التسلسل الزمني للأحداث
تمهيد
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
الجزء الأول: الخلفية
1 - ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة
2 - ملحمتا هوميروس عند المؤرخين
3 - ملحمتا هوميروس عند القراء
الجزء الثاني: القصائد
4 - الإلياذة
5 - الأوديسة
6 - الخاتمة والملخص: قصيدتا هوميروس المتكاملتان
الجزء الثالث: تلقي الملاحم الهوميرية
7 - الملاحم الهوميرية عند الفلاسفة والشعراء
قراءات إضافية
التسلسل الزمني للأحداث
تمهيد
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة
الجزء الأول: الخلفية
1 - ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة
2 - ملحمتا هوميروس عند المؤرخين
3 - ملحمتا هوميروس عند القراء
الجزء الثاني: القصائد
4 - الإلياذة
5 - الأوديسة
6 - الخاتمة والملخص: قصيدتا هوميروس المتكاملتان
الجزء الثالث: تلقي الملاحم الهوميرية
7 - الملاحم الهوميرية عند الفلاسفة والشعراء
قراءات إضافية
هوميروس
هوميروس
تأليف
باري بي باول
ترجمة
محمد حامد درويش
مراجعة
شيماء طه الريدي
إلى الصغيرة جريسي.
ما النفع الذي سوف يحل علي؟ فالآلهة هم الذين يفضلون «المنشدين». من سيسمع بعد لأي أحد آخر؟ فالجميع يكفيهم هوميروس. إنه يعد أعظم «المنشدين»، ولن ينال مني شيئا.
ثيوقريطس (القرن الثالث قبل الميلاد) الأنشودة الرعوية السادسة عشرة، الأبيات 19-21
التسلسل الزمني للأحداث
قبل الميلاد
4000
تطور الكتابة المسمارية السومرية، حوالي 3400.
الكتابة الهيروغليفية المصرية، ظهور الحضارة الفرعونية، حوالي 3300-3100.
3000
أوائل العصر البرونزي .
ازدهار المدن السومرية في بلاد ما بين النهرين، حوالي 2800-2340.
ازدهار الحضارة المينوية في جزيرة كريت، حوالي 2500-1450.
الإمبراطورية الأكدية في بلاد ما بين النهرين، حوالي 2334-2220.
بداية
العصر البرونزي الأوسط
بوصول اليونانيين الهندوأوروبيين إلى شبه جزيرة البلقان، حوالي 2000-1600.
2000
بداية
العصر البرونزي المتأخر (أو
العصر الميسيني )، حوالي 1600.
الإمبراطورية الحيثية تتولى الحكم في الأناضول، حوالي 1600-1200.
1500
اختراع الكتابة المقطعية السامية الغربية، حوالي 1500 (؟)
اندلاع حرب طروادة، حوالي 1250 (؟)
دمار أوغاريت، حوالي 1200.
بداية
العصر المظلم (أو
الحديدي ) بدمار المدن الميسينية في اليونان، حوالي 1200-1100.
1000
إنشاء المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى، حوالي 1000.
900
ازدهار المدن الحيثية الجديدة في شمال سوريا، حوالي 900-700.
800
المستعمرات اليونانية في جنوب إيطاليا وصقلية، حوالي 800-600.
بداية
الحقبة العتيقة
باختراع الأبجدية اليونانية، حوالي 800.
تدوين «الإلياذة» و«الأوديسة»، المنسوبتين إلى هوميروس، حوالي 800.
بدء الألعاب الأوليمبية، سنة 776.
تأسيس روما، حسبما يزعم، سنة 753.
تدوين ملحمة «ثيوجونيا» لهيسيود، حوالي 775-700 (؟)
700 «التراتيل الهوميرية»، حوالي 700-500.
كالينوس، حوالي 650.
شعراء الملاحم، حوالي 650-500.
عصر الطغاة، حوالي 650-500.
بيسيستراتوس الأثيني، 605؟-527.
600
صياغة البانتاتيك («الأسفار الخمسة» الأولى من الكتاب المقدس) العبرية أثناء السبي البابلي للعبرانيين (586-538).
كورش الكبير الفارسي، حوالي 600-529.
زينوفانيس، حوالي 560-478.
بندار، حوالي 522-443.
التاريخ المزعوم لعزل السلالة الحاكمة الإتروسكية (الأترورية) في روما وتأسيس «الجمهورية الرومانية»، 510.
500
غزو الفرس لليونان؛ معركة ماراثون، 490.
غزو الفرس لليونان مجددا؛ تدمير أثينا؛ انتصار اليونانيين في معركتي سلاميس وبلاتايا، 480-479.
بداية
الحقبة الكلاسيكية
بنهاية الحروب الفارسية، 480.
إسخيلوس، حوالي 525-456.
سوفوكليس، حوالي 496-406.
هيرودوت، حوالي 484-424.
يوربيديس، حوالي 480-406.
سقراط، حوالي 470-399.
الحرب البيلوبونيزية، 431-404.
ثوسيديديس، حوالي 470-400.
أفلاطون، حوالي 427-348.
400
أرسطو، حوالي 384-322.
فتح فيليب الثاني المقدوني، أبو الإسكندر، لليونان، منهيا الحكم المحلي، 338-337.
فتح الإسكندر الأكبر، 356-323، للإمبراطورية الفارسية، وتأسيسه الإسكندرية.
بدء
الحقبة الهيلينية
بموت الإسكندر سنة 323.
300
إقامة الموزيون على يد بطليموس الثاني، الذي حكم من 285-246.
أبولونيوس الرودسي، القرن الثالث.
ليفيوس أندرونيكوس، القرن الثالث.
زينودوتوس الإفسوسي، القرن الثالث.
200
أرسطوفانيس البيزنطي، حوالي 257-180.
أرسطرخس الساموسي، حوالي 217-145.
بداية
الحقبة الرومانية
حينما صارت اليونان إقليما رومانيا، 146.
100
ديديموس، القرن الأول.
الحروب الأهلية الرومانية، 88-31.
شيشرون، 106-43.
فيرجيل، 70-19.
أغسطس يهزم أنطونيوس وكليوباترا في معركة أكتيوم، سنة 31، ويضم مصر، سنة 30.
صفر
أغسطس قيصر يحكم، 27 قبل الميلاد-14 ميلاديا.
ميلاديا
100
يوسيفوس، 37-100.
200
انتقال النصوص الهوميرية من لفائف البردي إلى الكودكس (مجلد المخطوطات).
300
تمهيد
كثيرا ما يسألني أناس من غير الملمين بالدراسات الكلاسيكية، أو بدءوا للتو في دراستها: «ما الذي نعرفه حق المعرفة عن هوميروس؟» فهذا الكتاب من أجلهم. لا أفترض أن القارئ يعرف اللغة اليونانية، بيد أني بين الفينة والفينة سوف أناقش كلمات ومفاهيم يونانية؛ لأن فكر هوميروس، بالطبع، مرموز إليه في كلماته. بينما أفترض أن القارئ قد طالع ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» مترجمتين؛ لذا سوف يكون كتابي الصغير هذا بمثابة مقدمة وتعليق تمهيديين للقارئ المبتدئ لنصوص هوميروس.
بدءا من العقد الأخير من القرن العشرين، جمع أحد الباحثين أكثر من 2200 كتاب، ودراسة، ومقال، بلغ مجموعها 60 ألف صفحة! وقدم طوال القرن نحو 500 ألف صفحة، عن هوميروس، وهو ما يضاهي نتاجا مماثلا من القرن التاسع عشر، ونتاجا أقل ولكنه حافل، دون توقف على مدى خمسة وعشرين قرنا سابقة. وليس من المستغرب أن كل الأمور المتعلقة بهوميروس كانت، أو «لا تزال»، موضع جدل من قبل أحد ما في مكان ما. فتشير دراسة حديثة إلى أن أطلال طروادة تقع في الجزر البريطانية. في هذا الكتاب الصغير سأنحي جانبا - قدر الإمكان - تعدد الآراء حول الموضوعات المختلفة؛ إذ يمكنك أن تجد من يعتقد أي شيء تقريبا فيما يتعلق بهوميروس. بل إن كثيرا من الباحثين المتخصصين في الدراسات الكلاسيكية اليونانية والرومانية لا يفهمون أصل الافتراضات التي عادة ما تتكرر بشأن هوميروس، وخاصة عصره، رغم أنه المؤلف الأهم في المؤلفات الإغريقية الموثقة ببون شاسع. لذا فإن هذا الكتاب سوف يكون لأجلهم أيضا. لقد حققنا تقدما هائلا في الدراسات الهوميرية خلال الأجيال العديدة الأخيرة، ولسوف أسعى إلى توضيح إلام وصل بنا هذا التقدم بالضبط. سوف يدعي كثيرون أن «هذا الأمر أو ذاك لهو من الأمور الخلافية»، ولكن وجود تباين في الآراء لا يحول دون جلاء أمر ما، إذا ما كنا نرغب في احترام الأدلة. نحن بالفعل نعرف بعض الأمور عن هوميروس. وسوف أركز على آراء المفكرين الأرفع منزلة فيما يتعلق بهوميروس، الذين - حتى في صخب تباين الآراء - يرى معظم المختصين بالدراسات الهوميرية أن آراءهم مقبولة ومنطقية. ولن أتردد في عرض الاستنتاجات التي توصلت إليها أنا نفسي بعد عقود من التأمل والتفكر.
التراجم الواردة بالكتاب من «الإلياذة» و«الأوديسة» هي ترجمات محدثة ومعدلة لتناسب العصر الحالي، مأخوذة عن تراجم سلسلة مكتبة لوب الكلاسيكية لمترجمها إيه تي موراي. أما التراجم من النصوص الأخرى فهي ترجماتي.
مقدمة الطبعة الثانية
لاقى مطمحي في الطبعة الأولى لتقديم لمحة عامة سريعة للدراسات الهوميرية والقصائد الهوميرية نجاحا طيبا، إلى حد أنني أرغب في هذه الطبعة الثانية - متبعا اقتراحات القراء - أن أتوسع توسعا معتدلا في عدة اتجاهات. لقد أضفت خرائط إضافية، وحدثت قائمة المصادر، وأدمجت مسردا للمصطلحات في الفهرس. وأضفت قسما جديدا عن كيفية تلقي القصائد الهوميرية في العصور القديمة، بالإضافة إلى استعراض للاكتشافات الجديدة في طروادة. كذلك توسعت في معالجتي للنظرية الشفاهية، وأضفت تعليقات على المقومات الأدبية للقصائد، وأدخلت أكثر من عشرين صورة فوتوغرافية. ولا تزال الطبعة الثانية تحتفظ بسلاسة وإيجاز الطبعة الأولى، ذلك ما آمل، وآمل كذلك أنها سوف تظل بمثابة مقدمة مناسبة لمبحث الدراسات الهوميرية الشاسع.
أود أن أشكر زميلي ويليام أيلوارد، الذي نقب في موضوع طروادة وقدم لي الكثير من الآراء المتبصرة لهذه الطبعة حول هوميروس وصلته بالتاريخ.
مقدمة
عندما أذكر «هوميروس» و«القصائد الهوميرية»، فإنني في هذا الكتاب أعني ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» المنسوبتين إلى هوميروس منذ أقدم العصور. هل كان هذا الشاعر حقا يدعى هوميروس؟ هل كان له وجود من الأساس؟ لا شك في أن ثمة قصائد ليست من نسج قريحة مؤلف «الإلياذة» و«الأوديسة» ونسبت إلى «هوميروس» إبان الحقبة الكلاسيكية (انظر التسلسل الزمني)، ولكنها كانت في مرحلة زمنية متأخرة. ومثل هذه الإسنادات الباطلة تعد شهادة بمكانة «الإلياذة» و«الأوديسة» في الحقبة الكلاسيكية. لا بد وأن اسم «هوميروس» له مصدر ما، والأغلب الأعم أنه بسبب أنه كان اسم شاعر شهير. تعني كلمة
homeros
اليونانية «رهين»، وقد بحث كثيرون عن دلائل في ذلك الشأن، أو التمسوا تفسيرات خيالية لاسم هوميروس. بيد أن هذه الأناشيد لم تظهر من العدم، ولم تتبلور من تراث تقليدي: فثمة شخص أنشدها. فالشعراء هم من ينظمون القصائد. فهل نسي اسم ذلك المنشد العظيم إلى الأبد، ثم سرعان ما استبدل باسم «هوميروس» الغامض؟ ومن الجائز أن اسم الشاعر الذي أنشد هذه الأناشيد كان في الحقيقة هوميروس، مثلما كان الجميع يرددون دوما.
إن السكوت الممنهج اللافت في «الأوديسة» عن وقائع رويت في «الإلياذة»، ولم تتكرر مطلقا في «الأوديسة»، والجهود الجلية في «الأوديسة» لاستكمال قصة حرب طروادة يوضحان أن منشد «الأوديسة» عرف «الإلياذة» التي بين أيدينا معرفة وثيقة تفصيلية؛ فعلى سبيل المثال، تتضمن «الأوديسة» قصة حصان طروادة وتصف جنازة آخيل. لا بد وأن نفس الشاعر، وهو هوميروس، قد أنشد القصيدتين، على الرغم من طرح المعلقين منذ العصور القديمة تساؤلات حول هذا الأمر؛ ومع ذلك لم يكن ثمة طريقة أخرى من الممكن أن يعرف بها شاعر «الأوديسة» نص «الإلياذة» تلك المعرفة المتقنة. فلم يكن ثمة مكتبات في زمن هوميروس ولا جمهور قراء. بل إنه في القرن الخامس قبل الميلاد لم يمتلك إلا قلة من الناس نسخا كاملة من القصائد. ولم يكن ممكنا للمنشدين المحترفين، أمثال هوميروس، أن يكونوا قارئين تحت أي ظرف من الظروف؛ فالمنشدون المحترفون لا يتحاشون تكرار عناصر أو أفعال استخدمها شاعر آخر في قصيدة عن موضوع ذي صلة؛ بل كانوا يفعلون العكس! وحده طرح مؤلف واحد يمكن أن يفسر السبب في أن «الأوديسة» تكمل التقاليد الواردة في «الإلياذة» ولا تكررها.
لا تعد «الإلياذة» و«الأوديسة» أقدم الأعمال الأدبية الباقية في التراث الأبجدي الغربي الإغريقي فحسب، ولكنها تعد، مع قصائد هيسيود، أقدم الأعمال الكاملة للكتابة الأبجدية من أي نوع. فيكاد لا يوجد أي شيء باق (عدا شذرات) بين هذه القصائد، التي تظهر في فجر الإلمام بالأبجدية الإغريقية، وبين الإنتاج الأدبي الغزير الذي اتسمت به أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. فلماذا لم تنج «الإلياذة» و«الأوديسة» فحسب، بل أصبحت تمثل الكلاسيكيات الأدبية الأساسية للحضارة الغربية؟ كيف صارت أدبا كلاسيكيا ولماذا؟ ما حل هذا اللغز؟
علينا أن نتوقف لبرهة ونتساءل: ما «الإلياذة» وما «الأوديسة»؟ في المقام الأول، إنهما ينتميان إلى ما يطلق عليه «نصوص»، وهي أشياء مادية ملموسة قابلة للفساد، والتحلل، والتغيير المتعمد، ولها تاريخ في العالم المادي. هما «أشياء» وهو ما ننساه عندما نفكر في خصائصهما من الناحية الأدبية. نريد أن نعرف كيف ظهرت هذه النصوص للوجود وأين، ولماذا، ومتى. هذا هو مبحث «ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة»، الذين يريدون أن يعرفوا الحال الذي كان يبدو عليه أول نص، وعلام كان ينص. يبحث علماء فقه اللغة في شأن ملحمتي هوميروس من الناحية المادية حيث للرموز على الورق أشكال معينة يمكن تفسيرها بطرق شتى.
كذلك تعد ملحمتا هوميروس أخصب مصدر للمعلومات عن اليونان القديمة؛ فقد كانتا دوما عملا كلاسيكيا عن اليونان نفسها وكل ما تدين به الثقافة الغربية لليونان. فلا وجود لشيء اسمه «اليونانيين» من دون القصائد الهوميرية. ماذا تروي لنا ملحمتا هوميروس عن الماضي؟ عن الترحال، والزواج، والتجارة، والحرب، والعمارة، والاقتصاد، والسياسة، والدين؟ هذا هو مبحث «ملحمتا هوميروس عند المؤرخين»، وذلك هو المنظور الثاني لملحمتي هوميروس في بحثنا، وهو أنهما عبارة عن وثائق مدونة تحكي لنا عن الماضي.
ولكن ملحمتي هوميروس تعني للغالبية، ممن ليسوا علماء في فقه اللغة ولا مؤرخين، القصص التي يحبها الجميع ويحبون الحديث عنها، وتأخذهم نشوة النظم فيها. إن قصص ملحمتي هوميروس هي التي تجعل منهما عملا كلاسيكيا. ويعتبر مبحث «ملحمتا هوميروس عند القارئ» - المنظور الثالث لملحمتي هوميروس في بحثنا - هو المبحث الأكثر أهمية؛ لأنه ما يجعل لجهود علماء فقه اللغة والمؤرخين قيمة.
في هذا الكتاب الموجز، سوف أبحث في الجزء الأول الجوانب الثلاثة لملحمتي هوميروس. وانطلاقا من هذه المنظورات، سوف أقود القارئ في الجزء الثاني عبر القصائد على نحو سريع بعض الشيء، وفي غضون ذلك سوف أشير في سياق العرض إلى جوانب فقه اللغة، والجوانب التاريخية والأدبية التي اجتذبت الاهتمام لما يناهز ثلاثة آلاف عام. بعد ذلك، في الجزء الثالث، سوف أصف كيف فهم الإغريق والرومان اللاحقون ملحمتي هوميروس وحاكوهما. وأخيرا، سوف أستعرض بعض الأعمال الأدبية الإضافية الهامة التي تناولت ملحمتي هوميروس إلى جانب اقتراحات لمراجع إضافية للاستزادة.
الجزء
الخلفية
الفصل الأول
ملحمتا هوميروس عند علماء فقه اللغة
علماء فقه اللغة هم «عشاق اللغة» وكل شيء عن اللغة يثير اهتمامهم، ولكن ليس اللغة من ناحية كونها ملكة بشرية عامة؛ فعلماء اللغويات يضطلعون بذلك. إن علماء فقه اللغة الكلاسيكيين مهتمون تحديدا باللغتين اليونانية واللاتينية، أو بما يمكننا أن نستنتجه بشأنهما من العدد الضخم من الصفحات المكتوبة التي لا تزال باقية. غير أنه من السهل أن ينسى علماء فقه اللغة أننا لا نعرف شيئا عن اللغتين اليونانية واللاتينية بطريقة مباشرة، وإنما نتعامل دوما مع تجسيد مكتوب يستند إليهما. فالكتابة هي نظام يعبر عن اللغة باستخدام رموز مكتوبة وهي ليست - بأي حال من الأحوال - وسيلة علمية لتجسيد الخطاب الشفهي. وعلى ذلك فإن البون شاسع جدا بين الكتابة والخطاب الشفهي، كما يدرك مثلا أي أحد يدرس اللغة الفرنسية، ثم يسافر إلى باريس.
وهكذا لم يكتب للخطاب الشفهي اليوناني القديم واللاتيني البقاء، لكن «النصوص» بقيت، وأصل كلمة «نصوص» بالإنجليزية هو كلمة لاتينية تعني «شيء منسوج». يسيء كثيرون فهم ملحمتي هوميروس بعجزهم عن تذكر أنها نصوص وأن النصوص مكتوبة برموز؛ أما الخطاب الشفهي، فعلى العكس، ليس مرمزا (رغم أنه قد «يكون» هو نفسه رمزا). ويحتمل في النصوص أن تبقى إلى الأبد، أما الخطاب الشفهي فسريع الزوال. النصوص هي أشياء مادية وعرضة للفساد والإفساد والخطأ. أما الخطاب الشفهي فغير مادي ويختفي على الفور. لقد مات هوميروس منذ زمن بعيد، لكن نصوصه سوف تبقى إلى الأبد.
من أين أتت «نصوص» هوميروس؟ هذا هو السؤال الذي يرغب عالم فقه اللغة في التوصل إلى جواب له أكثر من أي شيء آخر. (1) ما المقصود بالنص الهوميري؟
من السهل العثور على نصوص القصائد الهوميرية؛ فهي تطبع باستمرار منذ أول إصدار مطبوع لها في فلورنسا في عام 1488، بعد أعوام فقط من اختراع الطباعة بواسطة الحرف الطباعي القابل للحركة. ولأن النص شيء مادي، فإن له شكلا معينا: ليس فقط نسيج ولون الورق أو الجلد، وإنما الاصطلاحات التي تشكل بها الرموز. كانت الإصدارات المطبوعة الأولى معدة بخطوط تحاكي شكل الكتابة اليدوية في المخطوطات البيزنطية من العصور الوسطى، وهو نظام لضبط التهجئة (أي: «طريقة للكتابة») تغير كثيرا منذ الأزمنة القديمة، يشتمل على الكثير من الاختزالات والأحرف المزدوجة التي يدمج فيها أكثر من حرف في رمز واحد. بالتأكيد لم يكن أفلاطون يستطيع قراءة النص المطبوع الأول لأعمال هوميروس، ولا يستطيع الباحث المعاصر ذلك دون تدريب خاص، وحتى الأستاذ الجامعي الذي أمضى حياته بكاملها في تدريس ودراسة اللغة اليونانية القديمة.
في القرن التاسع عشر، حلت خطوط الطباعة واصطلاحات ضبط التهجئة الحديثة محل الاصطلاحات المطبعية المعتمدة على المخطوطات المكتوبة باليد في بيزنطة قبل اختراع الطباعة، ولكن لم تسع مثل هذه الاصطلاحات الحديثة إلى إعادة صياغة الشكل الكائن، أو الطابع المادي، لنص قديم لهوميروس. على سبيل المثال، تحاكي أشكال الحروف الأبجدية اليونانية في طبعة تي دبليو ألين من ملحمتي هوميروس ضمن سلسلة «أكسفورد كلاسيكال تيكست»، التي نشرت لأول مرة عام 1902، الكتابة اليونانية الرائعة والعصرية تماما بخط اليد لريتشارد بورسون (1759-1808)، الأستاذ بجامعة كامبريدج ذي الشأن في النقد النصي في أوائل العصر الحديث. تبدو هذه اللغة اليونانية سليمة لأي شخص يدرس اليونانية، لنقل، بجامعة أكسفورد أو بجامعة ويسكونسن في الوقت الحاضر؛ كونها مستوفية للرسم الصغير والكبير للأحرف الأبجدية، والنبرات (علامات النطق)، وعلامات النفس (أي، نطق الكلمة بصوت الهاء أو من دونه)، وعلامة الفصل ( ̈) ذات النقطتين الأفقيتين (التي تفصل نطق حرفي علة (متحركين) متجاورين)، وعلامات الترقيم، وتقسيم الكلمة إلى مقاطع، وتقسيم الفقرات. وفيما يلي الشكل الذي يظهر عليه نص السبعة أبيات الأولى من «الإلياذة» بكتابة عصرية مطبوعة (من مكتبة لوب الكلاسيكية، انظر أيضا شكل
1-1 ):
إذا كنت تدرس اللغة اليونانية في وقتنا هذا، وتدرس أحد المقررات الدراسية عن أعمال هوميروس، فستتوقع أنك تستطيع ترجمة صيغة كهذه. وتخال أنك تقرأ «قصائد هوميروس» كما كتبت بها في الأصل، ولكن في حقيقة الأمر أن قواعد الكتابة (ضبط التهجئة)، أو الطريقة المكتوب بها الأشياء، هي مزيج لم يكن له وجود مطلقا قبل القرن التاسع عشر الميلادي؛ إذ إن ثمة نسقا متكاملا لنبر الحروف، أحيانا فقط يكون دلاليا (أي «يحمل مغزى»)، لا يظهر حتى حوالي عام 1000 ميلاديا في الكتابة اليونانية ولا يستخدم قط باستمرار. والتمييز بين الحروف ذات الرسم الصغير وذات الرسم الكبير هو شيء يعود إلى العصور الوسطى. يرسم حرف سيجما الذي يستخدمه بورسون عندما يكون في وسط الكلمة هكذا
σ ، ولكن في الحقبة الكلاسيكية كان في صورة خط متعرج رأسي
Σ (ومن هنا ظهر حرف ”
S “ الذي نعرفه) وبعد الحقبة الإسكندرية، كان دائما ما يتخذ شكلا هلاليا
C (أو ما يطلق عليه حرف «سيجما الهلالي»)؛ ويبدو أن الشكل
σ
هو من ابتكار بورسون. وعلامة الفصل أو النقطتان الأفقيتان اللتان تستخدمان للدلالة على أن الحرفين المتحركين ينطقان منفصلين (مثل:
προϊαψεν )، هي أمر مصطلح عليه في الطباعة المعاصرة. أما نقاط الوقف والفاصلات فهي حديثة، كحال مسألة تقسيم الكلمة إلى مقاطع، ولم تكن معروفة في اللغة اليونانية الكلاسيكية القديمة.
شكل 1-1: إعادة بناء للأبيات الخمسة الأولى من ملحمة «الإلياذة» بطريقة كتابة قديمة مهجورة، تكتب من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين (نقلا عن كتاب بي بي باول، «هوميروس وأصل الأبجدية اليونانية»، كامبريدج، المملكة المتحدة، 1991، شكل
1-7 ).
لربما كان سيؤدي نص طبعة «أكسفورد كلاسيكال تيكست» من ملحمتي هوميروس إلى حيرة ثوكيديدس أو أفلاطون بقدر ما فعل أول نص مطبوع لهما وقائم على اصطلاحات ضبط التهجئة والرموز البيزنطية. ولربما كان النص الأقدم كثيرا، ويمكننا أن نقول الأصلي، لملحمة هوميروس، الذي يبدو أنه كان يشبه شكل
1-1 ، سيربكهما بالقدر نفسه. فاتجاه القراءة يتبدل جيئة وذهابا من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين (فيما يطلق عليه «البطرفة» أو «كتابة حرث الثيران»، والكلمة مشتقة من اللفظة اليونانية
boustrophêdon
وتعني «الدوران كالثور وهو يحرث»). في هذا النمط الأقدم للكتابة الإغريقية، ونحن بصدد إعادة بنائها من نقوش قليلة، ليس ثمة تمييز بين حرف «أوميكرون»
omicron
الذي يعادل حرف
ŏ
القصير وبين حرف «أوميجا»
omega
الذي يعادل حرف
ō
الطويل، أو بين حرف «إبسيلون»
epsilon
الذي يعادل حرف
ĕ
القصير وبين حرف «إيتا»
eta
الذي يعادل حرف
ē
الطويل، والحروف الساكنة المشددة تكتب كحروف ساكنة مفردة. ولا يوجد تقسيم للكلمات إلى مقاطع ولا رسم صغير وكبير للأحرف الأبجدية، ولا علامات تشكيل مثل النبرات، أو أحرف كبيرة من أي نوع.
عند قراءة نص قديم كهذا، تحدث عملية تبادل المعنى من الشيء المادي إلى العقل البشري بطريقة مختلفة عما يحدث عندما نقرأ ملحمتي هوميروس بقواعد الكتابة (ضبط التهجئة) اليونانية بطريقة بورسون، أو بالترجمة الإنجليزية.
يهتم علماء فقه اللغة اهتماما شديدا بالكيفية التي ربما كان يتم بها هذا الأمر. في ظاهر الأمر أن القارئ اليوناني في القرن الثامن قبل الميلاد كان يفك رموز كتابته «سماعيا». ولهذا السبب لم يشعر اليوناني القديم، سواء كان رجلا أو امرأة، بالحاجة إلى تقسيم الكلمات إلى مقاطع أو إلى تقسيم السطور أو الأبيات، أو إلى علامات تشكيل، أو علامات لتحديد الفقرات، أو علامات اقتباس؛ لأن الرموز بالنسبة إليه (ولها في حالات نادرة) كانت تعبر عن فيض متصل من الأصوات. وبعد ألف سنة من تأليف ملحمتي هوميروس، ظل الإغريق لا يقسمون كلماتهم (في اللغة اللاتينية، غالبا ما كانت الكلمات تقسم منذ أقدم العصور).
حينما نقرأ اللغة اليونانية المعاصرة (أو الإنجليزية)، في المقابل، فإننا نفك رموز النص «بالنظر». ونهتم اهتماما بالغا بتحديد الموضع الذي تنتهي فيه إحدى الكلمات والموضع الذي تبدأ عنده أخرى؛ فهيئة النص دلالية، أي إنها تحمل معنى، ومثال ذلك عندما يخبرنا حرف كبير أن «جملة ما تبدأ هنا»، أو عندما تطلعنا نقطة على أن «جملة ما تنتهي هنا»، أو عندما تقول لنا مسافة ما إن «الكلمة تنتهي هنا.» صحيح أن نص ملحمتي هوميروس الذي بين أيدينا ينحدر مباشرة من نص إغريقي قديم، ولكننا نتلقى النص بطريقة مختلفة.
عندما يسعى علماء فقه اللغة المعاصرون إلى استعادة «نص أصلي» أقرب ما يمكن من ملحمتي هوميروس، كما يزعم المحررون، فهم في الحقيقة لا يقصدون مطلقا أنهم سوف يعيدون بناء نص أصلي، لربما كان هوميروس سيعترف به. بل إنهم يقدمون تخريجا للكيفية التي قد يفسر بها نص أصلي تبعا للقواعد الحديثة. فما يبدو أنه «قواعد كتابة (ضبط التهجئة)»، أو بكلمات أخرى «الطريقة التي يكتب بها شيء ما»، في نص حديث لملحمتي هوميروس، هو في الحقيقة توضيح تحريري للمعنى والتراكيب النحوية للجمل. ولو قدم لنا المحررون ملحمتي هوميروس الأصليتين، كما كانتا حقا، لما استطاع أحد قراءتها. (2) النصوص الأقدم
غير أن ملحمتي هوميروس عند علماء فقه اللغة تتمثلان دائما في «نصهما»، كيفما قد يكون اهتمام أي أحد بكتابته أو طباعته. التحقيق بشأن أصل هذا الشيء المادي الافتراضي، هذا النص، هو المبحث الشهير الذي يعرف ب «المسألة الهوميرية»
Homeric Question (من الكلمة اللاتينية
quaestio ، وتعني «تحقيق»)، وهو مبحث محوري في العلوم الإنسانية لما يربو على مائتي عام. متى ظهر هذا النص للوجود؟ أين ولماذا؟ كيف وعلى يد من؟ كيف كان يبدو؟ ليتنا عرفنا مصدر القصائد الهوميرية، لنعرف أصلنا نحن، أو أجزاء كبيرة منا. ولأننا نسل ملحمتي هوميروس الثقافي، فقد احتفظت المسألة الهوميرية بالاهتمام والولع الفائقين بها.
أحد سبل العثور على مصدر شيء ما، أي على أصله، هو اقتفاء أثره، وكأنك تمضي في عكس التيار حتى تجد منبع الماء. هذا المصدر في الفيزياء يمكن أن يكون بدايات نشأة الكون، ولكن هذا النبع في الدراسات الهوميرية هو أول نص لملحمتي هوميروس على الإطلاق. أحيانا يعتقد الناس أنه كان يوجد نصوص أولى «كثيرة»، ولكن التباينات في نسخ ملحمتي هوميروس الباقية التي بين أيدينا قليلة جدا، مما يدعو إلى القول أنه لا يمكن أبدا أن يكون قد وجد أكثر من نص أول واحد، وهو النص الذي نبحث عنه. إن إدراك أنه كان يوجد نص أول لملحمتي هوميروس، أي إنه ذات يوم كان يوجد نص واحد فقط لا غير من ملحمة «الإلياذة» وملحمة «الأوديسة»، لهو أمر جوهري للدراسات الهوميرية الحديثة. دعونا نر ما سيحدث عندما نرتحل عكس التيار، بحثا عن الفترة الزمنية التي خرج فيها ذلك النص للوجود.
بطبيعة الحال ليست النصوص الباقية التي بحوزتنا موغلة في القدم؛ إذ يرجع تاريخ أقدم نص كامل «للإلياذة» كتب له البقاء إلى حوالي عام 1000 بعد الميلاد، وهو مخطوطة بيزنطية جميلة دونت على جلد الرق (الفيلوم)، محفوظة في مدينة البندقية، والاسم الشائع لها هو «فينيتوس إيه». وجلد الرق (الفيلوم) - الذي يطلق عليه أيضا البرشمان (نسبة إلى مدينة بيرجامون بمنطقة آسيا الصغرى حيث اخترع على ما يعتقد) - هو قوام جميل ومتين ولكنه مكلف للغاية لوثيقة مكتوبة. كانت مخطوطة فينيتوس إيه عندما دونت تمثل شيئا ذا قيمة مادية عالية.
1
ومثل أي كتاب من الكتب المعاصرة، تتشكل مخطوطة فينيتوس إيه من صحائف مجلدة بالخياطة، وهو شكل من المخطوطات نطلق عليه لفظة «كودكس»
codex
وتعني مجلد مخطوطات (وهي مشتقة من كلمة لاتينية تعني «جذع شجرة»؛ لأن الألواح المطوية كانت تصنع من الخشب ). وهكذا فإن الكتب المعاصرة هي «كوديسيس»
codices
أي مجلدات مخطوطات (جمع كلمة
codex
وتعني صحائف تجمع بخياطتها معا، وهو أقدم شكل للكتاب، وحل محل اللفائف وألواح الشمع)، رغم أن الورق يطوى مرات عديدة على شكل «ملزمات» قبل أن يخاط، ثم يفصل من عند الأطراف. ظهرت مجلدات المخطوطات - أول ما ظهرت - في القرن الثاني أو الثالث الميلادي ولاقت رواجا عبر استخدامها في وقت مبكر في الليتورجية (القداسات الإلهية) المسيحية. لم تكن النصوص الأقدم، بما في ذلك نصوص ملحمتي هوميروس، عبارة عن مجلدات مخطوطات، وإنما لفائف مصنوعة من ورق البردي، يطلق عليها في اللغة اللاتينية
volumina «فوليومينا» (أي «الأشياء الملفوفة»)، ومنها كلمة
volume (مجلد) التي نعرفها الآن. في اللغة اليونانية كانت الكلمة المرادفة للبردي هي
byblos ، وهو اسم ذلك الميناء (واسمه بالعربية جبيل) في الشرق الأدنى في فينيقية والذي كان يأتي منه، أو من مكان قريب منه، ورق البردي الذي أتاح وجود قصائد هوميروس.
اعتقد البعض أن كل كتاب من «الكتب» الأربعة والعشرين المكونة لكل من «الإلياذة» و«الأوديسة» يمثل المقدار الذي يصلح لأن يوضع بصورة مناسبة على لفيفة، بيد أن اللفائف كانت أطول بكثير وتستوعب «كتابين» أو ثلاثة بسهولة؛ وكثير من اكتشافاتنا من البرديات التي تحوي ملحمتي هوميروس كان عبارة عن لفائف احتوت على كتب عديدة. أما أصول تقسيم الملحمتين إلى أربعة وعشرين كتابا لكل ملحمة منهما فهي غير جلية، ولكن لعل المختصين بالمكتبات ابتغوا الإشارة إلى أن هذه القصائد الكلاسيكية اشتملت على المعرفة البشرية من الألف إلى الياء؛ أو أن الكتب شكلت تقسيمات مساعدة يمكن حفظ كل منها في الذاكرة كوحدة واحدة (ومع ذلك يظل التساؤل قائما: لماذا التقسيم على أساس كتاب واحد لكل حرف من الأبجدية؟) أو أن التقسيم يسر الفهرسة في الموزيون، وتعني باللغة اليونانية القديمة «المعبد المكرس للميوزات (ربات الإلهام)»، في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد (ولكن لماذا الأربعة والعشرون حرفا بأكملها؟) وتوجد دلائل تشير إلى أن التقسيم كان سابقا على الحقبة الإسكندرية، ولكن لا يمكننا التيقن من توقيت حدوث التقسيم على وجه التحديد. في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد كان هيرودوت لا يزال يشير إلى القصائد مستخدما مسمى «حادثة»، وليس باستخدام مسمى «كتاب».
