يعد البيتان نوعا من تسجيل الخروج؛ إذ يخبران المستمع أن مشهد الوليمة المألوف قد انتهى الآن.
رغم السمات المتكررة لمشهد الوليمة في القصائد الهوميرية، فإن هذا المشهد يحمل معاني مختلفة جد الاختلاف في وليمة الخطاب التخريبية في قاعات أوديسيوس، والوجبة المسحورة على جزيرة الإلهة سيرس المسماة بجزيرة أيايا، وفي وليمة الزفاف في قصر مينلاوس اللطيف في إسبرطة. وهكذا فإن «الوليمة» تمثل نوعا من «الكلمة»، وهي وحدة تعبير، تتخذ معاني مختلفة حسب سياقها. ومن المشاهد النمطية المتكررة الأخرى اجتماع الآلهة، واجتماع البشر، والتسلح، والقتال، والترحال، والمبارزات، والتضرع، والتعرف، والرسل، والأحلام، والإغواء، وارتداء الثياب. كل هذه المشاهد يمكن أن تمتد أو تتقلص حسب ضرورات السرد، وفي عالم الواقع حسب المقتضيات التي يتطلبها الأمر ممن يقدم عرضا ترفيهيا حيا مباشرة أمام جمهور من المشاهدين. في ترتيب القصة تماثل المشاهد النمطية الكلمات التي تستخدم لصياغة الجمل في الآداب الحديثة؛ فعدد الكلمات محدود، ومحدد سلفا، بيد أنه ليس ثمة حد للأشياء التي باستطاعتك قولها. (5-3) أسلوب الصياغة الشفاهية
لا يوجد تكرار حرفي للأغنية الشفاهية، على حد تعبير لورد؛ لأنه لا يوجد نص ثابت، وكان في حقيقة الأمر يقصد أنه لا يوجد نص على الإطلاق. فالنص هو شيء مادي به علامات رمزية عرضة للتحوير والتحريف والنسخ غير الأمين، وهو ما يبحثه عالم فقه اللغة، ويبحث أيضا ما يتعلق بالنصوص التي لم تظهر بعد للوجود. كان «الجوسلار» يعيد نظم أغنيته في كل مرة كان يغنيها فيها، مستعينا بموارد تقنية الغناء الإيقاعي النظمي الخاصة به وتحكمه في المشاهد النمطية والحبكات التقليدية . وبالقياس، لا بد وأن هوميروس قد فعل شيئا مماثلا، حسبما اعتقد باري. فقد كان هوميروس شاعرا شفاهيا، أي كان «جوسلارا».
عن طريق عقد مماثلة بين «الجوسلاري» السلاف الجنوبيين المعاصرين وبين المنشدين الملحميين القدماء الذين يدعون باللغة اليونانية
aoidoi
أي المغنين، (مفردها
aoidos )، كما يدعوهم هوميروس، دحض باري ولورد اعتقاد وولف القائل إنه من دون الكتابة لا يمكنك أن تنشئ قصائد طويلة للغاية، مع اتفاقهم معه على أن هوميروس لم يستعن بالكتابة في صياغة قصائده. وعلى أي حال، لم يكن تركيز وولف منصبا على استحالة صياغة قصائد طويلة في محيط لا يعرف القراءة والكتابة بقدر ما كان منصبا على استحالة تناقلها. وتظهر الأمثلة الشهيرة على «هفوات هوميروس» - وهي أخطاء من أنواع مختلفة - في نظرية باري بوصفها سمة شائعة «للأسلوب الشفاهي». بعد وولف كانت مثل هذه التناقضات قد شكلت أساسا لنظريات وضعها المحللون، الذين سعوا إلى اختزال القصائد إلى مكوناتها الأساسية. بيد أنه لا «الجوسلار» ولا المنشد الملحمي ولا جمهورهما يشعرون بالانزعاج عندما يرتكب شخص ما خطأ؛ لأنهم مأخوذون بتشويق الأغنية، وليس لديهم أي وسيلة للتحقق من أي شيء في محيط يعتمد على التناقل شفاهيا، ولا لديهم أدنى اهتمام للقيام بذلك. فلا عجب أن أسلوب هوميروس كان متفردا؛ إذ كان مغنيا شفاهيا وكانت «الإلياذة» و«الأوديسة» غناء شفاهيا.
كانت دراسات باري الأسلوبية مثالية، كما أن مقارنة باري/لورد بين التأليف الشفاهي في البلقان المعاصرة وفي العالم القديم تعد استخداما وجيها ومقنعا لعلم دراسة الإنسان. وقد ثبت عدم صحة فرضيات وولف، وبناء عليه فإن من حذوا حذوه كانوا مضللين. لا يمكننا أن نضع قلما في يد هوميروس؛ فذلك من شأنه أن يكون أمرا مثيرا للسخرية، وكأنك تطلب من جون كولترين (أشهر مرتجلي موسيقى الجاز والساكسفون) أن يدون كل تلك النوتات الموسيقية على ورقة. لا بد وأن شخصا آخر هو من صاغ النص المكتوب. ولهذا تعتبر القصائد الهوميرية نصوصا شفاهية مملاة؛ أي إنها لم تصغ من نصوص سابقة أقصر لمؤلفين متعددين. ولكن إذا كانت كل قصائد هوميروس ناتجة عن صيغ مدبجة - وهو الدليل على «شفاهية» قصائد هوميروس - فأين الذكاء والعبقرية الشعرية لهوميروس الذي لا مثيل له؟ وعلى ذلك استبعد أتباع وولف هوميروس من المعادلة بقولهم: لم «يكتب» هوميروس «الإلياذة» مثلما لم «يكتب» موسى سفر التكوين. واستعاد باري دور الشاعر هوميروس ودحض النص المملى، ولكنه في ذلك بدا أنه - بنفس القدر - يسلب فرصة هوميروس في الإبداع والعظمة. فإن كانت لغته كلها متوارثة، وتتألف من صيغ مدبجة وتعبيرات مصاغة ومشاهد نمطية، إذن ألم يكن هوميروس ناطقا بلسان «التراث» أكثر من كونه مبدعا عبر موهبته وجهده؟
ولما كان الدليل على أن هوميروس كان شاعرا شفاهيا يستند إلى وجود الصيغة المدبجة، فقد بذل الباحثون جهدا عظيما لتعريف الصيغة المدبجة، ليكتشفوا بعد ذلك أن «العبارات الثابتة» تفضي إلى عبارات فضفاضة أكثر، تلك التي يطلق عليها في الوقت الحاضر «العبارات النمطية»، وأن العبارات النمطية يمكن أن تنسل إلى كل شيء تقريبا. وقد أوضح أحد الباحثين كيف يمكن لإحدى الصيغ المدبجة، مثل
pioni dêmôi
Bog aan la aqoon