هذا هو سبب الإنزال، ولنفس الغاية ولنفس السبب جاء البيان الكريم في أول سورة إبراهيم، فإن أولها يدل على أن الإنزال ليس له سبب فردي أو حدث آحادي، ولا هو آية تنزل لترد على حكاية أو تقضي في قضية وتسكت حتى تتجدد أخرى. كلا إنما هو كتاب إلى الناس، وليس للناس في زمن ومكان معين ولكن لكل زمان ومكان، فلتقرأ: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1)الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد) [إبراهيم: 1-2]. إذن فالكتاب للناس وهو لهدف هام هو إخراجهم من الظلمات إلى النور بل إلى صراط الله العزيز الحميد، فهو عزيز غني غالب على أمره ولكنه حميد في فعله، ولهذا يهدي الناس إلى صراطه، ويتوعد من يصد عن سبيله ويؤكد، ومن يحب الحياة الدنيا فهو في أشد الضلالة، والله يدعو الناس إلى الجنة والمغفرة بفضله، هذا الفضل يتجلى في قوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)[إبراهيم:4]. فلا عذر للناس بعد هذا الفضل وهذا البيان، فمن اهتدى فله الفوز ورضى ورحمة الله، فإن الله عنه عزيز، ولهذا قال: (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم)[إبراهيم:4]. ولأن الله يرسل الرسل بلا سبب إلا الرحمة والفضل فإنه يقول: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) [إبراهيم:5].
هل أزيدكم آيات تكون آيات على ما أقول؟، فلنقرأ آخر سورة الإسراء، : (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا(105)وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) [الإسراء: 105-106]. فقد أنزل القرآن بالحق وأنزل ليقرأنه الرسول على الناس على مكث، أي على أيام متوالية وسنين متعاقبة، فلم يتنزل آية آية ولكن سورة سورة إذ لا يمكث المكث إلا على بيان كامل وحق متواصل ولا يمكن أن تسمى النطق بالآية الواحدة قراءة بل لا تمسى قراءة إلا ماكان كلاما متقارنا بعضه ببعض متواصل الفقرات متكامل المعاني والآيات ولا يمكن أن يفهم الناس المقروء على المكث إلا فرقان كامل المعاني وافر البيان بلا تقطيع ولا ميلان وكيف لا وهو الله الرحمن. فيامن يدعي أن الإنزال جاء مقطع الآيات فأنت لم تؤمن بالبيان، ولم تكن من الساجدين للاذقان (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) فأنتم لا تعلمون لكن هناك من يعلم ويعرف الله حق المعرفة وله يعظم، ولآياته يحترم، وهم هؤلاء: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا(107)ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا(108)ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) [سورة الإسراء: 107-109]. هكذا هم أولوا العلم الذين يعلمون أن المتلو هو من عند ربهم العلي، وأنه بيان ورحمة وموعظة ونعمة تشع بها آيات الله التي تتنزل وتتوالى سورة سورة، ولهذا فهي تتلى عليهم: فلا يمكن أن يتلى إلا الكلام الوافي الآيات ،وإلا السور التي تفي وتتوالى فيها البينات؛ فلا تسمي النطق بآية واحدة تلاوة، وليس في العربية من يقول: اتل علينا كلمة كذا، بل يقول اتل قصيدة كذا أو خطبة فلان.
فأنتم يا من جعلتم القرآن عضين، فا تعرفون اللغة ولستم للقرآن محترمين، ولا لربكم مقدرين، ولعلكم ممن قال الله عنهم: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) [الأنعام:91 ].
بل إني آخذكم قبل الانصراف عن السورة إلى قمة موضوعها وإلى ذروة حجتها، (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(88)ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا) [الإسراء: 88-89]. إن من يقرأ الآيتين بإمعان وتدبر وتذكر وتفكر، وهو لله يقدر، فلا بد أن يفهم أن القرآن بهذا الإحسان والإتقان لا يمكن أن يتنزل مزقا تلقى بلا بيان، ولا يمكن أن يكون بهذا الإعجاز وفي مقام هذا التحدي وهو ينزل قطعا لا تفيد ولا تبين، ولا يمكن أن يكون الإنس والجن عاجزين عن الإتيان بمثله وهو كلمات لا تبين وغير متصلة.