وجنبا إلى جنب مع استخدامهم لأوراق البردي، كان الإغريق والرومان يكتبون ملاحظات ويؤلفون أعمالا طويلة على ألواح، غالبا ما كانت تصنع من الخشب، وكان يلحق بها من الخلف تجويف منخفض مملوء بالشمع كان الكتاب يضغطون فيه الحروف. وكان يمكن للألواح أن يلحق بها صحائف عديدة، ثم تطوى كالأكورديون؛ ولا يزال يوجد نموذج حقيقي، عثر عليه في بئر في نينوى حاضرة الحضارة الآشورية، التي دمرت في عام 612 قبل الميلاد. ويشير الذكر الوحيد للكتابة، الذي ورد في ملحمتي هوميروس بأسرهما إلى هذا النوع من الألواح (الإلياذة، الكتاب 6، البيت 168، وهو ما سنتناوله بتفصيل أكبر لاحقا؛ انظر شكل
1-2 ).
والمرجح أن معظم النظم المكتوب - والذي نحسب أنه كان كذلك - كان يجري على ألواح سريعة الزوال ومتكررة الاستخدام كهذه، وإن كان لا بد وأن بداية النصوص الهوميرية ذات الطول الهائل كانت على لفائف من ورق البردي مباشرة. ويرجع السبب في بقاء معظم الأدب الإغريقي إلى أنه، في وقت ما، نقل ما كان مكتوبا على ألواح إلى أوراق البردي، تلك المادة المعمرة السهلة النقل على نحو مدهش.
شكل 1-2: لوح خشبي من صحيفتين (يسمى «دبتك» وتعني اللوح المزدوج) من حطام السفينة الغارقة بالقرب من أولوبورون قبالة الساحل الجنوبي لتركيا المعاصرة. فيما مضى كانت المنطقة الوسطى المنخفضة تملأ بالشمع، المفقود حاليا من النموذج بالغ الندرة. يبلغ ارتفاع اللوح نحو خمس بوصات، ويرجع إلى حوالي عام 1350 قبل الميلاد. الصورة بإذن من معهد علم الآثار البحرية.
أتاح مجلد المخطوطات للقارئ البحث عن الأشياء بتقليب صفحات النص، كما نفعل هذه الأيام، في حين أنه كان من المعضل البحث عن شيء ما في لفيفة. كان تصميم مجلد المخطوطات يشكل ما هو أشبه بفاصل بين الأدبيات القديمة والحديثة. فما لم ينقل العمل من ملفوفة البردي إلى مجلد المخطوطات في القرون المسيحية الأولى، ومن ثم يتخطى حاجز تغير التصميم، كان يفقد: ومثال ذلك المجموعة الكاملة لكتابات الشعراء الغنائيين اليونانيين المجهولين، التي لم يقرأ منها إلا نذر يسير في القرون المسيحية الأولى، ومن ضمنهم الشاعران الشهيران صافو وألكايوس (اللذان لم ينج من أعمالهما إلا بضعة أبيات، أغلبها من برديات عثر عليها في مصر). ولعلنا نعيش في الوقت الحاضر انفصالا مماثلا بين حفظ المعلومات في نسخ مطبوعة وبين حفظها في ملفات إلكترونية، ومن ثم ينقل قدر كبير بينما يظل قدر كبير آخر غير منقول؛ وعليه فمن المستبعد أن تظل مكتباتنا الورقية الحالية قائمة، إلا في صورة آثار، في غضون مائة عام من وقتنا هذا. ويصدق القول نفسه على عشرات المليارات من الشرائح الفوتوغرافية الشفافة من مقياس 35 ملليمترا، التي ستندثر إن لم تحول إلى شكل رقمي.
قبيل نقل ملحمتي هوميروس من اللفائف إلى مجلدات المخطوطات في القرن الثاني أو الثالث الميلادي، كانت قد وضعت صيغة قياسية نطلق عليها صيغة «الفولجاتا»
vulgate
أو الصيغة «الشائعة». وتلك الصيغة ليست نصا منفردا بعينه، كحال نسخة «الفولجاتا اللاتينية» للكتاب المقدس، وهي ترجمة القديس جيروم للأصل العبري للعهد القديم إلى اللغة اللاتينية الدارجة في القرن الخامس الميلادي. وإنما هي، حسبما نعلم، تقليد نصي تكون فيه التباينات بين المخطوطات المختلفة طفيفة وهناك عدد ثابت من السطور. والصيغة الشائعة، أو صيغة الفولجاتا، التي تعود إلى القرون القليلة الأولى بعد الميلاد، والمدرجة في مجلدات للمخطوطات، تكاد تكون هي صيغتنا النصية المعاصرة، وإن خلت من قواعد الكتابة الحديثة.
سمحت المتانة الأكبر لجلد الرق (إلى جانب كلفته المفرطة) بصحيفة أكبر مما كان ممكنا في حالة لفيفة البردي، وتغطى الهوامش الرحبة لمخطوطة «فينيتوس إيه» النادرة بشروح كتبت بخط من العصور الوسطى يدعى «مينوسكول» وتعني الصغير، وهو أصل «الحروف الصغيرة» في وقتنا الحالي في مقابل خط «ماجوسكول» أو «الحروف الكبيرة» التي كان يكتب بها كل المخطوطات اليونانية، بما في ذلك ملحمتا هوميروس، حتى ذلك الوقت (قارن بشكل
1-3 ). (3) الإسكندريون
أتاح الخط الصغير من العصور الوسطى بالإضافة إلى الهوامش الكبيرة للنساخ أن يسجلوا في مخطوطة فينيتوس إيه مقتطفات مأخوذة من علماء عملوا في مكتبة الإسكندرية في مصر، تلك المكتبة التي أسسها الملك المفعم بالنشاط بطليموس الثاني (285-246 قبل الميلاد)، ابن قائد جيش الإسكندر، كجزء من «معبده المكرس للميوزات (ربات الإلهام)»، الذي يسمى الموزيون. وتقدم هذه الملاحظات الهامشية، المسماة «سكوليا»
scholia ، آراء حول كل موضوع يمكن تخيله فيما يتعلق بالقصائد الهوميرية. ودراسة الملاحظات الهامشية هي وسيلتنا الوحيدة لإعادة تشكيل تصور لما كان يعتقده العلماء الإسكندريون في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد بشأن المشكلات الهوميرية، على الرغم من أن طبقات إعادة الصياغة في هذه الملاحظات الهامشية تجعل من المستحيل التيقن بشأن من من العلماء اعتقد أمرا ما وماهية ما اعتقده. مما لا شك فيه أن الإسكندريين قد عاشوا بعد هوميروس بمئات السنين ولم يكن لديهم أي معرفة مباشرة بشأنه أو بشأن أصول نصه. وكان أقدم المعلقين هو زينودوتوس من أفسوس (القرن الثالث قبل الميلاد)، وتبعه أرسطوفانيس البيزنطي (حوالي 257-180 قبل الميلاد)، وأرسطرخس الساموسي تلميذ أرسطوفانيس (حوالي 217-145 قبل الميلاد)، وتبعهم في القرن الأول قبل الميلاد ديديموس العظيم الموقر الملقب ب «ذي الأحشاء البرونزية»، الذي قيل إنه كتب 3500 كتاب (فقدت جميعا)! ويود علماء فقه اللغة لو أنهم استطاعوا أن يشقوا سبيلهم رجوعا وصولا إلى النص الذي وضعه هوميروس نفسه بطريقة ما، ولكن علينا أن نعترف بأننا نكاد لا نملك أي دلائل بشأن الوضع الذي كان عليه النص فيما قبل المحررين الإسكندريين.
شكل 1-3: بردية بانكيس، تظهر «الإلياذة» الكتاب 24، الأبيات 649-691، وترجع إلى القرن الثاني الميلادي. كل الرموز «بالأحرف الكبيرة»؛ ولا يوجد تقسيم للكلمات أو أي علامات تشكيل أخرى. الصورة بإذن من المكتبة البريطانية. مجموعة: بردي (114).
بطريقة ما حقق العلماء الإسكندريون التوازن في نص ملحمتي هوميروس وضبطوه، بل إنهم أنشئوا صيغة «الفولجاتا» أو الصيغة «الشائعة» التي نقلت فيما بعد من البردي إلى مجلدات المخطوطات. ويأتي أفضل الدلائل لدينا على المشكلات التي واجهها الإسكندريون من الشذرات العديدة من قصائد هوميروس والتي كتبت لها النجاة على برديات وجدت في مصر (في الغالب الأعم على أغلفة مومياوات لتماسيح مقدسة)، أكثر بكثير مما ينسب لأي مؤلف آخر. فما يقرب من ثلث كل الشذرات الأدبية التي عثر عليها في مصر لهوميروس؛ وتظهر أجزاء من «الإلياذة» ثلاث مرات أكثر من أجزاء «الأوديسة». ولا يزال يوجد ما يقرب من أربعين شذرة من القرن الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وغالبا ما تحتوي هذه الشذرات على «أبيات دخيلة» لا وجود لها في نص الفولجاتا. المثير للانتباه أن التبدل في النص يسير باتجاه الإضافة فقط؛ إذ لا نجد أبياتا تسقط. ففي الأغلب الأعم تكرر «الأبيات الدخيلة» بيتا أو أبياتا توجد في موضع آخر أو تكون عبارة عن تنويعات محدودة لأبيات موجودة في مواضع أخرى، أو توليفات لأجزاء من أبيات تظهر في مواضع أخرى، ولا تحدث بأي حال من الأحوال تغييرات في السرد بإضافة شخصيات أو أحداث، رغم أنه في حالة متطرفة تحتوي شذرة بردي من القرن الثالث قبل الميلاد على ثلاثين بيتا مزيدا من بين تسعين بيتا محفوظا.
إننا نود بالتأكيد أن نعرف مصدر هذه الأبيات وعلاقتها بأي نص سابق، ولكن يتعين علينا أن نعتمد على التكهنات. أحيانا ما يتصور المعلقون أنه لا بد وأن يكون «إبداعا رابسوديا (الرابسوديون في التراث الشعري الإغريقي يقصد بهم رواة الملاحم)» هو المسئول عنها، كما لو أن شاعرا مؤديا أضاف أبياتا جديدة تسللت إلى النص. على أي حال، ليس المهم ما يقال، وإنما ما يكتب. فقد كان تدوين نص من قصائد هوميروس يعد من المهام الجسام، وليس شيئا كان يقوم به شاعر مؤد في كل مرة يكرر بيتا أو يعيد صياغته. ويتصور آخرون أن «الأبيات الدخيلة» تعكس تعددية أساليب التعبير التي اعتدناها في أشكال التراث الشفهي، كما لو أن النساخ دونوا «الإلياذة» و«الأوديسة» مرة بعد أخرى من منشدين مختلفين في مرات مختلفة، فيبدلون في مرة هذه الكلمة، وفي مرة أخرى تلك الكلمة، ويضيفون بيتا هنا أو آخر هناك، ونطاق التباينات محدود جدا بحيث لا يدعم أي تصور من هذا القبيل. إن «الأبيات الدخيلة» لا بد وأن تنتج عن تدخل من الناسخ وأن تعتمد على الدراية الوثيقة للناسخ بالنص، حتى يتذكر ويسجل صياغات لجمل وأبيات كاملة مرتبطة بالنص وهو يصنع مخطوطته. والتحريفات من هذا النوع شائعة في أي تقليد نصي.
ومن ثم فإن «الأبيات الدخيلة» لا تدل على وجود نسخ أصلية متعددة للقصائد. ولعل من الأمور البالغة الأهمية في محاولة فهم ملحمتي هوميروس حقيقة عدم وجود خطوط أصل متوازية لنصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، كما هو كائن، على سبيل المثال، في حالة القصيدة اليونانية «ديجينيس أكريتاس» التي تعود إلى العصور الوسطى (حوالي 1000 ميلاديا)، أو ملحمة «النيبلونجن» الألمانية (حوالي 1200 ميلاديا)، أو الملحمة السنسكريتية «مهابهاراتا» (حوالي 400 ميلاديا). فهذه الأعمال باقية في نسخ متعددة ومتمايزة، وأحيانا بلغات وأوزان شعرية مختلفة، وأحداث وشخصيات مختلفة، حتى إنه لا يتسنى لك مطلقا القول إن نسخة ما هي «الأصلية». على النقيض، فإن النسخ الأصلية من «الإلياذة» و«الأوديسة» كانت بالفعل موجودة، وليتنا نتمكن من استرجاعها. ورغم أنه ليس في مقدورنا ذلك، فإن علماء فقه اللغة مستمرون في جهودهم الحثيثة.
يبدو أن العلماء/الشعراء/المحررين الإسكندريين بخاصة هم الذين عكسوا عملية إضافات النساخ على النص بحذف الأبيات الدخيلة لوضع النص الشائع. ومع ذلك فما نعرفه بالفعل عن جهدهم لا يجعل من الميسور فهم الكيفية التي وقع بها هذا التوحيد القياسي. من التعليقات على هوامش النصوص نعرف أن العلماء الإسكندريين ابتكروا العديد من الرموز التي ما زالت تستخدم إلى يومنا هذا، ومن ضمنها رمز «أوبيلوس»، وهو عبارة عن علامة مرجعية على شكل خط في الهامش الجانبي (− أو ÷) للتدليل على أن الأبيات المشار إليها مشكوك فيها لسبب ما. ومع ذلك لم تكن الأبيات المشار إليها برمز أوبيلوس تحذف فعليا من أي نص بعينه، بقدر ما نستطيع أن نستنتج من التعليقات المدونة على هوامش النص. ومع ذلك، غالبا ما يطلق العلماء على النص الشائع تسمية «نص أرسطرخس». بحلول القرن الأول الميلادي كانت «الأبيات الدخيلة» قد اختفت من شذرات البردي، كما لو أن حجية طبعة أنتجها الموزيون قد حلت محل النسخ العشوائية السابقة. ولعل استبدال الكتاب اعتمد على عمل أو صنيع ملكي؛ إذ صنع الموزيون النسخة الرسمية (تحت إشراف من أرسطرخس أو آخرين) وسرعان ما سادت حجية هذه النسخة. وفيما بين عامي 150 قبل الميلاد و700 ميلاديا لدينا حوالي 900 شذرة بردية هوميرية يظهر فيها تفاوت طفيف.
في حين أن لدينا قدرا وافرا من شذرات البردي من مصر، لا يبقى إلا القليل مما يمكن الاستدلال به على الشكل الذي ربما كان عليه النص في السابق. يعتقد البعض أن النص الأقدم كان يشبه النص الشائع، أو بعبارة أخرى أن المحررين في الإسكندرية قد أبلوا بلاء حسنا فيما يتعلق باستبعاد إضافات النساخ والمآخذ البسيطة من نص قياسي أقدم. إن كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن يكون النص الشائع الذي يرجع إلى حقبة ما قبل الإسكندريين قد أتى من أثينا، حيث أديت أجزاء من كلتا الملحمتين في مهرجان عموم أثينا الضخم. ونحن نعرف أن الإسكندريين قد حصلوا من أثينا على مجموعة قياسية من الأعمال التراجيدية اليونانية، وأن أثينا كانت مركز الحياة الأدبية اليونانية. يشير المعلقون القدماء إلى فئة من نسخ لملحمتي هوميروس باسم «نسخ المدن»، التي أتت من سبعة أماكن في النطاق ما بين مارسيليا وقبرص، ولكن ما يبعث على الفضول أنها لم تأت من أثينا. ويشير المعلقون القدماء إلى فئة أخرى من النصوص يطلقون عليها اسم
koinê ، وتعني «شائع»؛ قد تكون هذه النصوص «الشائعة» هي النصوص الأثينية، أو النص الشائع (الفولجاتا) السابق على حقبة الإسكندريين.
ما زال يوجد نحو 480 بيتا من ملحمتي هوميروس تعود إلى ما قبل الحقبة الإسكندرية، واقتبست في أعمال مؤلفين آخرين؛ أي فيما قبل حوالي 300 قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن الاستشهادات من قبل كتاب القرن الرابع الميلادي، مثل أفلاطون (209 أبيات) وأرسطو (98 بيتا)، أحيانا ما تختلف عن النص الشائع (الفولجاتا) الإسكندري، فإن هؤلاء الكتاب على ما يبدو كانوا يقتبسون من الذاكرة بطريقة خرقاء، وقدر التفاوت ليس كبيرا بأي حال. ولا يوجد لدينا من حقبة ما قبل عام 400 قبل الميلاد إلا بضعة استشهادات. فيستشهد هيرودوت بأحد عشر بيتا، يتطابق كل واحد منها مع النص الشائع (الفولجاتا) الإسكندري، بيتا ببيت، وكلمة بكلمة، وحرفا بحرف. وينطبق الشيء نفسه على البيت الوحيد الذي استشهد به ثوكيديديس من «الإلياذة»، والأبيات الأربعة الكاملة عند أرسطوفانيس، والاثني عشر بيتا الكاملة عند المؤرخ كسينوفون (427-355 قبل الميلاد). (4) لوح بيليرفونتيس: حجج فريدريش أوجست وولف
ترتبط المسألة الهوميرية ارتباطا وثيقا للغاية بتاريخ الكتابة؛ وذلك لأن ملحمتي هوميروس عند علماء فقه اللغة يمثلهما نص ملحمتي هوميروس، ولأن النص يتألف من علامات رمزية على جسم مادي. منذ وقت مبكر في القرن الأول الميلادي لاحظ يوسف بن ماتيتياهو، أو يوسيفوس - وهو قائد عسكري يهودي مهم ومؤلف كتاب «تاريخ الحرب اليهودية» (حوالي 37-101) - صلة الكتابة بالمسألة الهوميرية. في مقالة «ضد أبيون» هاجم يوسيفوس يونانيا يدعى أبيون كان قد شكك في قدم وعراقة اليهود. ولكن اليونانيون أنفسهم، حسبما يحتج يوسيفوس، هم مجرد شعب حديث العهد، لم يكن حتى قد عرف الكتابة حتى وقت متأخر للغاية:
يقال إن حتى هوميروس لم يخلف قصائده مدونة، بل تناقلها الرواة اعتمادا على الذاكرة وجمعت معا أخذا من الأناشيد، ولذلك تحتوي على كثير من التناقضات. (مقالة «ضد أبيون» الجزء 1، الفصل 2، الفقرة 12)
ويمضي يوسيفوس ليقول إنه نظرا لأن الإغريق كانوا حديثي عهد بالكتابة، فإن من المستبعد أن تكون أناشيد هوميروس بالغة الطول قد رأت النور بنفس الصورة التي بين أيدينا. لا بد وأنها صيغت من قصائد محفوظة أقصر، ودونت فيما بعد، ثم جمعت في «الإلياذة» و«الأوديسة».
لم يأت يوسيفوس بأدلة على آرائه ولم يكن يملك أي دليل؛ إذ إن وحدها الأبحاث الأكاديمية الحديثة هي التي جعلت التحديد الدقيق لوقت اختراع الأبجدية الإغريقية ممكنا؛ ومن ثم التحديد الدقيق «للزمن الذي بعده» الذي يمكن أن تكون القصائد الهوميرية قد خرجت فيه للوجود. ولم يمتلك الباحثون الأوروبيون في القرن الثامن عشر أي دليل مقبول يمكنهم من تحديد زمن نشأة الأبجدية اليونانية، إلا أن باحثا ألمانيا (يكتب باللغة اللاتينية) يدعى فريدريش أوجست وولف (1759-1824) ادعى نفس زعم يوسيفوس بعزم وألمعية أثرا في كل الدراسات الأكاديمية اللاحقة المتعلقة بهوميروس. في عام 1795 نشر وولف نظرية معقدة عن منشأ القصائد الهوميرية في كتاب باللغة اللاتينية يسمى «مقدمات نقدية إلى هوميروس»، مرتكزا في نموذجه التحليلي على نظريات معاصرة عن نشأة الكتاب المقدس العبري من خلال التنقيح التحريري لمخطوطات موجودة من قبل. كان الغرض من «المقدمات النقدية» أن تسبق طبعة نقدية محققة لنص ملحمتي هوميروس، لكن الطبعة لم تصدر أبدا. استهل وولف تفسيره للمعضلة بالقول إنه في حين أن قصائد هوميروس توجد مكتوبة، إلا أنه لا يبدو أن الصفات المرتبطة بالكتابة تظهر في قصائده:
لا وجود لكلمة «كتاب»، ولا وجود لكلمة «كتابة»، ولا وجود لكلمة «قراءة»، ولا وجود لكلمة «حروف»، لا وجود لأي تهيئة للقراءة في آلاف مؤلفة من الأبيات، كل شيء مهيأ للاستماع؛ لا وجود لأي مواثيق أو معاهدات إلا وجها لوجه؛ ولا يوجد أي مصدر للإخبار عن الأزمنة القديمة إلا عن طريق الذاكرة والشائعات وآثار تخلو من الكتابة؛ ومن ذلك تأتي، في «الإلياذة»، التضرعات الدءوبة الحثيثة والمتكررة بجهد شديد الموجهة للميوزات، ربات الذاكرة؛ وليس ثمة أي نقش على الأعمدة والمقابر التي يرد أحيانا ذكرها؛ ولا أي نقش آخر من أي نوع؛ وليس هناك عملة نقدية أو مال مصنوع؛ ولا يوجد أي استخدام للكتابة في الشئون الداخلية أو التجارة؛ وليس هناك خرائط؛ وأخيرا ليس هناك حاملو رسائل ولا رسائل.
2
ودفع وولف بأنه يمكننا أن نطرح جانبا الاستثناء الظاهري الوحيد في الكتاب السادس من «الإلياذة»، والذي يحكي فيه البطل الليكي جلاوكوس حكاية جده الأكبر بيليرفونتيس؛ إذ يروي أن برويتوس ملك أرجوس قد أرسل ضيفه بيليرفونتيس - الذي اتهمته الملكة زورا بالتحرش بها جنسيا - إلى عم الملك عبر البحر في إقليم ليكيا. أعطى الملك برويتوس لبيليرفونتيس «لوحا مطويا» (انظر شكل
1-2 ) عليه (
sêmata lugra ) «علامات مهلكة» (الإلياذة، 6، 168-169)؛ والمحتمل أن الرسالة هي «اقتل حامله!» ومع ذلك لم يستطع عم الملك برويتوس نفسه قتل ضيفه وصديقه بيليرفونتيس؛ لأن ذلك كان من شأنه أن يعتبر جريمة شنعاء بحق خانيا، أو حسن الضيافة، وهي التقاليد المقدسة التي تنظم العلاقة بين المضيف والضيف. فأرسله، عوضا عن ذلك، ليقاتل الكمير، المخلوق الأسطوري المخيف الهجين الذي يمزج في تكوينه بين أكثر من نوع واحد من المخلوقات.
يحظى «لوح بيليرفونتيس» بثقل في كل نقاش بشأن معضلة هوميروس والكتابة إلى وقتنا هذا. في هذه الفقرة ينكر وولف أن هوميروس قد أشار إلى «الكتابة»؛ لأنه في الاستخدام الدارج في اللغة اليونانية في الأزمنة اللاحقة لا تدل كلمة
sêmata «علامات» - الكلمة التي يستخدمها هوميروس كناية عن العلامات على اللوح المطوي - على حروف الكتابة، التي يطلق عليها
grammata «الكتابة بالنقش». فضلا عن ذلك، أصر وولف على أنه في اللغة اليونانية السليمة لا يستخدم الفعل «يري» (deixai)
أبدا للتعبير عن عرض المرء شيئا مكتوبا على شخص ما، حسبما يذكر هوميروس. ومن ثم كانت «علامات» هوميروس رموزا غير ملحقة بكلام بشري. إنها مثل العلامات الوارد ذكرها في فقرة هوميرية أخرى، تلك التي يصنع فيها الأبطال الآخيون علامات على قطع حجارة للقرعة ويهزونها في خوذة ليقرروا من سوف يقاتل هيكتور (الإلياذة، 7، البيت 175 وما بعده). وعندما تطير قرعة خارجة [من الخوذة]، لا يعرف المنادي ما تعنيه العلامة، ولكن يتعين عليه أن يمرر القرعة على صف الرجال الواقف إلى أن يتعرف صانع العلامة عليها. إن افتراض وولف أن «الكتابة» تتطلب علاقة مباشرة بين الرموز الكتابية وبين الكلام البشري هو أمر لم يفصح عنه لكنه مفهوم ضمنا.
نحن ننظر الآن إلى «الكتابة» على أنها فئة أعم، باعتبارها تتضمن نوعين؛ أحدهما يشير إلى عناصر الكلام البشري، وهو ما يسمى
lexigraphy «نظام تحويل الكلام إلى رموز»، أي «كتابة الكلام»، والآخر يتواصل بعكس ذلك، أو ما يطلق عليه
semasiography ، «كتابة العلامات». فالكتابة التي يحتويها هذا الكتاب هي في أغلبها «كتابة للكلام»، ولكن العلامات [:]، [)]، و[.] هي «كتابة للعلامات»؛ لأن لها معنى لكنها لا تدل على عناصر لا غنى عنها في الكلام البشري؛ وهي تنطق على نحو مختلف في كل لغة. والأبجدية اليونانية هي «كتابة للكلام» والأيقونات على شاشة جهاز الكمبيوتر هي «كتابة للعلامات». ومن الواضح أن «العلامات المهلكة» في هذه الفقرة المهمة في ملحمة هوميروس هي علامات مكتوبة بالرموز، على الأقل كما فهمها هوميروس؛ لأنها تحمل معنى، ولكن لا يبدو أنها تشير إلى كلام ما. وهي ليست دليلا على التقنية التي أتاحت قصائد هوميروس. لم يحتج وولف بأي حال من الأحوال إلى إجراء استثناء في حالة «العلامات المهلكة»؛ لأن حجته لم تعتمد على مثال واحد ملتبس، وإنما على الثبات الجدير بالملاحظة لجهل هوميروس بالكتابة. وبشأن أولئك الذين رفضوا تفسيره «للعلامات المهلكة»، فقد علق وولف بكلمات ما زالت صحيحة في وقتنا الحاضر قائلا: إن هذه العبارة اليونانية «قد صارت أكثر تعقيدا على يد أولئك الذين لم يعتادوا معرفة الأعراف الهوميرية من هوميروس وإنما اعتادوا استجلابها إلى نصه، والتلاعب بالكلمات الملتبسة لتتوافق مع أعراف زمنهم» (وولف، 97).
من الواضح في قصة لوح بيليرفونتيس أن هوميروس قد تلقى عن مصدر شرقي - إضافة إلى قصة شرقية - فكرة «الرسالة القاتلة» المأخوذة من الحكايات الشعبية. تظهر الفكرة في القصة التوراتية عن داود وأوريا الحيثي، الذي يرسله داود إلى الخطوط الأمامية في الجيش ومعه رسالة تحوي أمرا بتعريضه لخطر مميت (إذ أراد داود أن يتزوج بثشبع زوجة أوريا: سفر صموئيل الثاني، الإصحاح 11: الآية 15). يبدو أن اسم بيليرفونتيس مأخوذ عن اسم إله الشرق الأدنى بعل إله الريح. يبعث الملك الليكي ببيليرفونتيس في مواجهة مخلوق الكمير، وهو تنويع على أسطورة عن قاتل تنين وجدت بالفعل على ألواح طينية يرجع تاريخها إلى حوالي عام 1400 قبل الميلاد من مدينة أوغاريت التي كانت تعد مركزا تجاريا دوليا على الساحل السوري بالقرب من قبرص: يقع إقليم ليكيا على الطريق الساحلي غرب أوغاريت (خريطة 1). والكمير هو وحش شرقي، ربما كان حيثيا. وهكذا جاءت الفكرة مع القصة. لم يعرف هوميروس شيئا عن «الكتابة»: وهو المطلوب إثباته. في زمن هوميروس، كان قد مضى على كتابة الكلام البشري أكثر من ألفي عام في الشرق الأدنى، ونحن نتساءل كيف ظل هوميروس جاهلا بالأمر، حتى إنه يشير إلى الكتابة مرة واحدة في 28 ألف بيت وبطريقة مشوشة. إن غياب الكتابة في عالم هوميروس لخير شاهد على انحصار وإقليمية المجتمع الهيليني بعد سقوط الحضارة الميسينية في حوالي 1150 قبل الميلاد، ودليل على العزلة الهيلينية عن مراكز الحضارة القديمة.
خريطة 1: البحر المتوسط في الأزمنة القديمة.
يبدأ الشكل الحديث للمسألة الهوميرية على يد فريدريش أوجست وولف؛ لأنه أدرك المشكلة بجلاء: إذا كان هوميروس لا يعرف شيئا عن الكتابة، فكيف حفظت قصائده بالكتابة؟ وذهب وولف، مفترضا كما فعل كثيرون (دون سبب وجيه) أن هوميروس عاش حوالي عام 950 قبل الميلاد، عندما لم تكن الكتابة معروفة في اليونان (وهو افتراض آخر من قبله)، إلى أن قصائد هوميروس لا بد وأن تكون قد حفظت على هيئة أناشيد قصيرة بما يكفي لأن تحفظ عن ظهر قلب دون الاستعانة بالكتابة. واعتقد وولف أن الأجيال قد تناقلت القصائد في هذه «الصيغة الشفهية» إلى أن دونت عندما ظهرت الكتابة لاحقا. ورأى وولف أنه في القرن السادس قبل الميلاد، في عهد الطاغية الأثيني بيسيستراتوس، جمع مصححون مهرة النصوص المكتوبة الأقصر وصاغوا ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» الرائعتين (تعتريهما بعض العيوب بالطبع) كما نعرفهما.
كان نموذج وولف متزامنا مع - ومستلهما من - الاكتشاف الذي حدث في أواخر القرن الثامن عشر والذي مفاده أن البانتاتيك (وتعني اللفائف (أو الكتب) الخمسة) التوراتية - وهي الأسفار الخمسة الأولى للكتاب المقدس - تشكلت من ثلاثة أو أربعة عناصر نصية مزجت ببراعة، ولكن بطريقة تنقصها السلاسة على أيدي المصححين، ولا شك في أن ذلك قد حدث أثناء سبي الطبقة الحاكمة اليهودية وإبعادهم من أورشليم إلى بابل (586-538 قبل الميلاد). وعلى الرغم من نسبتها إلى موسى - الذي ربما يكون قد عاش في أواخر العصر البرونزي حوالي عام 1200 قبل الميلاد - فإن البانتاتيك ترجع إلى حقبة متأخرة جدا بما لا يصح معه إسنادها إليه بأي سبيل يعتد به. في فترة ما من القرن السادس قبل الميلاد، جلس علماء دين يهود في غرفة وأمامهم لفائف مختلفة، بانتقائهم شيئا من هنا وشيئا من هناك، مزج هؤلاء المصححون نصوصا متباينة كانت موجودة من قبل ليصنعوا النسخة التي بين أيدينا اليوم. فأطلق البعض على الرب اسم يهوه (من الواضح أنها كانت روحا بركانية من [جبل] سيناء)، ودعاه آخرون إلوهيم (المرادف في اللغات السامية لكلمة «آلهة»). ولهذا السبب يحمل كلا الاسمين في سفر التكوين، وتلك فرضية يتفق عليها كل علماء العصر الحديث بشأن المصادر التي نشأ منها نص البانتاتيك.
كان دليل وولف على نظريته معقدا؛ فبعض الملامح الظاهرية المتصلة باللهجات تعكس على ما يبدو معالجة أو تنازعا أثينيين للنص، وهو ما يتفق مع نظرية مفادها أن النص «الشائع» الإسكندري كان قد جاء من أثينا. وبحسب شيشرون، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، أي قبل يوسيفوس بنحو 100 عام، كان الطاغية الأثيني بيسيستراتوس (605؟-527 قبل الميلاد) «أول من جمع كتب هوميروس بالترتيب الذي بين أيدينا، تلك التي كانت قبل ذلك مختلطة» (كتاب «في الخطابة» 3، 137). يبدو أن شيشرون يقصد أن «الكتب» - أي لفائف البردي - كانت تتداول من قبل بمعزل عن بعضها ومن ثم كان من الممكن أن تلقى بترتيب مختلف في كل مرة، حتى عهد بيسيستراتوس. عاش شيشرون بعد بيسيستراتوس بنحو 600 سنة، إلا أنه اعتمد على معلق هيليني، ربما كان يعرف شيئا ما.
يبدو أن ملاحظات شيشرون تتفق مع الزعم الذي يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد والوارد في المحاورة الأفلاطونية «هيبارخوس» (التي ربما تكون منسوبة لأفلاطون خطأ)، وهو تراث سبق وأن أشرنا إليه. في محاورة «هيبارخوس» يشير سقراط إلى هيبارخوس ابن بيسيستراتوس بأنه «أكبر أبناء بيسيستراتوس وأكثرهم حكمة، الذي كان - كواحد من ضمن براهين عديدة فائقة على الحكمة التي أبداها - كان أول من جلب قصائد هوميروس إلى بلدنا هذا وألزم رجالا يدعون «الرابسوديين» (وتعني رواة الملاحم الشعرية) في مهرجان عموم أثينا (المهرجان الأثيني الرئيسي) بأن يلقوها بالتتابع، رجل يعقب آخر كما لا يزالون يفعلون في زماننا هذا» (أفلاطون، محاورة «هيبارخوس» المنسوبة كذبا إلى أفلاطون، 228ب). إن كانت ثمة حاجة إلى قاعدة لتضبط الطريقة التي ينبغي أن تقرأ بها القصائد، فلا بد وأنه كان يوجد أوقات كانت تقرأ فيها بشكل آخر خلاف ذلك، أي دون اتباع ترتيب. وكانت هذه المعلومة تعني لوولف أن القصائد حتى ذلك الوقت لم تكن تشكل وحدة واحدة، وإنما وجدت أولا في قطع قصيرة ملائمة للحفظ عن ظهر قلب، وهو ما فرضته معيشة هوميروس في زمن لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة.
ارتأى وولف أنه في حين أن معظم القصائد التي دخلت في تشكيل المؤلف الجامع المستحدث في القرن السادس قبل الميلاد - والذي يعرف في الوقت الحاضر باسم «تنقيح بيسيستراتوس» - كانت من تأليف هوميروس، فإن بعض القصائد كانت من تأليف من يطلق عليهم «الهوميروسيين»، أي «سليلي هوميروس»، الذين قيل في مصادر متعددة إنهم كانوا يعيشون في جزيرة خيوس. ويأتي على ذكرهم بندار الذي كان يعيش في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد. ومع ذلك فليس ثمة شيء حقيقي معروف عن الهوميروسيين، باستثناء أنهم ألقوا قصائد هوميروس ورووا حكايات عن حياته. ومن المرجح أن يكون وجودهم على جزيرة خيوس هو أصل القصة القائلة إن هوميروس نفسه - الذي ليس معروفا عنه أي شيء البتة - جاء من جزيرة خيوس. وطرح وولف نظرية مفادها أن بيسيستراتوس ربما تلقى القصائد القصيرة من الهوميروسيين والتي جمعت بعد ذلك في شكل القصائد التي بحوزتنا في الوقت الحاضر.
