيا ثم يتوفاها بالموت الذي ينقلها للحياة الأخرى ، ثم يحفظ عظامها وأجزائها في كتاب علمه وتدبيره ، فلا يخفى عليه شيء من الجزيئات ، ولا يفوته شيء من أصغر الذرات ، وعلى هذا الأساس وبناء على هذه المقدمة التي أوضحتها الآية الكريمة في سورة الزمر ، تأتي الآيات التالية لتسأل الناس فتقول (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) الزمر 43 إنه سؤال تقدير ، ولكنه يطوى الاستنكار ، فلقد اتخذ الناس فعلا من دون الله شفعاء ، وظنوا أن هؤلاء الأرباب وهذه الأسباب تجديهم نفعا ، أو تملك للضر دفعا ، أو تعلم عن الناس ما يحتاجون فتجيب أو تدري بما يضمرون فتحكم ، كلا بل كل هذه الأسباب والأرباب لا تنفع ولا تضر ، ولا تحكم ولا تدري ولا تعلم ، ولهذا عقب السؤال بسؤال أهم ، لمن يفهم ، وهو قوله تعالى (قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) الزمر 43 أي كيف تتخذون من دون الله شفعاء ، يدعون أنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، فهل هم يعلمون ما لا يعلم ، وهو العليم بما تعلنون وبالسر واخفى أما هؤلاء الوسطاء والشفعاء ، المتخذون من دون الله فهم إما لا يعلمون شيئا إن كانوا يعقلون كالملائكة والأنبياء ، وسواهم في الناس كالطغاة الضالين، وإما لا يعقلون إن كانوا من الكواكب والنجوم ، أو الشمس والقمر ، أو سواهما مما عبده الناس بلا علم ولا هدى ، فكيف تتخذون من لا يعلم ولا يعقل شفيعا ، عند من يعلم ،وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء ولا يفوته حال ولا شأن ، في كل حال وزمان ، وفي كل حين ومكان وفي ماضي الزمان ، وقادمها ، حتى بعث الناس وقيامها ، إذا فهو الذي يتخذ شفيعا ومرجعا ، وهو الذي يدفع به الضر ، ويجلب به النفع ولهذا فإن الله يفند قول وفعل المتخذين شفعاء سواه ، ويصوب لهم الطريق ، الذي فيه الحق والنجاة ، فيقول (قل لله الشفاعة جميعا) الزمر 44 ¶ نعم له كل الأسباب ، وله كل التدبير ، وإليه تتجه القلوب والحياة ولله يقصد العالمون التقاة ، لأنهم يعلمون بأنه العليم بكل حال ، كما قال (له ملك السماوات والأرض) فهو المدبر والحاكم ، ¶ وهو المسير العالم وهو المقدر لكل شيء بشكل دائم ، ثم ماذا بعد أن الذي يعلم ويدبر هو الذي يحكم ، وللجزاء يقرر ، ولهذا قال (ثم إليه ترجعون) الزمر 44 نعم إليه وحده مرجع الجميع ، فمن أين يكون بينه وبين خلقه شفيع وكيف للشفيع أن يعلم ما لا يعلمه وأنى يستطيع ،، إن هذا الذي يتخذ الشفعاء واهم غلطان ، يتبع الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا ، ويخبط في ظلمات ظلماء ، خبط دابة عشواء ، ولهذا فإنه يتمسك بالهباء ، ويطمئن إلى الهراء والافتراء ، ويفزع من ربه الحق الذي خلق وسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي يعلم السر واخفى وهذا من عجيب السلوك ، وأفضح العناد ، وهذا ما أنزله الله على هؤلاء الأغبياء فيقول (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) الزمر 45 ¶ فيا لغفلة المعتمد على غير ربه العلام ، والمستشفع بالظنون والأوهام إنه يطمئن إلى المخلوقات ، ويشمئز من الخلاق ، ويستبشر بالمظنونات ويقلق أمام ربه الحق ، إنه سلوك أحمق ، وهنا يتجه الخطاب إلى الرسول وإلى كل ذي عقل وفؤاد ، ليعلن لهم أن الحكم لله وحده بين العباد لأنه هو الخالق البديع ، وكل شيء إليه يعاد (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 أتفهمون كيف التعبير (أنت تحكم بين عبادك) إنه حصر وقصر للحكم على الله وحده ، وله وحده الحكم بين عباده ، وكيفلا وهو عالم الغيب والشهادة ، وهو مناط كل شيء وعليه وحده اعتماده ، فالحكم له وحده ، وكل شفيع جاهل ، وغير عاقل ، لا يعلم من أمر العباد شيئا فكيف يتخذونهم شفعاء ، إنه الجهل والغباء ، والضلال الذي يردي إلى اللظى. ¶ وهكذا نصل مع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الشفاعة الدنيوية ، وتؤكد أن الشفاعة والشفعاء ، لا ينفعون ولا يعلمون شيئا ولا يدفعون ضرا ، ولا يسمعون دعاء . إن كل سبب لا يؤثر ، إلا بإذن ربه المدبر المقدر ، وكل سبب لا يفيد بل الله وحده هو الولي المقصود ، والرب المعبود ، والرقيب المجيب لمن سأل ، والسميع الدعاء ، والمعطي كل مخلوق ما سأل ، والعليم بحاجته قبل أن يسأل ¶ (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) الرحمن 29 فكل شيء له حال ، يسأل به ربه فينال ، وكل حي له شأن ، يسأل به ربه ويستدعي عطائه ، والله ربه يلبيه به في كل حال وآن ، ¶ حتى قبل أن يظهر عليه الاحتياج ، فالله ربه يعلم حاجته ، قبل أن يدعو لها فيأتيه بها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإن على الناس أن يسألوه وحده فإنه المجيب القريب ، وأن يقصدوه وحده ، فهو الرب الذي يعلم ويحكم ويدبر (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) فإذا كان يرعى العشب في الوديان ، والتلال والسهول والجبال وإذا كان يرزق الأحياء ، في أعماق البحار ، ويصور النطف الإنسانية والحيوانية ، في ظلمات الأرحام ، ويلون الثمار والأزهار ويمنحها العطر في الأكمام ، فكيف لا يرعى ويحمي ويعطي ويهدي ويطعم ويسقي ويصور ، ويشفي هذا الإنسان ، وهو أكرم مخلوق وأسما حالا ولقد فضله الله على كثير من الخلق تفضيلا ، إنه ربه الحبيب القريب المجيب الحسيب ، وإليه يجب أن يتجه الإنسان ، وعليه يتوكل ، وله يجب أن يخضع ويطيع ، ولوجهة يعمل ، ليجد ربه معه في كل حال يهدي ، ويرفعه الأنعال ، ويفتح له البركات والرحمة ، ويسبغ عليه الخير والنعمة ، متاعا حسنا ، حتى ينتهي أجله الذي سماه ، ومن ثم يستقبله بالمغفرة والرضوان حين يلقاه، وهذا هو الفوز العظيم ، والفلاح الذي يرجوه كل ذوي قلب سليم ، لعله قد حان موعد الانتقال لفهم الشفاعة في الآخرة لكني قبل أن أنقلكم إلى الآخرة ، أسألكم ونحن لا نزال في الدنيا إذا كانت الدنيا هي دار الأسباب ، وهي دار الفتنة والابتلاء ، والناس فيها يرون الأسباب هي الفاعلة ظاهريا ، فلماذا الله سبحانه وتعالى استنكر في الآيات التي أوردناها من اتخذوا الأسباب شفعاء من دون الله ولماذا أكد أن الشفاعة لله جميعا ، وأكد أن اتخاذ ما لا يضر ولا ينفع شفعاء شرك بالله. ¶ إن هذا هو الدليل على أن الشفاعة مستحيلة ، وغير واردة إطلاقا في الآخرة ، لأنها الدار التي تنقطع فيها الأسباب ويتضح فيها الحق الذي خفي على الناس وغاب ، ويتضح للناس أن ربهم الحق هو الله ، وأنه الولي لا سواه ، وأنه هو المدبر لكل شيء يراه ، وعلى أي حال فإن هذا مجرد مقدمة ، لتدخلوا إلى الآخرة وقبل الدخول ، لا بد لي أن أذكركم بآيات سورة الزمر ، التي تؤكد أن الشفاعة في الدنيا لله ، فلقد قال (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون ?43? قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون) الزمر 43/44 ¶ إن تقديم كلمة الله في قوله (قل لله الشفاعة جميعا) يعني أن الشفاعة محصورة على الله ، مقصورة عليه ، ثم إن قوله (له ملك السماوات والأرض) فبتقديم الجار والمجرور ، يعني كذلك أن له وحده علم السموات والأرض ، ومن يعلم فهو الذي يحكم وله الأمر في كل شأن وحال ، ثم إن قوله (ثم إليه ترجعون) بتقديم الجار والمجرور يعني أن الرجوع إليه وحده ، وهو الملك والمتصرف في يوم الدين ¶ وأن الذي يبقي الناس كلهم عند قيامهم هو ربهم ، وإليه مآبهم ، وعليه حسابهم (إلى ربك يومئذ المساق) (إلى ربك يومئذ المستقر) القيامة 30+12 ثم إني أذكركم بقوله تعالى في آيات سابقة أوردناها (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إن اشتراط الإذن في أثر الشفاعة والشفيع ، يعني أن كل سبب لا يفيد إلا بإذن الله ورضاه ، وكل سبب عاجز لولاه ، ولنضرب لكم مثلا فيما نلمسه ونراه ، فالشمس مثلا لا تضيء ، ولا تبعث الدفء والحرارة إلا بإذنه وإلا لم تقدر ولم تصل ، والماء لا يمكن أن يروي ويحيي الأرض إلا بإذنه ، وإلا لما أثر وروى ، والهواء لا يمكن أن ينعش الأحياء ويحرك الأشياء ، إلا بإذنه وإلا لما كانت هناك حياة وهكذا هكذا سائر الأشياء والأسباب ، ولهذا قال لرسوله محمد وهو من أولى العقل (وداعيا إلى الله بإذنه) الأحزاب 46 وقال (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) إبراهيم 1 وقال عن المسيح وهو يتحدث عن رسالته وآياته (وأبريء الأكمه والابرص وأحي الموتى باذن الله) آل عمران49 وإذا كان هذا هو شأن المسيح ، الرسول المؤيد بروح القدس ، فان من المهم أن نقول وهكذا سائر الأدوية والمداوين ، في حياة العالمين حتى الملائكة لا تؤثر إلى بإذن الله ، يقول الله عن جبريل ¶ (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) البقرة 97 ويقول عن الملائكة أجمعين (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) مريم 64 فهم لا يتحركون ولا يعملون ولا يؤثرون ، إلا بإذن الله وأمره ، وهو يعلم عنهم كل شيء وحال. ¶ إذا فكل سبب لا يعمل ولا يؤثر ولا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله ، لأن الله العليم لمن أذن وبماذا أذن ، ولا يخفى عليه شيء من الأسباب والآثار ولا ما قبل الأثر ولا ما بعده ولا ما بين ذلك ، بل هو المدبر لكل ذلك ، باستمرار ولهذا قال (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) بعد قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)في آية الكرسي وقال في آية في سورة يونس (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض) بعد قوله (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)وقال في آية في سورة الزمر (له ملك السماوات) بعد قوله (قل لله الشفاعة جميعا) وفي آية السجدة قال(ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم) بعد قوله (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)إذا فهو العليم المدبر ، والمحيط علما بما تقدم وتأخر ، والمطلع على كل أثر ، وعلى كل سبب وشفيع ومؤثر ، حتى الملائكة لا أثر لهم إلا بما أذن وبما أمر ، وكيفلا والله يقول في سورة الحديد (سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ?1? له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ?2? هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ?3? هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ?4? له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ?5? يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور ) الحديد1-6 إن كل هذه الصفات ، وكل هذه البينات ، الدالة على علم الله بكل شيء وحي ، تقطع الريب في القلوب ، وتقطع الشك في النفوس ، فكيف كيف بعد هذا نظن لله شريكا في علمه يشفع ، أو نتوهم لله عضدا في حكمة ينفع أو تحسب لله ندا في قدرته يدفع.كلا بل هو الشافع والنافع والدافع ، وهو ذو العلم المحيط الواسع وكل شيء له فقير ، وبه مسير ، وكل شيء إليه محتاج مضطر وكل حي وعاقل من جن أو بشر ، لا يعلم شيئا إلى ما علمه الله ، وكل نبي أو رسول ، لا علم له من ربه الخبير ، إلا مهمة له إلى الإنذار والتبشير وكل ملك في السماء والأرض ، لا عمل له ولا أثر ، إلا ما أمر به ربه ولا قدرة له على شيء ، إلا ما مكنه فيه ربه ، ¶ وهنا نصل بكم إلى الآيات التي تتحدث عن الملائكة ، وتوضح مهمتهم في هذه الدنيا ونبين مدى شفاعتهم ومتى فلنقرأ الآيات التي تتحدث عن شفاعتهم ولنبدأ من أول تلك الآيات الواردة في سورة الأنبياء (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ?26? لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ?27? يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ?28? ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ?29?) الأنبياء 26-29 تأملوا الآيات وتدبروها ، تجدوها تسلب عن الملائكة الفعل والقول ابتداء وارتجالا ، وتبته لهم اتباعا لله وامتثالا ، ثم إذا كلفهم أن يعملوا شيئا ، فإنه معهم (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) وعليه فإن ما يجرونه من قول وعمل ، فهو عن أمر الله الأجل ولا يمكن أن يشفعوا ولا ينفعوا ، ولا يمكن أن ينال أحد منهم نفعا ولا يستفيد عبد منهم دفعا ، إلا إذا كان الله ربه رضى بذلك ، وقضى به له ، وأمرهم بأن يعملوا له ما ارتضاه ربه له ، وهم يعملون ذلك العمل الذي ارتضاه الله لعبده ، وهم في حال من الوجل الدائم ، والإجلال لربهم العالم ، وهم من خشيته مشفقون ، ثم أن الملائكة عباد مكرمون ولا يمكن أن يفرطوا في كرامتهم ، فيدعوا أن أفعالهم من ذات أنفسهم وبدون علم ربهم ، كلا فإذا فعلوا ما لا يرضاه الله ، وزعموا أنهم شركاء في ملكه وحكمه ، وأنهم يحكمون في الخلق من دونه ، وهو لا يعلم فهذا ظلم جزائه جهنم ، لأن فاعله قد تجاوز الحد الذي حدده الله الأعلم الأعظم ، وسبقه في ما قضى وحكم ، وصار مع من أشرك بربه وظلم فما جزائه إلا جهنم ، وهذا هو حكم الله في كل من ظلم ولتأكيد هذا الحكم ، فإن الله قد ختم الآيات بقوله (كذلك نجزي الظالمين) وهذه الآيات هي تأكيد لما سبق ، والتي تنفي عن الله الشركاء وتقول في وضوح عن الموضوع (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ?22? لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ?23?) الأنبياء 22/23 وهكذا يتضح أن الملائكة في الدنيا لا يشفعون ولا ينفعون ، إلا بما ارتضاه الله من حكم ، ولا يناله أحد من العباد ، إلا من ارتضاه الله له وكل العباد خاضعون (وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ?19? يسبحون الليل والنهار لا يفترون ?20?) الأنبياء 19/20 ¶ وإذا كانت آيات الأنبياء قد أفصحت عن هذا الأمر بجلاء فإني أدعوكم إلى سواها لنتدبرها سواء لنبدأ من سورة البقرة ، فلقد وردت فيها أربعة آيات ذكرت فيها الشفاعة فآية الكرسي التي أوردناها سابقا، خاصة بالشفاعة في الدنيا والقران فيها دالة على ذلك فهو بقوله تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض ) وبقوله (وسع كرسيه السماوات والأرض) إذا فالحديث عن الحال والأثر في الحياة الدنيا ، فلا يشفع فيها شيء ولا ينفع إلا بإذنه أما الثلاث الآيات الأخرى ، فهي عن الشفاعة في الأخرى ، وهي تبدأ بقوله تعالى لبني إسرائيل (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ?47? واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ?48?) البقرة 48 إن الله يحذرهم من الابتعاد ، عن تقوى يوم المعاد ، فإنه يوم لا ينفع فيه إلا العمل ، وليس للإنسان فيه إلا ما سعى ، وكيفلا وقد أكد هذا بقوله (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) لننطلق إلى سورة سبأ ، فإن الآيات فيها تتوالى واضحة البيان ، بأن الله هو المدبر للعالمين ، وتفند دعوى من أدعى أن لله بنات وبنين ، فلنقرأ الآيات متدبرين (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) سبأ 22 يا من يزعم أن لله شفعاء ، ويا من يدعي أنه له شركاء في حكمه في الدنيا في الأرض أو في السماء ، ها هو الله يأتيك بالنبأ ألا تتدبر هذا البيان ، ألا تصغي إلى هذا البرهان ، إن الله يتحداك أن تدعوا هذا الشفيع المزعوم ، الذي تركن إليه من دون الله ، إنك إن فعلت ، فقد اعتمدت على الهباء ، وخبطت في ظلمة ظلماء وجهالة عمياء ، وكيفلا وكل من تزعمهم شفعاء (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض أي لا يعلمون مثقال ذرة في هذا الخلق الواسع الكبير ، وهذا السكون الرائع البديع ، فكيف يستطيعون أن يفعلوا شيئا مما تزعمون ¶ هل شاركوا الله في خلق السموات والأرض شيئا ، كلا بل هم محكومون (وما لهم فيهما من شرك) هل استعان الله بهم في الخلق واتخذهم عضدا ، كلا بل هم عاجزون محتاجون ، فقراء لمن الله ¶ (وما له منهم من ظهير) وإذا فأنى يشفعون ، وهم لا يعلمون شيئا ولم يخلقوا شيئا من الأشياء ، بل ولا اتخذهم الله أعوانا فيما يشاء كلا إن هذا لافتراء ، وما هي إلا أوهام وظنون ، لا تغني عن الحق شيئا ولهذا فإن الله يتبع هذا البيان ، بنفي الشفعاء في كل حال وأثر ، وفي كل أمر وشان فيقول(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) سبأ 23 ماذا تعني هذه الآية ، إنها تعني بوضوح وجلاء أن كل سبب متوقف في خشوع ، مستشرف للتكليف بقلب مفزوع متوجه إلى ربه في حال وجل وهطوع وذل وخضوع فهو لا يعلم شيئا ، مما سيقضي به الله ويأمر ولا يدري ما يقدره الله ويدبر ، بل هو في فزع وتحفز ، لأمر الله منتظر هذا هو حال كل الأسباب ، سواء العقلاء أولوا الألباب ، أو الجمادات من الأسباب ، الكل في فزع وارتقاب ، لأمر الله الواحد القهار الغلاب فلا حركة ولا سكون ، في انتظار أمر الله ، الذي يقول للشيء كن فيكون ثم ماذا (حتى إذا فزع عن قلوبهم) أي كشف الفزع عن قلوبهم وانتهى زمن الارتقاب ، وجاء الأمر الصواب ، وسمعوا من ربهم الخطاب هنا يعلمون أنه قد أذن بما يشاء ، وأطلق الإذن للعمل ، فإذا بهم يسأل بعضهم بعضا ، قالوا (ماذا قال ربكم) وهو مجرد تصور للاستماع والامتثال ، والإصغاء لذي الجلال ، لكن الكل يدرك أن ما أمر به الله وقال ، هو الحق بلا جدال ، ولهذا جاء الجواب من الجميع بلسان واحد (قالوا الحق) هكذا هو حال كل سبب ، وهو حال عجيب ، فنطلق السبب أو الشفيع نافعا ، ويصبح ما قضى الله به واقعا ، فهو ينطلق ولا يبقى أمامه مانعا ، وكيفلا والله القدير قد قضى به وأمر ، وإذن به وقدر فلابد أن ينفذ في لمح البصر ، فليطع الأمر بلا تأخير ، فالله له الأمر والتدبير ، وقوله الحق وله وحده التقدير ، وهذا ما يعبر عنه السؤال (قالوا ماذا قال ربكم) إنه سؤال الطاعة والامتثال ، ولهذا يقول الجميع في الحال ، بعد أن سمعوا أمر ذي الجلال (قالوا الحق وهو العلي الكبير) وإذن فالتنفيذ والمباشرة لما قال الله ، هو العمل الحق لا سواه ، وكل سبب يمضي إلى ما كلف به ، بحرص وانتباه ، فالله من خلفه ومن بين يديه ، يعلم بما يعمل ، وهو العلي الذي يقهر كل عبد ، ويدبر ما يفعل وهو الكبير الذي يحيط علما ، بكل شيء ولا يجهل ، فكل سبب بأمره يعمل ، في خضوع ، ولما يقوله يسمع ويطيع ، فلا شفيع ينصح عنده وفي ملكه ، إلا وهو عبد ربه يعمل في خضوع ، ¶ فلنكن على يقين أن الشفاعة لا تنفع عنده ، وفي ملكه إلا بإذنه وعلمه ، لأن التدبير تدبيره والتقدير تقديره ، وأنه يعلم لمن إذن ، وبماذا إذن ، ويعلم كيف تنفذ الأمر ، ومتى وإلى متى ، وأين المبتدئ وأين المنتهى ، فهو محيط بكل ذرة علما ، وبكل حركة لها ، وهو المقدر دورها ، والميسر أمرها وهو المسير لها ، في دربها ، والمحدد مستقرها وأنت أيها الإنسان ألا تعي أنك كذلك ، وأن أمرك بيد ربك إن كنت لا تعي ، فها هي الآيات ، توضح لك الأمر بجلاء ، فيقول الله بعد تلك الآيات ، موجها إليك الخطاب ، على لسان رسوله ، ومرددا إليك السؤال بطريقة جميله ، فاستمع وأجب بنفس مسئوله (قل من يرزقكم من السماوات والأرض) أسمعت السؤال ، فلماذا أنت ساكت بلا جواب ، هل أنت على ارتياب إن كنت كذلك ، فهذا أمر لا يليق بأولى الألباب ، ولكن مع هذا فإن الله يتولى بنفسه الجواب ، ويلقن رسوله الصواب ، فيقول (قل الله) نعم إنه الله الرازق لا سواه ، فهو الذي يبسط الرزق ، ويفتح أبوابه من السموات والأرض للملأ ، وإلا فمن ذا الذي يأتيك بالضياء والهواء والماء والغذاء ، ومن يمنحك الحركة والسكون ، في الليل والنهار ويمكنك من السعي باقتدار ، هل تقول إن هناك سوى الله شفيعا يوقضك كل يوم ، أو يرسل إليك النوم ، هل تدعي أن الهواء يأتيك ¶ من منفاخ صنعته أنت أو سواك ، هل تزعم أن الماء يأتيك من نبع ابدعته أنت بقواك ، هل تحسب أن قوتك وخبرتك هي التي تأتيك بالرزق والمال والأمان ، وإن حيلتك هي التي جلبت إليك الجاه والسلطان ، كلا بل كل ذلك مقدر لك ، من ربك ذي الجلال ، وهو بها يبتليك ، يرى هل تهتدي إليه ، أم تبقى عنه في ضلال ، ولهذا ختم الآية موجها الخطاب للإنسان ، في كل أحواله على لسان رسوله ، فقال (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24 فماذا تبقى أيها الإنسان ، المخاطب بهذا المقال ، وماذا تريد أيها الإنسان الموجه إليك السؤال ، إنك مخير وحر الخيار ، هل توقن أن الله هو الشافع والنافع ، والرازق والخالق ، والمدبر والمسير ، والعليم بكل جهر وسر ، والرب لكل شيء ، فتكون من المهتدين ، وعلى هدى من الله رب العالمين ، أم تدعي سواه شفعاء ، ومعه شركاء ، وله أندادا في الحكم والتدبير ، والنفع والضر والتقدير ، فتكون في ضلال مبين ، لا شك أن أولى الألباب يختارون الفريق الأول بلا تردد ولا ارتياب . ¶ ثم أن هذا المقام لله رب العالمين ، مقام العالم المحيط بكل شي يتجلى بوضوح ، ويتوالى بأسلوب فصيح ، من أول سورة سبأ إلى آخرها فكلها تفصح عن علمه والتدبير ، وحكمته في التقدير (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) سبأ 1 فالحمد لله وحده ، وكل الحمد له في الأولى والآخرة ، وكيفلا وهو الذي له تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وهو يدبر ذلك بحكمه وخبرته وبعلمه وقدرته ، ولهذا ختم الآية بقوله وهو الحكيم الخبير ، ولتأكيد هذا بصورة أوضح يقول (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) سبأ 2 فعلمه مستمر بكل حركة وسكون ، وكل صعود وهبوط وكل خفاء وظهور ، وكل نمو وضمور ، وكلما لا نعلمه ولا نحصيه وهو مع ذلك الرحيم الغفور ، فرحمته وسعت كل شيء ، وهو الذي يفتحها متى يشاء ، ويمكنها لمن يشاء ، وهو الذي يغفر لمن يشاء فالأمر له وحده ، والعطاء والخلق له وحده ، والإنشاء له وإليه المرجع والمأوى ، وله الأولى والأخرى ، وهو المحمود فيهما بلا مراء ولهذا فإن الممارين في الساعة جهلاء ، ولا يقدرون الله حق قدره بل يجعلون له شركاء ، ويتخذون من دونه شفعاء ، وهذا هو الغفلة والغباء ، لأن الله يعلم كل غائب ومشهود على السواء (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) لماذا هذا القسم وهذا التأكيد ، وما هو الدليل على الساعة الأكيد إن الله يحسب بلا إمهال ، وبها وضح المقال (عالم الغيب) كيف هذا العلم وما مداه ؟؟ اسمع الجواب (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) سبأ 30 هل بعد هذا يظن ظان ، أن له شفعاء أو تنفع الشفاعة عند الله أو يدعي أحد ، أن للأسباب أثرا في ملك الله واستقلالا عن أمر الله أو فعلا دون إذن الله ، كلا كلا .. بل هو العزيز الجبار ، والواحد القهار وله الخلق والأمر وحده ، وله التدبير والتقدير لا سواه ، ولا يشركه في حكمه أحد ، ولا ينفع سواه ، ولا يشفع أبدا ، حتى الملائكة ، ولهذا قال من عبدوا الملائكة متوهمين ، أن لهم النفع أو الدفع ، أو الشفاعة فيما يضر أو ينفع ، يجدون من الله التنكير ، ومن الملائكة الاستنكار ، في آخر السورة فيقول (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ?40? قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ?41?) سبأ 40/41 أسمعتم.. حتى الملائكة لا يشفعون ولا ينفعون ، فإذا هم في الدنيا قد عبدوا ضلالا ، فإنهم في الأخرى يسبحون الله ، وينكرون على المستشفعين هذا الضلال ، ويؤكدون أن الله وحده وليهم ، وأنهم عبيد له فمن استشفع بهم وعبد ، فإنما اتبع هواه ، واتبع الشيطان فأغواه وأضله عن ربه ومولاه ، فلا ينفعه شيء هنا ، لا الملائكة ولا الجن الغواه فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا ولا ضرا ، ونقول للذين ظلموا (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) سبأ 42 أرأيتم كيف أن الحكم لله وحده ، وأن الشفاعة في الدنيا والأخرى له وحده حتى الملائكة الكرام ، عباد لا يعملون إلا بما حكم ولا يعلمون شيئا مما يقضي ويحكم ، حتى إذا جاءهم الإذن انطلقوا للمهمات ، وهو بهم جميعا وبما يعملون يعلم ، فسبحانه الله عما يشركون ، وتعالى علوا كبيرا عما يصفون ، والحمد لله رب العالمين. ¶ وبعد فإن من عبدوا الملائكة قد أبطل دعواهم في سورة سبأ التي نغادرها الآن إلى سورة أخرى ، فما هي السورة التي سنسير إليها إنها سورة لا تخفى ، فإنها فضيه كالنجم الثاقب ، وتدعونا لتلاوة آيات التنديد فيها ، بكل مشرك كاذب ، ولنتدبر آيات الكشف والتشفيع ، لكل مدع للشفاعة بلا علم ولا دليل ولا بيان ، ولكن بالوهم والظنون ، التي يتبعها الجاهلون ، فلنمض إلى سورة على نور الله ، ولنقرأ ما يقوله الله. إن السورة تخبرنا أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ، لا ينطق عن الهوى ، قد أوحي إليه القرآن فهو ينطق بما أوحي إليه ، ولا يتعداه ومستحيل أن يقول أن ما يملي عليه هواه ، كلا وكيف يمكن ذلك (إن هو إلا وحي يوحى ?4? علمه شديد القوى ?5? ذو مرة فاستوى ?6? وهو بالأفق الأعلى ?7? ثم دنا فتدلى ?8? فكان قاب قوسين أو أدنى ?9?) النجم 4-9 ¶ هذا هو حال جبريل عليه السلام ، فهو عبد من عباد الله ينزل بأمره وبإذنه لما يشاء ربه من المهام ، فيؤديها باهتمام ، والله يعلم ما يقوله وما يفعل ، والله عن كل شيء لا يغفل ، فماذا عمل جبريل في هذا التدلي والدنو الأدنى ، لقد أدى مهمته محدده من ربه الأعلى ، وذلك في قوله تعالى (فأوحى إلى عبده ما أوحى) النجم 10 لقد أتى جبريل ليوحي إلى محمد من ربه ، بما شاء الله به أن يوحي تلك هي المهمة لا سوى ، إذن فالاثنان جبريل الرسول الملائكي ومحمد الرسول البشري ، كلاهما عبد من عباد الله ، لا يعملان إلا بإذنه ولا يعلمان شيئا من علمه إلا بما شاء ، فإذا قضى بشيء ، فلا راد لما قضى ، وإذا أوحى بأمر ، أو علم لمن يشاء ، فلقد أصبح حقا بلا مراء ولهذا قال الله مؤكدا بعد ذلك (ما كذب الفؤاد ما رأى ?11? أفتمارونه على ما يرى ?12?) النجم 11/12 لقد أصبح ما أوحى الله به وأرشد ، وما نزل به جبريل إلى محمد لقد أصبح هذا في فؤاد محمد صدقا فمن ذا يماريه ، على علم لا يرتاب فيه ، كلا بل هو الحق من ربه تلقاه بيقين ولم يكن ذلك حلما أو وهما ، من أضعاف الواهمين ، بل لقد تكرر اللقاء والاتقاء ، وتأكد الوحي واليقين ، مرة أخرى ،ليعلم محمد أن الذي يتلقاه هو الحق ، الذي لا يمارى (ولقد رآه نزلة أخرى ?13? عند سدرة المنتهى ?14? عندها جنة المأوى ?15? إذ يغشى السدرة ما يغشى ?16? ما زاغ البصر وما طغى ?17? لقد رأى من آيات ربه الكبرى ?18?)النجم 13-18 إذن فالوحي حق ويقين ، وهو النور والهدى ، ولقد أكده الله بالقسم في المبتدأ (والنجم إذا هوى ?1? ما ضل صاحبكم وما غوى ?2? وما ينطق عن الهوى ?3? إن هو إلا وحي يوحى ?4?) النجم 1-4 وهكذا أصبح الرسول محمدا موقنا بما أوحي إليه من ربه وأصبح جبريل الرسول والشفيع ، الذي إذن الله له أن ينزل بوحيه إلى رسوله محمد ، وكلاهما مؤتمن على ما أوحي ، وكلاهما محكوم معلوم الخطوات والعمل ، ومراقب ومرصود البلاغ بلا خلل ، وكلاهما على يقين بأن ما يحمله من علم هو من علم ربه الأجل ، فهو به موقن وهو به شديد القوى ، لا يزل ولا يتزلزل ، وكيفلا وعلمه محيط به في كل حال ، وأينما تحول ، وأينما كان ، وكل مداركه وأحاسيسه محروسة عن الزيغان ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا يضل ولا يغوى (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18 ما هي الآيات ، ماذا رأى ماذا علم منها ، لا ندري والمهم أنه رأى ما يزيده اطمئنانا في القلب ، ورسوخا في العلم ، فهو بما رأى واثق الخطى ، وهو موقن بما علم ، أولم يؤكد الله هذا بالقسم مرة أخرى فقال (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) النجم 18 ¶ وإذن فهو عبد صادق ، واثق موقن ، وهو عبد مسلم موحد ، لا يشرك بالله شيئا ، وهو عبد مخلص مؤمن ، لا يجعل لله وسيطا ولا شفيعا بل يتجه إليه خاشعا مطيعا ، ويعبده موقنا أنه الواحد القهار ، الذي يدبر كل شيء باقتدار ، وله يسأل كل من في السموات والأرض ، وهو يجيبهم بما يحتاجون ، في كل حال ، بل يؤتيهم من كل ما يسألون قبل السؤال ، وكيفلا وهو علام الغيوب وذو الجلال ، وهكذا فإن عبده الصادق ، هو من دعاه ، وهو بالإجابة واثق ، لأنه يعلم أن الله هو الخالق ، ومن خلق فهو المعطي والرازق ، وإليه كل خير ينسب ويعزى ، فمن دعاه فقد علم ووعى ، ¶ من أشرك به فقد جهل وغوى ولهذا يوجه الله السؤال ، إلى من دعى سواه من الجهلاء ، فقال سائلا باستهزاء (أفرأيتم اللات والعزى ?19? ومناة الثالثة الأخرى ?20? ألكم الذكر وله الأنثى?21? تلك إذا قسمة ضيزى?22?) النجم 19-22 هؤلاء هم الذين اعتمدوا على الأحجار ، وجهلوا قدر الواحد القهار واستشفعوا بالملائكة ، وسموهم بنات الله ، وغفلوا أن كل شيء عبد لله فهم لا يعلمون شيئا ، ويقسمون الوهم وقسمة ضيزى ، فتبا لهم ونقما لقد اعتمدوا على الهباء ، واتبعوا الهوى وظنوا الوهم حقا ، والدعوى علما ، فبئس ما فعلوا وسحقا (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) النجم 23 هل بعد هذا الضلال من ضلال ، الهدى يأتيهم من ربهم العليم بكل شيء والبصير بكل شيء وحي ، والخبير بما نبدي ونخفي ، وما مضى وما يأتي ، الهدى يأتيهم من ربهم هذا العليم العظيم ، وهم يعرضون عنه إلى وهم آبائهم الجاهلين ، وإلى ظنون أهواءهم الغافلين ، فلا علم لديهم ولا سلطان ، وهذا هو سبيل الشيطان ، الذي بينهم ويعدهم بالسلام والأمان ، وما يعدهم إلا بالخسران (أم للإنسان ما تمنى) النجم 24 هل يناله بمجرد التمني؟ مستحيل لكن المنى تنال ، من العليم الحكيم الملك القدوس ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وإليه مصير كل حي فليطلب المنى ، من لديه لا سوى (فلله الآخرة والأولى) النجم 25 وإذا كان هذا حاله ، فإن الفلاح للإنسان في الدنيا والآخرة في عبادته وإذا كان أناس يبحثون جهلا عن الدنيا ، فلتكن الوجهة إليه وإذا كان أناس يتنافسون على الأخرى ، وهو التنافس الحق فإن السبيل إليها هو هدى الله ، وإن الفوز بها ، هو بالاتجاه إلى الله لا سواه فلا نبي ينفع ، ولا ملك يشفع ، ولا مقرب يدفع ، ولا شيء سوى الله ولهؤلاء الذي يرجون سوى الله ، ويظنونهم يقربونهم إلى الله زلفى ويستشفعون بالملائكة ليكونوا لهم عند الله وسطاء ، أو يظنونهم يدفعون عنهم الضراء ، في الدنيا ويجلبون السراء ، إلى هؤلاء يقول الله جل وعلا (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) النجم 26 إن الآية تؤكد ما أكدته سورة سبأ ، في أن الملائكة عباد الله ، لا يعلمون ما يريد الله ، ولكنهم يعملون ما يإذن به الله ، ولمن يشاء ويرضى فإن حركتهم إلى شيء يريده الله ، لا تكون إلا من بعد أن يإذن ولا يمكن بل يستحيل أن تكون الحركة ابتداء من لديهم ، وبدون إذن ربهم ، كلا وكيف وهو (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) طه 110 وهم (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل 50 إذا فشفاعتهم لمن يظنها ويتوهمها ، لا تغني بل لا تتحقق أبدا إلا إذا تم إذن لهم من ربهم ، وبذلك ارتضى ، فما بال هؤلاء الجهلاء يدعونهم ويرجونهم ، وقع البلاء في الدين ، إن هذا هو الغباء والوهم والظنون العمياء ، وخيالات المنى (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى) النجم 27 فهم يبحثون عن أسباب للسراء ، في الدنيا فيسلطون الملائكة ويسمونهم تسمية الأنثى ، عساهم يرقون لهم ويستجيبون لأطماعهم ، في تسهيل متاع الدنيا وهذا هو الإخلاد إلى الأرض ، واتباع الهوى ، وهو الحب الأعمى للدنيا ، مع التعلق بأسباب لا تغني شيئا ، وهذا هو الجهل الذي يظن غير شيء شيئا ، وأن غير الله يمكن أن يجدي نفعا ، وأن بإمكانه أن يفعل ما لا يرضاه (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) النجم 28 وإذا فليترك هؤلاء الأوهام والظنون ، فسوف يعلمون غدا أنهم الخاسرون ، وأن علمهم باطل ، أو ردهم إلى ما لا يشتهون (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا?29? ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى?30?) النجم 30 وهكذا فإن الاستشفاع بالملائكة جهل ، أو أوهم إليه حبهم للدين ووهمهم بالضلال أبدا ، فهم لا يهتدون ولا علم لهم بالهوى ، بل مرادهم هو الدنيا ، لا سوى وهذا هو الضلال وإذا فإن المهتدي الحق ، هو الذي يتجه إلى الله بلا شفيع ، ويدعوه هو بلا وسيط ، فهو القريب المجيب ، وهو الغفور لمن تاب ¶ (إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) النجم 32 إليه الاتجاه وعليه الاعتماد ، فهو العليم بمن اهتدى ، وبمن اتقى (ولله ما في السماوات وما في الأرض) ولديه الجزاء، فلنعلم أنه يعلم السر واخفى ، ولنعمل الصالحات ولنوقن أبدا ، إنه لا يظلم الناس شيئا (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى?40? ثم يجزاه الجزاء الأوفى ?41? وأن إلى ربك المنتهى ?42? وأنه هو أضحك وأبكى ?43? وأنه هو أمات وأحيا ?44? وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ?45? من نطفة إذا تمنى ?46? وأن عليه النشأة الأخرى ?47?) النجم 39-47 أفبعد هذه الصفات والأسماء الحسنى ، لربنا الأعلى ، يمكن أن يدور بخاطر انسان ، شفيع يشفع ، أو ملك مقرب يقرب إليه زلفى ، وللشر يدفع ، كلا كلا.. فيا أيها الإنسان اعتمد على ربك ، واتخذه وليا ، وأيقن بآلائه وقدرته ، التي تكون في كل شيء ولا تخفى ، وتدل على أنه هو المدبر والمقدر ، والمسير لكلما في الأرض ، وفي السموات والعلى وما يظهر وما يخفى (فبأي آلاء ربك تتمارى) النجم 55 وبأي حديث سوى حديث الله يأتيك الهدى ، فالله وحده هو أصدق حديثا ، وأصدق قيلا (أفمن هذا الحديث تعجبون ?59? وتضحكون ولا تبكون ?60? وأنتم سامدون ?61?) النجم 59-61 إن هذا العجب منكم ، هو الذي يجب أن يتعجب منه المتعجبون ، وإن هذا الضحك منكم والارتياب ، هو الذي يدعو للضحك عليكم بل والبكاء عليكم ، فما بالكم لا تبكون على أنفسكم لأنكم عددتم الخلق بربكم ، وتركتم من يخلق ، أو ركنتم إلى من لا يخلق فمن السمود فاستيقظوا ، وللشفعاء ارفضوا ، وإذا رفضتم وقررتم أن تهتدوا (فاسجدوا لله واعبدوا) النجم 62 وله احمدوا ، ووحدوا لتأمنوا ، في الدنيا والأخرى وتسعدوا. ¶ القسم الثاني ¶ الشفاعة في الأخرى - الجزء الأول ¶ لقد عرفنا مما عرضنا ، أن المراد بالشفاعة هي الأسباب ، وأن الشفيع هو السبب ، ¶ فلا شفيع ينفع ولا يضر ، إلا بإذن الله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ¶ وعليه فإن ما أوردناه من الآيات السابقة المحتوية على كلمة شفاعة أو شفيع أو يشفع ، أو كلمة مصرفه من مادة الشفاعة ، ¶ إن ما أوردناه إنما هو متعلق بالشفاعة في الدنيا وكل الآيات تؤكد أن الأسباب المتخذة كشفعاء في الدنيا ، لا ينفعون ولا يدفعون ، وإنما هم عبيد مسيرون بالله أبدا ، ¶ وإذا كان هناك شفيع يشفع أو سبب يسبب ، فإنما هو بإذن الله الذي هو المدبر والرب ، وهو العليم بكل خلقه والله الأقرب ، فكيف يكون سواه مؤثرا ، وهو المدبر ، ¶ وكيف يكون غيره نافعا ، وهو المسير والمقدر ، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فمن اتخذ سواه شفيعا إليه ، فقد جعل لله شريكا في علمه ، ¶ بل لقد جعل الله يجهل ما يجري في خلقة ، لا يعلم ما يدور في السماء والأرض وما بينهما ، وهذا افتراء على الله ، وشرك لا يرضاه ¶ (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 ¶ هذه هي خلاصة ما عرضناه في القسم السابق من الآيات المتعلقة بالشفاعة في الدنيا. ¶ وها نحن ذا ، ننتقل بكم إلى الشفاعة في الأخرى ، وهو القضية التي سقنها هذا البحث لها ، ومن أجلها ، فلقد ضل فيها الناس ، ولقد جعلوا القضية هي الأساس ، ¶ فالشفاعة عندهم هي القائمة في الأخرى ، وهي التي تنقذ الخاطئين من اللظى ، وهي تحمي المسلمين من السعير ، ولو عملوا السيئات والخطاء الكبير ، ¶ وهذا وهم لا بد أن نتنبه إليه ، حتى لا يركن الناس عليه ، ويتساهلوا في الأمر الذي هم مقدمون