إن هذا من القول الهراء الذي لا يليق بأولي الألباب قوله، ثم إن التصريف فيه من كل مثل هل يتفق مع الأسباب السخيفة التي يدعي من غفل أنه بسببها نزل؟. كلا بل التصريف والأمثال من شأن القرآن الذي تنزل بجمال، سورا تتوالى باكتمال، وأمثالا تتلى بكمال، ليتضح بها البيان للناس من ربهم ذي الجلال. فهو الذي يقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)[الإسراء: 82].
لن أطيل الصعود بكم مع الإسراء، بل سأنصرف عنها متجها إلى سورة أخرى. إن فيها الدليل الأقوى الذي لا يرتاب فيه ، نعم تعالوا معي فلنأو إلى الكهف: (ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا)[الكهف:16].يقول الله في أولها: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) [الكهف:1]. هكذا هو الكتاب لا عوج فيه، بل هو قيم ولا تفرق فيه، بل سليم، ثم لماذا أنزل من الله؟.(لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا(2)ماكثين فيه أبدا) [الكهف: 2-3]. ثم ماذا بعد، هل هناك سبب آخر؟ نعم: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4)ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) [الكهف: 4-5]. فالقرآن أنزل لسبب هام وعام، ولسبب يعلمه الله العلام؛ إنه إقامة الاعوجاج في الأنام، وإماطة الجهل من عقول عباد الأصنام، والذين ادعوا لله ولدا تاهوا في ظلام، فالقرآن جاء ينير لهم الطريق، ويهديهم إلى نور العلم، ويخرجهم من ظلمات الجهل المحيق رحمة من ربهم العليم. فالجهل لا يرضاه الله للعباد، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولكنه يريد لهم العلم ، ولهذا كان القرآن هو النور الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وكان إنزاله في ليلة مباركة تفرق فيها الأمور ذات الأحكام، فالله من شأنه أن يدبر الأمر، وأن يرسل الرسل ليجنب الناس من الخطر، (حم(1)والكتاب المبين(2)إنا أنزلناه في ليلة مباركة).
لماذا يارب؟.
ها هو الجواب (إنا كنا منذرين) [سورة الدخان:3].ثم إن من صفة هذه الليلة أنها كما يقول العليم: (فيها يفرق كل أمر حكيم(4)أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) [سورة الدخان]. فما هو السبب للإنزال؟ وما هو السبب لفرق الأمر الحكيم؟. إن السبب أن الله موصوف بأنه (إنا كنا منذرين)؛ فلا بد من إنزال الكتاب، ولا بد أن يكون الكتاب واضحا ومبينا، ولهذا فإن من شأن الله (إنا كنا مرسلين)، فالكتاب منزل في ليلة مباركة؛ ولا بد أن يبلغه رسول بلغة واضحة، ولهذا كان الإرسال وكان الإنزال، ثم هناك سبب أهم وأعم هو (رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) [سورة الدخان: 6]. وكيف لا وهو الله (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين(7)لا إله إلا هو يحي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين)[سورة الدخان:7-8].
لهذه الأسباب كان الإنزال وكان الإرسال، ولهذه الأسباب اختار هذه الليلة المباركة لظهور أول الآيات المنزلة، ولإبلاغ الرسول بما أرسله ولمن أرسله، فكان ما أراده الله ولا راد له، ولهذا يختم السورة بقوله: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) [الدخان:58]. فالتذكر هو السبب المقصور عليه تيسير القرآن باللغة العربية ،، ومن كذب فليرتقب العاقبة التي لا تنفع الذين كانوا في غي يلعبون، (فارتقب إنهم مرتقبون)[الدخان:59]. لهذا أكتفي من البيان، على أسباب تنزل القرآن، ولعلي قد فتحت الطريق للقارئ لمعرفة المزيد لتدبر آيات القرآن.
وبعد فإني أدعوك الآن إلى أن تراجع معي بعض أسباب النزول المدعاه، إني أقول لك إنها مضحكة مبكية، وإنها تجعل القرآن خاليا من البيان بالكلية؛ لأضرب لك مثلا: قيل أن سورة الكهف نزلت لتجيب على ثلاثة أسئلة نقلها القرشيون أو تلقاها القرشيون من يهود المدينة ليوجهوها إلى النبي لسبر صحة نبوته وصحة الوحي إليه، مع أني أشك في هذه المحاولة منهم؛ لأنهم مكذبون مع علمهم بصدقه، مكذبون استكبارا (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) وعلى أي حال هذه الثلاثة الأسئلة أو الثلاث المسائل هي بما معناه:
Bog aan la aqoon