خلاصة القول: لا يمكن أن يكون لديك قصائد طويلة مثل «الإلياذة» و«الأوديسة» دونما كتابة، بصرف النظر عن المزاعم المبالغ فيها بشأن مهارات التذكر لدى الشعوب القديمة. ولأن عالم هوميروس هو عالم من دون كتابة، فلا يمكن أن تأتي القصائد - الموجودة في صورة مكتوبة - مباشرة من هذا العالم. لا بد بطريقة ما أن تكون نتاج التطور. ولم يعد ينسب شكلها الحالي ولا محتواها إلى شخص ما كان يسمى هوميروس إلا بقدر ما ينسب إلى موسى كتابة الأسفار الأولى من الكتاب المقدس (التي تصف موت ودفن موسى). إن الإسنادات الباطلة - أي نسب العمل إلى غير كاتبه - متشابهة. قد يختلف الباحثون بشأن موقع هوميروس على منحنى التطور الذي يبدأ في عالم أمي يجهل الكتابة وينتهي بالقصائد التي بحوزتنا، ولكن في نظر وولف فإن موقع هوميروس كان في بداية المنحنى كمبتدع للقصائد القصيرة التي صنع منها المصححون الأثينيون «تنقيح بيسيستراتوس» في القرن السادس قبل الميلاد، الذي يعتبر الأساس الذي استند إليه النص الذي مر عبر الإسكندرية وصار نص الفولجاتا «النص الشائع» الحديث.
لم يختلف باحث ذو شأن مع نموذج وولف، ولأكثر من 100 سنة - طوال القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين - فحص باحثون نبهاء ومتفانون بدقة القصائد الهوميرية من كل زاوية من أجل تحديد الأناشيد المنفصلة، أو الإضافات، التي كان وولف قد أثبت أن القصائد قد جمعت منها. وحتى في الوقت الحاضر يوجد باحثون يأخذون بحجة وولف إلى حد بعيد. على سبيل المثال، يكتب أحد محرري نقد أكسفورد المعاصر ذي المجلدات الثلاث «للأوديسة» عن الكتاب رقم 21 من الأوديسة ما يلي:
يميل شاديوالت إلى القبول بوجود وحدة واضحة في التأليف في «الكتاب» الحادي والعشرين، وينسب الكتاب بكامله إلى المؤلف «أ» (مؤلف افتراضي) مستثنيا ثمانية أبيات؛ ألا وهي: تفاخر تليماك (تليماخوس) في الأبيات 372-375 (سبق وأن رفضها بيرار)، التي يستلزم استبعادها حذف تشبيه الخاطب في البيتين 376-377 والشطر والنصف الأول من البيت 378 (الذي بالتالي سيلزم إعادة كتابته)؛ وصاعقة زيوس في الأبيات 412-415. والأخيرة هي إقحام ميلودرامي، كما لاحظ فون دير مول.
3
إن الأمر برمته هو مؤامرة تنطوي على إقحام فقرة مدسوسة على النص، وتنقيحه، وتعدد مؤلفيه!
كشأن هذه الملاحظات، كان تفسير وولف متبحرا ومنطقيا وبارعا، إلا أنه، كشأن هذه الملاحظات أيضا، كان خاطئا تماما. لقد وضع يده على المشكلة الجوهرية - ألا وهي قصيدة مكتوبة من عصر لم يعرف القراءة ولا الكتابة - بيد أن قلة في وقتنا هذا هم من يعتقدون أن القصائد الهوميرية ظهرت للوجود كتنقيحات تحريرية لنصوص موجودة سلفا، مثلما كان ظهور البانتاتيك التوراتي من دون شك. وقد دعي أنصار وولف محللين؛ لأنهم سعوا إلى تفكيك نصوص هوميروس إلى عناصرها الأساسية المكونة لها، وأنتجوا نظريات مثيرة للاهتمام وبراهين معقدة، ولكن لأن افتراضاتهم كانت خاطئة، كان جهدهم بدرجة كبيرة مضيعة للوقت. فبشكل ما، تتألف النصوص الهوميرية من أناشيد أقصر، ولكنها ليست نصوصا منقحة. إنها قصائد أصلية موحدة وضعت من مواد متوارثة على يد ذكاء بشري منفرد، كما أثبت الكاليفورني ميلمان باري في أوائل القرن العشرين. (5) نظرية الصيغ الشفاهية: حجج ميلمان باري
عاش ميلمان باري (1902-1935) حياة رومانسية ومات في ريعان شبابه وهو في الثالثة والثلاثين (يرجح أنه مات منتحرا). برهن باري من خلال دراسات أسلوبية ثاقبة للنصوص الهوميرية على أن أسلوب هوميروس الأدبي كان متفردا وغير معروف لدى الشعراء من أمثال شاعر القرن الثالث قبل الميلاد اليوناني الأصل الإسكندري المولد أبولونيوس الرودسي، مؤلف ملحمة «أرجونوتيكا»، أو شاعر القرن الأول قبل الميلاد الروماني فيرجيل، مؤلف ملحمة «الإنياذة»، أو شاعر القرن السابع عشر الإنجليزي جون ميلتون، مؤلف ملحمة «الفردوس المفقود». أثبت باري - من وجهة نظر أسلوبية - أن هوميروس نظم مستعينا بوحدات أكبر من «الكلمة»، وأن هذه الوحدات تشتمل باصطلاحاتنا على مقاطع، وأبيات كاملة، ومجموعات من الأبيات، بل وحتى أنماط سردية أكبر. وضع باري حدا فاصلا بين وجهة النظر القديمة من أن الشعر العظيم ينظم باستخدام كلمات جميلة متأنية تنتقى بدقة لتلائم اللحظة وبين وجهة النظر الحديثة القائلة إن في مقدور الشعراء أن يمارسوا سحرهم بوسائل أخرى. كانت نظرياته أكثر تأثيرا من نظريات أي ناقد أدبي آخر من القرن العشرين، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية فهمنا لهوميروس، ولكن فيما يتعلق بكيفية فهمنا للأدب نفسه، من ناحية أصوله وطبيعته. (5-1) النعت الثابت
بدأ باري بالمعضلة القديمة المتعلقة بالنعت الثابت في قصائد هوميروس، تلك العبارات الثابتة التي تلحق بأسماء معينة يلاحظها على الفور كل قارئ، والتي تسترعي الانتباه وتثير الحيرة. لماذا يوصف آخيل بأنه «ذو القدمين السريعتين» حتى عندما يكون جالسا، وهيكتور بأنه «ذو الخوذة اللامعة»، وهيرا بأنها «ذات العيون الواسعة كالمها»، والبحر بأنه «داكن كالخمر»؟ انتبه كثيرون لهذا الأمر، لكن باري كان أول من لاحظ أن هذه النعوت الثابتة كانت تتغير ليس تبعا للسياق السردي، أي ما كان يحدث في القصة، وإنما تبعا لوضع اسم البطل ضمن نظم البيت. بعبارة أخرى، لبى النعت ضرورات الوزن الشعري، وليس متطلبات السرد.
حسب التحليل الحديث ، يتألف وزن قصائد هوميروس المعقد، الذي يطلق عليه الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية، من أبيات مكونة من ست وحدات أو «تفعيلات»، يمكن لكل واحدة منها أن تتشكل من مقطع طويل ومقطعين قصيرين ( - ∪∪
ويطلق عليها التفعيلة الدكتيلية [من كلمة إصبع باليونانية]) أو مقطعين طويلين (- - وتسمى التفعيلة السبوندية أو التفعيلة ذات المقطعين)، ما عدا التفعيلة السادسة والأخيرة، التي تحتوي على مقطعين فقط، أولهما طويل. والمقطع الثاني من التفعيلة الأخيرة يمكن أن يكون طويلا أو قصيرا، ولكن كان يعطي إيحاء بطوله ربما بسبب تتمة البيت الشعري؛ فيما يعني أن الوزن السداسي يختتم دوما بتفعيلة سبوندية (- -). يشير تعبيرا «قصير» و«طويل» إلى الوقت الذي يستغرقه نطق الحرف المتحرك، الذي يعتمد بدوره على الطبيعة الجوهرية للحرف المتحرك أو على الإطار الصوتي للحرف المتحرك (إذ يتحول حرف متحرك قصير متبوع بحرفين ساكنين إلى حرف متحرك طويل). أحيانا ما يحاكي شعراء العصر الحديث أنفسهم هذا الوزن، مستبدلين النبر بطول الحرف المتحرك، كما في قصيدة «إيفانجلين» (1847) لهنري وادزورث لونجفيلو (1807-1882):
This is the forest primeval. The murmurings pines and the hemlocks,
Bearded with moss, and in garments green, indistinct in the twilight ...
وترجمتها:
هذه هي الغابة القديمة قدم الدهر. أشجار الصنوبر والشوكران المهمهمة،
المتشحة جذوعها بالطحالب، وبملابس خضراء، تتوارى في الغسق ...
لم يكن هوميروس ليعرف شيئا عن أي من هذا، لكن كان لديه استشعار بوحدة مكونة من ستة مقاطع أساسية، كل مقطع يتبعه مقطعان أقصر أو مقطع واحد أطول، إلا أن المقطع السادس الأساسي دائما ما يتبع بمقطع منفرد. يعتمد مفهوم «البيت» على وجود نص مكتوب، ويسبق هذا النمط الإيقاعي النص المكتوب بأمد بعيد جدا، ورغم ذلك فإن القاعدة المتعلقة بالتفعيلة السادسة السبوندية تعني أنه لا بد وأنه كان يوجد ثمة وقف، أو لربما كان يوجد ثمة وقف. في الحقيقة غالبا ما تحد نهايات الأبيات وحدات مكتملة المعنى، ولقد بحث باري بتدقيق الوسائل التي كان هوميروس يطيل بها وحدة مكتملة المعنى إلى ما بعد نهاية البيت (وهو ما يسمى بالتضمين). فمثلا، البيت الأول في «الإلياذة» مكتمل بذاته: «غن لي، أيتها الإلهة، غضبة آخيل، ابن بيليوس.» بيد أن الكلمة الأولى في البيت الثاني
baneful
والتي تعني وبيلة/مدمرة (التي تقيد معنى كلمة «غضبة»)، تستطرد الفكرة إلى البيت التالي. وكان من شأن المستمعين إلى هوميروس أيضا استشعار هذا الوزن ومقابلاته، مما من شأنه أن يزيد متعتهم واستيعابهم.
يعين نمط النعوت الشاعر على صياغة البيت الموزون عن طريق توفير وحدات جاهزة القوالب أكبر من الاسم أو مما نعتبره «كلمات». ويتسم النمط المتضمن في البيت الموزون بالاسترسال مع الاعتدال: فيتسم بالتفصيل بسبب النعوت المتنوعة المخصصة لمواضع مختلفة في البيت، وبالاعتدال لأنه عادة ما يوجد نعت واحد منفرد لأي موضع معين في البيت.
على سبيل المثال، حينما يرغب الشاعر في إكمال التفعيلتين الأخيرتين من البيت باسم أوديسيوس، فإن البطل يدعى «أوديسيوس الإلهي» (
dios Odusseus = - ∪∪/- - ). وعندما يرغب في إكمال التفعيلتين ونصف التفعيلة الأخيرتين للبيت، عندئذ يكون اسمه «أوديسيوس واسع الحيلة» (
polumêtis Odusseus = ∪∪/- ∪∪/- - ، وكثيرا ما يصحب الاسم والنعت الفعل «قال»
prosephê ، وهو ما حدث أكثر من سبعين مرة.) غير أنه إذا كانت الكلمة السابقة في الموضع نفسه تنتهي بحرف متحرك قصير يستلزم إطالته بالاستعانة بإطاره الصوتي، عندئذ يصبح «أوديسيوس مدمر المدن»؛ لأن نعت «مدمر المدن» يبدأ بحرفين ساكنين في اللغة اليونانية، والحرفان الساكنان يطيلان الحرف المتحرك القصير السابق عليهما (
ptoliporthos Odusseus = ∪∪/- ∪∪/- - ). علاوة على ذلك، ففي أكثر من 90 بالمائة من الأبيات الهوميرية يطرأ تقسيم غريب للكلمة في التفعيلة الثالثة يدعوه الباحثون
caesura (أي «انقطاع»)؛ أي إن كلمة ما لا تنتهي قبل أو بعد التفعيلة، وإنما في منتصفها، بحيث «يقطع» المقطع الأخير للكلمة التفعيلة إلى جزأين. إلا أن انقطاع التفعيلة الثالثة يشكل موضعا عادة ما تلتقي عنده عبارات ثابتة، بحيث تشغل عبارة شطر البيت الذي يسبق الانقطاع، وتشغل العبارة الثانية شطر البيت الذي يلي الانقطاع. وحتى يكمل الشاعر البيت باسم أوديسيوس بعد انقطاع التفعيلة الثالثة - وهي ضرورة متكررة - يعمد إلى استخدام العبارة الثابتة «أوديسيوس الإلهي، قوي التحمل» (
polutlas dios Odusseus ∪/- -/- ∪∪/- - ). وثمة انقطاعات أخرى في البيت تؤدي دورا رابطا بين العبارات على نحو مشابه.
ولما كانت النعوت لا تتبدل وفقا للسياق السردي، وإنما وفقا للضرورات العروضية، فإن علينا أن نوائم فهمنا للقيمة الدلالية للنعت ، أي ما «يعنيه». لا شك في أن النعوت المتباينة المتكررة لأوديسيوس تخبرنا بشيء عن شخصيته الأساسية، وتربطه بقدر أكبر من الحكايات عن أعمال بارعة وتدمير لمدن، وأحيانا ما تتلاءم مع السياق بصورة جيدة على نحو يبعث على الدهشة، إلا أنها لا تمضي بالسرد قدما. ففيما يتعلق بحركة السرد، فإن تراكيب الاسم والنعت جميعها تعني فحسب «أوديسيوس». ومن هنا، كان لدليل باري تأثير مباشر على إدراكنا لما هو «شعري» في شعر هوميروس. علينا أيضا أن نسلم بأن المنظومة المعقدة من التعبيرات الجاهزة الممثلة في تراكيب الاسم المضاف إليه النعت، واستخدامها «المعتدل»، لا يمكن أن يكون عمل شاعر منفرد، وإنما يجب أن يكون قد ظهر إلى الوجود بمرور الزمن عن طريق التطور. ومن ثم، فلا بد أن لغة هوميروس الشعرية «تقليدية»، وهي كلمة ذات أهمية محورية في هذا النقاش.
في المقابل، فإن لغة، وليكن مثلا، ويليام بتلر ييتس الشعرية ليست «تقليدية»؛ لأن ييتس يستخدم كلمات للتعبير عما في سريرته، وليس لاستكمال البيت. بالطبع قد يقول قائل إن اللغة في مجملها تقليدية، وإلا فستكون كلاما بلا معنى، بيد أن اللغة الهوميرية هي نوع خاص من اللغة التقليدية؛ إذ توجد في إطار فرضية ستة مقاطع رئيسية طويلة يتبعها مقطعان قصيران أو مقطع واحد طويل، والمقطع السادس يتبعه دائما مقطع منفرد. ولا شك في أن هوميروس وييتس قد عالجا مسألة استخدام الصفات بطريقة مختلفة. كان ييتس شاعرا «كتابيا» بينما كان هوميروس شاعرا «شفاهيا». كانت النعوت عند ييتس غير تقليدية، ولكن عند هوميروس هي جزء من الآلية التي بها ينشئ أبياته ويولد سرده. فهي تمكن الشاعر من إنجاز بيته بإلقاء شفهي والمضي في سرد قصته، وهي ليست جزءا أساسيا لا غنى عنه من القصة نفسها. تستند «نظرية التأليف الشفاهي» أو «نظرية الصيغ الشفاهية» على أدلة من دراسة باري للنعوت الثابتة، إلا أن التطبيق المنهجي لطريقته على النص الهوميري أدى إلى حيرة كبيرة ومعضلات منطقية ما زالت تعوق الدراسات الهوميرية. (5-2) الصيغ المدبجة والمشاهد النمطية
وصف باري تركيبة الاسم المضاف إليه النعت بأنها «صيغة مدبجة»، أي أسلوب تعبير ثابت له معنى معين وقيمة عروضية وموضع محدد في البيت. فهم باري الصيغة المدبجة على أنها «عبارة» ثابتة تتشكل من أكثر من «كلمة» قامت بدور في نظم الشعر يوازي دور «الكلمة» في صياغة النثر، دون إدراك منه أنه كان يتبع تقليدا يقوم على المعرفة الأبجدية في وصفه، تلك التي لم تكن الوسيلة التي كان هوميروس ينظم بها شعره طبقا لنظرية باري نفسه. اعتقد باري أن الكلمة في النثر هي وحدة للمعنى، بينما الصيغة المدبجة في شعر هوميروس الشفاهي هي وحدة للمعنى. علينا أن نتذكر أن النظرية القائلة إن الكلام يتكون من «كلمات» هي تقليد يقوم على معرفة القراءة والكتابة، أي نتيجة للتحليل وإعداد المعاجم. في حقيقة الأمر لا يستطيع اللغويون تعريف لفظة «كلمة» بأدق من «تلك المفردات المدرجة في المعاجم» (أيهما صحيح:
some times
أم
sometimes ؟)
إن البرهان على «شفاهية» هوميروس هو وجود الصيغة المدبجة، التي هي أداة لا قيمة لها عند الشاعر الملم بالقراءة والكتابة. يمكننا تحديد الصيغ المدبجة في تعبيرات بخلاف تراكيب الاسم المضاف إليه النعت، فمثلا أضيفت تعبيرات مثل «مخاطبا إياه» بلا قيمة تضيفها إلى عبارة «أوديسيوس الإلهي، قوي التحمل»، أو إلى عبارة «أجاممنون ملك الرجال»، أو إلى عبارة «آخيل العظيم ذو القدمين السريعتين» حتى يستكمل البيت. والكثير من الأبيات الكاملة هي أيضا عبارة عن صيغ مدبجة، مثل «حين بدت بشائر الفجر ذي الأصابع الوردية ...» ويتكرر واحد من كل ثمانية أبيات كاملة في المتن الهوميري في موضع آخر. وارتأى باري أن كل القصائد الهوميرية تتبع على هذا النحو نسق الصيغ المدبجة، وتتشكل من عبارات، رغم أننا لا نملك دوما ما يكفي من الحديث المنقول المحفوظ كي نرى الصيغ المدبجة بوضوح. فلا يمكن تفسير أساس الصيغة المدبجة للأسلوب الهوميري إلا عن طريق حديث منقول طويل جدا. كان باري متيقنا من أن هوميروس قد نظم قصائده دون الاستعانة بالكتابة عن طريق حديث منظوم متوارث معتمد على مثل هذه الصيغ المدبجة . والمفارقة أن وولف وباري قد اتفقا تماما على هذه النقطة؛ إذ رأى كلاهما أن هوميروس قد نظم قصائده دون الاستعانة بالكتابة.
سافر باري برفقة مساعده ألبرت بي لورد إلى جنوب البلقان في الفترة ما بين عامي 1929 و1933، أسفارا أسطورية في تاريخ النقد الأدبي؛ إذ كان تواقا إلى المضي إلى ما هو أبعد من التحليل الأسلوبي والعثور في العالم المعاصر له على مثال للشكل المحتمل الذي كانت عليه القصائد الهوميرية في العالم القديم. وهناك جمع باري ولورد مجموعة هائلة من التسجيلات لأغاني كان يؤديها «الجوسلاري» (قوالي الجوسلا)، وهم قرويون أميون كانوا يغنون أناشيد طويلة، وسموا بهذا الاسم تيمنا بآلة «الجوسلا»، وهي آلة عزف مقوسة ذات وتر واحد كانوا يمسكون بها بين أرجلهم. واشتملت ذخيرتهم الفنية على أناشيد عن القتال البطولي واختطاف النساء. فحكى نوع من هذه الأناشيد - والذي سجل في أشكال عديدة - عن رجل عاد إلى داره بعد سنين عديدة ليجد زوجته على وشك الزواج من رجل آخر؛ وعندئذ اختبر، وهو متنكر، المرأة والرجال الذين كانوا يحاصرونها، وتفوق على منافسيه في مسابقة، ثم كشف عن هويته، واسترد زوجته. وبتشجيع من باري أنشد عبدو مجيدوفيتش أفضل عازف جوسلا من وجهة نظر باري، أنشودة بطول «الأوديسة» وسجلها بإلقائه لها من الذاكرة (وكانت تسمى «زفاف ميهو سميلاجيش»)؛ إذ بلغت حوالي 12 ألف بيت طولا، رغم أن مجيدوفيتش لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة. (انظر شكل
1-4 ).
شكل 1-4: عبدو مجيدوفيتش، أفضل منشد عند باري ميلمان، يعزف بالقوس على آلة الجوسلا خاصته ذات الوتر الواحد وذلك في عام 1935. تنتهي آلة الجوسلا برأس جواد منحوت، كما جرت العادة. حقوق النشر محفوظة، 1999. مجموعة ميلمان باري للأدب الشفهي ومؤسسة ذا بريزيدينت آند فيلوز أوف هارفرد كوليدج. يعبر المؤلف عن شكره على الموافقة الكريمة من جانب جي ناجي وإس ميتشيل (أميني مجموعة باري ميلمان للأدب الشفهي) وديفيد إلمر (الأمين المساعد) على استخدام الصورة.
تظل المجموعة الميدانية السلافية الجنوبية لباري - المجمعة على أسطوانات وأشرطة من الألومنيوم، التي لم ينشر إلا جزء منها والمخزنة حاليا في مكتبة وايدنر في جامعة هارفرد - هي أضخم مجموعة ميدانية على الإطلاق لما نطلق عليه في الوقت الحاضر «الأغنية الشفاهية». بعد وفاة باري بوقت طويل، عاد لورد إلى جنوب البلقان في الخمسينيات من القرن الماضي لإجراء تسجيلات حديثة. وفي بعض الأحيان كان يسجل نفس الأنشودة من نفس المنشدين، تلك التي كان هو وباري قد سجلاها قبل ما يقرب من ثلاثين عاما. عند تحليل النسخ المكتوبة للأناشيد السلافية الجنوبية، نجد أنها تندرج غالبا ضمن الأبيات العشارية الإيقاع، مع أن البيت الشعري السلافي الجنوبي لا يضاهي البيت الشعري اليوناني القديم من ناحية التعقيد، ولا يتوافر إلا قرائن محدودة على الاسترسال والاعتدال في استخدام النعوت اللذين وجدهما باري في القصائد الهوميرية. لم تولد دراسات باري - التي نشرت كأوراق بحثية قصيرة في دوريات متخصصة في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي - انطباعا يذكر حتى عام 1960، عندما نشر ألبرت بي لورد كتابه «مغني الحكايات»، وهو توليفة من نظريات باري مضاف إليها جهد متعمق من قبله. أتذكر الحماسة الشديدة التي قرأت بها هذا الكتاب لأول مرة في عام 1962.
أولى لورد اهتماما بالغا بحياة «الجوسلاري» وبيئتهم الاجتماعية، اللتين لا تنفصمان عن التراث الذي جرى فيه الإنشاد. فلما كان أحد الصبية يرغب في أن يصير منشدا، كان من شأنه أن يتدرب على يد منشد خبير. وباستماعه إليه وتدربه منفردا، كان التلميذ يتعلم تدريجيا، بطريقة لا شعورية، اللغة الشعرية الموزونة المتميزة «للجوسلار» (عازف الجوسلا). وإذا كان مثابرا ويتمتع بالموهبة، كان في مقدوره أن يصبح هو نفسه «جوسلارا»، وربما حتى من العظماء.
كان من شأن «الجوسلار» أن يلم بعدة أناشيد أو الكثير منها، ولكن في ذهن «الجوسلار» لم تكن الأنشودة تتألف من تعاقب ثابت من الكلمات، التي لم يكن باستطاعته أن يعرف عنها شيئا؛ ففي نهاية المطاف «الكلمة» هي اصطلاح على معرفة القراءة والكتابة. كذلك لم يكن مفهوم البيت الشعري لدى «الجوسلار» أنه وحدة قائمة بذاتها وتحتوي على عشرة إيقاعات، رغم أن باستطاعتنا أن نحلل صيغا مكتوبة على هذا النحو. ومع ذلك كان «الجوسلاري» الخبير يدعي قدرته على تكرار أنشودة ما بدقة «أي كلمة بكلمة»، حتى تلك التي سمعها مرة واحدة فقط. وإليكم حديثا موجزا بين نيكولا فوجنوفيتش مساعد باري ولورد (منشد من مدينة استولاك، بمنطقة الهرسك) و«جوسلار» كان يدعى موجو كوكوروزوفيتش:
4
نيكولا :
فلنتأمل ما يلي: «موستاجبيك من ليكا كان يشرب الخمر.» هل هذه «كلمة» واحدة؟
موجو :
نعم.
نيكولا :
ولكن كيف؟ لا يمكن أن تكون كلمة واحدة: «كان موستاجبيك من ليكا يشرب الخمر.»
موجو :
لا يمكن أن تكون كلمة واحدة كتابة.
نيكولا :
يوجد هنا أربع «كلمات» [
Mustajbeze ].
موجو :
لا يمكن أن تكون كلمة واحدة كتابة. ولكن لنقل إننا في منزلي والتقطت آلة «الجوسلا» الخاصة بي وأنشدت:
licki Mustajbeze ، تلك «كلمة» واحدة على آلة «الجوسلا» حسبما أرى.
نيكولا :
وماذا عن «الكلمة» الثانية؟
موجو :
ها هي! «الكلمة» الثانية هي «في حانة بمدينة ريبنيك» [
Na Ribniku u pjanoj mehani ].
إن أصغر وحدة ذات معنى هي البيت ذو الإيقاعات العشرة بأكمله وليس وحدات مكتوبة يفصل بعضها عن بعض مسافة بيضاء، كما هو الحال في النص الذي تقرؤه الآن. عندما يتصدى هؤلاء المنشدون للأمر، فإنهم في الواقع لا ينشدون أبدا نفس الأنشودة حرفيا، «كلمة بكلمة»، وإنما يظلون قريبين من نفس تعاقب الموضوعات، رغم أنهم قد يدبجون هذه الموضوعات، أو يختصرونها، أو يتوسعون فيها. كان الموضوع الواحد عبارة عن «كلمة»، أي وحدة ذات معنى وتعبير. أولا حدث هذا الأمر، ثم ذاك. فعند «الجوسلار» كان تعاقب الموضوعات هو الأغنية، «كلمة بكلمة».
بناء على استعلام أكثر تدقيقا اتفق مقدمو المعلومات لباري ولورد على أن «الكلمة» يمكن أيضا أن تدل على مجموعة من الأبيات، أو على حديث، أو على مشهد، أو حتى على قصيدة كاملة. وهذه العناصر هي أيضا اللبنات الأساسية التي بها يبني الشاعر أنشودته. تتسم العناصر الأكبر، التي نطلق عليها «المشاهد النمطية» عند وصف قصائد هوميروس المشابهة، بأنها على درجة عالية من المرونة من ناحية الطول والتفصيل، ولكنها مع ذلك تتبع أنماطا متقاربة. أحد المشاهد النمطية الأكثر شيوعا في «الأوديسة» هو مشهد الولائم، الذي يظهر مرارا وتكرارا. وعلى الرغم من أن المشاهد النمطية لا تتطابق أبدا «كلمة بكلمة»، فإن تسلسل الأحداث هو نفسه دوما: في البداية يجلب عبد ماء للاغتسال، ثم يجهز الطاولات أمام الضيوف والمضيف، ثم يقدم الطعام، ثم يوزع اللحوم نادل مختص بتقطيع اللحم ويدور على الضيوف ليناولهم أقداحا ذهبية. ودائما ما تنتهي الولائم الهوميرية بالبيتين نفسيهما:
مدوا أيديهم إلى الطيبات التي وضعت أمامهم.
ولكن حين نالوا كفايتهم في الطعام والشراب ...
يعد البيتان نوعا من تسجيل الخروج؛ إذ يخبران المستمع أن مشهد الوليمة المألوف قد انتهى الآن.
رغم السمات المتكررة لمشهد الوليمة في القصائد الهوميرية، فإن هذا المشهد يحمل معاني مختلفة جد الاختلاف في وليمة الخطاب التخريبية في قاعات أوديسيوس، والوجبة المسحورة على جزيرة الإلهة سيرس المسماة بجزيرة أيايا، وفي وليمة الزفاف في قصر مينلاوس اللطيف في إسبرطة. وهكذا فإن «الوليمة» تمثل نوعا من «الكلمة»، وهي وحدة تعبير، تتخذ معاني مختلفة حسب سياقها. ومن المشاهد النمطية المتكررة الأخرى اجتماع الآلهة، واجتماع البشر، والتسلح، والقتال، والترحال، والمبارزات، والتضرع، والتعرف، والرسل، والأحلام، والإغواء، وارتداء الثياب. كل هذه المشاهد يمكن أن تمتد أو تتقلص حسب ضرورات السرد، وفي عالم الواقع حسب المقتضيات التي يتطلبها الأمر ممن يقدم عرضا ترفيهيا حيا مباشرة أمام جمهور من المشاهدين. في ترتيب القصة تماثل المشاهد النمطية الكلمات التي تستخدم لصياغة الجمل في الآداب الحديثة؛ فعدد الكلمات محدود، ومحدد سلفا، بيد أنه ليس ثمة حد للأشياء التي باستطاعتك قولها. (5-3) أسلوب الصياغة الشفاهية
لا يوجد تكرار حرفي للأغنية الشفاهية، على حد تعبير لورد؛ لأنه لا يوجد نص ثابت، وكان في حقيقة الأمر يقصد أنه لا يوجد نص على الإطلاق. فالنص هو شيء مادي به علامات رمزية عرضة للتحوير والتحريف والنسخ غير الأمين، وهو ما يبحثه عالم فقه اللغة، ويبحث أيضا ما يتعلق بالنصوص التي لم تظهر بعد للوجود. كان «الجوسلار» يعيد نظم أغنيته في كل مرة كان يغنيها فيها، مستعينا بموارد تقنية الغناء الإيقاعي النظمي الخاصة به وتحكمه في المشاهد النمطية والحبكات التقليدية . وبالقياس، لا بد وأن هوميروس قد فعل شيئا مماثلا، حسبما اعتقد باري. فقد كان هوميروس شاعرا شفاهيا، أي كان «جوسلارا».
عن طريق عقد مماثلة بين «الجوسلاري» السلاف الجنوبيين المعاصرين وبين المنشدين الملحميين القدماء الذين يدعون باللغة اليونانية
aoidoi
أي المغنين، (مفردها
aoidos )، كما يدعوهم هوميروس، دحض باري ولورد اعتقاد وولف القائل إنه من دون الكتابة لا يمكنك أن تنشئ قصائد طويلة للغاية، مع اتفاقهم معه على أن هوميروس لم يستعن بالكتابة في صياغة قصائده. وعلى أي حال، لم يكن تركيز وولف منصبا على استحالة صياغة قصائد طويلة في محيط لا يعرف القراءة والكتابة بقدر ما كان منصبا على استحالة تناقلها. وتظهر الأمثلة الشهيرة على «هفوات هوميروس» - وهي أخطاء من أنواع مختلفة - في نظرية باري بوصفها سمة شائعة «للأسلوب الشفاهي». بعد وولف كانت مثل هذه التناقضات قد شكلت أساسا لنظريات وضعها المحللون، الذين سعوا إلى اختزال القصائد إلى مكوناتها الأساسية. بيد أنه لا «الجوسلار» ولا المنشد الملحمي ولا جمهورهما يشعرون بالانزعاج عندما يرتكب شخص ما خطأ؛ لأنهم مأخوذون بتشويق الأغنية، وليس لديهم أي وسيلة للتحقق من أي شيء في محيط يعتمد على التناقل شفاهيا، ولا لديهم أدنى اهتمام للقيام بذلك. فلا عجب أن أسلوب هوميروس كان متفردا؛ إذ كان مغنيا شفاهيا وكانت «الإلياذة» و«الأوديسة» غناء شفاهيا.
كانت دراسات باري الأسلوبية مثالية، كما أن مقارنة باري/لورد بين التأليف الشفاهي في البلقان المعاصرة وفي العالم القديم تعد استخداما وجيها ومقنعا لعلم دراسة الإنسان. وقد ثبت عدم صحة فرضيات وولف، وبناء عليه فإن من حذوا حذوه كانوا مضللين. لا يمكننا أن نضع قلما في يد هوميروس؛ فذلك من شأنه أن يكون أمرا مثيرا للسخرية، وكأنك تطلب من جون كولترين (أشهر مرتجلي موسيقى الجاز والساكسفون) أن يدون كل تلك النوتات الموسيقية على ورقة. لا بد وأن شخصا آخر هو من صاغ النص المكتوب. ولهذا تعتبر القصائد الهوميرية نصوصا شفاهية مملاة؛ أي إنها لم تصغ من نصوص سابقة أقصر لمؤلفين متعددين. ولكن إذا كانت كل قصائد هوميروس ناتجة عن صيغ مدبجة - وهو الدليل على «شفاهية» قصائد هوميروس - فأين الذكاء والعبقرية الشعرية لهوميروس الذي لا مثيل له؟ وعلى ذلك استبعد أتباع وولف هوميروس من المعادلة بقولهم: لم «يكتب» هوميروس «الإلياذة» مثلما لم «يكتب» موسى سفر التكوين. واستعاد باري دور الشاعر هوميروس ودحض النص المملى، ولكنه في ذلك بدا أنه - بنفس القدر - يسلب فرصة هوميروس في الإبداع والعظمة. فإن كانت لغته كلها متوارثة، وتتألف من صيغ مدبجة وتعبيرات مصاغة ومشاهد نمطية، إذن ألم يكن هوميروس ناطقا بلسان «التراث» أكثر من كونه مبدعا عبر موهبته وجهده؟
ولما كان الدليل على أن هوميروس كان شاعرا شفاهيا يستند إلى وجود الصيغة المدبجة، فقد بذل الباحثون جهدا عظيما لتعريف الصيغة المدبجة، ليكتشفوا بعد ذلك أن «العبارات الثابتة» تفضي إلى عبارات فضفاضة أكثر، تلك التي يطلق عليها في الوقت الحاضر «العبارات النمطية»، وأن العبارات النمطية يمكن أن تنسل إلى كل شيء تقريبا. وقد أوضح أحد الباحثين كيف يمكن لإحدى الصيغ المدبجة، مثل
pioni dêmôi
وتعني «[مستترة] في سمنة مترفة» في سياقات أخرى (بتشكيلات مختلفة على الحروف)، أن تعني «وسط الجماهير الغفيرة»! بل يبدو الأمر وكأن العبارة نفسها تتبدل، عبر سلسلة من الخطوات العقلانية، من «في سمنة مترفة» عن طريق تعبيرات وسيطة إلى «لقد أتى إلى أرض الغرباء» (allôn eksiketo dêmôn) . إن الصيغ المدبجة والتعبيرات المصاغة، التي هي دليل باري على أن هوميروس كان شاعرا شفاهيا مماثلا «لجوسلاري» البلقان، لا يمكن تعريفها في ذاتها. فضلا عن ذلك، فإن الكلام العادي، مع أننا لا نستطيع أن نصفه بأنه موزون، يتألف بدرجة كبيرة من عبارات جاهزة يصعب تمييزها عن صيغ هوميروس المدبجة، «أترون ما أعنيه؟»
لقد ثبت أن العمل على تحديد الصيغة المدبجة لا يجدي نفعا. فمن الواضح أن حقائق الصفحة المطبوعة، التي يعمل عليها علماء فقه اللغة، ببساطة ليست هي نفسها حقائق الكلام البشري. فالصيغة المدبجة المراوغة، التي تبدو للوهلة الأولى واضحة، كعبارة «آخيل ذو القدمين السريعتين» مثلا، ثم تنحرف تدريجيا عن سياقها، هي فحسب تسلك المسلك ذاته الذي تسلكه «الكلمات» في الكلام العادي، والتي تراوغنا حدودها الفعلية وتعريفاتها أيضا، ومع ذلك نستخدمها بسهولة تامة. إننا ندرك أن سعينا لفهم الشعر الهوميري هو أيضا سعي لفهم الكلام البشري، إلا أنه لا أحد يدرك، أو لا أحد لديه نظريات مقنعة بشأن الكيفية التي يعمل بها الكلام؛ فهو قدرة بشرية غريزية.