عليه ، إنه يوم عسير ، على الكافرين غير يسير ، بل هو يوم موصوف بأنه ¶ (يوم لا ينفع مال ولا بنون?88? إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء 88/89 ¶ (يوم يفر المرء من أخيه ?34? وأمه وأبيه ?35? وصاحبته وبنيه ?36? لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ?37?) عبس 34-37 ¶ من خلال هذه الآيات فلنعد سريعا إلى آيات سورة الشعراء ، لنستكمل بقية الحكاية في هذا اليوم العجيب ، يقول الله بعد ذلك ¶ (وأزلفت الجنة للمتقين ?90? وبرزت الجحيم للغاوين ?91? وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون ?92? من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون?93?) الشعراء 90-93 ¶ قف هنا....... من هم هؤلاء الذي يسأل عنهم الغاوون أنهم كانوا يعبدونهم ، إنهم الشفعاء ، الذين اتخذوهم إلى الله وسطاء ، وظنوا أنهم ينصرونهم ، في الدنيا والأخرى ، ¶ ها هم اليوم لا يجدونهم كما توهموا فلا هم ينصرون أنفسهم ، ولا هم ينصرون الغاوين ، الذين عبدوهم واتخذوهم شفعاء إلى ربهم العليم ، رب العالمين ، ¶ ظنا منهم أنه غير عليم بما يعملون ، فكانوا بذلك الظن من الخاسرين ، ثم تعالوا نواصل الآيات لنرى ما سيحدث ¶ (فكبكبوا فيها هم والغاوون ?94? وجنود إبليس أجمعون) الشعراء 94/95 ¶ هاهم مع المعبودين في الجحيم ، الغاوون والذين غووا بهم ، إنهم وجنود ابليس الذين سولوا لهم وهمهم ، كل هؤلاء في الحميم ، مكبكبون متراكمون بعضهم على بعض ، ¶ وهكذا في جهنم أولئك هم الخاسرون ، ومع الخسران ها هم يتقاولون ¶ (قالوا وهم فيها يختصمون ?96? تالله إن كنا لفي ضلال مبين ?97? إذ نسويكم برب العالمين ?98? وما أضلنا إلا المجرمون) الشعراء 96-99 ¶ هكذا يتذكر الغاوي ، إنما المغوي قد أوهمه ، أنه يشفع وينفع ويمنع ويدفع ، وأنه ينصر ويضر ، فإن توهمه قد تبخر ، وأصبح الندم هو المظهر في الحشر. ¶ لقد ظن الضال القوي ، أن الغاوي هو القوي ، وأنه له قدرة الله رب العالمين ، فإذا به يراه الآن في أول الخاسرين ، وفي مقدمة العاجزين إن الضلال المبين ، يتضح له الآن وقد أصبح في اللظى ، والتذكر يفيض اليوم في ذهنه ، وأنى له الذكرى ، إنه يتلفت ليبحث عن الشفعاء الذين فيهم توهم ، فلا يجدهم بل لا يجد إلا الحسرة والندم ¶ (فما لنا من شافعين ?100? ولا صديق حميم ?101?) الشعراء 100/101 ¶ ولما لم يعد يلجأ إلى الأحلام والامتنان ، قالوا لنا كرة نكون من المؤمنين ،إنه حلم محال ، وأمنية مستحيلة ، ولكن هذه الأمنية ¶ التي يرجوا فيها الرجوع إلى الدنيا كرة ثانية ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، بأن الشفاعة في ذلك مستحيلة ، كما أن الرجوع إلى الدنيا كرة أخرى مستحيل ، ¶ فهو يفر من المستحيل إلى المستحيل ، وذلك هو الضلال الوبيل ، وذلك هو الوهم الغفول ، في أن الشفيع سيكون أمامه عند الوصول ، وأنه له بالنجاة من النار الكفيل ، ¶ وهذا اعتداء على الله الجليل ، وافتراء على رب العالمين ، ولكي تستزيد يقينا أن الشفاعة ¶ مستحيلة يوم الدين ، نغادر هذه الآيات في سورة الشعراء ، إلى سورة البقرة ، لنبدأ الحكاية من أول الكتاب ، ونواصل استقصاء الآيات على التوالي في السور التي تلي سورة البقرة ، ¶ حتى نصل إلى السورة الأخيرة ، والآية الأخيرة التي تحتوي على كلمة شفاعة وشفعاء في الآخرة ، يقول الله في سورة البقرة في ظن بني إسرائيل ، ¶ وهم الذين يظنون أن لهم من الأكرام ، ما يخرجهم من النار ، بعد عدة أيام ¶ (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ?47? ¶ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ?48?) البقرة 47/48 ¶ ولقد تكررت الآيتان ، في نهاية الحوار مع بني إسرائيل ، مع تعديل بسيط في الثانية ، وهو قوله تعالى ¶ (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين?122? ¶ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) البقرة 122/123 ¶ وبما أن الآيتين تذكير لهم ، بفضل الله ونعمته فإنه تحذير لهم ، من عذابه ونقمته وتوضيح لهم ، أن اليوم عسير ، ¶ وأن الأسباب المتوفرة في الدنيا لا تتوفر هناك ، فلا سبب إلا العمل ، وسواه لا يقبل ¶ فلا المال يقبل ، ولا يدفع ، ولا ملك ولا ولي ولا نصير ، يستطيع أن ينصر سواه ، أو يدفع شفاعته ، أو يمنحه شيئا ، فالكل إلى الله فقير ¶ والكل لا يملك سواه من فطير ، وعنت الوجوه للحي القيوم ، وقد خاب من عمل ظلالا (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16 ¶ إذا فليكن لك معلوما ، يا أخي القارئ بعد تلاوة الآيتين ، أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، هكذا قرر علماء البيان واللغة بشكل محسوم ¶ ولقد وردت كلمة نفس في الآيتين ، نكره في سياق النفي ، ومعنى هذا أن كل نفس مهما كانت مقربه من الله ، أو كان لها مقام محمود لديه فإنها لا تجزي ولا تملك لنفس سواها شيئا ، ¶ فالحكم في ذلك اليوم لله وحده ، ولقد تأكد هذا المعنى في آية أخرى من سورة الإنفطار ¶ (وما أدراك ما يوم الدين ?17? ثم ما أدراك ما يوم الدين) الإنفطار 17/18 ¶ إنهما آيتان ، تريد أن ترسخ في الأذهان ، حقيقة هذا اليوم فتصدرها الاستفهام ، بشكل متكرر ليصل إلى الأذهان ، بأسلوب لا ينسى ولا ينكر ، ثم يأتي الجواب ، الذي يثبت المعنى ويقرر ¶ (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) الإنفطار 19 ¶ هل بعد هذا البيان الواضح ، والتأكيد الأقوى المبين ، يبحث الواهمون عن شفعاء في يوم الدين ، كلا فالأمر والحكم والملك في ذلك اليوم لله رب العالمين لا سوى ، ¶ ومن شاء أن يستشفع إليه بسواه ، فقد جعل له شريكا في ملكه ، وجعل له نقصا في علمه ، وألصق إليه ظلما في حكمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فهو العليم بكل شيء ، ¶ وهو الحاكم الحق وهو أحكم الحاكمين، وبيده الملك وهو على كل شيء قدير ، فكيف تتوسط إليه ، بالذين لا يملكون شيئا ولا يقدرون ، ¶ وكيف تستشفع إليه بمن لا يعلمون ، حتى ولو كانوا ملائكة أو أنبياء أو مرسلين ¶ (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109 ¶ (إنك أنت) هذا الضمير يسمى ضمير فصل ، وهو يفيد الحصر والقصر فهو العليم وحده ، وهو علام الغيوب لا سواه ، وهذا هو الحق ¶ فهم كانوا أمواتا ، ولا يدرون من أعمال الناس بعد موتهم شيئا ¶ فهم شهداء ، ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا غاب عنهم العلم ، وبقي الله ¶ هو الشهيد ، ولهذا يقول عيسى يوم القيامة لربه ¶ (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة 117 ¶ وهنا يتكرر الحصر والقصر ، بضمير الفصل (كنت أنت الرقيب عليهم) فهو الله الرقيب ، وهو على كل شيء شهيد، العلم له وحده وكل الناس خاشعون عنده ، ¶ وكلهم عبيد يأتون ، فأنى يجد من يشفع له وهو أمام ربه ، الذي يعلم السر واخفى (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) ¶ فهل يستطيع أحد ، أن ينصرف ليبحث عن شفيع ، وهو أمام الله الرفيع الدرجات ، إنها الأوهام ، التي تردي الناس في الندم والحسرات ¶ (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 ¶ وإذا كان لنا أن ننتقل إلى آية أخرى ، تتحدث عن الشفاعة في الأخرى فلن نغادر سورة البقرة ، حتى نجد فيها الآية المحكمة المبصرة ¶ التي تردع كل الأوهام والظنون المندحرة إن الله سبحانه ينادي المؤمنين فيها ، بالصفة التي أحبوها ، وكأنه يذكرهم بها ، ليستمروا على ما تعنيه ، وليستقيموا عليه ، ¶ فالإيمان يعني اليقين ، بأن الله هو القهار ، الذي لا شريك له في الدنيا ، ولا في يوم الدين ، فلنصغ إلى الآية ، فإن فيها النبأ اليقين ¶ (ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) البقرة 254 ¶ إن النداء يعقبه الأمر بالإنفاق ، ثم التحذير من يوم لا ينفع فيه ثراء ¶ ولا مال ولا صديق ، ولا خلال ولا شفيع ، ولا شفاعة فيتوصل بها للآمال ، ¶ كلا فالكل مقطوع ممنوع ، منفي بحرف لا ، الدال على نفي الجنس ، فلا وجود هناك لبيع ، يمكن أن يتوسل به لشراء ، ما تفقده من الحاجات ، ¶ ولا خلة يمكن أن تحميك من الخطر ، أو تتستر عليك في بعض الخطيئات ، أو تشهد لك بما تريده في الخصومات ¶ كلا ولا شفاعة تتوسل بها ، وتجعلها سببا للنجاة ، مما يحيط بك من الأخطاء والمهديات ، ¶ لا شيء من هذه الثلاث الخصال ، موجود بل منفي نفي جحود ، ونفي تأكيد وتأبيد ، فهل بعد هذا البيان ، تتوهم في شفاعة توجد هناك ، أو شفيع يفيد ، ¶ هل بعد هذا اليقين ، يلوح لك ظن في خلاف ذلك يا مجنون. إن الأماني والارتياب ، لا تسد عنك الباب ولا تصد العذاب ، فكن على يقين من قول الله ، فهو أصدق قيلا ¶ وأقلع عن أوهام الشفاعة والشفيع ، تكن معقولا ، وإنما إذا لم تقلع ولم تقنع ، فستكون رجلا ضالا ، وستغطي على الحقيقة بالأوهام والكذب ، وثم تجد نفسك أمام ظل كاذب ، ¶ لا ظليل ولا يغني من اللهب فاستيقظ من الآن ، قبل أن يوقظك الخسران ، وأعمل لغدك بإخلاص قبل أن تقع في اللظى ، ولاحت حيث مناص ¶ إن الآية تنفي الشفاعة ، ولقد جاءت الكلمة منكرة ، لتؤكد أن النكرة في سياق النفي ، تفيد العموم ، وتفيد نفي الجنس ، ¶ إنها آية محكمة البيان وساطعة البرهان ، تنبه الإنسان ، من الغفلة وتخرجه من الأوهام ¶ وتشد عزيمته للعمل ، الذي به الله يرضى ، فإن له الآخرة والأولى ¶ ولقد قال ، وقوله الحق بلا مراء (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى ?40? ثم يجزاه الجزاء الأوفى ?41? وأن إلى ربك المنتهى)النجم 39-42 ¶ وقال (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) النساء 40 ¶ إليه المنتهى وحده ، ثم لا يظلم مثقال ذرة ، فابحث بعد هذا عن شفيع يعلم ما لا يعلم الله عنك ، أو عن عملك ، أو ابحث عن مستقر تنتهي إليه دون ربك ، أو ابحث عن معط هو أكرم من الله ، ويضاعف أكثر منه في عطائك ، كلا كلا كل ذلك محال ، فاقتنع بأن إليه المآل ، وأن أوهام الشفاعة أماني ، وضلال وظنون وخيال ، بل خيال خيال. ¶ لنودع سورة البقرة ، بآياتها المحكمة المبصرة ، ولننطلق على جناح الإمعان ، إلى سورة الأنعام ، فنجد الآيات أمامنا بالمرصاد ، لكل أولى الأوهام ، ¶ ها هي الآية الأولى تحوي الخطاب ، من رب العالمين إلى عبده محمد ، الرسول الأمين ، يأمره بأن ينذر بالقرآن ، من يخاف الحشر من المؤمنين ¶ (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) الأنعام 51 ¶ لعل هذه الآية تقطع الشك باليقين ، وتخرس المرتابين ، لأن هناك من يقول لنا نعم ، ليس هناك شفاعة للكافرين الظالمين ، وهناك شفاعة للمؤمنين المتقين ، ¶ لكن الآية توجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله سلم بأن يوجه الإنذار ، إلى الفتيه المؤمنة ، وهم الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ¶ وهذه هي صفة العلماء أولى الألباب ، الذين يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وهم الذين يقبلون الإنذار ، ويسمعون القرآن ، ويتدبرون البيان ، ¶ أما الكافرون (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ¶ إذا فهؤلاء الناس الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم الله ، يخبرهم بلسان رسوله وينبئهم بلسان نبيه ، الذي نستند إليه الشفاعة ، ونحمله بلا بينه ، ¶ ينبههم الله بلسان هذا الرسول ، ولهم يقول (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) أي من دون ربهم ، الذين يخافون الحشر إليه ، ¶ ليس لهم من دونه ولي ينصر ، ولا يشفع ولا يدفع ولا ينفع بل هو الله الولي الذي ينصر ، وهو الشفيع النافع الضار ، وإليه المستقر ¶ لماذا ينبههم بهذا الخبر اليقين ، ولما يخبرهم بهذا الحق المبين إن الجواب هو (لعلهم يتقون) ¶ فليكن تقواهم هو المقرب لهم إلى ربهم ، وهو الشفيع لهم عند ربهم ، وهو السلم لقربهم إلى ربهم ، وهو الواقي لهم من عذاب جهنم ، ومن غضب ربهم ، ¶ فلا شفيع يصونهم ويبعد عنهم العذاب ، ولا شفاعة توصد عنهم من النار الأبواب ¶ بل التقوى هو الباب ، لعطاء الوهاب ، والتقوى هي المعراج ، إلى الفوز بالجنة المعدة للمتقين ، وبرضوان من الله رب العالمين ، وذلك هو الفوز العظيم. ¶ فهل اتضح لكم الآن ، أن الشفاعة حتى للمؤمنين غير ممكنه ، بل أن التقوى والعمل الصالح هي مفتاح الجنة ، فاعتمدوا على العمل ، ودعوا الأوهام والكسل ، وتخلوا عن الأماني والأمل ¶ فيما لا يرضاه الله ، ولا به يقبل ، فإن القياس عنده هو العمل ، وهو السلم ، إلى الفوز بكل أمل. ¶ ثم تعالوا إلى آية أخرى ، تخرس الأوهام تزفها إلينا سورة الأنعام ، وهي آية فيها يتوجه الخطاب المبين فيها مرة أخرى ، إلى رسول الله الأمين ، فيقول له الله رب العالمين ¶ (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا) ¶ أي ذر هؤلاء ولا تخاطبهم ، فهم لا يسمعون ولا يعون ، لأن الدنيا غرتهم وأعمتهم وأصمتهم ، فالإنذار وعدمه سواء عليهم ، ذر هؤلاء وتوجه بالقرآن ، وأنذر به وذكر سواهم ¶ (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) ¶ هكذا هو الأمر إذا ، وهكذا هو الواقع لا ولي ولا شفيع إلى الله ، بل ولا ينفع عنده مال ولا يجدي ، وإن تعدل بكل عدل لا يقبل ، ولا يؤخذ ، ولا لصاحبه يفدى ، ¶ فليحذر كل متذكر لأولى الألباب ، ويعمل عملا يقبل عند الله ، وينجيه من سوء الحساب ويدفع عن صاحبه العذاب ، ¶ إن الغافل هو الذي كان ممن اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وركنوا على الشفعاء ¶ (أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) الأنعام 70 ¶ أسمعتم ، أقرأتم الختام في الآية (بما كانوا يكفرون) لقد سمى من ركن إلى الدنيا ، وغرتهم زينتها ، ومن اتخذوا الدين لعبا ولهوا ، قد سماهم كافرين ، ¶ وهم حقا كافرون ، لأنهم نسوا الله رب العالمين ، واعتمدوا على الأوهام والظنون ، وحسبوا أن المال يدفع وينفع في الدنيا ويوم الدين ، وأن الوساطات تقبل ، عند أحكم الحاكمين ، ¶ كلا كلا هو الولي القريب ، والشفيع المجيب ، والنافع الرقيب ، والدافع الحسيب ، فله وحده يجب أن نستجيب ، ¶ وإليه وحده فليتوجه كل قلب منيب ، وإلى لقائه فليستبق بالعمل الصالح ، كل عبد صالح ، يحب لقاء ربه الحبيب ولهذا جاءت الآيات التالية ، تؤكد هذا التوجه الحق ¶ (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ¶ قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين ?71? وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ?72?) الأنعام 71/72 ¶ إن أول الآيتين يدعم آخرهما ، فالله هو النافع والضار ، ولا يدعى سواه ثم هو وحده ، الذي إليه يحشر الناس ، ¶ فإن وجود الضمير (هو ) وتقديم الجار والمجرور (إليه ) يؤكد بأن الحشر إليه وحده ويحصره عليه ، وليس هذا فقط ، ¶ بل أن الآية التالية (73) تدعم هذا الحصر ، وتعمقه في أسلوب جميل قوي ، وتعممه على كل شيء ¶ (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق) فهو الخالق لكل شيء ، وهو الآمر وحده ، بالبعث لكل حي ، ¶ فإن الخلق بالحق ، والبعث بالحق وللحق ، وقوله وحده هو الحق ، ثم نواصل القراءة ، لنجد الحصر والقصر يترصدنا في كل منعطف ، فاستمع وانظر؟ ¶ (وله الملك يوم ينفخ في الصور) نعم له وحده الملك والتدبير والعلم والتقدير ، والحكم والتقرير ، يوم ينفخ في الصور ، ويبعث ما في القبور ، ويجمع الناس في مقام واحد منظور ، ¶ وكلهم لحسابه وكتابه يسير ، في هذا اليوم لله وحده العلم ، وله وحده الحكم ، ¶ وكيفلا وهو وحده الذي يتفرد بصفات الجلال والكمال ، ولهذا قال موضحا ومبينا للإجمال (عالم الغيب والشهادة) ¶ فإذا كان هو عالم الغيب ، وهو عالم الشهادة ، فمن ذا يستطيع في مقامه ، أن يعترض على أحكامه ¶ أو يشفع أمامه ، كلا كلا هذا محال ، فمن ذا الذي أعلم وأرحم ، من الله ذي الجلال ، ولهذا ختم الآية بقوله (وهو الحكيم الخبير) الأنعام 73 ¶ ربي هو وحده الحكيم الذي يقول الحق ، وهو الخبير بأعمال الخلق وبالظاهر والخفي بلا فرق ، فله الحكم وحده ، وقوله الحق ، ¶ وهكذا كما بدأنا نعود في الخلق ، بدأنا بالحق ونعود الآن إلى اليوم الحق ¶ وحكمه فيه هو الحق ، فأين الشفعاء أيها الغافل عن الآيات ، وهل هناك غير الله يحكم في الدارين ، ¶ وهل هناك أرباب سواه ، تشترك في حكمه كلا فهو الله الحاكم الحق (ولا يشرك في حكمه أحدا) ¶ وعلى هذا الأساس وبهذا اليقين ، كان موقف إبراهيم عليه السلام ¶ أمام أبيه وقومه الغافلين ، فإذا به يعلن بعد التأمل والتفكير ، فيما يراه وبعد التفحص في الأرباب الآفلة ، يعلن ¶ (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) الأنعام 79 ¶ ولولا خوف الإطالة ، لسردنا آيات تأمل إبراهيم ، لكنها في الحقيقة تتجه في نفس الاتجاه العام للسورة ، بل وللقرآن ، وهي نفي الشفعاء والوسطاء ، بين العبد وربه الرحمن ، ¶ وتؤكد أن الاتجاه إلى الله بلا واسطة هو الأمان ، وهو الهدى الذي يرفع الإنسان ، إلى حباب الرحمن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام82 ¶ (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) 83 ¶ لن أحاول أن أستقرأ الآيات بالتفصيل ، فذلك قد يتهمني بأني أطيل ولكني أقفز بكم عشر آيات من الآيتين 82/83 التي اتهنا هنا عندها إلى الآيتين 93/94 وما تلاها ¶ ها هم الظالمون المشركون بالله رب العالمين ، في مشهد مهين ،، فماذا يحدث ، لتشاهدوا هذا الموقف ¶ (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملآئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الأنعام 93 ¶ إن هؤلاء الآن قد ماتوا وانقلبوا إلى ربهم ، وهم على غفلتهم وافترائهم فيا سوء المتقلب ، ويا خيبة الأرب. ¶ ها هو الواقع أمامهم في يوم اللقاء ، وها هم الملائكة وكل الملأ الأعلى بل هو الله ذو العلا ، يقول لهؤلاء قولا يدفع كل ادعاء ،ويدفع كل افتراء ¶ (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الأنعام 94 ¶ لقد عاد الجميع إلى ربهم الحق ، وعرفوا إنه هو المدبر للخلق ، وأن كل سبب سواه ، وكل شفيع مدعي ، لا يغني عن الله شيئا ، ¶ وأن الله هو رب الأولى والأخرى ، وله الملك في الأولى والأخرى ، وهو علام الغيوب لا يعزب عنه شيء ، ولا يغيب ، ¶ وكل ما يتمتع به الإنسان من مال ومتاع هو مسخر من الله ، وبأمره وهو المطاع. ¶ إن كل ما خوله الله لهؤلاء المشركين ، من مال ومتاع ، قد تركوه ورائهم ، وورثه سواهم ، بأمر الله ¶ وكل ما ظنوه يشفع ويقرب إلى الله قد غاب ، وكل ما توهموه مشاركا لله في التدبير ، ليس إلا وهما وثنيا ¶ فالشفعاء الذي جعلهم المشركون شركاء لرب العالمين ، هؤلاء الشفعاء الموهومون ، أصبحوا غائبين بلا أثر ¶ بل غير موجودين ، أصلا فما هي إلا ظنون ، وأوهام خبلاء ، فليتجه إليه الإنسان ، وإليه يرغب فأقرأ معي الآيات (من 95 إلى الآية 103) تجدوا أن الموضوع خطير ¶ وأن الشفاعة عند الله عمل نكير ، إنها تبدأ بقوله ¶ (إن الله فالق الحب والنوى) ثم يوضح هذا فيقول (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون) ¶ وكما أنه يغلق الحب الصغير في التراب ، فهو يغلق الشيء الواضح في الآفاق ، فهو (فالق الإصباح) ¶ وهكذا تتوالى الآيات ، من الأعلى إلى الأسفل ، ومن السماء إلى الثرى ومن الكبرى إلى الصغرى ، حتى يقول ¶ (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون) 100 ¶ وهؤلاء هم الشفعاء المدعاة ، في الأولى والآخرة ، فليكن الإنسان على علم ، بأن الله هو الذي إليه يرغب ، وأنه هو الذي ينشئ الإنسان وينضح الحب ، ¶ لكن الله يرد عليهم ، ويصوب وهمهم ، فيقول ¶ (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) 101 ¶ لاحظوا (بكل شيء عليم) إذا فماذا ينفع الشفيع في خلق الله ، وهو العليم بكل شيء ، ثم يؤكد هذا أكثر فيقول ¶ (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) 102 ¶ إذا فهو المعبود والمقصود ، وهو العليم بكل حي وموجود ، وهو الوكيل وإليه الرجوع ، وإليه المصير ¶ (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) 103 ¶ لعلي أكتب هذا الكلام ، لمن يقرأ ويفهم القرآن ، ولهذا فلن أضطر إلى شرح الآيات ، لأن فصاحة القرآن ، تفصح عن المراد ، وبلاغته تبلغ الأفهام ، ¶ وإذا فلا لا بد لي أن أودع سورة الأنعام ، المباركة لأنتقل إلى سورة الأعراف ، لنعرف ما فيها من الآيات ، التي تحتوي على كلمة الشفاعة ، وما يشتق منها ، ¶ لكني لن أغادر الأنعام ، حتى أعرج على آية فيها قبل الختام ، يقول الله فيها لرسوله محمد ، ويلقنه هذا الكلام ¶ (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) الأنعام 164 ¶ هذا كلام يلجم كل الأوهام ، فالنبي يعلن أمام العالم ، ويقول بأمر ربه العلام ، أن ربه هو الله ، وهو الذي لا يبغى سواه ، لأنه رب كل شيء فكيف يطلب سواه ربا ، ¶ إنه لو ابتغى غيره غوي ،، ثم إنه يعلن ذلك باطمئنان ، لأنه يعلم أن ربه يعلم كل ظاهر وخفي ¶ فلا يضيع أجر من عمل وأخلص ، ولا يفوته عقاب من خان وتملص ¶ (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) ثم أنه لا يمكن أن يختلط إلى وعلى ربه الذي هو رب كل شيء ، ¶ ولا يتصور أن ينال أحد عنده ، من أجر أحد أو يحمل عند أحد ، وزر أحد (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ¶ فالله يحصي كل شيء عددا ، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ، وعنده كتاب ينطق بالحق (ثم إلى ربكم مرجعكم) ¶ إنه حصر وقصر ، أن رجوع الناس كلهم إلى ربهم وحده ، هكذا يعلن الرسول ، فكيف يدعي بعد ذلك أنه سيشفع أو ينفع ، ¶ إنها دعوى ألصقت به ، وهو منها بريء ، فهو لا يتدخل في حكم ربه ، ولا يشترك معه في حكمه ، بل هو رسول ، ¶ وهو مع الناس منتظر لحكم ربه الجليل ، وسيسأل مع كل عبد ، ومع كل مسئول ، يوم يسأل الذين أرسل إليهم ، ويسأل المرسلون ، ¶ ولهذا فإن الآية تختم بقول (ثم إلى ربكم مرجعكم) لماذا الرجوع يكون إلى ربنا لا سواه ، لأنه العليم بما أبداه العبد وأخفاه ، ولهذا فهو قال ¶ (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) فالله ربنا هو الذي ينبئ ويخبر كل عبد وكل نبي ، بأعمال العباد ، والظاهر والخفي ، وهو له الحكم ، وهو الذي له الملك ، ¶ وسيلقى كل عبد جزائه المحتوم ، فلا مظلوم ولا مهضوم (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) وكما أنه سريع العقاب ، فهو سريع الحساب ، وهو بكل شيء عليم. ¶ وهكذا ينتهي غرضنا من سورة الأنعام. ¶ فهيا معا إلى الأعراف ، لنعرف ماذا تعنيه الشفاعة في آياتها ، لن نجد الكلمة إلا في آية واحده ... فلنقرأ ¶ (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون) الأعراف 52 ¶ إن الكتاب هو القرآن ، وفيه تفصل كل شيء ، وكيفلا وهو مفصل علما من الله العليم ، وهذا العلم مهمته أن يهدي الناس ، إلى الطريق الحق والصراط المستقيم ، ¶ وبذلك ينالون الرحمة من الرحيم ، وهذا فضل لا يناله إلا القوم الذين يؤمنون ، فليبادروا إليه ، وليفرحوا بفضل الله ورحمته ، ¶ فهو خير من كل ما يجمعه الإنسان لشهوته ، فما ينتظر الإنسان بعد هذا العطاء العظيم ، وهذا العلم السليم ، والهدى إلى صراط مستقيم ، ¶ ماذا ينتظر بعد كتاب الله ، الذي يهدي إلى الحق وينذرنا باليوم الحق ، ويدعونا إلى الله الحق ، ماذا ينتظر الخلق ¶ سؤال هام ، ولكن الجواب عليه يأتي من العلام ، في الآية التالية ¶ (هل ينظرون إلا تأويله) 53 لا ينظر الناس إلا تحقق ما وعد به الكتاب ¶ من الثواب والعقاب ، ومن الوقوف للحساب ، ومن افتراق الناس ¶ إلى أشقياء وسعداء ، وذلك يوم كلنا إليه على اقتراب ، فلنستمع ¶ (يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) 53 ¶ هذه الكلمة التي وردت في الآية ، إنما هي تعبير عن الحسرة ، إنه سؤال عن الشفعاء ، واستفهام