أيا ما كانت التفاصيل، لا يمكننا أن نشك في أن هوميروس كان يتحدث لغة متميزة لها مفرداتها وإيقاعها ووحدات المعنى الخاصة بها، مماثلة للكلام العادي بيد أنها مغايرة له. وقد أظهرت أبحاث علمية حديثة كيف أن أنماط الكلام، وليست أنماط التعبير المكتوب، توضح الأسلوب الهوميري أفضل توضيح. لقد أنتج هوميروس شعره، بطريقة ما، في إطار قواعد وقيود وإمكانات هذه اللغة المتميزة. طبقا لمماثلة باري، فلا بد وأن الخطاب في «اللغة اليونانية الهوميرية»، بأشكاله الغريبة ومزيج لهجاته، قد اكتسب عن طريق الاستيعاب وكأنه لغة عادية، من قبل شخص شاب عن شخص أكبر سنا. امتلك الخطاب الهوميري إيقاعا متأصلا، نظما كان المغني يشعر به ولكنه لم يكن يفهمه بطريقة واعية. فعندما ينشد المغني، فإنه يتكلم بهذه اللغة المتميزة، التي لم تكن وحداتها «كلمات» وإنما «صيغ مدبجة»، على الأقل في كثير من الأوقات.
إن القول إن أسلوب الصياغة النمطية يحد من قدرة الشاعر على التعبير هو بالتالي كالقول إن الكلمات تحد مما يمكننا قوله. فالإيقاع يدفع السرد، واستقرت الكلمات ومجموعات الكلمات في مواضع معينة في الإيقاع، الذي عادة ما ينقطع في مواضع معينة، بخاصة في التفعيلة الثالثة. وتنسجم مجموعات الكلمات، أو الصيغ المدبجة، على نحو جيد قبل وبعد هذا الانقطاع حتى يتسنى لأبيات كثيرة أن تشكل نفسها، إذا جاز التعبير، ما إن تستوعب أسلوب مجموعات الكلمات. ومن ثم يمكن للمرء أن يتحدث بهذه اللغة. وسوف يفهمك اليونانيون الآخرون، رغم أنهم لا يستطيعون هم أنفسهم التحدث بهذه اللغة؛ فالناطقون المعاصرون باللغة الإنجليزية يستطيعون، إذا ما درسوا مسرحيات شكسبير، أن يتابعوا معظمها، ولكن ليس كلها، على خشبة المسرح وهم لا يتحدثون الإنجليزية بهذه الطريقة. إن شكسبير ليس شاعرا شفاهيا، ولكن العلاقة بين لغة المؤدي ولغة جمهوره المعاصر تشبه العلاقة بين لغة هوميروس ولغة جمهوره من القدماء.
أظهر وولف كيف أنه لم يكن من الممكن لهوميروس أن يصوغ «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ لأنه عاش في عالم خلا من الكتابة وأن وحدها الكتابة هي التي جعلت نظم القصائد ممكنا. وأظهر باري كيف أنه كان من الممكن جدا لهوميروس أن يصوغ قصائده دون الاستعانة بالكتابة، مثلما فعل «الجوسلاري». لقد أثبت أسلوب هوميروس في الصياغة النمطية أنه كان شاعرا شفاهيا، ووريثا لتراث مديد من نظم الشعر الشفاهي. أصر باري ولورد على نشأة القصائد الهوميرية عبر الكلام المملى، ولكن كيف كان هذا ممكنا، إذا لم يكن ثمة كتابة في عالم هوميروس؟ لم يتناول باري ولا لورد هذه المسألة أبدا. (6) الملحمتان الهوميريتان في السياق: الخلفية التقنية والتاريخية لصياغة النصوص الأولى
أدت تقنية الأبجدية اليونانية، تلك التقنية الثورية الاستثنائية التي غيرت مجرى التاريخ، إلى جعل النصوص الهوميرية ممكنة؛ إذ كانت الأبجدية اليونانية هي أول نظام للكتابة يسمح بإعادة إنشاء تقريبية لجرس الصوت البشري. وفي السنوات الأخيرة علمنا الكثير عن نشأة هذه التقنية. رغم طولهما وما تطلباه من جهد مضن، يبدو أن «الإلياذة» و«الأوديسة» كانتا أول نصوص مكتوبة في الأبجدية اليونانية، حسب علمنا، بيد أن نصوصا معقدة كهذه لم تظهر من العدم أو دون سوابق تاريخية واضحة. وعلى الرغم من أن غالبية المعلومات المباشرة عن هذه السوابق قد فقدت، يمكننا أن نستخلص الكثير عبر الدراسة المقارنة وعبر شهادات شحيحة ومتفرقة.
لا شك أن النصوص الأقدم «للإلياذة» و«للأوديسة» كتبت بالرموز على البردي، طبقا للممارسة السائدة في شرق البحر المتوسط التي يستند إليها النموذج اليوناني (ونادرا أو في أحيان قليلة على جلود باهظة الثمن). كان البردي اختراعا مصريا يعود إلى حوالي عام 3200 قبل الميلاد، وكان يصنع من شرائح من أحد نباتات المستنقعات وتدق معا بزوايا قائمة، ثم تقطع إلى مربعات وتلصق من أطرافها (قارن شكل
1-3 ). في العصر البطلمي (323-30 قبل الميلاد) كان إنتاج البردي حكرا على الملك ولعله كان كذلك دوما؛ فكلمة «بردي» تبدو مشتقة من عبارة «ما هو في بيت [الملك]» (أي: ما هو ملكي) باللغة المصرية القديمة.
عندما نتأمل الكتابة القديمة، نجد أنه كان يوجد محيطان؛ المصريون الذين كانوا يستخدمون البردي ومريدوهم الثقافيون على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وسكان بلاد ما بين النهرين الذين كانوا يستخدمون الطين، الذين كان لديهم الثقافة الأقدم والعالمية بحق. ينبع التقليد النصي (لا الفكري) للقصائد الهوميرية من المحيط المصري. يتميز البردي بالمرونة، وسهولة التخزين، وقوة التحمل، وإمكانية نقله، ووفرته، وإلى حد ما يمكن إعادة استخدامه. وفي المقابل، كان الطين في العصر البرونزي هو الوسيلة المعتادة للكتابة خارج محور مصر/بلاد الشام (أعني ببلاد الشام كنعان وسوريا، هذا الشريط من الأرض الممتد من فينيقية الشمالية إلى غزة، ثم داخليا إلى وادي البقاع في الشمال الذي تحيط به سلال جبال لبنان وجبال لبنان الشرقية وإلى صحراء النجف في الجنوب). وقد نقشت آداب بلاد ما بين النهرين الخاصة بالسومريين والأكديين الساميين (الألفية الثالثة قبل الميلاد)، والبابليين (الألفية الثانية قبل الميلاد)، والآشوريين (الألفية الأولى قبل الميلاد)، والأدب الأناضولي للحيثيين الهندو-أوروبيين (الألفية الثانية قبل الميلاد) جميعها على الألواح الطينية. كذلك استخدم الكريتيون في العصر البرونزي الطين. كان الطين متعدد الاستعمالات، ومتاحا بأي مكان، ولا يكلف شيئا، وإذا سخنته بالنار يمكن أن يدوم للأبد، بيد أن الطين ليس مناسبا لتدوين قصائد بالغة الطول. فملحمة «جلجامش»، التي تعد بكل المقاييس أطول عمل أدبي ظل باقيا من ثلاثة آلاف عام من حضارة بلاد ما بين النهرين التي كانت تعرف القراءة والكتابة، والتي لها أهمية عظيمة لفهم نشأة القصائد الهوميرية، يوازي طولها حوالي ثلاثة كتب من «الإلياذة». وعلى الرغم من أن نسخة طويلة من ملحمة «جلجامش» باقية من المحفوظات الآشورية في مدينة نينوى، التي دمرت سنة 612 قبل الميلاد، نقشت على اثني عشر لوحا، فإن معظم الأعمال الأدبية لبلاد ما بين النهرين مصممة لكي تكون ملائمة لأن تكتب على لوح واحد؛ ومن ثم فإن نسق الكتابة المسمارية له دور مهم فيما يتعلق بقالب الأعمال الأدبية وقصرها.
كانت النصوص السحرية المصرية تنقش على البردي في أعمدة رأسية ضيقة تمتد بلا كلل من أعلى إلى أسفل، ومن اليمين إلى اليسار. أما النصوص المصرية العادية فكانت تكتب في صفوف أفقية منسقة في أعمدة واسعة تقرأ من اليمين إلى اليسار، وهو ما يعد سلف الصفحة المطبوعة الحديثة. وكذلك كتب ورثة هذا التقليد في الكتابة، بمن في ذلك العبرانيون الساميون، من اليمين إلى اليسار في أعمدة واسعة. فكنت تمسك رق أو لفيفة البردي بيدك اليسرى وتفرده من أسفل الرق بيدك اليمنى. وكان المصري يجلس على الأرض، ويفرد إزاره المصنوع من الكتان ويشده بين فخذيه المنبسطتين، وكاحليه المتقاطعين، ويستخدم سطح الإزار كدعامة للبردية وهو يكتب عليها بريشة قلم، أو يقرأ منها. في اليونان لم تكن الطبقة المثقفة ترتدي إزارا، ولكنهم كانوا يجلسون على مقاعد، حيث كانوا، مع ذلك، يفردون البردي عبر ركبتيهم؛ إذ لم يكن يوجد مناضد للكتابة في العالم القديم.
أما خارج مصر، فكان البردي يستخدم قبل اليونانيين من قبل الساميين الغربيين، أولئك الذين لم يكونوا منتظمين في مجموعة محددة وكانوا يتحدثون بلغة سامية وعاشوا بحذاء الساحل الشرقي للبحر المتوسط وفي الوديان الداخلية (كان الساميون الشرقيون هم من يستخدمون الطين في الكتابة، وكانوا يعيشون في بلاد ما بين النهرين). استخدم الساميون الغربيون كذلك ألواحا مطوية مكسوة بالشمع، مثل لوح بيليرفونتيس، وهي وسيلة تشاركوا فيها مع بلاد ما بين النهرين، ولكن ليس مع مصر (إذ استخدم المصريون لوحات طبشورية مسطحة للنصوص المؤقتة). وخارج مصر، حيثما كان ينمو نبات البردي، كان البردي على الدوام سلعة مستوردة، ومع ذلك استخدم في أغلب الوثائق في منطقة شرق البحر المتوسط بصفة أساسية أو حصرية من أقدم العصور. ومن الواضح أن تصنيع البردي كان صناعة تصديرية مهمة في مصر. وقد حل اللوح المطوي الذي امتد عبر عصر الساميين الشرقيين الذين كانوا يستخدمون الطين والساميين الغربيين الذين كانوا يستخدمون البردي، واليونانيين، ثم الرومان، محله كوسيلة للكتابة.
يطلق هوميروس على هؤلاء الساميين الغربيين الذين كانوا يستخدمون البردي وكانوا يجوبون البحار اسم «الفينيقيين»
وتعني «الرجال الحمر»؛ على ما يبدو لأن أيديهم عادة ما كانت مخضبة جراء إنتاج صبغة أرجوانية من نوع من المحاريات، وهو ما كان اختصاصا فينيقيا، أو كان يدعوهم «الصيداويين»، أي «رجال صيدا»، وهو ميناء بالقرب من مدينة جبيل. لم يكن الفينيقيون قوما متحدين على أي نحو كان، ولم يطلقوا على أنفسهم اسم الفينيقيين. وقد كانوا في انقسامهم، وفقرهم النسبي، وألفتهم بالبحر يتشابهون مع اليونانيين القدماء. ويعد «الفينيقيون» تعبيرا مناسبا لتمييز الساميين الغربيين الذين كانوا يقطنون الشمال، والذين كان موطنهم ساحل البحر، عن الساميين الغربيين الذين كانوا يقطنون الجنوب وكان موطنهم الأراضي الداخلية ومن بينهم العبرانيون والكنعانيون، أخذا عن الاسم التوراتي كنعان الذي كان يطلق على هذه المنطقة. أما فلسطين، تلك المنطقة الجغرافية الكائنة في جنوب الشام، فقد اتخذت تسميتها من الفلسطينيين، الذين كانوا على ما يبدو لاجئين يونانيين ميسينيين من جزيرة كريت، عاشوا في خمس مدن في قطاع غزة. كان القرار يعود إلى الجغرافيا في التقسيم إلى الشمال الساحلي والجنوب الداخلي: فثمة موانئ جيدة عدة في القسم الشمالي من الشام، ولا شيء في الجنوب.
كان ثمة ممران صالحان فقط يؤديان إلى الداخل من الموانئ الفينيقية في الشمال عبر سلاسل جبال لبنان التي تمتد بمحاذاة الساحل تماما. يقع الميناء والمركز التجاري العظيم في العصر البرونزي أوغاريت (انظر خريطة 1، وشكل
1-5 ) جنوب أحد الممرين، وهو موقع مثالي لنقل البضائع الآتية من الداخل السوري وبلاد ما بين النهرين على متن سفن تبحر إلى وجهات على البحر المتوسط. سوف نعاود فيما بعد الحديث عن الألواح الطينية البارزة والقصائد الملحمية المنقوشة عليها، تلك التي عثر عليها في مدينة أوغاريت، التي دمرت حوالي عام 1200 قبل الميلاد في خضم الانهيار الشامل الذي ألم بحضارة العصر البرونزي المتوسطية.
شكل 1-5: المدخل الأثري للمركز التجاري لمدينة أوغاريت على ساحل شمال سوريا، التي دمرت حوالي سنة 1200 قبل الميلاد. التقطت الصورة من قبل المؤلف نفسه.
كان سكان جزيرة قبرص - التي تقع على بعد 75 ميلا فقط قبالة ساحل مدينة أوغاريت - شركاء طبيعيين في التجارة والثقافة مع فينيقية ومكانا لإعادة شحن البضائع المتجهة إلى منطقة قليقية على الساحل الجنوبي للأناضول (تركيا المعاصرة) وإلى جزيرة رودس، والجزيرة اليونانية الكبيرة عوبية، وإلى أقصى الغرب. كان يسهل الوصول إلى مصر في الجنوب عن طريق البحر. وكانت المدينة الفينيقية جبيل في لبنان المعاصرة شبه مستعمرة مصرية منذ القرن الثالث قبل الميلاد وما تلاه، وكانت توفر منتجات الأخشاب - «أرز لبنان» المذكور في الكتاب المقدس - لمصر على مدى تاريخها. وكانت الفنون الزخرفية والدينية مستقاة بشكل كبير من المصريين، وكذلك كان حال الفنون الكنعانية.
كحال اليونانيين الهندوأوروبيين، كان الفينيقيون الساميون بحارة رائعين. وفي أواخر العصر الحديدي، وتحت ضغط عسكري من القوة الإمبريالية الاستعمارية الآشورية في إقليم ما بين النهرين الشمالي، استعمروا شمال إفريقيا، وإسبانيا، وصقلية، وجزرا عدة في غرب البحر المتوسط، بما في ذلك سردينيا، في الفترة ذاتها تقريبا التي استوطن فيها اليونانيون جنوب إيطاليا وشرق صقلية. وقد ظهر هؤلاء «الفينيقيون» على نحو متكرر في «أوديسة» هوميروس، حيث يصورون كتجار رقيق جشعين يمخرون أعالي البحار ببضاعتهم.
منذ وقت مبكر، تشارك الفينيقيون مع أبناء عمومتهم الكنعانيين نظاما متميزا للكتابة يشتمل على نحو اثنتين وعشرين علامة. كان ذلك النظام الذي تشيع تسميته «أبجدية»، في حقيقة الأمر، نظام كتابة مقطعية غريبا. كانت كل علامة فيه ترمز إلى ما نطلق عليه حرفا ساكنا إضافة إلى حرف متحرك غير محدد. بتعبير أدق، كانت كل علامة تشير إلى صوت كلامي يوصف بأنه حائل أو تعديل لمرور الهواء من الفم (الحرف الساكن)، دون توضيح لدرجة اهتزاز الأحبال الصوتية (الحرف المتحرك)، فعليك أنت - من تتكلم بلغتك الأصلية - أن تضيف ذلك الصوت، أثناء القراءة، حسب السياق وحسب معرفتك كناطق بتلك اللغة. من الناحية العملية، لا يمكنك أن تنطق شيئا مكتوبا «بالأبجدية الفينيقية» إلا إذا كنت فينيقيا. بالإضافة إلى ذلك فإن القلة الشديدة للعلامات - اثنان وعشرون أو خمس وعشرون علامة - زادت من الغموض بصورة هائلة؛ فالكتابات السامية الغربية القديمة، رغم كونها مكتملة ومقروءة، عادة ما تكون غير مفهومة.
انتمت «الأبجدية الفينيقية» إلى نوع من الكتابة يسمى بالكتابة السامية الغربية، التي كان لها أنماط ظاهرية عدة أطلق عليها الباحثون الأوغاريتية (انظر شكل
1-6 )، أو الآرامية، أو العبرية، أو المؤابية، أو الكنعانية، بيد أنه كان نظاما واحدا للكتابة بتنويعات محلية. وأقدم نموذج في الشكل الخطي (الذي تتشكل فيه الحروف من خطوط، وليس رموزا وتدية، أو رسوم) مأخوذ من تابوت حجري يرجع تاريخه إلى حوالي عام 1000 قبل الميلاد، وكان يخص أحيرام ملك بيبلوس (جبيل). وتوجد كتابات قديمة جدا إلا أنها غير مقروءة، تمثل أصولا محتملة للكتابة السامية الغربية، ترجع إلى حوالي عام 1800 قبل الميلاد، منحوتة على صخور في وديان نائية في مصر.
شكل 1-6: أبجدية (ألفبائية) أوغاريتية، تعود إلى حوالي عام 1200 قبل الميلاد. هذا اللوح هو أقدم الأدلة على ترتيب الرموز الذي لا نزال نستخدمه في الوقت الحاضر: فتتصل «أغنية
ABC » للأطفال تاريخيا اتصالا مباشرا بهذا التراث التاريخي. يقرأ اللوح من اليسار إلى اليمين، ومن أعلى إلى أسفل. يحتوي جدول دليل الرموز على أحرف «الكتابة المسمارية» وما يكافئها في الحروف اللاتينية المعدلة. حقوق النشر للصورة محفوظة لتشارلز وجوزيت لينارز، شركة كوربس؛ وأعيد رسم الجدول من صورة منخفضة الوضوح للترتيب الأبجدي القديم للأساتذة ديفيد كيلي وستيف بيت. حقوق النشر محفوظة، بيتا 1998.
رغم ما يبدو من أن الكتابة السامية الغربية تعتمد - على نحو ما - على الكتابة الهيروغليفية المصرية، التي لم يرد بها أيضا أي معلومات عن كيفية اهتزاز الأحبال الصوتية (ولهذا السبب فهي غير منطوقة)، فإن تركيبها مغاير للكتابة المصرية؛ وذلك لأن «كل» العلامات في الكتابة السامية الغربية تتسم بأنها صوتية (تعتمد على النطق)، في حين أن «بعضها» فقط صوتي في الكتابة المصرية. قد تكون أصول نوعية الكتابة السامية الغربية مرتبطة على نحو ما بالكتابة الكريتية الإيجية، التي ظهر فيها، في نفس وقت الكتابة السامية الغربية تقريبا، نظام مقطعي صوتي في أغلبه يسمى النظام الخطي باء، هذا الذي كانت تدون به اللغة اليونانية. غير أن العلامات المقطعية للنظام الخطي باء تتيح معلومات عن الأصوات المؤلفة من حروف علة وخمس علامات ترمز إلى حروف متحركة خالصة. وكان النظام الخطي ألف السابق عليه، الذي لم تحل رموزه، ويرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، على ما يبدو، نظاما صوتيا أيضا. ورغم أن الفلسطينيين في غزة كانوا فيما يبدو ميسينيين من جزيرة كريت، لم يعثر على أي نماذج للكتابة الإيجية في فلسطين.
فضل الساميون الغربيون كثيرا ورق البردي المصري كعنصر أساسي للكتابة، مما نتج عنه ضياع كتاباتهم الأدبية بأسرها فيما عدا الكتاب المقدس العبري، الذي كتب له البقاء؛ لأن اليهود اعتبروا أن نجاتهم كشعب والنقل الأمين للنص المادي الملموس شيئا واحدا. لم يتبق في الشام نصوص على مواد صلبة إلا حوالي تسعين نصا مكتوبا من الكتابات السامية الغربية التي يرجع تاريخها إلى حوالي 1000-300 قبل الميلاد (واكتشف عدد أكبر بكثير في قرطاج في شمال أفريقيا). في المقابل ما زالت آلاف من الكتابات الأبجدية اليونانية موجودة على الحجر وعلى مواد أخرى. وعلى الرغم من أن اليونانيين كانوا يستخدمون البردي أيضا - وهي عادة مستمدة من الشام - كانت الكتابة تؤدي فيما بينهم دورا اجتماعيا مختلفا عن الدور الذي كانت تؤديه بين الساميين الغربيين.
إن الاستخدام الشائع، رغم عدم دقته، لكلمة «أبجدية» لوصف كل من الأبجدية اليونانية والكتابة السامية الغربية التي قامت عليها الأبجدية اليونانية، وكذلك الحال في «الأبجدية الفينيقية» أو «الأبجدية العبرية»، من شأنه أن يحجب التغير التاريخي الهائل والجائح الذي حدث عندما انتقلت الكتابة من الساميين الغربيين إلى اليونانيين. ونحن نحدد تاريخ لحظة تحول وتبدل التقنيات هذه عن طريق البحث عن أقدم الكتابات اليونانية التي تستخدم حروفا أبجدية، تلك التي تعود إلى حوالي عام 775 قبل الميلاد، ثم العودة - وهو مجرد تخمين - إلى الوراء نحو جيل. ولأن ما يصل إلينا من حقبة ما بعد عام 775 قبل الميلاد يوازي قطرات وشل من الكتابات، ثم جدولا، ثم نهرا، ثم محيطا من الكتابات، يبدو من المستبعد أن تكون الأبجدية قد بلغت اليونان قبل دليلنا الأول على وجودها هناك بوقت طويل. وهذا النهج في التفكير يدرج اختراع الأبجدية اليونانية في حوالي عام 800 قبل الميلاد، «وهو التاريخ المضمون الوحيد الذي نستخلصه في استكشافنا لتاريخ القصائد الهوميرية». فلا بد وأن تأتي القصائد الهوميرية بعد عام 800 قبل الميلاد؛ لأن القصائد الهوميرية هي نص مكتوب، والنصوص هي أشياء مادية عليها علامات. ولم يتسن ظهور نصوص هوميروس إلا بفضل الأبجدية ولولاها لما أمكن أن تظهر قصائده للوجود.
إن الأبجدية اليونانية والكتابة المقطعية «الفينيقية» مرتبطتان بالفعل تاريخيا، ولكنهما تختلفان اختلافا جوهريا في التركيب. ويتجلى الاختلاف في حقيقة أنه يمكنك أن تتهجى النصوص الأبجدية اليونانية دون معرفة اللغة. اشتملت الكتابة السامية الغربية على شكل واحد لكل رمز (مقطع)، وكل رمز يلمح إلى مخارج الحروف وحواجز التنفس. اشتملت الأبجدية اليونانية على شكلين منفصلين للرموز الصوتية. فرموز الحروف المتحركة اليونانية قابلة للنطق بمفردها، في حين أن رموز الحروف الساكنة اليونانية غير قابلة للنطق منفردة. وهكذا فإن الرمز
A
يكافئ الصوت [
a ]، ولكن الرمز
لا يمكن نطقه بذاته (حتى وإن كان يمكن أن نقول [
puh ] لو طلب منا ذلك). أما في الكتابة السامية الغربية، في المقابل، فيمكن للرمز الذي نحوله كتابة إلى
أن يكافئ [
pa ]، أو [
pu ]، أو [
po ] أو تركيبا آخر، وبمقدور من كانت تلك اللغة هي لغته الأم أن يعرف أيها المقصود. اعتمد اختراع الأبجدية اليونانية على أساس الكتابة المقطعية الفينيقية أولا على تقسيم الرموز إلى نوعين مختلفين، وثانيا على قاعدة التهجئة التي تنص على أن كل رمز من الرموز الساكنة لا بد وأن يعلم بواحد من الرموز الخمسة المتحركة. وبناء على ذلك فإن لفظة
BCKUP - وهي التهجئة المفضلة لبرنامج معالجة الكلمات
Microsoft Word - هي خليط من أسلوبي الكتابة السامية الغربية واليونانية، ولكن الاصطلاحات المتعارف عليها مثل لفظة
CMDR
التي تكافئ
commander - التي تنقش على الطائرات الحربية الأمريكية - هي عودة حقيقية وفعلية إلى أسلوب الكتابة السامية الغربية. وإذا كنت تتحدث الإنجليزية، فستخمن أن الكلمة تعني
commander (أي: قائد)، وإلا فلن يحالفك الحظ. إن هذه الحرية في التصرف «غير متاحة مطلقا» في قواعد الكتابة اليونانية القديمة؛ حيث قاعدة التهجئة التي تنص على أنه لا بد وأن تحتوي الكلمة على نوعي الرموز كليهما، وأن يكون لكل منهما دور معا، هي قاعدة لا يمكن انتهاكها.
قبل أربعمائة سنة من تابوت أحيرام الحجري، وصلنا أقدم النماذج المثبتة التي بين أيدينا للكتابة السامية الغربية - بيد أنه كان مكتوبا بكتابة «غير خطية» - حوالي عام 1400 قبل الميلاد، على ألواح طينية من مدينة أوغاريت، ذلك المركز التجاري في العصر البرونزي، تلك التي دمرت حوالي 1200 قبل الميلاد (شكل
1-6 ). تتألف الرموز من أسافين أقحمت في الطين بالطريقة التي تشكل بها الأسافين الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين والتي لا تمت للكتابة السامية الغربية بصلة إلا في ذلك الأمر. كانت هذه «الأبجدية الأوغاريتية»، فيما يبدو، اختراعا متاحا للجميع ابتكره شخص كان معتادا على الكتابة بالأسافين على الطين. وظلت الأمثلة على هذه الأبجدية باقية في أوغاريت والضواحي القريبة منها فقط بفضل نهب وتدمير المدينة الذي أدى إلى حرق الألواح وصونها. ونظن أن الأشكال الخطية غير الموثقة للرموز أقدم من ذلك، والرموز التي نستخدمها في الكتابة في يومنا هذا هي أشكال معدلة منها.
حفظت خمسة عشر لوحا أوغاريتيا القصة التي تدور حول انتصار إله الريح بعل (السيد/الرب) على عدويه الإله «يم» (أي «البحر») والإله «موت» (الموت)، ابن الإله إيل (أي «الرب»). وتطلعنا الألواح على سجن الإله بعل في العالم السفلي، وتحرير أخته/زوجته عنات له من هناك، وعن فوز بعل بالملك على الآلهة والبشر. يشغل القسم الخاص بقصة «بعل وعنات» ستة ألواح متعددة الأعمدة وقد يبلغ عدد أبياته 3000 بيتا، وهي أطول قصيدة في أرشيف المحفوظات وإحدى أطول القصائد التي وصلتنا من الشرق القديم، ويوازي طولها تقريبا ملحمة «جلجامش» الآشورية (إلا أنه لا يوجد ما يؤكد أن الألواح متصلة كوحدة واحدة). ينسب تاريخ القصيدة إلى فترة حكم ملك يدعى نيقمادو الذي حكم أوغاريت فيما بين 1375 و1345 قبل الميلاد، على الرغم من أن المدينة دمرت حوالي عام 1200 قبل الميلاد. وتسجل ألواح أخرى أساطير مقاربة للأخبار والأحداث التي نجدها في الكتاب المقدس، وتستند إلى حكايات وروايات شبه أسطورية لشخصيات تاريخية.
ثمة عبارة (يطلق عليها
colophon
وتعني خاتمة/تذييل الناسخ أو بيانات في نهاية المخطوط ينقشها الناسخ عن نفسه وعن المخطوط ذاته) ملحقة بنهاية ألواح بعل تفيد بأن «إيلي مالكو من مدينة شوبان هو
spr (ناسخ؟ كاتب؟) و
lmd (تلميذ؟) أتانو، العراف، والكاهن الأكبر، والراعي الأكبر [منصب عسكري] ...» لسنا على يقين مما تعنيه كلمة
spr
أو ما تفيده كلمة
lmd ، إلا أنه يبدو أن خاتمة الناسخ تميز بين «مؤلف» النص الخرافي، وهو أتانو، وبين «مدون» النص إيلي مالكو، وهو إجراء ليس له مثال في أي تقليد كتابة أقدم. يبدو أن أقدم استخدام موثق للكتابة السامية الغربية، «الأبجدية المسمارية»، السلف المباشر للأبجدية اليونانية، هو تدوين نص أدبي عن طريق الإملاء!
ومع ذلك فإن النبي إرميا كان يملي على كاتبه باروخ (سفر إرميا، الإصحاح 36: 18)، ولعل كل النصوص القديمة لما صار العهد القديم هي نتاج إملاء. وهذا التركيز الغريب في الكتابة السامية الغربية على العناصر الصوتية الخالصة والصعبة النطق في ذات الوقت، الذي أدى إلى تعذر تعلمها إلا بواسطة شخص كان يتكلم اللغة، قد يعكس أصل هذه الكتابة الذي يعود إلى ممارسة الإملاء كوسيلة للتأليف. فالمؤلف يتكلم، والناسخ يعبر عن الأصوات بأفضل ما يستطيع. وبهذه الطريقة يمكنك أن تكتب أي شيء يمكنك قوله (ولم يكن ذلك هو الحال في حالة كتابة بلاد ما بين النهرين المسمارية ولا الكتابة الهيروغليفية المصرية)، طالما وجد سياق كاف لمن كانت تلك اللغة هي لغته الأم وكان ملما بالقراءة والكتابة ليعيد تشكيل المضمون. إذا طبقت النظام السامي الغربي لتدوين البيت الأول من «الإلياذة» بهذه الطريقة، وفصلت بين الكلمات بالاستعانة بالنقط كما كان الفينيقيون يفعلون، بالنقل الحرفي لترجمة البيت الفينيقية بحروف لاتينية فسيبدو البيت الأول هكذا:
MNN•D•T•PLD•KLS
وسيبدو البيت بالأبجدية اليونانية (إذا ما نقل نقلا حرفيا بحروف لاتينية) هكذا:
MENIN AEIDE THEA PELEIADEO AKHILEOS .
وفي حين أن النظام السامي الغربي للكتابة كان يتبع نهجا سائدا في اللغات السامية الغربية، التي تستند كلماتها - وإن اختلفت من ناحية الصوت والوظيفة النحوية - إلى هيكل ثابت من حروف ساكنة ، إلا أنه ببساطة لم يناسب الشعر اليوناني، المفعم بأصوات حروف العلة (الحروف المتحركة) المتقاربة التي تنشئ الإيقاع الشعري. وبالاستناد إلى مكتشفات الكتابات الشعرية سداسية التفعيلات بالغة القدم وغير المتوقعة، يمكننا القول أن الأبجدية اليونانية كانت منذ البدء تستخدم لهذا الغرض فقط، وهو تدوين رموز إيقاعات التفعيلات السداسية اليونانية.
ولعل أحد الساميين ممن يجيدون لغتين، والملم بالكتابة السامية الغربية ووريث التقليد العريق المتمثل في إنشاء نصوص عن طريق الإملاء، قد حاول لأول مرة تدوين رموز أغنية يونانية. وبإجرائه تعديلات فنية على الكتابة السامية الغربية حتى تستوعب أصوات الكلام اليوناني المختلفة تماما، وضع نوعي الرموز وقاعدة التهجئة التي لا تنتهك، وهو ما يسر إمكانية تدوين نص القصائد الهوميرية. لقد اخترع أول أبجدية حقيقية، أول كتابة في مقدور شخص غير ناطق بتلك اللغة أن ينطقها، وهو نظام صار هو السائد في وقتنا الحاضر في الكوكب بأسره ووجه الحضارة البشرية في اتجاه معين. وأعرب كثيرون عن اندهاشهم من أن أداة بهذا القدر من الفاعلية قد نبعت من إطار جمالي وليس اقتصاديا؛ بيد أنه توجد براهين قوية على أن الأمر حدث على ذلك النحو. وعلى الرغم من أن جهاز الكمبيوتر قد اخترع بهدف التنبؤ بالمواضع التي من شأن قذائف المدفعية أن تسقط فيها، فقد أدى فيما يبدو إلى ظهور استخدامات أخرى. (7) الإنشاد الشفاهي يصبح نصا مكتوبا
كان باري مهتما بالشعر الشفاهي بوصفه تراثا حيا نابضا، بيد أن قصائد هوميروس ليست قصائد شفاهية؛ وإنما نصوص مكتوبة، متمثلة في ملحمتي هوميروس عند علماء فقه اللغة. إن القصيدة الشفاهية هي مناسبة عامة (حدث جماهيري)، فهي أداء يجري أمام جمهور، عادة ما يكون صغيرا، ويتضمن الكثير والكثير من الموسيقى، وتعبيرات الوجه، والإيماءات المعبرة، وتفخيم نبرة الصوت، ولغة الجسد، والتكيف التلقائي مع مزاج الجمهور. ويعطينا هوميروس ذاته صورة حية للشاعر الشفاهي، أو المنشد الملحمي، وأغنيته الشفاهية في «الأوديسة» التي يؤنس فيها مغن يدعى فيميوس (وتعني «الرجل الشهير») الخطاب في بيت أوديسيوس، ويبقي منشد آخر اسمه ديمودوكوس (ويعني اسمه «الذي يدخل السرور على الناس») البلاط الملكي لجزيرة فياشيا في إنصات مستغرق، حيث يقص أوديسيوس خبر رحلته الغريبة. يتمتع المنشد الملحمي بحضور طاغ قوي وشخصية قيادية في البلاط الملكي ويعطي للحياة ثراء ومعنى مميزين، كما يبين أوديسيوس:
إنني أجهر بالقول بألا يوجد ابتهاج يعدل عندي السرور الذي يتملك جمعا من الناس بأسره، وضيوف المأدبة وهم يستمعون إلى «مغن» وهم ينتظمون جلوسا جميعهم، وبجوارهم موائد مكدسة بالخبز واللحم، وساقي الخمر يسكب النبيذ من الإناء ويدور حاملا إياه ويصبه في الكئوس. هذا، فيما يبدو لذهني، هو أجمل الأشياء في الوجود. (الأوديسة، الكتاب 9، الأبيات 5-11)
تبوأ مثل هؤلاء الرجال مكانة خاصة في المجتمع اليوناني، توازي مكانة القادة الدينيين في المجتمعات القديمة الأخرى، الذين حل «المنشدون الملحميون» محلهم بموجب تطور اجتماعي استثنائي في اليونان القديمة. فلا غرو أن تكون الأبجدية قد اخترعت لتحويل الغناء إلى نصوص مكتوبة؛ إذ إن المنشدين الملحميين، هم من كانوا يحددون القيم الأخلاقية في المجتمع اليوناني، وليس الكهنة.
إن النص المكتوب، على عكس الأغنية الشفاهية، هو شيء مادي به علامات تيسر تفسيره، إن كنت ماهرا. والنص المكتوب يتيح إعادة بناء نسخة صوتية من الرموز المفهومة لشخص يتحدث اللغة اليونانية، بيد أن إعادة البناء لم تكن مشابهة، حتى ولو من الناحية النظرية، لأغنية حية أنشدها شاعر ما ذات مرة. حفظ المتخصصون الذين يدعون «الرابسوديين» هذه النصوص عن ظهر قلب وألقوها، وهم يمسكون صولجانا، بطريقة مسرحية متكلفة في تجمعات عامة، وبخاصة في المهرجان الأثيني المسمى مهرجان عموم أثينا الذي نظمه بيسيستراتوس في القرن السادس قبل الميلاد (شكل
1-7 ).
شكل 1-7: رابسودي (راوي ملاحم) يلقي قصيدة من الذاكرة. يظهر التزامه بالنصوص المكتوبة في الكلمات التي تنساب من فمه (غير مرئية في الصورة)، «وهكذا ذات مرة في تيرنز ...» قصيدة مفقودة قد تكون عن هرقل، الذي حكم في تيرنز. مزهرية من طراز الرسوم الحمراء بواسطة الرسام كليوفراديس. يرجع تاريخها إلى حوالي عام 480 قبل الميلاد. حقوق النشر محفوظة لأمناء المتحف البريطاني، قطعة
E270 .
من المحتمل أن تكون لفظة «رابسودي» تعني «المغني حامل الصولجان»، إلا أن اليونانيين منذ القدم أعطوها المعنى الاشتقاقي «الذي يرتق (أي يصل) الأغاني بعضها ببعض» وقد حذا حذوهم الكثير من المحدثين. ليس الرابسوديون بأي حال منحدرين من «المغنين» - الذين كانوا ينشئون أغنيتهم بصورة جديدة في كل مرة يؤدونها فيها - وإنما من مخترع الأبجدية اليونانية، الذي أتاحت قاعدة التهجئة التي استحدثها وابتداعه لفئتين من الرموز التدوين المقارب للأصوات الفعلية للشعر اليوناني. كان الرابسوديون، على عكس المغنين، يجيدون القراءة والكتابة وكانوا يتفاخرون، كشأن المعلمين الأوائل، بقدرتهم على تبيان النصوص، ولا سيما نص القصائد الهوميرية. ويسخر أفلاطون بتعريض خبيث من تلك الادعاءات في محاورته المسماة «محاورة أيون» التي ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد. لا يثق أفلاطون بالرجال على شاكلة أيون، الذين يتفاخرون بإتقانهم المتحذلق ل «نص» ما ويحسبون أن الحقيقة تكمن في «نص»:
سقراط :
إنني كثيرا ما أحسد مهنة راوي القصائد الملحمية يا أيون؛ لأنك دائما ما ترتدي الثياب الفاخرة. وظهورك بمظهر حسن قدر استطاعتك هو من متممات فنك. أضف إلى ذلك أنك ملزم بأن تكون بشكل متواصل في صحبة الكثير من الشعراء البارعين، وبخاصة هوميروس، أفضل وأروع الشعراء. ومما تحسد عليه كثيرا فهمك لما يقوله وليس مجرد تعلم كلماته عن ظهر قلب. ولا يستطيع أي إنسان أن يكون راوي ملاحم وهو لا يفهم ما يعنيه الشاعر؛ لأن راوي الملاحم ينبغي أن يفسر ما في عقل الشاعر لمستمعيه. ولكن كيف يستطيع أن يفسر ما يقوله بشكل جيد ما لم يدرك ما يعنيه الشاعر؟ كل هذا هو مما يحسد عليه راوي الملاحم.
أيون :
هذا حقيقي تماما يا سقراط. إن التفسير كان، بكل تأكيد، الجانب الأكثر إرهاقا في فني، وإنني أراني قادرا على التكلم عن هوميروس أفضل من أي رجل. فلا ميترودوروس من لامبساكوس، ولا ستيسيمبروتوس من ثاسوس، ولا كلوكون، ولا أي أحد آخر في الوجود يمتلك أفكارا صحيحة عن هوميروس كالتي أمتلكها، ولا تعدلها عددا. (كتاب أفلاطون: المحاورات الكاملة، «محاورة أيون»، 530ب-530د [ترجمة شوقي داود تمراز (بتصرف )، ص14].)
خلافا للشاعر الشفاهي - الذي هو عبارة عن فنان ترفيهي - يعتبر الرابسودي شكلا قديما من الباحثين. فهو لا يلقي النص على الأسماع فحسب، وإنما يبينه، ويستخدمه كأساس للتعليم. تعليم ماذا؟ هكذا يستطرد أفلاطون متسائلا.
من المهم ألا نخلط بين «الشعر الشفاهي»، وهو ما يغنيه المنشد الملحمي/المغني، وبين النص الهوميري، الذي أملاه منشد ملحمي/مغن ويحفظه الرابسودي عن ظهر قلب ويلقيه على الأسماع. فقد أدي اختلاط الاثنين معا إلى قدر هائل من الالتباس في الدراسات الهوميرية الحديثة، حتى إن البعض يظنون أن هوميروس قد غنى شيئا شبيها بالنصوص التي بين أيدينا من «الإلياذة» و«الأوديسة» خلال حياته العملية، أو أن «القصائد عينها» قد «حفظت عن ظهر قلب»، وإن لم تكن قد كتبت، ثم أنشدها شعراء آخرون ولاحقون أثناء حياتهم العملية. عندئذ سيكون من الممكن أن يكون أشخاص مختلفون في أماكن مختلفة وأوقات مختلفة قد كتبوا «الإلياذة» أو «الأوديسة»، مثلما توجد الملحمة الشعرية الفرنسية «أنشودة رولان»، التي ترجع إلى العصور الوسطى، في نسخ عديدة متباينة. ومع ذلك فإن «الإلياذة» و«الأوديسة» التي بين أيدينا هي، حسب نموذج باري/لورد، نسخ فريدة من نوعها خرجت إلى حيز الوجود مرة واحدة عندما أملى شاعر أنشودته على ناسخ في ظل ظروف غير اعتيادية. وقد ناقشنا فيما سبق استحالة تجاوز حاجز نص الفولجاتا الإسكندرية لإيجاد «النص الصحيح» للقصائد الهوميرية، ولكن يمكننا أن نكون على يقين تام من أن ذلك النص كان بالفعل موجودا فيما مضى.
لا نملك إلا التخمين بشأن الأشكال السابقة أو اللاحقة للأغاني الشفاهية حول غضبة آخيل أو عودة أوديسيوس إلى الديار، ولكن يمكننا أن نكون متيقنين من أن هذه الأنشودات، سواء أنشدها هوميروس أو شخص آخر، لم تكن تحوي إلا قدرا ضئيلا من التشابه مع «الإلياذة» و«الأوديسة» بصورتيهما المعروفة لدينا. وتظل هاتان القصيدتان الملحميتان لغزا مبهما في تاريخ الأدب، بسبب طولهما الهائل؛ إذ يبلغ طول «الإلياذة» حوالي 16 ألف بيت و«الأوديسة» حوالي 12 ألف بيت. يمتد متوسط طول الأغنية الشفاهية، وفقا لدراسات باري وللدراسات الميدانية الحديثة، لنحو 800 بيت، ما يعادل تقريبا طول كتاب واحد من «الإلياذة». وكما سنرى في الجزء الثاني من هذا الكتاب، تتشكل القصائد الهوميرية من عناصر أقصر كهذه، تلك التي ربما كانت قائمة بذاتها بشكل أو بآخر يوما ما. ويظل المغني الشفاهي، على أي حال، مقيدا بمدى انتباه وتركيز جمهوره وبقدراته الصوتية وقوة تحمله.
ما الغرض الذي يمكن أن تكون قد نظمت من أجله قصائد مكتوبة بهذا الطول الهائل؟ على الرغم من مئات السنين من الدراسات الحديثة، علينا أن نعترف بأننا لا نعرف. ولا بوسعنا أيضا أن نتصور. قطعا ليس من أجل القراء الذين يقرءون بداعي التنوير أو المتعة؛ لأنه ما كان ممكنا أن يوجد قراء كهؤلاء عندما كان هوميروس، الذي يجهل عالمه الكتابة، على قيد الحياة. بيد أنه يبدو أن القصائد كانت موجودة مكتوبة منذ بزوغ فجر معرفة الأبجدية في القرن الثامن قبل الميلاد.
لا شك أن هوميروس، تلك الشخصية التاريخية، بوصفه «منشدا ملحميا» محترفا، قد أنشد مرات عديدة عن غضبة آخيل وعن عودة أوديسيوس للديار، إلا أنه يبدو أن النسخ النصية التي بحوزتنا محكومة بظروف نقلت في ظلها القصص من عالم الأغنية الشفاهية غير المنظور والسريع الزوال إلى عالم النص المكتوب المنظور والمحسوس. يؤدي الطول الفائق والصعوبة والتعقيد الواضحان للغة هذه النسخ النصية - وهي الأمور التي تزعج القارئ العصري، ودائما ما ينتج عنها إطالة السرد - إلى تمييزها كأعمال ترفيهية عن الأغاني الحقيقية التي أنشدت في الواقع أمام جمهور حقيقي. فلا بد وأن يعتمد شكل القصائد وطولها على الظروف الفريدة التي نشأت في ظلها النصوص. في تجربة باري ولورد، ساعدت عملية الإملاء على إلقاء قصيدة أطول وأكثر توسعا. فمع تحرر «الجوسلار» من تحديات وقيود الأداء المباشر، وعدم استعانته عندئذ بموسيقى مصاحبة، وتسبب الوتيرة البطيئة للكاتب في بطئه، صار في استطاعته أن يطيل أمد الحكاية كما شاء. ومثلما رأينا، استحث باري عبدو مجيدوفيتش، منشده المفضل، من أجل إملاء أنشودة تماثل في طولها «الأوديسة». لا وجود للكتابة في زمن هوميروس ، ومع ذلك فإن قصائده قد كتبت، وهو ما اعترض عليه وولف منذ 200 عام. (8) بقايا التأليف الشفاهي في نصوص هوميروس
إن الانحرافات والمخالفات التي استند إليها المحللون القدماء في حججهم تعد هي ذاتها الأثر الذي يتعذر محوه الذي خلفه التأليف الشفاهي لهذه القصائد ووضع نصها عن طريق الإملاء. فعلى سبيل المثال، يعصف زيوس من السحب، فلا يكون من شأن فتاة أمة إلا أن تخرج وتلاحظ كم هو غريب انبعاث البرق من سماء بلا سحب (الأوديسة، 20، 102-119). يقتل ديفوبوس هيبسينور، الذي يستمر في إطلاق الأنين (الإلياذة، 13، 402-423). في نهاية الكتاب السادس عشر من «الإلياذة»، يضرب أبولو باتروكلوس بطريقة غامضة على الظهر والكتف، حتى إن دروعه تتطاير بعيدا، تاركا إياه عاريا وأعزل. وبعد قتل هيكتور له، يعود و«ينزع عن باتروكلوس أسلحته المجيدة» (الإلياذة، 17، 125). ومن المستغرب أيضا عبارة زيوس التي تأتي بعد ذلك «وأخذت درعه [الضمير يعود على باتروكلوس] عن كتفيه» (الإلياذة، 17، 205). ويقتل الجندي الطروادي ميلانيبوس ثلاث مرات عبر تسعة كتب. ويقتل مينلاوس بيلامينيس، قائد البافلاجونيين (الإلياذة، 5، 576-579)، ولكن بعد ذلك بثمانية كتب يحمل بيلامينيس ابنه القتيل من ساحة المعركة (الإلياذة، 13، 643-659). يرى العراف ثيوكليمينوس فألا على الشاطئ (الأوديسة، 15، 495-538)، ولكن عندما يتكلم عنه مستحضرا إياه، يزعم أنه كان على متن سفينة (الأوديسة، 17، 160-161). يستفيض أوديسيوس في ذكر تفاصيل خطة معقدة بموجبها سوف يجلي تليماك الدروع عن القاعة، عند إشارة معينة، مختلقا المبررات للخطاب وتاركا فقط أسلحة لهما، ولكن عندما تحين تلك اللحظة لا يكون ثمة إشارة، ويزيلان كل الدروع (الأمر الذي سيندمان عليه عما قريب)، ثم يختلقان المبررات للخادمة. ولعل أكثر الأمور خضوعا للدراسات هي مسألة البعثة إلى آخيل، حيث يشار فجأة إلى هذه المجموعة، بعد أن يرسل أجاممنون ثلاثة أبطال ورسولين إلى خيمة آخيل، بصيغ نحوية «مثناة» (الإلياذة، 9، 165-198؛ تحتوي اللغة اليونانية على عدد مثنى - عندما يشار إلى شيئين فقط - بالإضافة إلى المفرد والجمع انظر: مشهد «البعثة إلى آخيل»، الكتاب 9، الفصل 4).
إن مثل هذه الحالات الغريبة (إلى جانب حالات أخرى عديدة) هي بالضبط نوعية الاختلالات التي يسفر عنها الجمع الميداني للأغنية الشفاهية في العصور الحديثة . يبلغ عدد الأسماء الشخصية في الملاحم الهوميرية ما يقارب 1000 وحوالي 500 من أسماء الأماكن، وهي من السمات البارزة الدالة على أسلوبه، وسيكون من دواعي دهشتنا لو أنه كان في مقدور هوميروس التمييز بين كل تلك الأسماء دون أن تختلط في ذهنه. بدراسة النص يمكننا أن نرى الاختلاف بين المكان الذي كان فيه ثيوكليمينوس والمكان الذي قال إنه كان فيه، ولكن في الإلقاء الشفاهي لا يمكن لأحد أن يلاحظ مثل تلك التباينات، أو يلقي لها بالا. في حالة البعثة إلى آخيل، بدا في ظاهر الأمر أنه ورد في رواية سابقة أن بطلين فقط، هما أوديسيوس وأياس، هما من ذهبا إلى خيمة آخيل. ولم يحدث هوميروس صيغة المثنى التي يستخدمها لتتناسب مع الرواية الجديدة التي يرويها.
والعجيب في أمر مثل تلك التناقضات أن المصححين اللاحقين، بمن فيهم الإسكندريون، لم يتناولوها بالتصحيح على الإطلاق. وتنوقل المخطوط الأصلي عبر النساخ الذين أرادوا المحافظة على النص المتلقى. ويتجلى إكبار مماثل للنص المتلقى من الصيغ النحوية المتقادمة والمهجورة، التي يختص بها القرن الثامن قبل الميلاد. فقد أجرى الكتبة الأتيكيون ما لا يعدو أن يكون تنقيحات سطحية على نص الفولجاتا، إلا أنهم بتاتا لم يحدثوا أو يكيفوا الصياغة لتتوافق مع أسلوب التعبير الأتيكي في المواضع التي كان بمقدورهم أن يصنعوا فيها ذلك. إن الصيغ النحوية المتقادمة والمهجورة التي يتعين على كل دارس للغة اليونانية أن يتعلمها حتى يقرأ القصائد الهوميرية تبرهن على أن القصائد الشفاهية قد صارت نصوصا في وقت مبكر جدا؛ إذ لو كانت قد بقيت شفاهية حتى الحقبة الكلاسيكية (كما يقال في بعض الأحيان)، لتلاشت الصيغ المهجورة، كما هو الحال في حالات أخرى للتراث الشفهي.
ولكن متى، على وجه التحديد، صاغ هوميروس قصائده؟ على هذا السؤال الذي كثر الجدل بشأنه، يمكننا أن نعطي إجابة نوعا ما. (9) زمن النصوص الهوميرية
ما هي أول المصادر الخارجية التي تورد ذكر هوميروس، أو تلمح إلى وجوده بأي طريقة أخرى؟ هيرودوت، كما طالعنا، يذكر هوميروس مرات عدة ويقتبس أحد عشر بيتا من أبياته. وهو أيضا أول من تكلم عن «الرابسوديين»، فيما يتصل بواقعة حدثت في مدينة سيكيون (في شبه جزيرة بيلوبونيز الشمالية) حوالي عام 570 قبل الميلاد. لم يكن الأداء الرابسودي نظما شفاهيا حيا، ولكنه كان معتمدا على حفظ نص محدد مكتوب (إن كان ذلك ما يعنيه هيرودوت)، والجلي أنه في أوائل القرن السادس قبل الميلاد كان الإلقاء بالاستعانة بالنصوص المكتوبة يحل محل التقليد الشفاهي.
قبل هيرودوت بجيل، عمد زينوفانيس (حوالي 560-478 قبل الميلاد)، ذلك الفيلسوف المتمرد على المعتقدات السائدة، المؤمن بالوحدانية القادم من كولوفون، وهي مستعمرة يونانية على ساحل آسيا الصغرى، إلى استنكار وثنية هوميروس اللاأخلاقية بقوله: «لقد نسب هوميروس وهيسيود كل ما هو مخز وشائن في عالم البشر، من سرقة وزنا وتحايل، إلى الآلهة» (شذرة 10 ترقيم ديلز-كرانز)، مبرهنا بقوله على الدور البارز لهوميروس في الثقافة اليونانية منذ القرن السادس قبل الميلاد، وهو تأثير يصل إلى حد أن زينوفانيس يرى أنه ينبغي مقاومته. مما لا شك فيه أن نصوصا كاملة «للإلياذة» و«الأوديسة» كانت موجودة في القرن السادس قبل الميلاد، عندما وضع هيبارخوس، ابن الحاكم الأثيني بيسيستراتوس (605؟-527 قبل الميلاد)، نظاما ثابتا لعرض الأحداث الواردة في القصائد في مهرجان عموم أثينا، ذاك الاحتفال الوطني الأثيني الذي جرى تعديله (لا يزال في هذا الشأن مزيد من التفاصيل سنتناولها لاحقا).
فيما يبدو أن «الترنيمة الهوميرية إلى أبولو»، التي ربما تكون في صورتها الراهنة إعادة صياغة لنصوص قصيدتين أقدم مجهولتي المؤلف أمليتا على النساخ، قد أديت على جزيرة ديلوس في عام 522 قبل الميلاد، برعاية بوليكراتس، طاغية ساموس الشهير. تحكي الترنيمة الطويلة ذات الخمسمائة والخمسة والأربعين بيتا، وهو ما يقارب طول كتاب من كتب ملحمتي هوميروس، أولا، الأساطير المتعلقة بميلاد أبولو على جزيرة ديلوس، ثم بعد ذلك تأسيس عبادة أبولو في منطقة دلفي. وتزعم الترنيمة أنها من نظم «الرجل الكفيف من جزيرة خيوس»، وهو ما يقصد به تماما الإشارة إلى هوميروس. كان مصدر أسطورة إصابة هوميروس بالعمى هو الشاعر الأعمى ديمودوكوس في «الأوديسة». إن الزمن التاريخي لهذه «الترنيمة» متأخر جدا عن زمن هوميروس مما لا يصح معه نسبتها إليه، ولكن زعمها المتفاخر يبرهن مجددا على مكانة هوميروس السامية في القرن السادس قبل الميلاد.
ويبدو أن الشاعر بالغ القدم كالينوس من أفسوس في آسيا الصغرى هو أول من ذكر هوميروس بالاسم، إن كنا نصدق كلمات باوسنياس (القرن الثاني الميلادي) من أنه «كان لدى سكان مدينة ثيفا (طيبة) قصائد بشأن هذا الموضوع [حرب السبعة ضد طيبة]، وأنه عندما انتهى كالينوس إلى الحديث عن هذه القصائد، نسبها إلى هوميروس». عاش كالينوس في أواسط القرن السابع قبل الميلاد. لا بد وأن باوسنياس يشير إلى «ثيبايس»، وهي قصيدة غير متيقن من مؤلفها، وهي مفقودة في الوقت الحاضر (لعلها «كانت» من تأليف هوميروس). عاش كالينوس بعد 150 عاما فقط من تاريخ اختراع الأبجدية اليونانية حوالي عام 800 قبل الميلاد، وهي التقنية التي أتاحت وجود هوميروس والقصائد الهوميرية.
تأتي هيلين بعقار قوي على الرغم من أن الكتيبات تدعو هوميروس شاعرا أيونيا، عاش وعمل في آسيا الصغرى، فإن التحليلات التي أجريت حديثا للدلائل النصية والتاريخية تحدد نشاطه في جزيرة عوبية المديدة التي تعانق الساحل الشرقي لبر اليونان الرئيسي (خريطة 2). وثمة سمات اصطلاحية معينة تتصف بها لهجته قد تسمها بأنها «غرب أيونية» والتي يتكلم بها العوبيون (سكان جزيرة عوبية)، في مقابل اللهجة «شرق الأيونية» لساحل آسيا الصغرى. كان سكان جزيرة عوبية هم أكثر المجتمعات اليونانية تقدما وثراء إبان العصور المظلمة (أو الحديدية) اليونانية حوالي 1150-800 قبل الميلاد، في الفترة بين انهيار العصر البرونزي واختراع الأبجدية اليونانية. وحسب اكتشافات أثرية حديثة في ليفكاندي، وهو الاسم الحديث لمستوطنة قديمة عند طرف سهل ليلانتين المتنازع عليه بقوة (خريطة 2)، كان العوبيون هم اليونانيين الوحيدين من بر اليونان الرئيسي الذين حافظوا على التواصل، على نحو مباشر أو عبر وسطاء، مع قبرص وساحل الشام وحتى مصر أثناء العصور المظلمة. فداخل بناء هائل طويل ضيق له بروز مزخرف عند أحد أطرافه، بني حوالي عام 1000 قبل الميلاد، وليس له مثيل في أي مكان في اليونان، عثر علماء التنقيب الأثري على مقبرة محرقة محارب نادرة، بالإضافة إلى ذبائح خيول وحلى ذهبية في مقبرة دفن قريبة لامرأة. لسنا على يقين من وظيفة هذا المبنى الفريد، ولكن في إطار مثل هذا بالضبط، لو كان هذا المبنى هو منزل الحاكم الكبير، فلنا أن نتخيل المنشدين الملحميين وهم يمارسون عملهم في هذا العصر الذي لم يكن قد عرف القراءة والكتابة.
خريطة 2: اليونان، بحر إيجه، وغرب آسيا الصغرى.
كان العوبيون أقدم وأكثر المستعمرين اليونانيين عدوانية، و«الأوديسة» هي عبارة عن قصيدة مصممة بحيث تلائم خبرتهم التاريخية في منطقة غرب البحر المتوسط في حقبة تحاكي حقبة «الغرب المتوحش» الأمريكي ولكن في أواخر القرن التاسع ومطلع القرن الثامن قبل الميلاد، العصر الذي بين كل آية وأخرى فيه يوجد آية تنسب إلى هوميروس (شكل
1-8 ).
شكل 1-8: إناء أتيكي عميق من الحقبة الهندسية المتأخرة، حوالي 730-720 قبل الميلاد، صنع في نفس زمن أقدم الكتابات الأبجدية اليونانية «الطويلة» (أي أكثر من بضعة أحرف) التي وصلت إلينا. صفان من المجدفين الجالسين على جانبي القارب (يظهر الصفان بعضهما فوق بعض حسبما كان متعارفا)، وفي أيديهم مجاديف. في قوارب كتلك جدف العوبيون وصولا إلى إيطاليا في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد أو قبل ذلك. عند مؤخرة القارب، المعلق عليها دفتا توجيه، رجل ممسك بامرأة من خصرها بالوضع ذاته الذي نراه في مشاهد العرس؛ من الواضح أن المشهد يمثل اختطافا، ولكننا لا يمكننا التيقن من أنه مستوحى من قصة بعينها، كاختطاف هيلين مثلا. حقوق النشر محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.
بحلول الربع الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد كان للعوبيين مراكز ثابتة في جنوب إيطاليا، ومن ضمنها مركز في مستعمرة كوماي على خليج نابولي، التي هبط منها إنياس بطل ملحمة فيرجيل إلى العالم السفلي؛ إذ كانت كوماي أول مستعمرة يونانية على البر الرئيسي لإيطاليا. وفي نفس الوقت احتفظ العوبيون بمراكز ثابتة في شمال سوريا بالقرب من مصب نهر العاصي (في تركيا الحالية) غير بعيد من أوغاريت مركز التجارة في العصر البرونزي (في سوريا الحالية )، وموطن تقاليد الثقافة والكتابة السامية الغربية. يبدو أن أقدم شاهد على كتابة الأبجدية اليونانية هو جزء من اسم، وهو
EULIN ، الذي اكتشف حديثا على قدر فخاري في منطقة لاتيوم في إيطاليا وهو ما كان باعثا على دهشة الجميع، ويرجع تاريخ هذا القدر حسب دراسة تراصف الطبقات الصخرية إلى حوالي سنة 775 قبل الميلاد. ولكن لاتيوم تقع بالقرب من كوماي على خليج نابولي والمستوطنة العوبية على جزيرة إسكيا الواقعة في الخليج، وهو الموضع الذي عثر فيه على مواد مكتوبة أخرى بالغة القدم. وعثر على كسر (شقف) فخارية عليها أجزاء من أسماء ترجع إلى نفس التاريخ تقريبا، أي من عام 775-750 قبل الميلاد، على جزيرة عوبية نفسها. وعلى ما يبدو أن الأبجدية اليونانية قد اخترعت على جزيرة عوبية أو في مكان ما في المنطقة المحيطة بها، ولكن الأرجح أن ذلك حدث على جزيرة عوبية، التي كانت موضع الثروة والعلاقات الدولية.
كما رأينا، يعد استغراق الأبجدية اليونانية في التمثيل الصوتي (على النقيض من أساليب الكتابة الأقدم) دليلا داخليا على أنها اخترعت لتدوين الشعر سداسي التفاعيل، واستنادا إلى الأدلة المتاحة يمكننا أن نقول إنها اخترعت لتدوين «الإلياذة» و«الأوديسة»، اللتين تنتميان إلى هذه الحقبة التاريخية؛ لأن المحاكاة الصوتية ليست هدفا لأساليب الكتابة الأخرى، بما في ذلك لغتنا. من دون شك كان النموذج الفينيقي للأبجدية اليونانية قاصرا عن تدوين كلمات هوميرية من قبيل
aaatos ، أي «منيع»، التي يمكن بالكتابة الفينيقية أن تكتب
ts ! فمع أن مجموعات الحروف المتحركة (الحروف المتحركة المتعاقبة) شائعة في اللغة اليونانية، فإن أمثلة متطرفة من هذا النوع لا توجد إلا في الشعر، حيث يكمن الإيقاع المركب في تتابع الأصوات الملفوظة. فأنت لست بحاجة إلى محاكاة صوتية لوضع تسجيل مكتوب لأي نوع من الكلام لمجرد أنه باللغة اليونانية، كما يبرهن النظام الخطي باء الميسيني اليوناني، الذي يتيح فقط مقاربة تقديرية لصوت أي كلمة منطوقة.
يدعم أقدم ما وصلنا من كتابات لأكثر من بضعة رموز النظرية التي مفادها أن الحاجة إلى تسجيل الشعر سداسي التفاعيل أوحت باختراع الأبجدية اليونانية. بيد أن أقدم «نقش طويل» لأكثر من بضعة حروف هو على الأرجح النقش على مزهرية دبيلون (شكل
1-9 ) التي عثر عليها في عام 1871 في مدينة أثينا. وما كتب عن هذا النقش يفوق بكثير ما كتب عن أي كتابة يونانية أخرى. فقد حفر شخص ما الرموز بأداة حادة، مخترقا السطح الأملس لقدر (يرجح أنه ممنوح كجائزة) صنع في ورشة خارج بوابة دبيلون بأثينا مباشرة في حوالي 740 قبل الميلاد. تحفظ الرموز، التي تقرأ من اليمين إلى اليسار، وزنا سداسي التفعيلات متقنا متبوعا ببعض رموز غير واضحة المعنى، لعلها جزء مبتور من ألفبائية (بمعنى آخر، رموز الأبجدية كاملة على التوالي، ولكنها هنا تبدأ في المنتصف بحروف
LMN ...)
شكل 1-9: مزهرية دبيلون والنقش عليها، ترجع إلى حوالي 740 قبل الميلاد. متحف الآثار الوطني بأثينا. الصورة لصندوق مداخيل التراث؛ المعروف اختصارا باسم مرفق تي إيه بي، النسخ والرسم من كتاب بي بي باول «هوميروس وأصل الأبجدية اليونانية» كامبريدج، المملكة المتحدة، 1991، رقم 58.
ويأتي «نقش طويل» آخر من قبر طفل بجزيرة إسكيا العوبية في خليج نابولي، محفورة في كأس شراب رودسية، صنعت حوالي 740 قبل الميلاد، في نفس زمن نقش مزهرية دبيلون تقريبا. ويبدو أن أول سطر فيما يطلق عليه «نقش كأس نيستور» هو نثر، إلا أن السطرين الثاني والثالث هما شعر سداسي التفاعيل أيضا. وترجمته هي:
أنا كأس نيستور، أبعث السرور على من يشرب مني.
من يشرب من هذه الكأس من توه، ذلك الرجل،
سيغنم باشتهاء لأفروديت المكللة ببهاء.
أثار الكشف الأثري اهتماما واسعا؛ لأن الكأس تشير فيما يبدو إلى كأس نيستور نفسها التي ورد ذكرها في الكتاب الحادي عشر من «الإلياذة» (الأبيات 632-635)، عندما يأتي باتروكلوس إلى خيمة نيستور ليسأل عن رفيق جريح:
سحبت الجارية أولا أمام الاثنين مائدة جميلة ذات أرجل لازوردية جيدة الصقل، ووضعت عليها سلة من البرونز ومعها بصلة، لإعطاء مذاق لشرابهما، وعسلا فاتح اللون وخبزا من الشعير المبارك بالإضافة إلى كأس جميلة أحضرها الشيخ المسن من منزله، كأس مرصعة بحليات ذهبية ناتئة، ولها أربعة مماسك وحول كل منها زوج من الحمام يلتقم الحب، وبالأسفل قاعدة مزدوجة. وكان من العسير على أي رجل أن يرفع تلك الكأس عن المائدة وهي ملأى، ولكن نيستور الشيخ المسن كان يرفعها بسهولة. (الإلياذة، 11، 628-637)
HOSNUNORXESTONPANTONATALOTATAPAIZEITOTODEK{M}M{N-
من من بين كل الراقصين الآن الأكثر رشاقة في رقصه ...؟
عثر هاينريش شليمان (1822-1890)، الأب المؤسس لعلم الآثار المختص بالعصر البرونزي اليوناني، على كأس في أحد القبور العمودية في مدينة ميسينيا (موكناي) يضاهي وصف هوميروس، وأشار إلى أن الكأس قد تكون إرثا ميسينيا. «نقش كأس نيستور» النادر هو دعابة ويعبر على الأرجح عن مباراة كلامية للتغلب على الآخر بالكلام كانت تلعب في حفل لشرب الخمر في إسكيا في القرن الثامن قبل الميلاد. ادعى أحدهم مازحا أن هذه الكأس الرودسية الفخارية المتواضعة هي «كأس نيستور» الشهيرة المذكورة في «الإلياذة». ومن الأشكال الموثقة للكتابة الأبجدية القديمة «صيغة اللعنة»، التي تبدأ بعبارة مثل: «من يسرق هذه الكأس ...» سيحدث له شيء سيئ. فيبدأ متناول الشراب الثاني لعنة كهذه «من يشرب من هذه الكأس ...» عندئذ يلفظ متناول الشراب الثالث حكمه: أن يقاسي علاقة جنسية ممتعة! مزحة جيدة.
لا بد أننا نشعر بالذهول حين نفطن إلى أن واحدة من أقدم نقشين يونانيين «طويلين» في العالم، في التقنية المقدر لها أن تغير الحياة البشرية إلى الأبد، ليست تسجيلا لغزو عسكري، ولا لمقياس للحبوب، ولا لنذير سوء، وإنما الترميز الأبجدي لمزحة مخمور مصاغة بوزن سداسي (وافتتاحية نثرية) تشير بطريقة مقنعة إلى نفس نسخة «الإلياذة» المعروفة لنا في العصر الحاضر. إن أقدم نقش كتابي في العالم الغربي هو إشارة أدبية، وكأننا نحيا في حلم.
من الواضح أن هؤلاء البحارة المخمورين الملمين بالقراءة والكتابة القاطنين على بعد ألفي ميل من الوطن، على حافة العالم، قد عرفوا شعر هوميروس المتداول في زمنهم جيدا؛ لأن المزحة تعتمد على التفاوت بين كأس هوميروس الثقيلة المزخرفة، والنموذج الرودسي المتواضع. إن كانت «كأس نيستور» ذات النقش هي نفس الكأس الموصوفة في الكتاب الحادي عشر من «الإلياذة»، فلا بد أن نصا «للإلياذة» كان موجودا قبل عمل النقش حوالي عام 740 قبل الميلاد، حيث نظمت الإلياذة في «الزمن الذي قبله» (terminus ante quem) . وعلى الرغم من اعتقاد البعض أن كأس نيستور كانت فكرة تقليدية على ألسنة شعراء كثيرين، فإن كأس نيستور الوحيدة التي لدينا معلومات عنها هي الكأس الموصوفة في النص الشائع ل «الإلياذة».
لذلك كانت الأبجدية اليونانية تستخدم منذ أقدم العصور لتدوين الشعر الملحمي. ولما كانت نصوص هوميروس لا يمكن أن تسبق زمنيا الأبجدية اليونانية، ولأنه لا يوجد شيء موصوف في القصائد الهوميرية يأتي زمنيا بعد عام 700 قبل الميلاد؛ ولأن من المحتمل أن نقش كأس نيستور يشير إلى نص من نصوص «الإلياذة»، وبسبب الظروف الاجتماعية والتاريخية التي تعكسها القصائد (طالع الفصل التالي)، وبسبب الكثير من الصيغ النحوية بالغة القدم، إذن لا بد وأن النصوص الأولى من القصائد الهوميرية تنتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد. في أي وقت من القرن الثامن؟ يضعه الكثير من الباحثين في النصف الثاني، وذلك من أجل منح الأبجدية فرصة حتى «تنضج» وتصير متطورة بما فيه الكفاية لتشكيل ما وصلنا من نصوص. ولكن الأبجدية لم تبدأ كوسيلة بدائية صارت أكثر تطورا بمرور الوقت. فقد ظهرت الأبجدية اليونانية وسط تقليد يعتمد على تسجيل النصوص عن طريق الإملاء، لربما كان عمره يبلغ 1000 عام في أيام هوميروس. كما أن وضع هوميروس في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد لا يأخذ في الاعتبار على نحو كاف عدم معرفة هوميروس بتقليد الكتابة الذي أتاح وجود نصوصه، والذي لا يشير إليه مطلقا. ونظرا لأن الشعر الشفاهي يعكس الظروف المتغيرة بسرعة، ولأن الكتابة مفيدة للغاية في بناء الحبكات (ويتضح ذلك مرارا في أدب ما بعد هوميروس)، فلا بد وأن نصوص هوميروس قد تشكلت في وقت قريب لاختراع الأبجدية حوالي عام 800 قبل الميلاد، قبل أن تصبح أهمية الكتابة ومنفعتها أمرا شائعا. وقد ذكرت أسطورة يونانية أن رجلا يسمى بلاميدس اخترع الأبجدية اليونانية، وربما يكون قد فعل. وتقول الأساطير الإغريقية إن بلاميدس كان عوبيا عاش في نوبليوس ، «مدينة السفن» (ليس مدينة نافبليو (ناوبليون) الواقعة ضمن إقليم بيلوبونيز). ولأن الأساطير غالبا ما تحتفظ بأسماء حقيقية، فقد يكون بلاميدس هو اسم ناسخ القصائد الهوميرية، عدا أننا لا نستطيع أن نثبت هذا الأمر.