هل يمكن أن يشفعوا ، ¶ لكن الجواب هو الصمت والعدم ، هو الخسرة والندم ، هو الفراغ الأصم الأبكم ، فأين الشفعاء ، الذين ظنوهم في الأرض لله شركاء ، ¶ لا أحد هنا يجيب ، بل لا يرى ، وهنا يلتفت الغافلون ، الناسون للكتاب المبين ، فلا يجدون شيئا ، ولا أحدا من الشفعاء الموهومين ، ¶ ولما لا يلوح لهم أمل في الموقف المهين ، يلجئون إلى الأمنيات المستحيلة ، التي لا تتحقق أبدا هذه الأمنيات هي قولهم (أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) ¶ إن هذه الأمنية التي تطلب الرجوع إلى الدنيا ، للعمل تؤكد لنا ، أن الفلاح في يوم الدين ، لا يتم إلا بالعمل في الدنيا ، وأن الفوز والنجاة ¶ لا تمهد إلا بالتقوى في الدنيا ، فلا ينفع شفيع يوم الحساب ، بل لا يظهر له أثر ولا جواب ، وكيف يستطيع أحد مهما نال من المكانة أن يشارك الله في حكمه ، ¶ لقد أعطى الله العباد الفرصة في الدنيا وعمرهم عمرا يتذكرون فيه ويقدمون لأنفسهم ، ولقد جائهم بكتاب فصله على علم هدى ورحمة لهم ، ليؤمنوا بأنهم ملاقوا ربهم ¶ فلماذا نسوه واتبعوا أمانيهم ، إنها الأماني التي خدعوا بها أنفسهم في الدنيا بالشفاعة والشافع ، وها هم لا يجدون أحدا نافع أو دافع ¶ ولهذا فإنهم يلجئون إلى الأماني من جديد ، ويتمنون أن كل واحد منهم إلى الدنيا مردود ، ليعمل عملا ينفعه في هذا الموقف المشهود ¶ لكن الأماني تتبخر وتذهب سدا ، وتصبح كل افتراءاتهم هباء منبثا وأفئدتهم وهواء ، ولهذا فإن الله يختم الآية بإعلان ، يقطع الأمل ¶ ويسكت من ضل ، ويخرس من تقول (قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) ¶ وهكذا يكون ختام الآية 53 من الأعراف بإعلان واضح بالخسران ، وإخبار لكل افتراء بالضلال ، ¶ فلا يظن الناس أن الافتراء على الله ، يجدي بل يردي ، ولا يظنوا أن الأماني تنجي بل تخسي ، ¶ ولا يستمروا في الأوهام والترهات ، بل عليهم الانتباه إلى العمل قبل الفوات ، وإلى اغتنام الفرصة قبل الممات ، ¶ فمن مات فقد وصل إلى ما وعد به الله من العاد ، فإما أن يشقى ، أو ينال الإسعاد فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ¶ فالكل عائد إلى ربه ، وسيرى ما يسيء أو يسر ، فماذا تريد أيها الإنسان من الحالين ، إن أردت إلا السيئات ، فابقى عليها ، فإنك إلى ربك آت ، وإن ابتغيت المسرات ¶ فإن ربك عالم بكل الخفيات ، فاعمل لتجد عنده الحسنات مضاعفات لأنه الرب الذي خلق كل شيء ، ولا يخفى عليه شيء ولا حي ¶ وهو المدبر والمسير ، لكل عالم علوي وسفلي ، وكل عاقل وغافل ¶ وكل نجم وصخر ، وكل كوكب وحجر ، وكل ملك وجن وبشر ¶ وهو بهم أعلم وأخبر ، وإليه المرجع لكل من تقدم أو تأخر ، وكل إنسان يعرف ما قدم وما أخر ، وقد فاز من قال ربي الله ،واستقام واستمر ¶ فلنكن إليه متجهين ، وعليه متوكلين ومعتمدين ، ولا نجعل من الشفعاء له شركاء ، فإن فعلنا كنا مشركين ، ¶ ولنستمع إلى قوله المبين (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) ¶ ما هو الاستواء ، إن البيان هو قوله (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) ¶ هكذا إذا هو المدبر والمسخر والمسير لكل ضوء وظلام ، وكل حركة وسكون ، وكل جسم أينما يكون ¶ (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) الأعراف 54 ¶ إنها كلمات موجزة معجزة ، تؤكد أن الله رب كل شيء ، ولقد أحاط الله بكل شيء علما وتدبيرا وله وسع ، ولا يشترك مع أحد ولا يشفع ¶ فهو الذي خلق ويخلق ، وهو الذي له الأمر وأمره الحق ، وهو في خلقه وأمره لا يعجز ولا يسبق ، وهو المبارك المعطاء ، والمبارك المنعم (تبارك الله رب العالمين) ¶ إنه رب كل ما تحرك وسكن ، وبدى واختفى وسفل وعلا ، وكل سابق ولاحق ، وماض وآت وحاضر ، ¶ وهو القريب لكل صامت وناطق ، ولكل ما هو خالق ، فليدعه المخلوق ليجد الجواب وينصلح عمله ، ليجد الرحمة مفتوحة الأبواب ، قريبة للمحسنين ولأولى الألباب ¶ (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ?55? ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين ?56?) الأعراف 55/56 ¶ ولكي يؤكد لنا أن تدبيره يشمل السماء والأرض ، والنجوم والإنسان يواصل الآيات التي تدل على قربه وتدبيره ، لكل شأن وكل ما يهم الإنسان والحيوان ، ¶ فيقول (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) الأعراف 57 ¶ تأمل معي الآية... الإرسال منه ، وهو المرسل ، سوق السحاب عليه ، إنزال الماء هو الذي يتولاه ، إخراج الثمرات هو الذي يقدره ¶ ويفلق الحب والنوى ، ويكسو الثمرات باللون والطعم واليناع والشذى ثم هو كما يفعل هذا أمامنا ، كل يوم وحين ، هو الذي يخرج الموتى يوم الدين ، ¶ فمالنا لا نكون من المتذكرين ، إن المتذكرين هم الطيبون في الدنيا ، أما الغافلون فهم كالصخور ، التي لا تثمر ، ولقد ضرب الله للفريقين المثل ، ¶ فقال (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) ¶ وهؤلاء هم المتذكرون ، أولوا الألباب ثم ماذا (والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) وهؤلاء هم الغافلون الأغبياء ¶ (كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون) الأعراف 58 ¶ فلنكن من الشاكرين لا المشركين ، ومن المتذكرين لا المنكرين ¶ ومن الطيبين لا الخبيثين ، ومن المنبئين لا المنبئين ، ومن المثمرين في كل حين رغدا ، لا من الذين لا يخرجون إلا نكدا. ¶ وبعد فلنغادر سورة الأعراف ، إلى سورة أخرى ، لنبحث عن الشفاعة لا تلوموني على التطويل ، ¶ فقد أردت أن أوضح للغاوي ماذا تعني كلمة الشفاعة ومشتقاتها في القرآن ، وأن أبينها بالتفصيل ، وأستقصي مواقعها مع التحليل ، ¶ وعليه فأنا أنقلكم الآن نقلة واسعة ، إلى النصف الثاني من القرآن ، فلن نجد الكلمة مرة أخرى إلا هناك ، بل لن نلقى الكلمة إلا عند الحديث عن يوم الحشر ، فإلى هناك ¶ يقول الله تعالى (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ?85? ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ?86? لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم 85-87 ¶ هاهم المتقون يحشرون إلى الرحمن وفدا ، فهل من ينال مثل هذا التكريم ويحشر إلى هذا المقام ، يحتاج إلى شفيع ، أو وسيط لدى ربه العلام ¶ كلا فهم إلى الرحمن ، قد حشروا ، وهم في رعايته وولايته ، قد حضروا فهو وليهم ، وهم في جناته التي أعدت للمتقين (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) مريم 63 ¶ فلا يحتاج المؤمن التقي ، إلى شفيع به يتوصل ، وبشفاعته يرتقي إلى الرحمن ، فلا شريك للرحمن في حكمه ، ولا وسيط لديه في ملكه ¶ (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16 ¶ والملك هنا المراد به العلم ، فهو الذي يعلم حال كل عبد ، ولا يخفى عليه من عمله شيء ، وهو يجزي كلا بما عمل وكسب (لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 ¶ وعلى ضوء هذا الملك والعلم ، ننتقل إلى الفريق الثاني المقابل للمتقين وهم المجرمون ، ¶ فانظروا كيف حالهم ، فالله يقول (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) مريم 86 ¶ إنهم يساقون كالأنعام ، فأنهم كانوا أضل منها وفي ظلام ، وهم يردون جهنم كالأغنام ، ¶ لأنهم كانوا يردون الشهوات باهتمام ، ويرتئون عن الهدى على الدوام ، فليس لهم سبيل ولا وسيلة للنجاة من جهنم ، ¶ وليس لهم سبب ولا حيلة لصرف العذاب عنهم ، ولهذا قال الله عقب ذلك (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) مريم 87 ¶ فماذا يعني هذا؟.. إنه التأكيد على يأسهم من النجاح ، وفقرهم من أي سبب للفلاح ، ¶ وكيفلا وهم نقضوا العهود مع الرحمن ، واتبعوا الشيطان إذا فلا يجد له أحد سببا للنجاح ، ولا يفوز أحد بالفلاح ، إلا من اتخذ لنفسه في الدنيا عهدا عند الرحمن ، ¶ وهو الوفاء بما عاهد عليه الله من الإيمان ، والعمل بما آمن بصدق وإحسان. ¶ هذا الفريق هو الذي كان عنده علم بأسباب النجاة في الدنيا ، فعمل بها ثم جاء بها مشفوعا إلى ربه ، أي أن الوفاء بالعهد للرحمن رفيقه في دربه ، ¶ أما المجرمون لا يملكون الشفاعة ، وهي الأسباب ولا يعلمونها فهم في عمى واضطراب ، وهم في ضلال وتباب ، ذلك أنهم لم يكونوا يعيرون أسباب النجاة ، في حياتهم الدنيا أي اهتمام ، ¶ بل كانوا يصرفونها ويولون عنهم مدبرين نفارا ، ويستهزئون بها استكبارا ، ¶ فمن أين لهم اليوم أن يملكوا الشفاعة والأسباب في الأخرى ، وقد أهملوها وقطعوها في الدنيا ، ولم يحفظوا لله هدى ، ولم يتخذوا عنده عهدا ، ¶ فهم اليوم في درك الإهمال والنسيان عمدا ، وهم يساقون إلى جهنم وردا ¶ وما يغني عن أحد مال ، ولا وهم الشفيع ، وذلك جزاء من تعدى وادعى على الرحمن ما لم يأت به سلطان ، وافترى على ربه الكذب والبهتان (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) مريم 88 ¶ وهذا هو الشفيع المدعى ، وهذا هو الوسيط المفترى (لقد جئتم شيئا إدا) مريم 89 ¶ هكذا هو وصف ما ادعوه وافتروه ، أما أثره فهو قوله تعالى بعد ذلك ¶ (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ?90? أن دعوا للرحمن ولدا ?91?) مريم 90/91 ¶ أرأيتم ما هو الأثر ، إن معنى الشفيع والوسيط لدى الرحمن انفراط نظام الخلق ، وفساد الإتقان ، ¶ فإن تصدع السماء وانشقاق الأرض وانهدام الجبال ، إنما هو كناية عن أن الدعوى ، والقول بأن الله اتخذ ولدا يلزم منها ، ¶ أن الله عجز عن مسك السموات والأرض عن الزوال وغفل عن تدبير النظام والكمال ، فأصبح الانفلات والانهدام هو المآل وهذا صحيح ، ¶ فلو ركن الله إلى شفيع في العلم ، أو اعتمد على ولي للملك ، أو كان له شريك في الحكم ، لكانت الفوضى هي المصير المحتم ¶ أما الحق الثابت الذي يجب أن يعلم ، فهو أن الله خالق كل شيء ، وهوالواحد القهار ، ولا يشركه في حكمه أحد ، ولهذا أضاف ¶ (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ?92? إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?93? إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ?94? وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ?95?) مريم 92-95 ¶ إن هناك حقيقة غفل عنها من دعى الشفاعة ، هي أن كل واحد سيأتي الله فردا ، ¶ وإذا كان العبد سيأتي ربه يوم القيامة فردا ، فمن أين له شافع وأنى له نافع ، إنه في المحال طامع ، فليس أمامه من شفيع للنجاة ولا نافع للنجاح ، إلا العمل المنطلق من إيمان بالله ، وصلاح ¶ هذا هو وحده طريق الفوز والفلاح ، وسواه وهم وضلال قراح ، كما أن افتراء شفعاء مع الله كفر وشرك بواح ، فاعملوا صالحا تجدوا الفلاح ¶ (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) مريم 96 ¶ إنه وعد مؤكد ، فلتكن بينك وبينه موده وأنس ، خير لك من الاستيحاش والتزلف بشياطين الجن والإنس. ¶ ولتوف بعهدك مع الله ، تجد لديه يوم القيامة النجاه ، ولتتخذ إليه سبيلا ليكن لقائك مسرورا جذولا ، ¶ ولتكفر بالشركاء والشفعاء ، لتنال لديه الدرجات (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) طه 76 ¶ وما دمنا قد استشهدنا بهذه الآية من سورة طه ، فلنواصل السير على نور الآية ، للبحث عن كلمة الشفاعة في السورة ، سنجدها كذلك في الحديث عن الآخرة. ¶ فإلى هناك ، لنرى ماذا تعني هذه الكلمة في اليوم ذاك ، يقول الله ¶ (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) طه 108 ¶ فالجو معين ، والجموع في خشوع رهيب ، والرحمن هو المتولي للأمر والحكم لا سواه ، والكل ينتظر ما حكم به الرحمن وقضاه ، ¶ وكيفلا وهو يقضي بالحق ، وهو العليم بأعلم الخلق ، فمن عمل صالحا فاز ، ومن أفسد أخفق (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) طه 109 ¶ كيف تفسرون هذه الآية ، تظنون أن الإذن يصدر من الله لأحد من خلقة المقربين ليشفع في المذنبين ، أو ان الإذن يصدر لغير صاحب العمل من