ساند شخص ما يمتلك ثروة وسلطانا عظيمين أمر صياغة هذه النصوص في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. فقد كانت تكلفة البردي وحده هائلة، وكان المشروع في مجمله مطمحا مجنونا، مثلما يحدث أحيانا في مستهل ظهور تكنولوجيا جديدة. فمثلا، مجمع المعابد الحجري الأبعد شأوا في مصر - الذي يحيط بهرم الملك زوسر المدرج والذي أقيم حوالي 2600 قبل الميلاد - هو أيضا الأقدم. كان إملاء القصائد عملا مجهدا وباهظ التكلفة، إلا أن التجار العوبيين كان لديهم الوسائل ومن خلال علاقاتهم الشرقية استجلبوا تكنولوجيا الكتابة. من المرجح أن تكون «الإلياذة» و«الأوديسة»، وكذلك قصائد هيسيود من مقاطعة بيوتيا المجاورة، قد دونت على جزيرة عوبية، وكانت بحوزة العوبيين في بادئ الأمر.
ماذا كان يمكن أن تكون دوافع ناسخنا لصياغة نصوص بهذا الطول والتعقيد اللذين لم يسبق لهما مثيل؟ ماذا فعل ناسخنا - الذي كان مدعوما بثروة وهدف غير معلوم - بالنصوص ما إن صارت بين يديه؟ إن كان هو مخترع الأبجدية، إذن فقد كان هو الإنسان الوحيد في العالم القادر على قراءة النصوص الأولى، إلى أن استطاع آخرون تعلم أسرار طريقته. نحن نعرف أن نصوص هوميروس قد صارت أساس التعليم اليوناني بحلول القرن السادس قبل الميلاد؛ فمن القابل للتصديق أنها كانت أساس التعليم اليوناني بدءا من وقت اختراع الأبجدية.
هوامش
الفصل الثاني
ملحمتا هوميروس عند المؤرخين
يرغب عالم فقه اللغة في معرفة أصل أول نص «للإلياذة» و«الأوديسة» (ولكنه لا يريد على الإطلاق أن يعرف عن بداية التقليد الذي جسدته تلك النصوص، والذي لا بد أن يكون بالغ القدم). يشارك المؤرخ عالم فقه اللغة اهتمامه الشديد بمعرفة الزمن الذي صيغت فيه الملاحم المكتوبة، ولكنه يرغب في أن يستخرج من نصوص هوميروس أكبر قدر ممكن من المعلومات عن حياة الناس وما كانوا يفكرون فيه. لقد أنشد هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة»، وصاغ شخص ما نصا من أنشودته. ولكن ماذا كان مقدار اعتماد عالم الملاحم العتيق هذا على الخيال الشعري وما مدى عكسه للعالم الحقيقي، الذي - ذات يوم - عاش فيه شاعر حقيقي؟ هذا هو التحدي الذي يواجه المؤرخ. (1) هوميروس والعصر البرونزي
شكل 2-1: المؤلف أمام أسوار طروادة السادسة التي تعود إلى حوالي 1250 قبل الميلاد. تميل الأسوار الدقيقة البنيان إلى الداخل قليلا ومدعمة بدعامات رأسية على مسافات منتظمة. حقوق نشر الصورة محفوظة للمؤلف.
تظل علاقة هوميروس بالعصر البرونزي مشكلة مزمنة. لقد أماط التنقيب الأثري اللثام عن عالم اليونانيين الميسيين الذي يتسم بالثراء والقوة والذي ازدهر تقريبا فيما بين عامي 1600 و1150 قبل الميلاد وانهار عندما اندلعت جذوة صراع شامل في منطقة البلقان، وبحر إيجه، والأناضول، وقبرص، والشام (ولكنه لم يمتد إلى بلاد ما بين النهرين ولا إلى مصر). لا بد أن تكون حرب طروادة قد حدثت في العصر البرونزي، إن كانت قد وقعت. لقد بدا هاينريش شليمان (1822-1890)، الذي اكتشف العصر البرونزي اليوناني عندما نقب عن طروادة في آسيا الصغرى وميسينيا على بر اليونان الرئيسي في أواخر القرن التاسع عشر، وكأنه يثبت أن قصص هوميروس لا بد على نحو ما أن تكون مستندة على أساس من الواقع، أي على التاريخ. ومسينيا وطروادة هما، في نهاية الأمر، مكانان حقيقيان احترقا بالفعل عن آخرهما. ارتأى شليمان أن هوميروس كان يصف العصر البرونزي، وحتى وقت قريب كان كثيرون يتفقون مع وجهة نظره؛ فالأسوار القوية، بل المذهلة، لما يدعوه هوميروس عن جدارة «طروادة ذات الأسوار الحصينة»، والطابع العسكري الواضح للقلاع الميسينية على بر اليونان الرئيسي، والدروع البديعة التي عثر عليها في القبور الميسينية، والتي تشمل قناعا جنائزيا ذهبيا اعتقد شليمان أنه كان يخص أجاممنون، كل ما سبق يتفق مع وصف هوميروس العام لليونانيين الموسرين الذين لديهم ولع بالبغي والطرواديين الموسرين الذين بوسعهم التصدي له (انظر شكل
2-1 ).
كانت القلعة في ميسينيا متوافقة على نحو جيد مع بأس أجاممنون كما وصفه هوميروس، وعلى النقيض كانت ميسينيا في الحقبة الكلاسيكية قرية بائسة. وبدا أن الجهود اللاحقة المبذولة من قبل باري ولورد تثبت التساوي بين عالم هوميروس واليونان الميسينية؛ لأن تلك الجهود فسرت الكيفية التي أمكن بها لهوميروس عبر التقليد الشفاهي أن يرث معرفته بأحداث وقعت قبل 400 سنة.
شكل 2-2: مقبرة ثولوس مقببة شبيهة ب «خلية نحل»، بالقرب من مدينة بيلوس في الجزء الجنوبي الغربي من إقليم بيلوبونيز، ويرجع تاريخها إلى حوالي 1300 قبل الميلاد. ورد في «الإلياذة» أن نيستور السبعيني الثرثار جاء من «بيلوس الرملية». الصورة للمؤلف.
ومع ذلك، فكلما ازدادت معلوماتنا عن العصر البرونزي اليوناني، تعاظم ظهور التفاوت بينه وبين عالم هوميروس. لا يعرف هوميروس شيئا عن مقابر «ثولوس» الميسينية الضخمة الشبيهة بخلايا النحل (أي مقابر مقببة/ذات قباب)، التي هي نوعا ما عبارة عن سرداب مخروطي يتسع في بعض أجزائه حتى يصل إلى أبعاد ضخمة، ويزوره حاليا آلاف السائحين كل عام خارج أسوار ميسينيا. في قصائد هوميروس، دائما ما تحرق جثامين الموتى، بينما كانوا في العصر البرونزي المتأخر يدفنون في هذه المقابر التي تحاكي شكل خلية النحل (انظر شكل
2-2 ).
لا يعرف هوميروس شيئا عن بيروقراطيات القصر التي كانت تدعمها الكتابة المقطعية التي ندعوها النظام الخطي باء، والتي نقشها كتبة محترفون على ألواح طينية. فالصورة التي يقدمها هوميروس للزعماء المحاربين المستقلين الذين يعيشون، مثل أوديسيوس، في إيوانات مستطيلة ذات سقف مائل خالية من الزخرفة وأرضيات ترابية مدكوكة لا تتفق مع الأنظمة الملكية المنظمة في مدن ميسينيا، وكنوسوس، وبيلوس، وطيبة في العصر البرونزي، حيث كان الملوك يعيشون في إيوانات مربعة ذات أسقف مسطحة وأرضيات حجرية وزخارف جصية متقنة على الحوائط، ومن تلك الإيوانات كانوا يديرون دفة اقتصاد متطور وهرمي.
منذ أواسط القرن العشرين تقلصت عناصر العصر البرونزي المدعى وجودها في «الإلياذة» و«الأوديسة»، التي كانت يوما تشكل قائمة طويلة، إلى بضعة عناصر قليلة. فهناك حرب طروادة نفسها؛ بافتراض أنه لا بد وأن حدثا تاريخيا ما قد أوحى بقصص عنها. تصنع الأسلحة دائما من البرونز، ومع ذلك يصف هوميروس أدوات الحياة اليومية بأنها مصنوعة من الحديد. وهناك الخوذة المصنوعة من أنياب خنازير برية مخيطة في طبقة من اللباد المذكورة في الكتاب العاشر من «الإلياذة»، المعروف باسم «أنشودة دولون» (الإلياذة، 10، 260-271)؛ إذ تظهر رسوم تصويرية تشبه تماما هذه الخوذات الغريبة على لوحات جدارية جصية في بيلوس ترجع إلى حوالي عام 1200 قبل الميلاد في جنوب غرب إقليم بيلوبونيز والمذهل أنها مرسومة على بردية تعود إلى عاصمة الفرعون المصري المهرطق إخناتون (حوالي 1367-1350 قبل الميلاد). يوجد هذا النوع من الخوذات في مقابر ميسينية من القرون السادس عشر وحتى الحادي عشر قبل الميلاد (شكل
2-3 )، إلا أنها لم تصور مطلقا بعد حوالي عام 1200 قبل الميلاد، حينما بدا أنها قد صارت عتيقة الطراز. في الحقيقة إن هوميروس يسمي الخوذة موروثا، أي شيئا من عصر سابق، ويعرض تسلسل مالكيها؛ فخوذة أنياب الخنازير البرية حتى في قصائد هوميروس تعد قطعة أثرية.
شكل 2-3: درع برونزي وخوذة بحالة سليمة مصنوعة من أنياب خنازير برية عثر عليها في مقبرة في بيلوبونيز، ويرجع تاريخها إلى حوالي عام 1200 قبل الميلاد. متحف نافبليو. الصورة لصندوق مداخيل التراث، مرفق تي إيه بي.
معظم التروس في قصائد هوميروس مستديرة، ولكن في مرات عدة يصف هوميروس درعا بأنه «كالجدار»، وهو ذلك الدرع الذي يحمله أياس (مثال ذلك: الإلياذة، 7، 219). وعادة ما يصف درع هيكتور بأنه مستدير، إلا أنه ذكر مرة واحدة أنه بالغ الضخامة حتى أنه «يصطدم بكاحليه وعنقه» (الإلياذة، 6، 117-118)، كما لو كان هو أيضا «كالجدار». يبدو أن هوميروس يخلط بين نوعين من الدروع، الدرع المستدير الذي كان شائعا بالفعل قرب أواخر العصر البرونزي، ودرع آخر أقدم يشبه الدروع «العالية» الطويلة، العريضة المرسومة على خناجر عثر عليها في المقابر العمودية في مدينة ميسينيا، والتي ترجع إلى حوالي عام 1600 قبل الميلاد (انظر شكل
2-4 ). كان الكريتيون منذ أزمنة سحيقة يستخدمون دروعا طويلة تغطي الجسد بأكمله وتتخذ شكل الرقم ثمانية في اللغة الإنجليزية ومصنوعة من جلد ثور مشدود على إطار خشبي. ونقل منهم اليونانيون الميسينيون هذا الطراز من الدروع، وفيما يبدو أن هوميروس يعرف شيئا عن كلا النوعين.
ويظهر التباس مماثل بين القديم والحديث في وصف هوميروس للقتال بالرماح. فحسب التمثيلات الفنية، كان المقاتلون في العصر البرونزي يستخدمون رمحا طعنيا منفردا، وأحيانا ما يكون بالغ الطول (انظر شكل
2-4 ). تختفي كل الرسوم التمثيلية من الفن الإغريقي حوالي عام 1150 قبل الميلاد، ولكن عندما يظهر المحاربون مرة أخرى في الفن الهندسي الخاص بالقرن الثامن قبل الميلاد، نجدهم يحملون رمحين، أقصر وأخف وزنا. لا بد وأن هذه هي الحراب التي يرميها محاربو هوميروس بعضهم على بعض. في المقابل، ما زال آخيل، أعظم المحاربين على الإطلاق، يقاتل برمح ضخم منفرد؛ ومع ذلك فإنه يقذفه، وكأنه حربة (الإلياذة، 22، 273)!
شكل 2-4: نصل خنجر من قبر عمودي في مدينة ميسينيا، وهو نوع من القبور كان يبنى قبل المقابر الشبيهة بخلية النحل، ويرجع تاريخه إلى حوالي عام 1600 قبل الميلاد. جسد الصانع اليدوي - مستعينا بمهارات بالغة التطور والتعقيد في أشغال المعادن - أربعة أشخاص يقاتلون أسدا، وذلك بواسطة الذهب والفضة اللذين طعم بهما الحديد (ويسمى هذا الأسلوب «التكفيت»). من اليسار: رماح يصوب، ودرعه، الذي يتخذ شكل رقم ثمانية في اللغة الإنجليزية، معلق على كتفه؛ ورامي سهام يصوب؛ ورماح ثان يصوب، ودرعه «العالي» معلق على كتفه؛ ورماح ثالث يغطي جسده بدرع «على شكل رقم ثمانية»، مغطى بجلد بقر مرقط؛ ومقاتل خامس يرقد جثة هامدة بين براثن الأسد، ودرعه «العالي» لا يزال منتصبا. متحف الآثار الوطني بأثينا. الصورة لصندوق مداخيل التراث، مرفق تي إيه بي.
وأخيرا، يظهر أيضا ثلاثة أسماء في لوح منقوش بالنظام الخطي باء عثر عليه في طيبة في المدخل الخاص بالبيوتيين في قائمة السفن في الكتاب الثاني من الإلياذة. وهذه الأسماء الثلاثة هي على العكس غير معروفة بتاتا، ولعلها حفظت في لغة صياغة مدبجة ما، ومررت بهذه الطريقة.
من الجلي أن مثل تلك التوصيفات تشتمل على طبقات، كما لو أن بضعة أشياء أو ممارسات من الأزمنة السابقة، ومن العصر البرونزي ذاته، قد جمدت في لغة المنشدين الملحميين المصاغة شفهيا والشديدة التنميق. يمكن تفسير العديد من المخالفات في الأوزان الشعرية في النص الشائع بأنها نتيجة لإعادة بناء للصيغ اللفظية التي لربما كانت دارجة في العصر البرونزي. ومن ثم فلا بد وأن التقليد الغنائي يعود إلى أواخر العصر البرونزي، وربما قبل ذلك بكثير.
لا يوجد لدى هوميروس، بالطبع، أي إدراك للتاريخ؛ إذ يتناول الإنشاد الشفاهي شواغل وظنون المعاصرين، الذين لا يملكون هم أيضا إدراكا للتاريخ. إذا كان المرء منشدا ملحميا، فمن المهم أن يواكب العصر، لمعرفة أحدث الأناشيد. يسارع تليماك، ابن أوديسيوس، إلى إجابة أمه بينيلوبي، التي تشتكي بشأن أنشودة فيميوس عن حرب طروادة، بقوله:
أماه، لم تعترضين على السماح للمنشد الطيب أن يدخل السرور على الناس بأي طريقة يختارها؟ إن اللائمة لا تقع على «المنشدين»، وإنما حسب ظني على زيوس، الذي يقدر للبشر الأحياء المشقات، لكل واحد حسبما يشاء. لا يمكن لأحد أن يغضب إن أنشد الرجل عن هلاك الدانانيين؛ لأن الرجال يثنون كل الثناء على تلك الأنشودة التي تطرق أسماعهم حديثا. (الأوديسة، 1، 346-352) (2) عالم هوميروس و«الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة
يتفق معظم الباحثين في الوقت الحاضر على أن عالم هوميروس، مع احتوائه على آثار من أزمنة سابقة، من العصر البرونزي والحديدي، هو في معظمه العالم الذي يمثل زمنه هو نفسه، أي أوائل الحقبة العتيقة في القرن الثامن قبل الميلاد، التي يطلق عليها حاليا حقبة النهضة الإغريقية. في واقع الأمر لقد ولد عالم جديد في اليونان القديمة في القرن الثامن قبل الميلاد على أنقاض الحضارة الميسينية التي انهارت قبل ذلك بثلاثمائة سنة. وإن كان في مقدورنا أن نثق في شهادة هوميروس؛ فإنه حتى الدولة المدينة، أو
polis
باليونانية، وهي النسق المميز للنظام السياسي في الحقبة الكلاسيكية، كانت آنذاك في طور النشوء.
كانت «الدولة المدينة» عبارة عن تطور لمفهوم «الأسرة المعيشية»، أو
oikos
باليونانية، كوحدة اقتصادية ذات هيكل سلطة. يقدم هوميروس وصفا وافيا لأسرة أوديسيوس المعيشية على جزيرة إيثاكا، حيث يتمتع سيد المنزل بسلطة مطلقة تصل إلى حد قتل أفراد أسرته المعيشية أو أولئك الذين يهددونها. يمتلك سيد المنزل الأراضي المحيطة والبساتين والقطعان التي يكفل بها أسرته وعبيده. وإذ يلتمس تليماك الدعم من خارج الأسرة المعيشية لوجود انتهاكات داخلها، يطلب انعقاد مجلس للأسر المعيشية المجاورة، وهو الاجتماع الأول منذ عشرين عاما (الأوديسة، 2، 26-27)، ليشكو بشأن الخطاب، بيد أن المجلس المجتمع يفتقر إلى سلطة التصرف. من مجالس كتلك ستنمو فيما بعد الهيئات التشريعية للدول المدن الكلاسيكية القديمة في صورتها التامة.
نشأت «الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة عبر توحيد أسر معيشية كثيرة في وحدة واحدة، بأي وسيلة كانت. ضمت «الدولة المدينة» الأحرار الذين يعيشون ضمن نطاق جغرافي معين، ويشمل ذلك كلا من أولئك الذين كانوا يوجدون داخل مدينة ما بأسوارها ومبانيها وأماكن الاجتماع فيها، وأولئك الذين كانوا يعيشون في المناطق الريفية النائية بمزارعها وعبيدها وماشيتها. كانت «الدولة المدينة» عبارة عن دولة مصغرة وحدت أعضاءها المتباينين عبر أهداف وأساطير مشتركة ومكان للاجتماع (أو ما يطلق باليونانية أجورا
agora ) حيث يلتقي كل الذكور البالغين لاتخاذ قرارات تمس العصبة، وليس فقط الصفوة من أمثال أوديسيوس وآخيل وأجاممنون.
تتركز «الدولة المدينة» حول إله أو آلهة يجسدون قوتها وحيويتها ويكفلون نجاحها. ويتقرب شعائريا من الآلهة بأن يكون لها مناطقها أو معابدها. ويوجد في «الإلياذة» معبد واحد قائم بذاته، حيث يصور هوميروس (الإلياذة، 6، 297) الملكة الطروادية على رأس موكب لوضع ثوب على ركبتي الإلهة أثينا. يحدث هذا المشهد بين جنبات معبد ترعاه كاهنة بحوزتها مفتاح، وهي الإشارة الواضحة الوحيدة في القصائد الهوميرية إلى ممارسة عقائدية شائعة في «الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة. فقد كانت واسطة العقد في مهرجان عموم أثينا في مدينة أثينا هو تقديم ثوب جديد لتمثال الإلهة أثينا في معبد البارثينون. ولكن طروادة، التي كان يحكمها ملك بالوراثة، ليست دولة مدينة يونانية على الإطلاق، وقد تعتمد ممارسة تقديم الثوب على نموذج أدبي شرقي. فعلى مدار 2000 سنة قبل هوميروس، كانت شعوب بلاد ما بين النهرين والمصريون يعتنون يوميا بثياب التماثيل في المزارات المقدسة ويبدلونها بانتظام. ومع ذلك لا تزال تلك التفصيلة تنسجم تماما مع أقدم المعابد القائمة بذاتها ظهورا في اليونان، التي ترجع إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد (في مدينة بيراكورا بالقرب من مدينة كورنث وعلى جزيرة ساموس).
توجد إشارات أخرى في القصائد الهوميرية تلمح إلى أن «الدولة المدينة» في طور النشوء. فعندما يعرب هيكتور عن أنه «لا عار يلحق بمن يموت وهو يقاتل لأجل بلده؛ إذ ستأمن زوجته وأطفاله من بعده، ودوره ومبانيه لن يصيبها ضر» (الإلياذة، 15، 496-498)، إنما يعرب عن الولاء لمحيط عام وكذلك لمحيط خاص. في «الأوديسة»، يحكم ألكينوس، ملك الفياشيين، مدينة مسورة مشيدة على شبه جزيرة، حيث لا يوجد معابد، وإنما أماكن مخصصة للآلهة.
كانت العلامة المؤكدة على «الدولة المدينة» الناشئة هي طابور الهوبليت، أو التشكيلة السلامية (الفلانكس
phalanx )، التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، عندما اصطف المواطنون جنبا إلى جنب في تشكيل صارم من صفوف متعددة متراصة. كان المحارب، ممسكا بالدرع في يده اليسرى، يحمي خاصرة زميله المجاور له بينما يوجه رمحه الطعني المنفرد نحو العدو، الذي اصطف في تشكيلة مماثلة. يشير هوميروس مرات عدة إلى كتيبة سلامية من المقاتلين (مثال ذلك: الإلياذة، 6، 6 والإلياذة، 11، 90)، وهي الكلمة ذاتها المستخدمة للدلالة على تشكيل مقاتلي الهوبليت في «الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة، ولكنها لا يمكن أن تعني الشيء نفسه. ففي تشكيلة الكتيبة السلامية الكلاسيكية القديمة لا يقاتل محارب الهوبليت دفاعا عن نفسه، وإنما لحماية الرجل الذي إلى جواره ولمجد «الدولة المدينة» التي يمثلها تشكيل الكتيبة السلامية. كان مضمون «الدولة المدينة» كله مجسدا في الكتيبة السلامية. أما في القتال الهوميري العشوائي المفتوح، على النقيض، فيقف البطل المنفرد أمام الحشود، متعطشا للظفر بالهتاف والمجد الشخصي، رغم أن المقاتلين المجتمعين يكونون في بعض الأحيان جزءا من تشكيلات مكتظة.
يعد التحول فيما بين أبطال حرب طروادة التواقين للمجد حسب تصوير هوميروس وبين الدول المدن إبان العصر الكلاسيكي اليوناني التواقة للمجد جذريا، وتشكيلات الهوبليت السلامية علامة على أننا قد عبرنا الحد الفاصل. وربما نستطيع أن نرجع تاريخ هذا التحول إلى أوائل القرن السابع قبل الميلاد، قياسا على الدروع المكرسة في حرم زيوس المقدس في جبل الأولمب. كانت الدروع الأقدم، كتلك المذكورة في قصائد هوميروس، تحمل باستخدام حزام عبر الكتف، يسمى «تيلامون»، بينما كان مقاتل الهوبليت يحمل درعه الصغير المستدير بواسطة حلقة معلقة في مركز الدرع وكان يمرر ذراعه خلالها ليحكم قبضته على أداة مثبتة عند طرف الدرع. ومن ثم كان في مقدور مقاتل الهوبليت أن يستخدم درعه كسلاح في المواجهة القريبة. لا يمكننا تتبع تطور طابور الهوبليت على هذا النحو، ولربما كان اختراعا ظهر فجأة في وقت ما في الماضي.
1
ففي مواجهة مقاتلين بالأسلوب الهوميري، يمكن لطابور منظم أن يكون فتاكا، وما إن يجربه شخص ما، فسيكون من شأن المجتمعات الأخرى أن تتبعه أو تهلك. (3) هوميروس وعصر التوسع الاستعماري «الإلياذة» هي حكاية تراثية عن أعمال بطولية، ولهذا السبب تتسم بأسلوب منمق أكثر من «الأوديسة» وأقل اهتماما بالعالم المعاصر لهوميروس. أما «الأوديسة» بتناولها لفكرة الترحال إلى بلاد بعيدة، فهي، على النقيض، تقدم صورة حية لعالم مثير وخطر مستوحى من مغامرة العوبيين في الغرب الأقصى في القرن الثامن قبل الميلاد. في هذا العالم الخطر يبحر الرجال لمسافات طويلة على مراكب مكشوفة، ويواجهون العواصف والأخطار الأخرى الأكثر خيالية، وأحيانا يعودون إلى ديارهم محملين بالغنائم. في الفقرة التالية، في «حكاية مكذوبة» يرويها أوديسيوس لراعي الخنازير إيومايوس عندما يرجع إلى إيثاكا، يصف الروح القلقة، الشرسة التي كانت تغير البنية السياسية والاقتصادية للشعوب التي كانت تعيش حول البحر المتوسط إبان حقبة النهضة الإغريقية في القرن الثامن قبل الميلاد:
وهبني آريس وأثينا شجاعة، وقوة تشق صفوف الرجال. وكلما كنت أتخير أفضل المحاربين لنصب شرك، باذرا بذور الوبال على الأعداء، لم تكن روحي الفخورة أبدا تهاب الردى، وإنما كنت دوما أول من ينطلق متقدما وأجهز برمحي على كل من كان يتراجع هاربا قدامي من أعدائي. هكذا كنت في الحرب، بيد أن الكد في الحقل لم يكن ليروق لي، ولا رعاية منزل، ينشئ أطفالا صالحين. كنت دوما مشغوفا بالسفن ذات المجاديف والحروب والرماح المصقولة والسهام، وما إلى ذلك من أمور خطيرة يقشعر فزعا منها الآخرون. (الأوديسة ، 14، 216-226)
ولكونه بحارا ذا خبرة واسعة، يستطرد أوديسيوس في تفصيل كيف هاجم مصر نفسها، وكيف أسر، ثم سلم إلى الفينيقيين الذين كانوا ينوون استعباده. يقلع الفينيقيون من مكان ما في بلاد الشام ويبحرون في اتجاه الريح نحو ليبيا، ولكن سفنهم تتحطم جراء العواصف في جنوب جزيرة كريت. ويصل أوديسيوس إلى ثيسبروتيا، وهو إقليم في أقصى شمال كريت على البر الرئيسي قبالة إيثاكا، وهو أمر مستبعد الحدوث على أرض الواقع.
في نهاية العصر الحديدي، في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن الثامن قبل الميلاد، كان الفينيقيون خصوما لليونانيين عرقيا وثقافيا، أو عاشوا معهم جنبا إلى جنب؛ إذ كان كلا الفريقين يستغل الثروات المعدنية وغير ذلك من ثروات قارة إفريقيا، وجزر صقلية، وسردينيا، وقبرص، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا. أنشأ الفينيقيون مدينة كيتيون في جنوب شرقي قبرص في فترة ما في القرن التاسع قبل الميلاد على مقربة من مدينة سالاميس اليونانية في الشمال الشرقي. كان الفينيقيون يعيشون في مدينة كوموس على الساحل الجنوبي لجزيرة كريت منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد أيضا؛ ربما على نفس المسار الذي ذكره أوديسيوس في حكايته المكذوبة. وفي القرن الثامن قبل الميلاد أقاموا معبدا حجريا ثلاثي الجوانب في مدينة كوموس على الطراز السامي الشامي. وقد عثر على كتابات فينيقية قديمة جدا، ربما من أواخر القرن التاسع قبل الميلاد، على جزيرة سردينيا. وكان صانعو جواهر فينيقيون يعيشون بالقرب من مدينة كنوسوس حوالي عام 900 قبل الميلاد، وهو ما يستند إلى اكتشافات مادية ونقش واحد طويل. نستنتج من الأدلة الأثرية أن التوسع الفينيقي بدأ في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، ولا شك أن ذلك كان ردا على ضغوط مورست من قبل الآشوريين الأشداء الذين كان يحكمهم آشور ناصربال الثاني (حكم من 883-859 قبل الميلاد)، الذين هزموا في ذلك الوقت الآراميين الذين كان موطنهم شمال سوريا (إذ كانت مملكة آرام تقع في دمشق والمناطق المحيطة بها)، ثم زحفوا عبر مدينة كركميش على نهر الفرات إلى البحر المتوسط واحتلوا الموانئ الشامية.
تتوافق تصويرات هوميروس للتنافس والعداء الفينيقي -اليوناني - رغم وجود مودة عارضة (إذ كانت مربية إيومايوس فينيقية) - توافقا دقيقا مع الدلائل الأثرية على أن الفينيقيين واليونانيين عاشوا معا على جزيرة إسكيا في خليج نابولي في القرن الثامن قبل الميلاد. وبطبيعة الحال يأخذ اليونانيون في اقتباس كتابتهم من كتابة الفينيقيين. وفي حين أننا لا نستطيع أن نتتبع رحلات أوديسيوس الشهيرة والأسطورية على الخريطة، إلا أن هيسيود في ملحمته «ثيوجونيا» (سلالة الآلهة) يعين مقام سيرس على جزيرة قبالة الساحل الإيطالي (ثيوجونيا، 1015-1016)، ويرجع المؤرخ ثوسيديديس موقع وحشتي البحر الأسطوريتين سيلا وكاريبديس (أو تشاريبدس) إلى مضيق مسينا الخطر بين جزيرة صقلية وبر إيطاليا (الكتاب 4، الفصل 24). كذلك يعتبر ثوسيديديس (في الكتاب 1، الفصل 25) أن فياشيا هي جزيرة كورسيرا. وإيثاكا هي موضع الانطلاق للترحال من الشرق إلى الغرب.
يمتلك أوديسيوس عيني المستعمر الخبير الواثقتين اللتين تملكان القدرة على التقييم في وقت كانت فيه أولى المستعمرات اليونانية على وشك الظهور في جنوب إيطاليا وصقلية. وكانت أقدم مستعمرة موجودة على جزيرة إسكيا في حوالي 775 قبل الميلاد؛ وتبع ذلك ظهور معظم المستعمرات الغربية الأخرى في الثلث الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد. إن مخلوقات السايكلوب الوحشية مثل الشعوب الأجنبية التي تفتقر إلى البراعة والمهارات اليونانية، والخيال اليوناني، وتطغى الوحشية على نمط حياتها مثلما تطغى على مظهرها. وعن الجزيرة التي تقع قبالة كهف السايكلوب، يقول هوميروس:
وهناك توجد جزيرة منبسطة تمتد عند منعرج خارج الميناء، وهي ليست قريبة من شاطئ أرض السايكلوب، كما أنها ليست بعيدة عنها مع ذلك، وهي جزيرة شجراء. هناك يعيش قطعان لا حصر لها من الماعز البري؛ إذ لا تجفل من صوت وطء أقدام الرجال، ولا يأتي إلى هناك الصيادون، وهذا الماعز يصبر على المشقات في الأرض المشجرة وهو يركض فوق قمم الجبال. ولا يستوطن ذلك المكان قطعان، ولا الأرض محروثة، وإنما بائرة وغير مفلوحة في كل الأيام التي لم يعرف فيها البشر عنها شيئا، وإنما يطعم منها الماعز ذو الثغاء. لا يملك السايكلوب في المتناول أي سفن ذات عوارض قرمزية، ولا يوجد على أرضهم بناءو سفن يمكن أن يبنوا لهم سفنا مزودة بمقاعد تجديف قوية لتلبي كل حاجاتهم للعبور إلى مدن الناس الآخرين؛ إذ كثيرا ما يعبر البشر البحر في سفن لزيارة بعضهم لبعض. الصناع المهرة الذين سيكون من شأنهم أن يجعلوا من هذه الجزيرة مستوطنة جميلة؛ فالجزيرة ليست جدبا بأي حال من الأحوال، وإنما من شأنها أن تنتج كل شيء في موسمه. ويوجد فيها مروج على شواطئ البحر الرمادي، مروج ريا وغيداء، لا تنفد فيها الكروم أبدا، وفيها أرض مستوية سهلة الحرث يمكن أن يجنى منها من موسم إلى موسم قطاف عظيمة، والتربة تحتها بالغة الخصوبة، وفيها أيضا مرفأ يوفر مرسى آمنا، حيث لا حاجة إلى أدوات رباط للسفن، سواء لإلقاء حجارة مرساة أو لصنع حبال متينة لمؤخرة السفينة، وإنما يمكن للمرء أن يرسو بسفينته وينتظر حتى يعن لأذهان البحارة أن يغادروا، وحتى تهب نسائم معتدلة. (الأوديسة، 9، 116-139)
قد يكون أوديسيوس في هذا الموضع يمتلك عيني رجل لديه مسعى استعماري، ولكن شخصية أوديسيوس الخيالية في القصة التي يحكيها لإيومايوس هي شخصية رجل عنيف ينبذ البيت والأسرة، وهو قرصان وقاتل ولص، يأتيه الثراء عن طريق السلب والنهب، ولهذا السبب يحظى بالاحترام في بيته الكريتي حيث لا عار أخلاقيا يتصل بسلوكه. ويبدو أننا لا نكون من الجو العام «للأوديسة» صورة عن واقع الحياة اليونانية في القرن الثامن قبل الميلاد فحسب، وإنما من السلوك القاسي لرجالها المتصلبين ذوي القلوب الشجاعة. (4) هوميروس والفن
يقدم انبهار هوميروس بالأغراض الفنية النابضة بالحيوية والحياة مثالا جيدا للمعضلات التي نواجهها في محاولتنا لإقامة علاقة بين عالم واقعي تاريخي والقصة التي يرويها هوميروس؛ إذ لا بد أن تكون قصائده مستوحاة من أشياء رآها، ولكنه حولها من خلال الإبداع الشعري إلى شيء جديد. في الكتاب الثامن عشر من «الإلياذة» يصف هوميروس هيفايستوس وهو يصنع درعا لآخيل. إن هذا الدرع هو غرض جميل نادر، إنه كائن حي. ومع ذلك فالقصة المرسومة على الدرع لا تدور في العهد الملحمي الذي تدور فيه قصة هوميروس نفسها ، الذي تتحاور فيه الآلهة مع البشر، وإنما في عالم عادي لا بد وأنه عالم هوميروس.
على الدرع توجد مدينتان، إحداهما في حالة سلم والأخرى في حالة حرب. في مدينة السلم يوجد عرس وقرار شعبي في جريمة قتل؛ عالم ما قبل «الدولة المدينة» وما بعد العصر البرونزي لا يقضي فيه الملوك، كما في سائر القصائد الهوميرية، ولا دور القضاء، كما هو الحال في «الدولة المدينة» الكلاسيكية القديمة، وإنما يقضي فيه «قضاة»، رجال مشهود لهم بالحكمة والعدل:
بيد أن الناس تجمعوا في مكان التجمع؛ لأن نزاعا قد قام، وكان رجلان في تنازع على دية قتيل. أحدهما قرر أنه دفعها كاملة، مبرهنا على حجته للناس، ولكن الآخر رفض أن يقبلها، وكلاهما يأمل في أن ينتصر في النزاع بناء على قول محكم. كان الناس يهللون على كلا الجانبين، مظهرين انحيازهم لهذا الجانب وذاك. كان المنادون يصدون الناس، وجلس الشيوخ على مقاعد حجرية مصقولة في الدائرة المقدسة، ممسكين في أيديهم بصولجانات المنادين ذوي الأصوات العالية. وكانوا يقفون متكئين على هذه الصولجانات ويصدرون حكمهم، كل في دوره. وفي الوسط وضع مثقالان من الذهب يمنحان لمن يلفظ من بينهم بالحكم الأعدل. (الإلياذة، 18، 497-508)
أما في المدينة التي في حالة حرب، فنرى جيشا يجهز لحصار من جانب بينما من الجانب الآخر كمين من المدينة يقود إلى معركة شاملة. ثمة مشاهد نزاع وتشويش ومصير، ولكن لا وجود لأبولو ولا آريس ولا هيرا. ويوجد على الدرع أيضا مشاهد حرث وحصاد واحتفال وقطعان وأسود تهاجمها، وإمالة عناقيد كرم، وقاعة رقص.
بالاستناد إلى الأدوات التي يستخدمها هيفايستوس، يمكننا القول إن التصاميم على درع آخيل قد عولجت بطريقة التقبيب، وهي تقنية لطرق وضغط التصاميم في صورة نقش بارز، وليس أشغال المعادن الميسينية التي تتميز بالترصيع الفاخر. ويوجد نصف دزينة من أوعية معدنية ودروع مهداة فينيقية باقية من القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد معالجة على نحو مشابه بالتقبيب، وتظهر مشاهد تفصيلية، على نسق فيه محاكاة للطراز المصري، تتضمن رقصا واحتفالا صاخبا وملوكا جالسين على عروش . ويوجد كذلك مشاهد لمدن تحت الحصار وعمليات صيد . لا بد أن هوميروس وجمهوره قد شاهدوا أشياء مثل تلك، عثر عليها في مدينة كالح في مملكة آشور، وعلى جزيرتي كريت وقبرص، وفي إيطاليا.
لا يأتي هوميروس قط على وصف أحداث أسطورية على أغراض فنية، بيد أنه مع نهاية الربع الأول من القرن السابع قبل الميلاد، حوالي عام 675 قبل الميلاد، بدأ الرسامون اليونانيون يصنعون صورا للأساطير الإغريقية. وعثر من نفس الفترة تقريبا على جزيرتي ساموس وميكونوس الإيجيتين ومن مدينة كايري الإتروسكانية على صور فريق من الرجال يسملون عين عملاق ذي عين واحدة، وتعتبر أحد أقدم التصويرات الفنية الأكيدة لأسطورة إغريقية (شكل
2-5 ).
يعد تصوير الأسطورة في الفن تحولا جذريا في تاريخ الفن؛ فالفن السردي على هيئة صور مألوف لنا بسبب التقليد اليوناني، إلا أنه ليس له نظائر ثابتة في فنون الشرق الأدنى والفن المصري الأقدم، تلك التي كانت كلها تقريبا لأغراض سياسية أو تأبينية أو زخرفية أو سحرية. على الرغم من أن شعوب بلاد ما بين النهرين صنعت رسوما لوحوش، أغلبها على أختام صغيرة، ويدين لها الفن الإغريقي كثيرا، فإننا لسنا متيقنين على الإطلاق من أسماء هذه الوحوش ولا فعالها. في المقابل، يتفق الجميع على أن مشهد عدة رجال يسملون عين رجل ضخم بواسطة وتد يجسد قصة سمل أوديسيوس لعين بوليفيموس.
شكل 2-5: أوديسيوس ورجاله يسملون عين سايكلوب. يغرز أوديسيوس - الذي يظهر باللون الأبيض لتمييزه عن رجاله (عادة ما يستخدم اللون الأبيض للدلالة على أنثى) - الوتد في عين بوليفيموس. العملاق يمسك بكأس الخمر التي استعان بها أوديسيوس لتسكره. الرسم مأخوذ من على عنق جرة أمفورة (نوع من الجرار اليونانية الخزفية له مقبضان وعنق طويل ضيق) بالقرب من مدينة إلفسينا، ويرجع تاريخه إلى حوالي 675 قبل الميلاد. متحف إلفسينا. الصورة لصندوق مداخيل التراث، مرفق تي إيه بي.
هل تعرض الرسامون الذين صنعوا مشهد بوليفيموس حوالي 675 قبل الميلاد بطريقة ما لنص «أوديسة» هوميروس، ربما من خلال تقديمها على يد الرابسوديين؟ يصعب بأي شكل آخر خلاف ذلك تفسير السبب وراء عدم صنع أي أحد آخر لرسم لفريق من الرجال يسملون عين عملاق بعين واحدة حتى ذلك الوقت، في حين يقوم فجأة فنانون من أقصى البحر المتوسط إلى أقصاه بذلك، ولكن بطرق مختلفة، إلا إذا كان جميعهم عرضة لنفس المحفز. ومثلما هو الحال فيما يتعلق بكأس نستور، التي يشير إليها نقش جزيرة إسكيا، فإن الدليل الوحيد الذي نملكه على وجود قصة البوليفيموس في اليونان القديمة هو قصيدة هوميروس، ويعتقد باحثون كثيرون أنها بهذا الشكل تعد ابتكارا من إبداع هوميروس نفسه. يبدو منطقيا أن نسخا من الكتاب التاسع من «الأوديسة»، اقتطفت من «الأوديسة»، قد تدوولت على نحو منفرد في أوائل القرن السابع قبل الميلاد بين رحالة يونانيين. فقد ألهمت القصيدة فنانين بابتكار هذه الصور، حتى إنها صورت في إيطاليا النائية.
بعد عام 675 قبل الميلاد، بدأت التصويرات «الأسطورية» تغمر الفن الإغريقي. ومع ذلك فغالبية الأساطير المصورة في الفن الإغريقي في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد ليست مأخوذة من «الإلياذة» و«الأوديسة» وإنما من قصائد ملحمية مفقودة في الوقت الحالي. يطلق على هذه القصائد مسمى القصائد الدورية؛ لأنه يبدو أنها نظمت «في دورة» حول «الإلياذة» و«الأوديسة»، بحيث تملأ فراغ الأحداث التي وقعت قبل وبعد حرب طروادة. مما لا شك فيه أن نصوص القصائد الدورية كانت معروفة أكثر بكثير من «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ لأنها كانت أقصر كثيرا، مما جعلها أسهل في الحمل، وأيسر في الاحتفاظ بها، وأقل تكلفة في استنساخها، وأيسر إلقاء. كانت النصوص، التي تتميز بسهولة الاستنساخ والحفظ عن ظهر قلب، لما كان يوما ما قصائد شفاهية، تنشر المعرفة بالملاحم الإغريقية، التي كانت ذات يوم ملكا للصفوة، في أرجاء المجتمع اليوناني. ولا بد أن شيوع هذا النوع من النصوص يقف وراء التحول الجذري في موضوعات الفن الإغريقي في القرن السابع قبل الميلاد. كان نطاق المنشد الملحمي - بمخزونه من الأساطير - هو بهو الأثرياء وذوي النفوذ القليلين عدديا؛ بينما كان الرابسوديون (رواة الملاحم الشعرية) يلقون أشعارهم أمام الناس وعلى مسامعهم كلما سنحت لهم الفرصة. (5) هوميروس والشرق الأدنى
ينظر إلى قصائد هوميروس بوصفها مبتدأ الحضارة اليونانية الكلاسيكية القديمة، وأصل ومصدر الثقافة الغربية. ولكونها النصوص الأولى في الأبجدية اليونانية، التي صارت أساس التثقيف والتحصيل العلمي اليوناني والروماني، فإنها حقا كذلك. من الناحية الأخرى، بما أن الأبجدية اليونانية كانت مرتكزة على كتابة صوتية بالكلية سابقة عليها؛ إذ كان عمرها 1000 عام في زمان هوميروس، فإن قصص هوميروس، وكثيرا من عالمه الخيالي، مأخوذة من شعوب شرقية أقدم، لا سيما الشعوب السامية على وجه الخصوص. يندهش الكثيرون من أن قصص «الإلياذة» و«الأوديسة» الرئيسية ليست يونانية في الأصل. خلال العقود الأخيرة عرفنا كيف أن قصائد هوميروس هي جزء من سلسلة ثقافية متصلة يمكن تتبعها حتى الألفية الرابعة قبل الميلاد في الشرق الأدنى القديم. وعلينا أن نفهم قصائد هوميروس في سياق العالم الأكبر والأقدم بأسره.
لعل أفضل مصدر للمعلومات عن الأساطير ما قبل اليونانية يوجد في الملحمة الأكادية «جلجامش»، الباقية في نسختها الأكثر اكتمالا على اثني عشر لوحا عثر عليها في العاصمة الآشورية نينوى، التي دمرت في عام 612 قبل الميلاد على يد تحالف من البابليين والفرس. ولكن القصيدة أقدم بكثير من ذلك التاريخ؛ إذ نجت شذرات منها تعود إلى الألفية الثالثة كتبت باللغة السومرية في نقش مسماري. وظهرت أجزاء أخرى منها في عاصمة الحيثيين الهندوأوروبية حتوساس (أو حتوشاش)، التي دمرت حوالي عام 1200 قبل الميلاد، وفي مستوطنات أخرى متناثرة حول الشرق الأدنى. ومع ذلك فإن النصوص من هذا النوع ليست مطلقا نسخا عن طريق الإملاء لأغان شفاهية، وإنما صياغات كتبة ألفوها في مدارس الكتبة لإثارة إعجاب الكتبة الآخرين والترويح عنهم وتدريبهم.
إن قصة جلجامش، الذي يموت صديقه المقرب إنكيدو جراء سلوك جلجامش المتعجرف، توازي قصة آخيل، الذي يموت صديقه باتروكلوس؛ لأن آخيل لن يذعن للقواعد السائدة. وفكرة الرحلة الطويلة والعودة للوطن، التي تسود البناء القصصي لملحمة «الأوديسة»، تشكل أيضا النصف الثاني من ملحمة «جلجامش»، عندما يرتحل جلجامش بعد موت إنكيدو إلى نهاية العالم حتى يحل لغز الموت.
ولا يقتبس هوميروس مثل هذه الأفكار العامة من تراث بلاد ما بين النهرين الأقدم فحسب، وإنما يمكن تتبع تفاصيل محددة وصولا إلى منبعها في الشرق. ففي «الأوديسة» يظهر أوديسيوس بمظهر رجل عار أشعث عندما تستبينه ناوسيكا وهو يخرج من بين الشجيرات قرب البحر على جزيرة فياشيا وتقوده، في مشهد ينطوي على توتر جنسي، إلى المدينة. وفي ملحمة «جلجامش» تغوي إحدى البغايا إنكيدو الرجل البربري العاري الذي تقابله عند جبء وتروضه، ثم تأخذه إلى المدينة. وثمة الكثير من القواسم المشتركة بين أرض الفياشيين الخيالية عند هوميروس وأرض أوتو-نبشتم الحكيم السحرية في ملحمة «جلجامش»؛ إذ نجا أوتو-نبشتم من الطوفان، مثل نوح، ويعيش الآن فيما وراء البحار عند حافة الأرض. ويعبر أوديسيوس هو الآخر البحار التي تحيط بالأرض ليستشير الحكيم تريسياس. إن مظهر أوديسيوس الهمجي أمام ناوسيكا يحاكي وحشية جلجامش عندما يقبل على سدوري، صاحبة الحانة عند ساحل البحر. يغلب النعاس أوديسيوس وهو في طريق عودته من جزيرة أيولوس، فيتجاوز جزيرة إيثاكا، مثلما يغلب النعاس جلجامش خارج منزل أوتو-نبشتم. ويحوي الكتاب الحادي عشر من «الأوديسة»، وهو القسم الذي يصف التقاء أوديسيوس بأرواح الموتى والذي يطلق عليه «نيكويا»
Nekuia (أي: «الهبوط إلى أرض الموتى»)، الكثير من القواسم المشتركة مع قصيدة منفصلة عن جلجامش اسمها «جلجامش وإنكيدو والعالم السفلي»، وهي القصيدة التي تشتمل على تفصيلة عن رجل مات جراء سقوطه من فوق سطح بيت. ومثلما يهلك رجال أوديسيوس عندما يذبحون ماشية إله الشمس، كذلك يموت إنكيدو بعد أن يذبح هو وجلجامش ثور السماء. وفي الحادثتين يتوعد إله بأن يقلب العالمين العلوي والسفلي عاليهما سافلهما إلا إذا كانت الغلبة لإرادة الآلهة.
كذلك ثمة طائفة واسعة من التفصيلات الصغيرة في «الإلياذة» و«الأوديسة» التي نجد لها نظيرا في مصادر شرقية؛ على سبيل المثال: إنجاب مينلاوس لطفل من محظية، وأبهة قصر ألكينوس، وانتقال مينلاوس إلى جنة في أقاصي الأرض، وامتناع بينيلوبي عن الطعام، وجداول المياه الأربعة على جزيرة السايكلوب، وطعام الحورية كاليبسو الخاص المكون من طعام الآلهة والرحيق، وتشبيه بشأن الريح والقش، وتشبيه ناوسيكا بالنخلة؛ والكلاب المعدنية أمام قصر ألكينوس، واختفاء جزيرة الفياشيين، والقربان المرفوض من الآلهة، والاستعانة بنبتات واقية (عشبة لها زهرة بيضاء وجذور سوداء تسمى «مولي» في «الأوديسة»)، واستحضار أوديسيوس لأرواح الموتى على ضفاف المحيط، وتسمية السيرينات، وإحجام الخطاب وممانعتهم لقتل أحد من سلالة ملكية، وسرير بينيلوبي الذي تغمره الدموع؛ وإنزال العقاب بصلم الأذنين وجدع الأنف، والتوهج والبهاء المحيطان بالآلهة، والتولد «من البلوط أو الصخر»، والقوس الذي لا يستطيع سحبه إلا البطل وحده، ومسابقة رمي السهام، وقذف عظمة ساق بقرة باستهزاء (نحو أوديسيوس)، وفقدان ليرتيس للوعي عند اجتماع شمله بأوديسيوس، وما سبق على سبيل المثال لا الحصر.
وثمة مثال بارز لاعتماد السرد على قوالب شرقية موجود في الكتاب الخامس من «الإلياذة» (البيت 330 وما بعده)؛ حيث يصيب ديوميديس أفروديت أثناء القتال. وبعدها تهرب إلى عائلتها في السماوات طلبا للمواساة. وتسقط باكية في حجر أمها ديوني (زوجة زيوس). فتواسيها بأمثلتها المستقاة من الأساطير، بينما تعلق هيرا وأثينا بتعليقات ساخرة. ويدعوها زيوس إليه وينصحها برفق أن تبتعد عن الحروب والقتال، وأنه ينبغي عليها بالأولى أن تنشغل بأمور الحب والزواج. في ملحمة «جلجامش»، بعد أن يقتل جلجامش الوحش خمبابا، يغسل شعره ويصقل أسلحته ويبدو بالغ الوسامة حتى إن عشتار، عندما تراه، تطلب منه أن «هبني ثمرتك أتمتع بها.» فيرفض جلجامش إلهة الجنس بازدراء وغلظة ويتلو عليها قائمة طويلة من العشاق الذين حطمتهم. «ولما سمعت عشتار هذا استشاطت غضبا وعرجت إلى السماء، صعدت عشتار ومثلت في حضرة أبيها آنو وأمها آنتو. وجرت دموعها وقالت: «يا أبي إن جلجامش قد عزرني وأهانني. لقد سبني وعيرني بهناتي وشروري»، ففتح آنو فاه وقال لعشتار الجليلة: «أنت التي استفززت ملك أوروك، فأهانك جلجامش وعدد مثالبك وهناتك» (اللوح 6، 80-91) [ترجمة طه باقر (بتصرف يسير)].» في كلا المشهدين نرى ابنة متضررة تشتكي إلى أم مواسية وأبا متباعدا ومرتبكا نوعا ما. الشخصيات هي نفس الشخصيات؛ فإلهة الحب أفروديت أي عشتار، وإله السماء آنو أي زيوس، وزوجته آنتو أي ديوني. في هذا الموضع، وفي هذا الموضع فحسب، من كل الأدب الإغريقي تظهر ديوني بمظهر وليفة زيوس المتناغمة معه. فديوني هي الشكل المؤنث لزيوس، مثلما تمثل آنتو الشكل المؤنث لآنو.
يبلغ عدد الأفكار الشعرية الشرقية الموجودة في «الإلياذة» ضعف عددها في «الأوديسة». فليس ثمة شك في أن هوميروس قد آل إليه تقليد من السرد القصصي تخطى الحدود اللغوية والثقافية. لا بد وأنه كان يوجد منشدون ثنائيو اللغة، وليس مجرد متحدثين ثنائيي اللغة. فلا بد أن يكون قد ظهر أمثال هؤلاء المنشدين ثنائيي اللغة بين السكان المختلطين من العوبيين والفينيقيين، أو السوريين الساحليين الذين تشهد الاكتشافات الأثرية على أنهم كانوا موجودين في إيطاليا، وكريت، وعوبية. جرب كاتب (وليس شاعرا) ملم بالكتابة السامية الغربية، ومحيط بالتقليد السامي الغربي القديم المتعلق بإنشاء نصوص شعرية من خلال الإملاء، للمرة الأولى، أن يسجل الملاحم الإغريقية. وبينما كان يجري تعديلات لازمة على الكتابة السامية الغربية، اخترع القاعدة التكنولوجية التي قامت عليها نصوص القصائد الهوميرية والحضارة الغربية. (6) الدين في القصائد الهوميرية
الآلهة في القصائد الهوميرية هم جماعة من الكيانات العكرة المزاج، وغالبا ما تكون مدعاة للسخرية وغيرتها التافهة لا تتقيد بأهمية الحياة البشرية. هم فريق الأثناتوي، أي «الذين لا يموتون»، الذي رسم أعضاؤه حدود نطاقات اهتمامهم. ولكن خلودهم يضللهم عندما يتعلق الأمر بالأهمية المصاحبة للقرارات البشرية والسلوك البشري. فأفعالنا ذات قيمة لأننا سوف نموت، أما الآلهة فلديهم حرية أن يكونوا تافهين إلى الأبد.
كان السلوك شبه البشري والإفراط فيه عند الآلهة الهوميرية بالفعل موضع انتقاد من قبل زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد، كما رأينا في موضع سابق من الكتاب. كذلك لا تتناسب آلهة القصائد الهوميرية مع الأطروحات العصرية للطبيعة التي ينبغي أن يكون عليها الإله؛ فهم يتشاحنون، ويدبرون المكائد، ويغوون، ويخادعون، ويخونون، ويمارسون العنف بعضهم ضد بعض. ففي «الإلياذة»، ينحازون لطرف على حساب آخر في الحرب بقدر ما يفعل المحاربون من البشر (على الرغم من غموض القصائد الهوميرية بشأن الأسباب التي تجعلهم ينقسمون هكذا). ويفضل الآلهة بعض الشخصيات على غيرها ويشاركون في المعارك بأنفسهم، ولكن دون عواقب وخيمة.
غير أن الموضع الرئيسي لسلوك الآلهة هو قاعة المآدب، التي هي عبارة عن تصور شعري لمنازل الأرستقراطيين الإغريق في العصر الحديدي. في أمثال قاعات المآدب هذه - والتي تعد الدليل الأفضل على أن تلك التصويرات من عند هوميروس - كان هناك طعام وفير عندما كان الطعام شحيحا وثمينا، والكثير من الخمر وما تجلبها من نشوة، وغناء المنشد الملحمي. ومثلما ينشد المنشد الملحمي ديمودوكوس في «الأوديسة» للبلاط الملكي للفياشيين، كذلك ينشد أبولو للآلهة، وينشد هوميروس لمجتمع لا يتبقى عليه شواهد إلا قليل من الأدلة المادية. كانت المأدبة تمثل الحياة الرغدة في السماء مثلما هي على الأرض، بيد أنها على الأرض يخيم عليها حتمية الموت. ومن الموضوعات المحورية في «الأوديسة» المأدبة الفاسدة، حينما تصبح الحياة الرغدة ذريعة للنهب ومسرحا للقتل الجماعي. إلى أبد الدهر يتناول الآلهة الطعام بتكاسل على جبل الأولمب، كأطفال مدللين فاسدي الأخلاق، ويشكلون عائلة، مهلهلة أحيانا، وممتدة في عالم خيالي بلا هموم على قمة جبل حيث الملذات الحسية السرمدية:
جبل الأولمب هو مستقر الآلهة الذي يقف راسخا إلى الأبد، لا تهزه الرياح ولا تخضله الأمطار ولا يسقط فوقه الجليد، وإنما يمتد الهواء صافيا وبلا غيوم، وفوقه يحوم بياض مشع. هنا يمضي الآلهة المباركون كل أيامهم في سعادة. (الأوديسة، 6، 42-46)
يتساءل كل قارئ معاصر لقصائد هوميروس: «هل آمن اليونانيون حقا بتلك الآلهة التافهة؟» دعونا أولا نسأل كيف تناول الأبطال الهوميريون أنفسهم الآلهة في ديانتهم. تظهر أمثلة عديدة كيف أن الديانة الهوميرية لم تعول كثيرا على علاقات متبادلة مع الآلهة بقدر ما اعتمدت على الممارسة السليمة للشعائر التقليدية. فمثلا، عندما يقدم أوديسيوس متنكرا إلى كوخ راعي خنازيره المخلص إيومايوس، يذبح إيومايوس خنزيرا قربانا (الأوديسة، 14، 420-453). «ولم ينس الآلهة الخالدة؛ لأنه كان ذا عقل راجح.» فيجز أولا شعر الخنوص ويلقي به في النار، «لجميع الآلهة». وبعد أن ينحر البهيمة، يقتطع قطعا سميكة ضخمة من كل قوائمها ويضعها في النار قربانا، ويضع فوقها شعيرا. وعندما يقسم اللحم، يخصص قسما «للحوريات ولهيرميس». وأخيرا، قبل أن يأكل، يحرق «أولا قرابين الآلهة الخالدة». لا يخبرنا هوميروس مطلقا عمن هم الآلهة الموجه لهم معظم القرابين، ولا عن السبب في تخصيص قسم واحد فقط لهيرميس والحوريات، ولا عن السبب وراء كون هؤلاء الآلهة مناسبين في هذا المقام ولا عن الكيفية التي يتلقون بها القسم المخصص لهم على وجه التحديد.
على نفس المنوال، في المشهد الافتتاحي لملحمة «الإلياذة»، ومن أجل تسكين غضب أبولو وإيقاف الطاعون، يخلي اليونانيون سبيل خريسيس ابنة كاهن أبولو ويسلمونها إلى أبيها خريسي، ثم يقدمون قرابين ويطهرون الجيش عند طروادة (الإلياذة، 1، 313-317)، ثم يقدمون قرابين مجددا ويرقصون ويغنون أنشودة الشكر (تسبيحة لأبولو) عند الموضع المسمى خريسي (الإلياذة، 1، 430-487). «وسمعهم الإله وسعد»، وأرسل ريحا مواتية، على الرغم من أننا نعرف من ثيتيس أن زيوس وكل الآلهة الآخرين في نفس هذا الوقت يتناولون الطعام وسط الإثيوبيين المباركين (الإلياذة، 1، 423-424). وينبعث الدخان الناتج عن حرق القربان «إلى السماء»، كما لو كان موضع وجود أبولو الفعلي غير ذي أهمية. يقوم الدين على الأفعال والممارسات، والقرابين هي شكل الفعل الذي يتخذه الدين بين الأبطال الإغريق، في حين تظل علاقة الآلهة الدقيقة بالشعائر غامضة أو متضاربة. مجددا، عندما يعيد أجاممنون بريسئيس محظية آخيل، يقسم أنه لم يلمسها ولكي يؤكد قسمه يقدم خنزيرا قربانا (الإلياذة، 19، 250-256). ولا يقال لنا لأي إله قدم قربانه؛ فما يهم هو الفعل نفسه.
إذن من ناحية يوجد السلوك الديني للأبطال، ومعاصري هوميروس دون شك، وهو السلوك الذي يتمثل في ذبح البهائم لإقامة علاقات طيبة مع القوى الخفية التي تحيط بنا، أيا ما كانت. إن أشكال القربان هي أمر محلي، ولكن تقديم القرابين لإرضاء الأرواح قد يكون أمرا جامعا في الديانات القديمة للبشرية (فلا تزال قدرة القربان على الاسترضاء عقيدة كنسية محورية في المسيحية).
ومن الناحية الأخرى، يطرح هوميروس علينا رؤية أدبية تماما لعائلة الآلهة الذين يعيشون على جبل ويتصرفون كأنهم بشر أرستقراطيون، عدا أنهم لا يمكن أن يموتوا. وهذه الرؤية الأدبية للعالم الإلهي هي في الأصل رؤية شرقية. ففي بلاد ما بين النهرين يهيمن إله الريح إنليل (مثل زيوس) على عائلة وبلاط أحيانا ما يفسد فيهما إله الماء إنكي (مثل بوسيدون وهيرميس) عليه متعته، كما تمارس إلهة الجنس والحرب إنانا/عشتار (مثل أفروديت وأثينا) حيلها وسلطتها، وفي إحدى القصص تتحدى سلطة شقيقتها ارشكيجال، إلهة الموت (مثل بيرسيفوني). تدخل الآلهة الإغريقية الحرب لمساندة البشر، وفي ملحمة بعل الأوغاريتية السامية الغربية، نجد الإلهة أنات (المكافئة للإلهات إنانا/عشتار/عشتروت).
تشرع في ضرب خصومها في الوادي؛
لتهاجمهم فيما بين المدينتين.
وتضرب الناس الذين يستوطنون شاطئ البحر،
وتنزل الدمار على البشر الذين يقطنون في الشرق.
تحتها رءوس كالكرات،
وفوقها أياد كالجراد،
وأكوام أيادي المقاتلين كأكوام الجنادب.
إنها تشبك الرءوس [كالعناقيد] حول عنقها،
وتربط الأيادي عند وسطها.
وتخوض حتى ركبتيها في دماء الجنود،
وحتى عنقها في دم المقاتلين المتخثر.
المحرران: ويليام دبليو هالو وكيه لاوسون يونجر جونيور، كتاب «سياق النص المقدس: التراكيب الشرائعية من العالم التوراتي» (لايدن، 1997، ص250)
لذلكم فإن هوميروس، في وصفه للآلهة، يستعين باستراتيجيات تقليدية للسرد القصصي موروثة من حضارة غير يونانية أقدم. إن السلوك الصبياني للآلهة، والافتقار إلى الجدية الذي يعم قصص هوميروس عنهم، يعكس أصلهم الأجنبي من ناحية كونه شيئا منفصلا وغير متصل بممارسة دينية حقيقية. ومع ذلك، ينبغي ألا نقلل من شأن إعادة التشكيل المبتكرة من قبل هوميروس لمثل هذه المادة السردية التقليدية ليخلق توترا مشوقا بين عالم الآلهة اللامبالي وعالم الأبطال المليء بالعنف والألم، وهو ما يشكل فكرة أدبية رئيسية في «الإلياذة». يورد هوميروس بمهارة مشاهد من جبل الأولمب؛ ليوضح معضلة البشر الفانين، وليضفي كمالا على العالم الهوميري بالمزج بين العالمين. (7) هوميروس وعلم الآثار
هل كان ثمة حرب تسمى حرب طروادة أم لم يكن؟ نعم، أو هو أمر محتمل للغاية، ولكنك بحاجة لأن تكون واضحا بشأن ما تعنيه بحرب طروادة. لقد ناقشنا علاقة هوميروس بالعصر البرونزي عامة، ولكن ما الذي نعرفه أيضا من التنقيب الأثري، أي من الأشياء التي نعثر عليها في الأرض، عن حرب طروادة من الناحية التاريخية؟
أنشئت مدينة طروادة على مضيق الدردنيل ، عند ملتقى بحر هيليسبونت (بحر مرمرة حاليا) وبحر إيجه، الذي يعد الممر البحري الوحيد بين البحر الأسود والبحر المتوسط وعلى طريق بري رئيسي بين منطقة الأناضول، وبلاد ما بين النهرين ظهيرها الجغرافي، وبين أوروبا (خريطة 3). ولقد تغير الشريط الساحلي لمنطقة ترواد، وهي المنطقة المحيطة بمدينة طروادة، تغيرا كبيرا عما كانت عليه في العالم القديم؛ إذ ملأ تدفق من نهري سيموئيس وسكاماندروس، المذكورين مرارا في «الإلياذة»، بالطمي خليجا شاسعا كان قديما يصل نحو الداخل حتى مسافة قريبة من الأطلال.
خريطة 3: منطقة ترواد في العصر البرونزي المتأخر. كان هذا الميناء في الماضي ميناء ضخما ذا مياه ضحلة يقع إلى الأسفل من المدينة، وعلى ما يبدو أن السفن (أسطول الآخيين المذكور في «الإلياذة» مثلا؟) كانت ترسو في ثغر بحري جنوب غربي المدينة.
ولطالما كان المضيق منطقة صراع، من غزوات الملك الفارسي خشايارشا الأول (الذي حكم من 485-465 قبل الميلاد)، والإسكندر الأكبر (الذي ولد عام 356 قبل الميلاد، ومات في عام 323 قبل الميلاد)، وحتى حملة جاليبولي التي شنها وينستون تشرشل عام 1915 التي باءت بالفشل (حيث قتل 133 ألف رجل في عدة أشهر عبثا). وحتى يومنا هذا لا تزال القوات العسكرية توجد بكثافة في هذه المنطقة. وإذ كانت قلعة طروادة بالفعل في ملتقى طرق التجارة الدولية، فقد وقفت بين الحيثيين الأشداء والمنظمين للغاية جهة الشرق والميسينيين مرتادي البحار جهة الغرب.
استنادا إلى ما يزيد على مائة عام من التنقيب الأثري المكثف، كان للاستيطان في طروادة تسع مراحل، تراكبت إحداها فوق الأخرى مثل طبقات الكعكة الإسفنجية (جدول
2-1 ، وشكل
2-6 ). تعود المستويات السبعة الأولى إلى عصور ما قبل التاريخ، أما المستويان الثامن والتاسع فأحدهما يوناني والآخر روماني. وغالبا ما ترتبط المرحلتان الأخيرتان من المراحل لطروادة السادسة (حوالي 1800-1250 قبل الميلاد) وطروادة السابعة (أ) (حوالي 1250-1180 قبل الميلاد)، واللتان تعودان إلى حقبة ما قبل التاريخ، بقصة هوميروس عن حرب طروادة. في طروادة السادسة، وهي الفترة التي شهدت أعظم توسع طوبوغرافي للمدينة وأقصى مستوى للاتصالات الخارجية ، كانت القلعة مدعمة بأسوار مائلة من الحجارة الصلبة، بسمك اثني عشر قدما وارتفاع ثلاثين قدما (انظر شكل
2-1 ). ويبدو أن زلزالا قد دمر طروادة السادسة، حوالي سنة 1250 قبل الميلاد. وقد أعاد الناجون بناءها، بيد أن المدينة الجديدة، التي كانت تمثل عندئذ طروادة السابعة (أ)، دمرت ثانية حوالي سنة 1180 قبل الميلاد، وهذه المرة بواسطة البشر؛ إذ عاش الغاصبون في طروادة السابعة (ب) وسط أطلال المدينة المدمرة. هل كان الدمار الذي وقع حوالي 1180 قبل الميلاد هو «حرب طروادة»؟
شكل 2-6: رسم افتراضي يوضح مستوطنات طروادة المتراكبة. ترجع طروادة السادسة (حوالي 1800-1250 قبل الميلاد) وطروادة السابعة (حوالي 1250-1100 قبل الميلاد) إلى العصر البرونزي المتأخر وربما كانت قريبة الشبه بالنماذج أسفل اليمين. طروادة الثامنة هي مدينة يونانية (حوالي 750-133 قبل الميلاد) وطروادة التاسعة هي مدينة رومانية (حوالي 133 قبل الميلاد-500 ميلاديا). تبعا لرسم بواسطة كريستوف هوبنر.
جدول 2-1: التسلسل الزمني للمستوطنات الطروادية (التواريخ تقريبية).
المدينة
العام
الحدث
طروادة الأولى: مستوطنة على لسان بري بالقرب من البحر
3000-2500 قبل الميلاد
طروادة الثانية: قلعة ملكية
2500-2200 قبل الميلاد •
2200 قبل الميلاد: حريق هائل، نهب المدينة.
طروادة الثالثة
2200-2100 قبل الميلاد
طروادة الرابعة
2100-1900 قبل الميلاد
طروادة الخامسة
1900-1800 قبل الميلاد
طروادة السادسة: أسوار وأبراج عظيمة (انظر شكل
2-1 )
1800-1250 قبل الميلاد •
1500 قبل الميلاد: الصلات الأولى بالعالم الميسيني. •
1250 قبل الميلاد: دمار طروادة السادسة (هل كان بسبب حرب طروادة؟)
طروادة السابعة (أ)
1250-1180 قبل الميلاد •
1180 قبل الميلاد: دمار طروادة السابعة (أ) (هل كان بسبب حرب طروادة؟)
طروادة السابعة (ب)
1180-1100 قبل الميلاد •
الحياة وسط الأطلال.
طروادة الثامنة: إليون اليونانية؛ مستعمرة غابرة من العصر الكلاسيكي كانت عبارة عن بلدة تجارية صغيرة
950-133 قبل الميلاد •
950 قبل الميلاد: ربما يكون الموقع قد صار مهجورا تماما. •
750 قبل الميلاد: تأسيس مستعمرة إليون اليونانية على يد مهاجرين من جزيرة لسبوس.
طروادة التاسعة: إليون الرومانية؛ تعداد السكان 3000 أو 4000 نسمة
133 قبل الميلاد-500 ميلاديا •
85 قبل الميلاد: نهب المدينة في حرب بين الرومان والملك الشرقي ميثراداتس.
في سبعينيات القرن التاسع عشر، وبناء على اقتراح من مغترب بريطاني كان يعيش في منطقة ترواد، شرع الألماني هاينريش شليمان (الذي كان يحمل أيضا الجنسية الأمريكية) في بحثه الأسطوري عن مدينة طروادة الهوميرية في موضع ما زال يعرف باسم هيسارليك (وتعني باللغة التركية «الحصن/البلدة المحصنة»)، وهي عبارة عن نتوء من جبل إيدا الداخلي الشاهق على مسافة قريبة جدا من مضيق الدردنيل (شكل
2-7 ).
ذاعت أنباء اكتشافات شليمان المذهلة في أنحاء المعمورة والتي كانت عبارة عن: مدينة دمرتها النيران واقعة في عمق التل وخبيئة من أغراض ذهبية وفضية، سرعان ما سميت باسم كنز بريام. بيد أننا نعرف الآن أن المدينة المحترقة التي اكتشفها شليمان كانت ترجع إلى مرحلة طروادة الثانية، حوالي سنة 2500-2200 قبل الميلاد، وهي فترة زمنية تسبق بكثير عالم العصر البرونزي المتأخر الذي تنتمي إليه الأساطير الملحمية الإغريقية، وهو العصر الذي بلغت فيه مدينة ميسينيا أوج قوتها. كذلك توجد شكوك بشأن أصالة الكنز الذي اكتشفه شليمان وبشأن ظروف اكتشافه. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر، كشف فيلهلم دوربفيلد (1853-1940)، المهندس المعماري الذي كان يعمل لحساب شليمان، عن أسوار قلعة طروادة السادسة التي ترجع إلى حقبة متأخرة، وذلك في تسعينيات القرن التاسع عشر، وزعم أن هذه الأسوار لا بد وأنها الأسوار التي خلد هوميروس ذكراها. غير أنه في ثلاثينيات القرن الماضي، عثر كارل دبليو بليجن من جامعة سينسيناتي على دلائل على وجود اكتظاظ سكاني في الموضع الذي التجأ إليه الناس - على ما يبدو - بعد زلزال عظيم في حوالي سنة 1250 قبل الميلاد. في هذا المستوى، وهو مستوى طروادة السابعة (أ)، التي دمرت بدورها حوالي سنة 1180 قبل الميلاد، وجد بليجن منشآت مخصصة لمخزونات الغذاء، كما لو أن السكان كانوا يتوقعون وقوع هجوم. وعثر بليجن أيضا على حجارة مقلاع ونصال برونزية لسهام وأسنة رماح في أنقاض دمار عند البوابة الغربية، التي سدت بعد الزلزال الذي وقع حوالي سنة 1250 قبل الميلاد. وخلص تقرير بليجن النهائي عن العمل الذي قام به في طروادة من عام 1932-1938 إلى أن القلعة وفرت «أدلة فعلية على أن البلدة تعرضت للحصار، وللاستيلاء عليها، وللتدمير من قبل قوات معادية في فترة ما في المرحلة الزمنية الشائعة التي ينسبها التراث الإغريقي لحرب طروادة، وأنه يمكن بثقة تعريفها بأنها طروادة بريام وهوميروس.»