الحاضرين .. ¶ كلا بل المراد أن كل الأسباب هناك لا تنفع ولا تجدي وأن من توهم سببا من أسباب الدنيا المالية والأخوية أو العشائرية تنفع فقد ظل وغوى. ¶ لا ينفع هناك إلا سبب واحد ، وشافع واحد ، هو العمل الذي رضيه الله وارتضاه لصاحبة في الدنيا ، لأنه عمل بما أمر الله ، فرضى الله عنه وأرضاه ، ¶ ولأنه عمل بإيمان وصلاح وإحسان ، وقال ربي الله ثم استقام فرضى الله له هذا القول الصادق في الدنيا ، وهيأ له أسباب الفوز في الأخرى ، ¶ وأتاح له أن يكون عمله مشفوعا به يراه فيرضى ، وأنه للحق الذي نعلمه من القرآن ¶ (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ?39? وأن سعيه سوف يرى) النجم 39/40 ¶ ولماذا نذهب بعيدا فلنواصل السير مع آيات سورة طه ، بعد أن قرر الله أن الشفاعة لا تنفع ولا تهدي أحدا ، ¶ لكن من أذن له الرحمن في الهدى ورضى له قوله في الدنيا ، فإنه الفائز في الأخرى ، بعد هذا يؤكد هذا القرار ، ويوضح أسباب الفوز للأبرار ، ¶ فيقول (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) طه 110 ¶ إن الآية جواب عن سؤال ، هو كيف يا رب لا يفوز إلا من أذنت له وإلا من رضيت له قولا ، ¶ وأنى يتميز هذا في المقام المستنير ، فجاء الجواب بأن علم الله محيط بكل خفي وظاهر ، ¶ وبكل متقدم ومتأخر فكل الخلق عنده بارز وظاهر (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ¶ هذا هو شأن الله ، أما شأنهم فهم لا يحيطون به علما ولا يستطيعون وكيف وهو رب العالمين ، وكلهم إليه مضطرون مسائلون ، ¶ وهو المجيب المعطي ما يسألون ، لا يشغله أحد عن أحد ، ولا شأن عن شأن ولا ماذا كان عما يكون ، ¶ فكل العالمين يديه ، وهو الذي له الحكم فيما يعملون ، والذي يفهم بما لا يعلمون ، وبما نسوه من عمل مهما يكون وعليه فهل يمكن أن يشاركه في علمه أحد ، ¶ وهل يمكن أن يشاركه في حكمه أحد ، كلا بل ولا يعزب عزا به أحد ، فالناس أمام ربهم في خشوع ، وقوله لا يرد (وعنت الوجوه للحي القيوم) طه 111 ¶ فلا نبي ولا ملك ولا شهيد ، ولا صديق ولا بار ، ليتطاول في موقف الواحد القهار ، ولا يعلم أحد سواه ما عمله الأبرار ، وما اقترفه الأشرار ¶ وهو الذي أعلم بما فعلوه وعليه القرار ، فالكل لا يعلمون حتى ولا كانوا مقربين ، أما الظالمون فهم كما يقول الله في ختام الآية ¶ (وقد خاب من حمل ظلما) طه 111 ¶ كل من حمل وجاء به فقد خاب في الفلاح ، ودحر إلى جهنم ليكن هناك فريق آخر يتولى الله أمره بعدل وكرم (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) طه 112 ¶ هكذا هو شأنه ، إذا فما فائدة الشفيع والشفاعة لدى الله العليم بكل شأن والذي لا يظلم أحدا ¶ (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) ¶ فمن هو من الله أعظم ، ومن هو أكرم ، ومن هو أعلم ، ومن هو أحكم في هذا المقام الأعظم ، لا أحد كلهم لا يعلم ، ¶ فكيف يمكن أن يشفع أو باعتراض يتقدم ،نعم كيف يتقدم ، من ليس بأعمال العباد يعلم ¶ بل ليس له اطلاع حتى على اعمال ، من عاصره من النساء والرجال فكيف يعلم أعمال من جاء بعده من الناس عبر آلاف الأعوام والقرون والأجيال ، ¶ كل المرسلين لا يستطيعون ذلك ، ولا يعلمون بل يعترفون ، أما ربهم ذي الجلال ، بعدم العلم على الإطلاق ¶ (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109 ¶ فهل يستطيع أحد منهم بعد هذا أن يشفع أو ينفع ، وهو عار من العلم بأعمال من بلغهم وعاصرهم ، ¶ فكيف يمكن أن يعلم بأعمال من لم يعاصرهم ولم يرهم ، إن هذا هو الحال ، الذي يؤكد أن الحكم والعلم في ذلك اليوم إنما هو لذي الجلال. ¶ إنما المرسلون على اختلاف مراتبهم وعصورهم ومقاماتهم منذرون للناس بذلك اليوم الذي به يوعدون به، ¶ من ربهم رفيع الدرجات ذو العرش (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) غافر15 ¶ هذه هي مهمة الرسل ، إنها إنذار العباد ، بيوم اللقاء بربهم ¶ (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16 ¶ فهو الذي بيده الملك لا سواه ، وله العلم وحده ، وكيفلا وهو الواحد القهار ، بل (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) الحشر 23 ¶ وهو قبل ذلك (عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم) الحشر 22 ¶ فمن ذا الذي يتطاول إلى هذا المقام السامي ، ومن يجاري في العلم والحكم ، ربه الله الخالق ، كلا بل هو وحده أعلم ¶ (وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير) الأنعام 73 ¶ وإذا كان الأمر كذلك ، فهو الذي تعرض عليه الأعمال ، وهو الذي ينبئ العبد بكل عمل وقال ، ثم يقضي بالحق له أو عليه بلا جدال ¶ ولهذا فهو يقول (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر 17 ¶ وما دمنا من سورة غافر قد أوردنا هذه الآيات ، فلنواصل الترتيل والتدبير ، عسى أن نجد فيها كلمة شفيع ، فلننظر ما تفيد ¶ إن الآية السابقة متلوة بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد ¶ (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) غافر 18 ¶ إن ذكر الشفيع والحميم هنا لا يعني وجوده ، بل يعني نفي وجوده ¶ فإذا انتفى الوجود للشفيع ، فبالأولى أن ينفى كونه يطاع ، بل وعلى فرض أن الشفيع والحميم موجود ، فإن من المحال أن يطاع أو يسمع لماذا؟ ¶ إن الجواب يأتي في الآية التالية ليسد الطريق أمام الأوهام ¶ فلنقرأ باهتمام ، قول العلام (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) غافر 19 ¶ أسمعتم انه هوحده العليم بخائنة الأعين ، وهو وحده المطلع على ما تخفي الصدور ، فمن ذا الذي يشفع عنده في هذا المقام الخطير ¶ ومن ذا الذي يشاركه في الحكم ، وهو الحكيم الخبير ، فمن ركن إلى سواه ، أو اعتمد على غيره ، فقد جعل شريكا لربه الكبير ¶ الذي يقول عن نفسه (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) ¶ لماذا لا يقضون ، ولماذا لا يستطيعون ، لأنهم لا يعلمون ولا يطلعون على أعمال الآخرين ، كما يعلمها الله رب العالمين ، ¶ ولهذا يختم الآية بقوله (إن الله هو السميع البصير) غافر 20 ¶ فهل بعد هذا تدعي لنفسك شفيعا حميما ، وتنسى ربك العليما ¶ هل تعلم له سميا ، فيكف تجعل لك من دونه وليا ، وكيف تشرك في حكمه عبدا ، وهو الولي الحاكم أبدا ¶ (ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا) ¶ وبعد لعلنا قد استقصينا كل الآيات التي وردت فيها كلمة شفاعة ¶ أو مشتقاتها ولقد أردنا من استقصائها ، قصم الأوهام المتعلقة بها ¶ فلنكن على علم أن الشفاعة لله كلها ، وإذا لم نصدق ونوقن بكلامه المفهوم ، فلنعزز ذلك بآيات من سورة الروم ، فلعلها لم ترد في هذا البحث المرقوم ، يقول الله الحي القيوم ¶ (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) الروم 11 ¶ إليه وحده الرجوع ، لأن تقديم الجار والمجرور ، يفيد أن الرجوع ¶ إليه مقصور ، ثم ماذا؟.. ثم لننظر كيف يكون الحال ، لمن يعلق بالشفعاء الآمال ¶ (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) الروم 12 ¶ لماذا يبلسون ، لأنهم نسوا الله واعتمدوا على المفترين ، وجعلوهم لله مشاركين ، ولكنهم اليوم غير موجودين (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) الروم 13 ¶ نعم إن الشركاء الموهومين ، من المحال أن يوجدوا يوم الدين ¶ فهو اليوم الحق ، فكيف يكونون شافعين ، ثم إن وجدوا وأحضروا فأنهم يعلنون أمام الله ، أنهم متبرئون ممن جعلهم شركاء لله ، ¶ بل يقولون (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) القصص 63 ¶ وهنا ماذا يكون مصير الواهمين ، إنه الندم ثم العذاب ¶ (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون) القصص 64 ¶ قد يقول قائل أن هذا من أشرك بالله ، وعبد الطغاة والأحجار ¶ أو الشمس والنجوم والأقمار ، نقول لكن من اعتمد على نبي ¶ أنه يشارك الله في ، حكمه ويشفع في خلقه ، ويرد على الله علمه ¶ فقد جعل لله شريكا وعليه اعتمد ، ونسى الله الواحد الأحد ، وهو الذي لا يرسل الرسل إلا مبشرين ومنذرين ، وتلك مهمتهم للناس أجمعين ¶ و أمر الناس لربهم رب العالمين ، وها هو يقول لرسوله محمد خاتم النبيين (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد 40 ¶ أتفهمون أساليب الحصر والقصر ، هنا جاء بأسلوبين ... ¶ التقديم للجار والمجرور ، وهو (عليك - وعلينا) وقبلها جاء بكلمة إنما التي تفيد الحصر المؤكد ¶ ويقول (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود 12 ¶ ويقول (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) يونس 46 ¶ ويقول (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) هود 123 ¶ وإذا كان إليه وحده ، يرجع الأمر كله ، فهل يمكن أن يدعي محمد ¶ النبي الأمين ، أنه شريك لربه في حكمه في يوم الدين ، كلا بل شأنه ¶ هو كما حدده الله (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) يونس 109 ¶ ويقول (يسألونك عن الساعة أيان مرساها ?42? فيم أنت من ذكراها ?43? إلى ربك منتهاها ?44? إنما أنت منذر من يخشاها) النازعات42-45 ¶ ويقول (وما أدراك ما يوم الدين ?17? ثم ما أدراك ما يوم الدين ?18? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ?19?) الإنفطار 17-19 ¶ هناك قاعدة نقولها ، وننسى تطبيقها ، وهي ¶ "النكرة في سياق النفي تفيد العموم" ¶ وها هي كلمة نفس في الآية وردت نكرة مسبوقة بالنفي ، ومعنى هذا ¶ أن كل نفس من البشر كلهم ، والأنبياء معهم ، لا يملك أحدهم لأحد شيئا بل الأمر كله لله وحده ، ¶ فهل بعد هذا يدعي محمد الإشتراك مع الله الأحد كلا كلا إنه أعقل وأجل ، من أن يجهل كلام ربه ، وهو الذي تلا القرآن ورتل ، وبلغه وأكمل ، ¶ فلا يمكن أن يدعي لنفسه ما ليس إليه يوكل لقد سماه الله هكذا (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ?45? وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ?46?) الأحزاب 45/46 ¶ وسماه رسول الله وخاتم النبيين وقال له (إنك لمن المرسلين ?3? على صراط مستقيم ?4? تنزيل العزيز الرحيم ?5? لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ?6?) يس 3-6 ¶ (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) البقرة 252 ¶ نعم إن محمدا من المرسلين كما وصفه الله ، وإنه خاتم النبيين كما سماه الله ، وإنه نذير وبشير. كما أن كل المرسلين مبشرين ومنذرين ¶ فهو مكمل لمهمتهم ، وهو ماضي على طريقتهم ، ومنظم لأمتهم ومؤتم لملتهم ، ومقتد بهم ، بطريقتهم في الصبر والعزم والتوكل ¶ والحزم والثبات على الحق ، والإلتزام بالصدق ، إذا فهو منهم وليس سيدهم كما نصفه ، وهو مثلهم وليس أشرفهم كما نسميه ¶ وهو عبد الله ورسوله الأمين ، وليس شريكه في حكمه وعلمه ¶ بل أن محمدا نفسه ، لا يرضى لنفسه هذا الإدعاء ، ¶ وحاشا أن يجعل نفسه شفيعا عند ربه ، الذي إليه دعى ، وبعلمه هدى ، ¶ وله خشع ولبى وعليه توكل وله ترجى ، واستقام له عابدا ومحتاجا مستجيرا ¶ وبه مستعينا مستنصرا ، وعليه متوكلا وإليه فقيرا. ¶ إني لا استهين بالنبي ، ولا أحط من مقامه العلي ، ولا أتجرأ على دوره الوضاء ، ¶ ولكني أصفه كما وصفه ربه ، وأسميه بما سماه ، وأحدد مهمته كما حددها ربه الذي اصطفاه ، ¶ وهكذا يجب أن يكون موقعنا وفهمنا ، فلا نزيد له ما ليس له ، ولماذا نمنحه من الصفات والأسماء ما لم يأذن به الله. ¶ إننا إذا أفرطنا ، واستمر إفراطنا في هذا الإدعاء ، فقد نسقط فيما سقط فيه النصارى ، إذ جعلوا المسيح شريك الله ، وسموه إبن الله ، ¶ بل قالوا أن الله هو عيسى بن مريم ، وبهذا جعلوه يعلم ما ليس به الله يعلم وليشارك ربه فيما يقضي ويحكم ، ¶ فكانوا مشركين وكانوا كافرين برب العالمين ، ولقد توعدهم المسيح بن مريم بالعذاب المهين وأكد لهم أنه عبد لرب العالمين ¶ (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) المائدة 72 ¶ (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) المائدة 73 ¶ بل أن الله يوضح لنا ولهم ، أن المسيح بشر لا ينفع ولا يشفع ، ومحتاج إلى ربه وإليه متضرع ، وحدد مهمته وبين حقيقته ، فقال ¶ (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) ¶ نعم إذا كانت الرسل قد خلت من قبله ، فهو قد خلا معهم ومات ¶ وهذا شأن البشر ، ثم أن الله يوضح أنه مولود من أم مؤمنه ، وليس مولودا لله كما يزعمون ، ¶ ولتأكيد عجزهما وتجردهما من صفات الألوهيه ، قال مضيفا عن المسيح وأمه (كانا يأكلان الطعام) ¶ إن من يأكل الطعام ، محتاج مضطر ، وفاني مثل غيره من البشر فكيف يعبد البشر ، بأولى البشر ¶ (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) المائدة 75 ¶ إذا فهو الإفك والبهتان ، والكفر بالرحمن ، ولقد تجرد عن القلب السليم من عبد غير الله العليم ¶ (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) المائدة 76 ¶ إن السميع العليم هو الذي ، يعبد ويدعى ويقصد ويرجى ¶ وسواه عاجز لا يملك لغيرة ولا لنفسه شيئا ، فأنى يكون شافعا عند الله وهو لا يعلم من أعمال العباد شيئا ، ¶ وكيف يشارك الله في حكمه عبد مستسلم لحكمه ، بل ومسئول عن مهمته التي كلفه بها ربه ، مدعو إلى الحساب مع قومه ¶ (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) المائدة 109 ¶ وهذه آية تجمع فيها كل الرسل ، ولا تخصص ولا مخصص لها ¶ فكيف تفرد محمدا بالعلم دونهم ، ولماذا نفعل كما فعل النصارى في إفكهم ، ولماذا نكون مثلهم ، وقد سمعنا ما قال الله عنهم. ¶ إن هذا هو الغفول والافتراء ، والسهو عن آيات الله ، بل الاستهزاء بها وكيفلا ، وقد كرر الله قصة المسيح في القرآن ، أكثر من مرة ¶ وأوضح فيها أن ما افتراه النصارى فيه ، إن هو إلا ظلم وشرك مبين ، وأكد لنا أن المسيح كغيره من المرسلين ، يدعو إلى عبادة ربه رب العالمين ¶ بل واستبعد أن يدعي رسول ما يخالف مهمته ، وينقض رسالته ، فقال ¶ (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ?79? ¶ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ?80?) آل عمران 79-80 ¶ بل أن الله سبحانه يؤكد ، والتحذير للمسلمين ، ولكل المؤمنين من اتخاذ النبيين أربابا ، من خلال عرض موقف مهيب في يوم الدين فإذا المسيح يسأل أمام العالمين ¶ (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ¶ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة 116 ¶ إنه التأكيد على أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يقولون إلا الحق الذي قال لهم الله ، ولهذا أضاف قائلا ¶ (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) المائدة 117 ¶ وهكذا فهو بلغ ما أمر به ، ولم يزد عليه شيئا ، وهو لا يعلم من أعمال الناس المبلغين شيئا ، فلقد مات وبقى الله وحده ، ¶ هو الرقيب والشهيد وكيفلا وهو الله وحده على كل شيء شهيد ، وما دام الأمر كذلك ، فإن الله هو الحاكم القاضي ، يوم الدين ¶ ولا شفيع لديه ، ولا شريك في حكمه من الأنبياء والمرسلين ، لأنهم لا يعلمون ، ولم يعلموا شيئا ظاهرا من أعمال العباد المعاصرين ، ¶ فكيف يعلمون الأعمال الخفية الباطنة ، في كل العصور من بعد موته ، إن هذا من المحال ، فيكف ننسب إليهم المحال ، ونسند إليهم مالا يستطيعون من الأعمال ، ¶ إن العلم بالغيب حصر على الله ذي الجلال. ¶ وإني أنبه أن الشفاعة تعتمد على العلم الحق ، ولا يمكن أن تتحقق ، إلا إذا قام بها من يعلم من حال المشفوع له ، أكثر مما يعلم عنه المشفوع عنده ¶ وبعبارة أكثر إيضاحا ،... إن الشفاعة تعني أن أي نبي رسول ، أو نبي حين يشفع لفلان من الناس عند الله ، ¶ فإن هذا يعني أن النبي يعلم عن أعمال هذا المشفوع له ، أكثر وأدق مما يعلمه الله عن هذا المشفوع له وهذا محال ، ¶ وهذا المقال لا يليق بذي الجلال ، بل هو شرك بلا جدال ¶ (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18 ¶ وإذا كانت الشفاعة تعني ما ذكرنا ، فليكن معلوما أن الأنبياء والمرسلين غير مؤهلين لهذا العمل ، ¶ ولا يرضون لأنفسهم إدعاء هذا الشرك الوبيل لأنهم لا يعلمون ، ولأنهم لربهم يقدرون ، وله يوحدون ، ولا يشركون به شيئا ¶ (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الأنعام 88 ¶ هكذا يقول الله عنهم ، ويقول لرسوله الخاتم محمد ¶ (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) الزمر 65 ¶ ومع علمهم بربهم ، وتقديره حق قدره ، فإنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم ، وإن الله ليؤكد لنا هذا عمليا ، ويعلنها علينا في القصص والآيات ، ¶ فها هو نوح عليه السلام ، وهو قدوة الرسل وهدف أولى العزم وهو العبد الشكور الصبور ، ها هو لا يعلم من عمل ابنه شيئا ¶ وهو أخص وأقرب الناس إليه ، ومعاصر له ، بل وساكن معه في بيته وكذلك لا يعلم من أعمال امرأته شيئا ، وهي أقرب إليه من ابنه ، كما هو شأن المرأة مع زوجها ، ¶ فبعد أن أطبق الماء على قوم نوح وحال بينه الموج وبين ابنه ، يقول الله ¶ (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) هود 45 ¶ إنه كان لا يعلم إن ابنه فيمن سبق عليهم القول ، ولهذا فإن ربه العليم يرد عليه ، ويعلمه ما يجب عليه ¶ (قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) هود46 ¶ وهكذا ينتبه نوح ويستغفر ، ويستعيذ ويعتذر ¶ (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) هود 47 ¶ ولو أردنا أمثلة أخرى عن بقية الأنبياء ، لأوردناها وكلنا نخاف الإطالة ولكني سأنقلكم ، من أولهم إلى خاتمهم ، الرسول النبي الأمي الأمين المرسل للعالمين ، ¶ فهذه صفاته وهذه مهمته ، لكنه لا يعلم من أعمال الناس المعاصرين له ظاهرا ، فكيف يعلم من أعمال من خلفهم سرا والدليل على قولي ، هو قوله تعالى مخاطبا لرسوله ¶ (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) التوبة 101 ¶ واقرءوا بعدها من الآيات ، تجدوا أخبارا تأتي من الله لرسوله لا يعلمها الرسول إلا من ربه ¶ (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) التوبة 102 ¶ (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) التوبة 106 ¶ لقد ختم الآية بقوله (والله عليم حكيم) ليؤكد أن هذا لا يعلمه الرسول إلا من ربه العليم ،وكذلك يختم الآيات التي تليها والتي تخص ¶ (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين) التوبة 107 ¶ وتستمر الآيات حتى يقول مخبرا ، بما لا يعلمه أحد إلا هو الله ¶ (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) التوبة 110 ¶ وهكذا تتوالى الآيات ، وتتضح وتفصح ، عن عدم علم الرسول بأعمال من حوله ومن معه ، من أهله وقومه ، وأصحابه المخلصين وأصحابه المنافقين ، ¶ وهي حالات تحويها السور المدنية ، وبالذات سورة التوبة وسورة محمد وسورة الأنفال والبقرة وآل عمران ¶ ومن هذا حاله ، كيف يمكن أن يشفع لشخص وهو يجهل أعماله ¶ إن هذا أمر محاط بالاستحالة ، ولا يرضاه النبي بل لا يتفق مع الرسالة لأن مهمة الرسول هي البلاغ ، أما الحساب فعلى الله ¶ (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد 40 ¶ (إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل) هود 12 ¶ (فذكر إنما أنت مذكر ?21? لست عليهم بمصيطر ?22? إلا من تولى وكفر ?23? فيعذبه الله العذاب الأكبر ?24? إن إلينا إيابهم ?25? ثم إن علينا حسابهم ?26?) الغاشية 21-26 ¶ ألا تلاحظون الحصر والقصر ¶ (فإنما عليك البلاغ) (إنما أنت مذكر) (إنما أنت نذير) ¶ إن الحصر هنا مضاعف التوكيد والقوة ، لأنه مؤيد بإنما ¶ وبالتقديم للظرف والخبر (عليك) (أنت) ¶ كما أن الحصر في جانب الله أوضح ¶ (وعلينا الحساب) (إن إلينا إيابهم) (علينا حسابهم) ¶ وكل الآيات التي تتحدث عن القيامة والبعث والحساب ، وكل الآيات التي تتحدث عن الدنيا ، تحصر وتقصر مهمتهم في الإنذار ، وتخص الله بالحساب والقرار ¶ (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) ¶ وهذه تتكرر في عدد من السور والمواقع القرآنية ، وبأساليب حصر وقصر متنوعة ، فهل بعد هذا يجادل مجادل ، ¶ أن للأنبياء والمرسلين جميعا ، أو لبعضهم دورا ، في يوم الحساب ، ينقذ من العقاب ... كلا بل الله يخاطب رسوله محمدا ، مؤكدا له اختصاص ربه بالحساب والعقاب ، فيقول ¶ (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار) الزمر 19 ¶ ويقول له عن أصحابه المؤمنين (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) الأنعام 52 ¶ بل ويجعله يبلغ الناس ، أن ربه هو الحاكم بين العباد ، ومعنى هذا هو أن محمدا لا يشارك ربه في يوم المعاد ¶ (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون) الزمر 46 ¶ فما دام هو الله الفاطر ، وهو عالم الغيب والشهادة ، ثم بأعمال عباده لأن من خلق فهو الذي يعلم ويحكم ، ¶ أما المخلوق فلا يعلم شيئا إلا ما به الله علم ، إن وصف الله بأنه عالم الغيب والشهادة ، هو المقدمة التي تؤدي إلا النتيجة المنطقية ، ¶ وهي أنه هو الذي يحكم بين العباد ، كما أنه الفيصل وحده فيما كانوا فيه يختلفون ، لأنه يعلم ما يبدون وما يخفون. ¶ ثم تأمل مشهد الناس يوم القيامة ، سنجد الجميع أمام ربهم ، وكلهم ينتظرون حكم الله فيهم ، فهو المتصرف فيهم ، وفي كلما يحيط بهم ¶ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) الزمر 67 ¶ وما دام هو القابض والباسط ، والبادي والطاوي ، للأرض والسموات فكيف لا يكون هو المتصرف فيما عليها من المخلوقات ، ¶ فهو الملك الحق ، ولا شريك له في الأمر والخلق ، ومن ادعى مشاركته فقد فسق ولهذا ختم الآية بقوله (سبحانه وتعالى عما يشركون) الزمر 67 ¶ ثم ماذا؟.. ها هم الخلق والناس مقبوضون كالأرض والسموات ¶ (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر 68 ¶ ثم ها هي الأرض تعد ليوم الفصل الموعود ، يوم جمع الآخر مع الأول في يوم مشهود ¶ (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون) الزمر 69 ¶ فالنبيون والشهداء لا يأتون ، أو لا يجاء بهم ، إلا وقد وضح الكتاب وانقضى الحساب ، ¶ فكيف يشفعون في الأعمال والعباد ، والكتاب قد حوى الخافي والبادي ، فهو (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) الكهف 49 ¶ ومن المعروف أن الكتاب ينطق بالحق ، والله يقضي بالحق ¶ فمن ذا الذي يستطيع بعد هذا البيان ، أن يتدخل في حكم الرحمن ¶ أو يعلم أكثر من الله ، أو يتكلم عما كان ، وهو لا يعلم من أحوال نفسه شيئا ، فكيف يعلم أحوال سواه ، ثم ¶ (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) النساء 40 ¶ فمن ذا الذي يستطيع أن يزيد على عطاء الله ، أو ينقص من جزائه ¶ وهو الله الكريم الأكرم ، وكل عبد عنده لا يظلم ، فإن أساء نال ما يستحق ، وإن أحسن زاده الله من العطاء العظيم ، ¶ وكيفلا وهو الحكيم العليم ، ولهذا قال في الآية التالية من سورة الزمر ¶ (ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) الزمر 70 ¶ وهكذا كانت الآية السبعون ، هي الفاصلة فيما يفعلون ¶ فالله هو الأعلم بالعباد وأفعالهم ، وهو الذي يوفيهم بأعمالهم ¶ فلا يخاف مسيئهم ظلما في العقاب ، ولا يخاف محسنهم هضما في الثواب فالكل أمام الله السريع الحساب ، وهكذا فإن الجميع في الختام ¶ وبعد انقضاء الأحكام ، يتوجهون بالحمد والتسبيح لربهم العلام ¶ (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) الزمر 75 ¶ إن الحمد هنا يعني أن الله حكم بالحق ، الذي لا يرد ولا يسبق والذي يقبل به الكل بلا اعتراض ولا نكران ، ¶ لأنه قضى بالعدل والميزان وهو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ¶ ولا أقل من ذلك من أعمال الإنسان فسبحانه الرحمن الرحيم ولا شريك له في الحكم ¶ (أليس الله بأحكم الحاكمين) التين 8 ،،،،،،،
Bog aan la aqoon