شكل 2-7: سهل سكاماندروس من فوق منطقة هيسارليك، قلعة طروادة، في اتجاه الشمال الغربي. مجرى مضيق الدردنيل وراء حافة اليابسة مباشرة في أعلى الصورة. التقطت الصورة من قبل المؤلف.
منذ عام 1995 تابعت بعثة ألمانية تحت قيادة مانفريد كورفمان (الذي توفي في سنة 2005) أعمال التنقيب التي بدأها شليمان في القرن التاسع عشر وواصلها بليجن في القرن العشرين. وحسب كورفمان، فإن نتوء هيسارليك الشهير التي قام شليمان وبليجن بأعمال التنقيب فيه لم يكن إلا المدينة العليا في مستوطنة أكبر كثيرا بتعداد قد يصل إلى 10 آلاف نسمة. وخارج القلعة مباشرة، يوجد خندق وسياج كانا يحميان مدينة سفلية عن طريق توفير خط دفاعي خارجي يبعد كثيرا عن سور القلعة، وربما كان الغرض منه منع اقتراب الجيوش المحمولة على عجلات حربية.
لا بد وأن طروادة العصر البرونزي، المبنية وفق تصميم أناضولي مألوف، كانت مركزا تجاريا مهما، وربما مقرا ملكيا، ولا يمكن أن تكون قد تغافلت عنها حتوساس، مملكة الحيثيين الهندو-أوروبيين الأشداء التي كانت تمثل القوة العظمى في العصر البرونزي في منطقة وسط الأناضول (خريطة 1). وكانت أول مادة مكتوبة عثر عليها على الإطلاق في طروادة، في عام 1995، هي ختم برونزي نقش بكتابة مقطعية «هيروغليفية» أناضولية (المتعارف على تسميتها - خطأ - بالكتابة اللوفية) مسجلا لهجة حيثية محلية (شكل
2-8 ).
شكل 2-8: ختم برونزي محدب الوجهين على الطراز الحيثي عليه نقش لوفي (حيثي) بكتابة أناضولية «هيروغليفية»، من طروادة، ويبلغ قطره حوالي بوصة، ويرجع تاريخه إلى حوالي 1130 قبل الميلاد. وقد عثر عليه في منزل من مرحلة طروادة السابعة (أ)، ويمثل النقش اسمين ناقصين لكاتب وامرأة. كان المسئولون يحملون مثل هذه الأختام على هيئة خاتم مصنوع من سلك ممرر عبر فتحة في الختم، أو يلبس على شريط جلدي. وعند «توقيع» وثيقة من البردي، كان المسئول يضغط ختمه في كرة الصلصال التي تغطي العقدة في الخيط الذي كانت تربط به لفيفة البردي. تشيع مثل هذه الأختام في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط ولكن أغلبها مصنوع من الحجارة . مشروع طروادة، جامعة توبنجن.
تشير السجلات الحيثية فيما يبدو إشارة مباشرة إلى طروادة، مطلقة عليها أسماء مثل «فيلوسا» (وهي التسمية المرادفة لإيليوس) و«تارويسا» (وهي التسمية المرادفة لترويا). ومن محتويات الألواح التي عادة ما تكون صعبة نعرف أن إقليم فيلوسا كان أبعد جزء من «أرض أرزاوا»، ومن الواضح أنه كان في شمال غربي الأناضول، وأنه كان يقع على الساحل. فمن المعتاد لمستوطنة كبيرة أن تحمل نفس اسم الإقليم الذي تقع فيه، ومن ثم فإن التماثلين الاسميين فيلوسا (المرادف لتسمية إيليوس باليونانية) وتارويسا (المرادف لتسمية ترويا باليونانية) هما تماثلان معقولان. والواقع أن هذين التماثلين الاسميين معروفان لنا منذ وقت طويل؛ إذ تعودان إلى معلومات أكاديمية ترجع إلى عشرينيات القرن الماضي، ولكنهما كانا يبدوان خياليين لمعظم الناس. وعلينا أن نتذكر أن هذا النوع من المقارنات صعب؛ لأن الكتابة المسمارية لبلاد ما بين النهرين التي كانت تستخدم عادة من قبل الكتبة الحيثيين في كتابة هذه الألواح (والتي لا صلة لها بالكتابة التي درج على تسميتها «هيروغليفية» التي تدون بها لغة قريبة منها، وهي اللغة اللوفية) لا تطلعنا على النطق الفعلي للأسماء، وإنما تعطينا إشارات فقط؛ فالصيغ مثل «تارويسا» و«فيلوسا» هي عبارة عن عمليات إعادة بناء أجريت من قبل باحثين أكاديميين وهي إلى حد ما تخيلية. ونحن، على العكس من ذلك، نتبين نطق الأسماء اليونانية بسبب الأبجدية اليونانية. ومع ذلك، فإن عمليات إعادة البناء المعاصرة للتقسيمات السياسية في منطقة الأناضول القديمة، اعتمادا على الألواح، لا تدع مجالا للشك في أن إمبراطورية حتوساس كانت على علم بطروادة وكان لها تعاملات مع الطرواديين.
هل كانت السلالة الحاكمة في طروادة سلالة حيثية؟ إن كان الأمر كذلك، فقد كانت مستقلة سياسيا عن الحيثيين. فقد أبرم أحد ملوك الحيثيين، ويدعى مواتيلي، معاهدة في عام 1280 قبل الميلاد، وهو زمن طروادة السادسة، مع من يدعى «ألكساندو ملك فيلوسا»، وهي الصيغة الحيثية للاسم اليوناني «ألكسندراس»، الذي معناه تقريبا في اللغة اليونانية «حامي الرجال». يطلق هوميروس على باريس الطروادي اسم «ألكسندر»! فهل بسط أمير يوناني نفوذه على طروادة أثناء العصر البرونزي؟
في مناسبات عدة يشكو الملك الحيثي من منطقة تسمى «أهياوا»، التي توصف بأنها إقليم قوي يقع خارج نطاق السيطرة الهائلة للنفوذ الحيثي. يستهجن الملك الحيثي بشدة سلوك ملك أهياوا، ولكنه يبدو عاجزا عن فعل أي شيء حياله. لا بد أن أهياوا تقع عبر البحر. ويبدو أن الأخايويين اليونانيين - الآخيين عند هوميروس - يستمدون اسمهم من هذا القطر بعينه. وثمة رسالة طويلة من ملك حيثي، يسمى حاتوسيلي، الذي حكم فيما بين سنة 1267 إلى 1237 قبل الميلاد تقريبا، إلى ملك أهياوا توحي بأن القوتين كان بينهما خلافات مستحكمة على فيلوسا. وفي مصر توجد سجلات للفرعون أمنحتب الثالث من القرن الرابع عشر قبل الميلاد تشير إلى شعب يدعى «تنيو»، ربما كانوا هم شعب الداناويين اليونانيين، الذين يسميهم هوميروس الدانانيين. وعلى الرغم من قلة الأدلة، فإن الخلفية التاريخية لوصف هوميروس لحرب طروادة دقيقة بما يكفي: مملكة قوية غنية على سواحل بحر هيليسبونت ومملكة الميسينيين اليونانيين الآتية من وراء البحار التي ليست دوما على علاقات ودية مع القوة الآسيوية.
أثبت فك رموز النظام الخطي باء على يد المهندس المعماري البريطاني مايكل فينتريس في عام 1952، الذي عثر عليه في جزيرة كريت وعلى بر اليونان الرئيسي، أن الميسينيين (الذين ربما كانوا يعيشون في أهياوا، طبقا لسجلات الحيثيين) كانوا يونانيين؛ ومن ثم توجد استمرارية ثقافية فيما بين الميسينيين وهوميروس. ولما كان لا بد للمسائل الخاصة بالمسئولية والسلوك في القصائد الهوميرية أن تنتمي إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وهو زمن نظمها، فإن الشاعر يحوز إلماما فائقا بشخصيات القصيدة وبخلفية تاريخية عن حرب طروادة. لا شك في أن التقليد بالغ القدم، وهو ليس على الإطلاق من ابتكار هوميروس. وربما تحفظ القصة الأكبر عناصر تاريخية حقيقية على نحو جيد. إن معرفة الحيثيين والمصريين بوجود قوة إيجية هامة، والأسماء فيلوسا، وتارويسا، و«تنيو»، ألكساندو، وأسماء أخرى، وواقع وجود استمرارية ثقافية، وعصر الوزن السداسي التفعيلات العظيم، تلك الأمور جميعها، تجعل من المرجح أن الروايات المتعلقة بحملة آخية على معقل آسيوي في أواخر العصر البرونزي إنما تعبر عن حدث حقيقي، استلهم منه القالب الذي توارثه هوميروس، والذي وضع بداخله قصصه المعاصرة عن الأزمة الأخلاقية والعودة إلى الوطن.
بعد دمار طروادة السابعة (ب) والنزوح التدريجي منها زهاء سنة 1100 قبل الميلاد، يظل الموقع شاغرا لأكثر من 200 عام. وفي حوالي عام 750 قبل الميلاد تأسست مدينة جديدة، وهي طروادة الثامنة، التي دعيت آنذاك إيليون. وتتعلق أقدم الأدلة التاريخية لدينا على تطابق منطقة هيسارليك مع قلعة بريام بلعنة العذارى اللوكريات التي تبعث على الفضول. فكان أحد مشاهد حرب طروادة المفضلة بين رسامي المزهريات اليونانية الكلاسيكية هو مشهد اغتصاب كساندرا على يد أياس الأقل شأنا (لم يكن أياس الأعظم والأكثر شهرة يمت للواقعة بصلة)، الذي كان ينتمي إلى مقاطعة لوكريس في وسط اليونان (يوجد شخصان يحملان اسم أياس في القصيدة، أحدهما ابن تيلامون وعادة ما يدعى «أياس الأعظم شأنا»، والآخر ابن أويليوس، ويدعى «أياس الأدنى شأنا». عند ذكر «أياس» فقط، يكون المقصود هو ابن تيلامون. عادة ما يشير هوميروس إلى «الأياسين»، مستخدما صيغة المثنى، ولكن يبدو في بعض الأحيان أنه يقصد بهذه الصيغة: (1) أياس الأعظم وأياس الأدني شأنا، أو (2) أياس الأعظم وأخاه غير الشقيق تيوسر رامي السهام). وفقا للأسطورة، جر أياس اللوكري ابنة بريام من صنم أثينا أثناء خراب طروادة (شكل
2-9 ). وجراء ذلك لعنت الإلهة أثينا بلدهم، فبعث اللوكريون، بناء على نصيحة كاهنة دلفي وسيطة الآلهة، فتاتين عذراوين من عائلات نبيلة إلى إيليون في أعقاب الحرب مباشرة، حسب التقاليد اللوكرية، واستمروا على ذلك كل عام ليطهروا ويحافظوا على قدس الإلهة أثينا إلياس هناك، ندما على الجريمة النكراء التي ارتكبها أياس الأدنى شأنا. تتفق نقوش من منطقة لوكريس وشهادة مؤرخين مثل بوليبيوس، الذي كان يكتب في القرن الثاني قبل الميلاد، على أن اللوكريين أرسلوا بالفعل جزية إلى إيليون (طروادة الثامنة) في العصرين العتيق والكلاسيكي (ولكن من المستبعد أنهم فعلوا ذلك فيما قبل ذلك، عندما كانت طروادة خربة). عندما توقف خشايارشا الأول عند إيليون وهو في طريقه لغزو اليونان في سنة 480 قبل الميلاد، قدم 1000 رأس ماشية قربانا للإلهة أثينا إلياس عند نفس المزار المقدس. وحكى له السكان المحليون قصة قلعة بريام والحرب التي دارت هناك منذ زمن بعيد.
شكل 2-9: أياس الأدنى شأنا يعتدي على كساندرا على مزهرية يونانية من طراز الرسوم الحمراء، يرجع تاريخها إلى نحو 470-460 قبل الميلاد. تتشبث كساندرا، مجردة من ملابسها، بتمثال أثينا بينما يجذبها أياس الأدنى شأنا بعيدا عن التمثال. وإلى اليمين (يظهر جزئيا) نيوبتوليموس، ابن آخيل، على وشك أن يقتل أستياناكس، ابن هيكتور وأندروماك. رسام ألتامورا، إناء خلط (إناء فخاري على شكل كأس الزهرة) عليه مشاهد من سقوط طروادة (تفصيلا). أوائل العصر الكلاسيكي الإغريقي. مكان الصنع: اليونان، منطقة أتيكا، أثينا. خزف من طراز الرسوم الحمراء. الارتفاع: 48 سنتيمترا (
بوصة)؛ القطر: 49 سنتيمترا (
بوصة). متحف الفنون الجميلة، مدينة بوسطن.
بعد ذلك بمائة وخمسين عاما، عثر الإسكندر الأكبر على «درع من حرب طروادة» داخل المزار المقدس للإلهة أثينا إلياس، وعثر أيضا على «قيثارة باريس». ودعمت مدن ومحاريب مقدسة وآثار مزعومة أخرى الأسطورة. في المعبد الجميل للإلهة أثينا في مدينة ليندوس على جزيرة رودس، يمكنك أن تشاهد خوذة باريس، وأساور هيلين الذهبية، وجعبة سهام بانداروس. خلد الأثينيون ذكرى خراب طروادة على معبد الأكروبول بأثينا في أواخر القرن الثاني الميلادي؛ إذ نصب على تل الأكروبول أشباه للأبطال الحربيين مينيسثيوس، الذي يقول هوميروس إنه قاد الكتيبة العسكرية الأثينية، وابني ثيسيوس، بطل أثينا الاستثنائي، اللذين اختلسا النظر من داخل بطن تمثال برونزي هائل لحصان طروادة منصوب على الأكروبول. وفي مدينة إيليون نفسها، توضح عملات يونانية ورومانية ما لطروادة من صدى على أولئك الذين سعوا لربط إيليون بالماضي البطولي. عندما استولى الياور الروماني الخائن فمبريا على مدينة إيليون سنة 85 قبل الميلاد في الحرب الرومانية ضد الهمجي والمخادع ميثرادتس، ملك مملكة البنطس في شمال الأناضول، راح يتفاخر بأنه في أحد عشر يوما فقط استولى على مدينة صمدت لعشر سنوات أمام أجاممنون وسفنه الألف. ورد عليه أهل مدينة إيليون قائلين: «نعم، ولكن بطل مدينتنا لم يكن أحدا كهيكتور.» (8) استدلالات: هوميروس والتاريخ
ومع ذلك، حتى وإن كان ثمة أساس تاريخي للأساطير المتعلقة بالحرب في طروادة، لا يمكننا أن نأخذ «قصة» هوميروس عن هذه الحرب على أنها قصة تاريخية بأي وجه كان. ويأتينا دليل مقارن قوي من أوروبا في العصور الوسطى. فتعد الملحمة الشعرية «أنشودة رولان»، التي أشرنا إليها سابقا، والتي وثقت كتابة بصيغ عديدة حوالي عام 1100، هي الأقدم ضمن مجموعة كبيرة من أناشيد بطولية تسمى
chansons de geste «أغاني الآداب والتحيات»، التي نظمت على يد مغنين يسمون
jongleurs «البهلوانات»؛ لأنهم كانوا يمتلكون أيضا مهارات أكروباتية (في الكتاب الثامن من «الأوديسة»، يعزف المنشد الملحمي ديمودوكوس، الذي يورد هوميروس ذكره، بينما يؤدي لاعبو الأكروبات حركاتهم). غير أن «أغاني الآداب والتحيات» المكتوبة ليست نصوصا مدونة عن طريق الإملاء، مثلما كان الحال مع «الإلياذة» و«الأوديسة»، وإنما صيغت، فيما يبدو، على يد كتبة متجولين كانوا يعملون مع «البهلوانات».
تقدم لنا رواية لاتينية معاصرة لها تسمى
Vita Caroli Magni («سيرة كارل الكبير» أو «سيرة شارلمان») كتبها أحد أعضاء بلاط شارلمان، وكان يدعى إينهارد، تفصيلات عن المعركة الحقيقية المحتفى بها في ملحمة «أنشودة رولان» التي جاءت بعدها بوقت طويل؛ إذ وقعت المعركة في سنة 778. فحسب رواية إينهارد، بينما كان شارلمان (حوالي 742-814) عائدا من حملة ضد مسلمي إسبانيا، هاجم مواطنون محليون من إقليم الباسك قطار المؤن والذخائر وحرس المؤخرة الذي كان مسئولا عنه «أعلى جبال البرانس» بين فرنسا وإسبانيا الحاليتين. وسقط أحد النبلاء، واسمه رولان، قتيلا في المعركة. وثمة الكثير من التفصيلات التاريخية. ولا أثر في رواية إينهارد لعناصر الحبكة في القصيدة: العداوة بين رولان وفارس غادر يدعى جانيلون، الذي يفترض أنه زوج أم رولان وزوج شقيقة شارلمان، وخيانة جانيلون للمسلمين (الذين يطلق عليهم السراسنة)، والمعركة التي دارت في مكان يطلق عليه في الوقت الحالي رونسيفال بوصفها صراعا بين المسلمين والمسيحيين؛ وصداقة رولان مع فارس متعقل حذر يدعى أوليفييه، ومحاكمة جانيلون الدنيء؛ هي كلها محض خيال شعري. والواقع أن معظم العناصر في القصيدة هي بالدليل الواضح من زمن لاحق، والإطار الاجتماعي والأخلاقيات شديدة المسيحية التي تحتويها القصيدة لا تنتمي للقرن الثامن الميلادي، وإنما إلى القرن الثاني عشر الميلادي عندما ظهرت الصيغة المكتوبة في حيز الوجود، كما نتوقع. إذن فمع استناد ملحمة «أنشودة رولان» إلى حدث حقيقي، إلا أنها لا تعبر عن ذلك الحدث، وإنما هي نتاج أجيال من إعادة الصياغة الشعرية التي تستخدم الأفكار التقليدية وتعمل - في الوقت ذاته - على ترسيخ القضايا الفكرية والأخلاقية المعاصرة.
ثمة إجراء مماثل تماما في الأناشيد التي بحثها باري ولورد؛ إذ أنشد جوسلاري القرن العشرين عن معركة كوسوفو التاريخية الحقيقية، التي وقعت في سنة 1389. في تلك الأناشيد، كانت كل تفصيلة تاريخية هي إما مغلوطة أو لا يمكن التحقق منها، بما في ذلك نتيجة المعركة، التي يدعي الشعراء أنها هزيمة ساحقة، بينما في واقع الأمر يبدو أنها كانت تعادلا. بالمثل نجد ملحمة «النيبلونجن» من العصور الوسطى باللغة الألمانية الفصحى الوسيطة، وتعني «أنشودة النيبلونجيين (البرجنديين)»، عن ملوك منطقة بورجندي من القرن الخامس الميلادي، تشوه التاريخ تشويها يفوق الإدراك. وقد حفزت رغبة قوية، منذ أعمال تنقيب شليمان، الجهود الرامية إلى العثور على التاريخ في القصائد الهوميرية، ولكن علينا أن نعترف أنه ليس ثمة شيء لنعثر عليه، حتى ولو كان لهيلين وجود فعلا يوما ما، وحتى ولو هربت مع باريس، وحتى ولو كان آخيل قد مات على سهل طروادة العاصف؛ لو كان أي من هذه الأمور قد حدث، فلا يمكننا أن نعرفه. صحيح أنه لا بد وأن حدثا ما قد استهل التقليد المتعلق بحرب طروادة؛ لأن المنشدين الملحميين لا يحتفون بسادتهم بحكايات عن حروب وهمية. وهذا يعني أنه كان هناك «بالفعل حرب تسمى حرب طروادة». ولكن الملاحم الهوميرية هي إبداعات أدبية، قصص خيالية من عناصر متنوعة ومن أزمنة مختلفة ومن تقاليد أدبية مختلفة. إنها لا تنقل حدثا تاريخيا من أحداث العصر البرونزي، فبينما من المحتمل أن يكون ثمة حرب شنت على طروادة، إلا أننا لو نظرنا بتمعن ، لوجدنا أن الملاحم الهوميرية تورد ذكر الكثير عن اليونان في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، عندما ظهرت هذه القصائد للوجود على هيئة نصوص مكتوبة عن طريق الإملاء على جزيرة عوبية على الأرجح.
في «الإلياذة»، يميل هوميروس إلى خلق «بعد ملحمي»؛ أي شعور لدى الحضور بأن هذه الأحداث جرت منذ زمن بعيد في عالم أكثر نبلا من عالمنا. ومن أجل خلق البعد الملحمي، يعطي الشاعر، عامدا، للقصة مظهرا عتيقا. فكل الأسلحة من البرونز (مع أن أدوات الحياة اليومية الوارد ذكرها في التشبيهات من الحديد). في هذا العالم تظهر الآلهة على هيئة بشر وكأن تلك مسألة بديهية، والصراعات في السماء تضاهي الصراعات على الأرض. وكان الرجال أقوى آنذاك؛ ففي الزمن المعاصر ولا حتى اثنان يقويان على حمل حجر كان رجل واحد يقذفه آنذاك. وآخيل يصرخ فتتقهقر جيوش. والخيول تتكلم. إن «الإلياذة» تعتبر «ساجا» (ملحمة خيالية أسطورية)، حيث الرجال أضخم وأعظم، والآلهة تتدخل بنفسها في الأحداث وأحيانا ما يكون ذلك عيانا، وكل شيء قديم الطراز نوعا ما، عالم رفيع الطراز لم يوجد قط بهذا الشكل بالضبط.
أما «الأوديسة» فهي «حكاية شعبية خرافية»، تشتمل على سمات أدبية متعارف عليها من قبيل تحقق النبوءات، وموضوعات تجسد الصراع مع الموت، والصراع بين الجنسين، والتخفي، والتحايل، والانهزام المرحلي، والتعرف على الأبطال، والثأر. ولملحمة «الإلياذة» مذاق السريالية، مثال ذلك عندما يرتفع روح النهر ويهاجم آخيل؛ إلا أنه لا يوجد وحوش ولا رموز غامضة لانبعاث الحياة، مما تمتلئ بها «الأوديسة» بكثرة. في تصويرها «للواقع» تنتقل «الأوديسة» عبر مدى يضم عالم السايكلوب الخيالي على أحد طرفيه، والفياشيين شبه الخياليين في المنتصف، والقصر المتراكم فيه الروث على جزيرة إيثاكا على الطرف الآخر. لا يمكننا مطلقا أن نستقي «التاريخ» الحقيقي من القصائد الهوميرية، ولكن يمكننا أن نكتشف ما كان يعتقده اليونانيون في القرن الثامن قبل الميلاد بشأن العالم وبشأن أنفسهم. ويتبين لنا أنهم كانوا يشبهوننا كثيرا.
هوامش
الفصل الثالث
ملحمتا هوميروس عند القراء
يريد عالم فقه اللغة أن يعرف المصدر الذي جاءت منه قصائد هوميروس، والشكل الذي ربما كانت عليه في صيغتها الأصلية. ويرغب المؤرخ في أن يعرف أي الأحداث في قصائد هوميروس ربما «يكون قد حدث بالفعل» وأيها محض خيال شعري. واستمتاع القارئ يجعل تلك الموضوعات ذات أهمية؛ لأن نصوص هوميروس كانت تقرأ وتدرس منذ لحظة وجودها في القرن الثامن قبل الميلاد، وحتى وقتنا الحالي الذي تقرأ وتدرس فيه أكثر من أي وقت مضى. ويسهل العثور على ترجمات بديعة بلغات أوروبية معاصرة وتقرأ على نطاق واسع في التعليم الثانوي والجامعي.
لا يملك القارئ العادي وعيا مباشرا بمشكلة النص؛ لأن القارئ يتجاوب تجاوبا مباشرا مع العلامات الرمزية التي تحويها الصفحة تبعا لأنماط سلوك اكتسبها في سن مبكر. فالنص هو جزء من «عملية القراءة» وليس شيئا تتدبره. كما أن متعة القارئ لا تنشأ عن فهم العوامل التاريخية على هذا النحو، وإنما من التلاحق السريع للأحداث، والعمق الأخلاقي للصراع، وجمال التعبير، ومنطقية الحبكة. دعونا في هذا الفصل نتأمل الكيفية التي يتحكم بها هوميروس في تلك العناصر الأدبية. (1) القراء القدامى والمعاصرون
إن تجربة القارئ المعاصر مع «الإلياذة»، بأي لغة كانت، مختلفة تماما عما قد يكون اليوناني القديم قد عرفه. فنحن نمتلك القدرة على إتمام قراءة النص بأكمله في بضعة أيام ولإدراك تركيبه والقصة التي يرويها هوميروس إدراكا واضحا، وهو ما لم يكن من الممكن مطلقا أن يتحقق في العالم القديم. فالنصوص الأولى للقصائد الهوميرية لم يكن الغرض منها متعة القارئ، وإنما تقديم العون لأولئك الذين شرعوا في الإحاطة بأسرار الكتابة الأبجدية ليعيدوا تكوين نسخة سماعية من الصياغة الفعلية للشاعر واستظهارها. لا بد وأن النصوص الكاملة لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد - التي كانت مثار اهتمام هائل، وذات تكلفة باهظة لنسخها، وغير ملائمة للتخزين أو التشاور بشأنها - كانت بالغة الندرة ومن الصعب إيجادها. لهذا السبب كانت قصائد «دائرة الملاحم»، التي ظهرت لاحقا والتي كانت أقصر كثيرا، معروفة في العصر العتيق على نحو أفضل كثيرا من «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ وذلك استنادا إلى التمثيلات الفنية للأساطير الإغريقية. ومن غير المتصور أن أحدا على الإطلاق، في القرون الثامن والسابع والسادس قبل الميلاد قد جلس و«قرأ» ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» كما نقرؤها هذه الأيام.
كانت المرة الأولى التي قدمت فيها «الإلياذة» و«الأوديسة» أمام الجمهور في العالم القديم، بقدر ما نعلم، في مهرجان عموم أثينا في القرن السادس قبل الميلاد، عندما - بحسب
pseudo-Plato «المحاورات المنسوبة كذبا إلى أفلاطون» (انظر الفصل 1، قسم «لوح بيليرفونتيس: حجج فريدريش أوجست وولف») - كان مجموعة من الرابسوديين المتعاقبين يؤدون أجزاء منها، «رجل يعقب آخر كما لا يزالون يفعلون في زماننا هذا» (بسبب الطول المفرط للقصائد كان من غير الممكن أداؤها كاملة في هذا المهرجان). والدليل الوحيد الذي بين أيدينا على تمثيل فني أقدم للقصائد هو فيض الرسوم التي تصور سمل عين بوليفيموس في أوائل القرن السابع قبل الميلاد (انظر شكل
2-5 )، والتي تشير إلى أن جزءا مقتطفا من «الأوديسة» كان منتشرا انتشارا واسعا. وقد يكون اليوناني معرضا على نحو معتاد لمثل هذه المقتطفات في تعليمه، وهو الأمر الذي كان أساس مأخذ زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد.
على النقيض، يمكننا في الوقت الحاضر أن نطالع القصائد باللغتين اليونانية أو الإنجليزية. ولو كانت المطالعة باللغة اليونانية، فإن القارئ، مهما كان متمرسا، سوف يتحير باستمرار إزاء الصيغ الغريبة والمفردات غير المعروفة، وهي الصعوبات التي من أجلها وجدت شروحات مستفيضة للقارئ المجد؛ فكل بضعة أبيات تحتوي على كلمة لن تتكرر ثانية أبدا. بل إن هوميروس نفسه، على ما يبدو، لم يكن يفهم دوما معنى كلماته وبعض تراكيبه النحوية، وإنما ينقل شيئا ورد إليه بأسلوب الصياغة الشفاهية. إن قراءة ملحمتي هوميروس باللغة اليونانية، حتى للمتمرسين، هو أمر بطيء وصامت.
عندما نقرأ باللغة الإنجليزية تمسح أعيننا الصفحة بسرعة في صمت، مستغلة فواصل الأبيات والكتابة بالأحرف الكبيرة وفواصل الكلمات وعلامات الترقيم لاستيعاب الطابع الشعري الذي وضعت قواعده لأجل الصفحة المطبوعة. إن تجربة كهذه يمكن أن تكون مشوقة، ولكنها ضئيلة الصلة بخبرة فرد من جمهور هوميروس المفعم بالحياة؛ حيث كان ثمة صلات وثيقة، أو بخبرة جمهور أحد رواة الملاحم (رابسودي)، حيث تكون براعة الممثل هي الأهم. (2) أسلوب هوميروس
يدهش الجميع لأسلوب هوميروس الغريب (على الرغم من أن المترجمين غالبا ما يخفونه)؛ فهو يتسم بالتكرار المفرط؛ إذ يتكرر بيت من كل ثمانية أبيات على الأقل مرة واحدة. والتكرار الحرفي للرسائل والتوجيهات الأخرى هو سمة ذات صلة وتعكس منشأ القصائد من ناحية كونها نصا مكتوبا عن طريق الإملاء الشفاهي. وثمة مثال واضح على ذلك في الكتاب الثاني من «الإلياذة»، عندما يجهز زيوس حلما ملفقا ليرسله إلى أجاممنون، ثم بعد ذلك يكرر إله الحلم توجيهات زيوس على أجاممنون بحذافيرها. ثم يقصه أجاممنون على الملوك الآخرين (الإلياذة، 2، 11-15 الذي يكافئه 2، 28-32 وكذلك 2، 65-69). وتظهر تكرارات مماثلة في أدب بلاد ما بين النهرين، على الرغم من أنها ليست نصوصا مكتوبة عن طريق الإملاء الشفاهي.
والأهم من كل ذلك النعوت المتكررة المتواترة التي حيرت ميلمان باري كثيرا:
ثم أجابه آخيل «ذو القدمين السريعتين» وقد اشتد غضبه: لقد خدعتني أيها «الإله الذي يعمل من بعيد»، و«أشد الآلهة قسوة ...» (الإلياذة، 22، 14-15)
وكما رأينا، فإن الاصطلاحات من هذا النوع، وما يماثلها من التعبيرات والفقرات المصاغة، هي جزء من اللغة الخاصة للمنشد الملحمي؛ إذ تعين المنشد على النظم ارتجالا مستخدما وحدات دلالية أكبر من «الكلمة» المطبوعة. والميزة العملية لأسلوب الصياغة النمطية المتكررة أنه يتيح للشاعر أن ينظم بتدفق ثابت، مع إبطاء إيقاع السرد بزيادة النسبة بين عدد «الكلمات» المنطوقة ووحدة التوصيل الدلالي. فعبارة «آخيل ذو القدمين السريعتين» تستغرق وقتا أطول في قولها ولكنها تعني فقط «آخيل» (نعم، هو رياضي عظيم، ولكن تذكيري بالأمر لا يطلعني على أي شيء لم أكن أعرفه بالفعل أو شيء ذي صلة في هذا السياق خاصة). لا شك في أن النعت يستحضر تراثا شاسعا من الحكايات عن آخيل، مكتسبا بذلك قوة، ولكنه لا يحدث أي تطوير في السرد على الإطلاق.
إن إبطاء السرد بهذه الطريقة لا يمنع إيقاع القصة من أن يكون سريعا كالبرق، كما هو الحال في استهلال «الإلياذة»، إلا أن هوميروس لا يقع أبدا تحت ضغوط تدفعه إلى إغفال أي شيء. إنه يطيل أمد قصته، كما لو كان لديه متسع كبير من الوقت. وكانت هذه النزعة تصب في مصلحة وجهة نظر المحللين القدماء، الذين أبصروا حالات انحرافات عن إطار السرد المثالي المنتظم الخالي من العوائق نتيجة تراكم، أو حشو، أو تنقيحات لاحقة. ولا يملك القراء المعاصرون، الذين تربوا على مشاهدة التليفزيون، الصبر إزاء هذا النوع من وسائل السرد ويرون أن الكتب التي تحتويها «الإلياذة» والتي تتناول المعارك هي كتب تتسم بالرتابة والطول المفرط. فلا يمكن للقارئ أن يستمتع بسلسلة الحكايات المختلقة التي يرويها أوديسيوس في النصف الثاني من «الأوديسة» إلا من خلال الحب الخالص للسرد بأي شكل من الأشكال. فمن دون هذه القصائد لم يكن يمارس أي ضغط على الشاعر لتكثيف سرده، بل على العكس تماما!
يمتزج التأني المفرط، الذي من خلاله يستطيع الشاعر أن يروي قصته، مع نفور من التشويق، وهو ما يعد أحد الأدوات المفضلة للروائيين المعاصرين. على سبيل المثال، عندما تستهل بينيلوبي مسابقة القوس، يصرح أنطونيوس الخاطب الرئيسي بألا أحد من الحاضرين ند لأوديسيوس، ولكنه يأمل في سريرته أن يستطيع هو نفسه أن يشد وتر القوس. لسنا بحاجة للتساؤل بشأن ما إن كان سيفلح، أو ما سيكون إليه مآل أنطونيوس المختال بنفسه؛ لأن هوميروس يخبرنا بما سوف يحدث:
هكذا تكلم، ولكن قلبه الذي بين أضلعه كان يأمل أن يستطيع أن يثني وتر القوس ويطلق سهما عبر حديد القوس. بيد أنه في الواقع سيكون أول من يذوق سهما من يد أوديسيوس النبيل، الذي كان يدنس سيرته بلسانه بينما كان يجلس في الردهات يحرض رفاقه. (الأوديسة، 21، 96-100)
وعلى نفس المنوال، في مشهد شهير تكتشف المربية العجوز أوريكليا الندبة المميزة على فخذ أوديسيوس التي تشي بهويته. يلحق هوميروس بهذا المشهد الذي يتناول التعرف أطول حوار جانبي في كلتا القصيدتين، وهو تفسير لكيفية إصابته بالندبة أثناء صيد للخنازير البرية، بل وكيف منحه جده لأمه اسمه الذي يحمله. وبينما تمسك أوريكليا برجله، وهوميروس يفسر مصدر الندبة، ولا نتساءل بتلهف عما إن كانت ستتعرف على المتسول وتعرف أنه سيدها؛ لأن أول شيء يطلعنا عليه هوميروس هو أنها تتعرف عليه بالفعل:
وهكذا دنت وبدأت تغسل [قدمي] سيدها. وعلى الفور تعرفت على ندبة الجرح الذي أصابه به خنزير بري بنابه الأبيض منذ زمن بعيد ... (الأوديسة، 19، 392-393)
ليست مسألة «ما الذي سيحدث بعد ذلك؟» هي ما يشغل بال الجمهور وإنما إعادة الصياغة الدرامية المتأنية لعالم بأكمله: الناس الذين يعيشون فيه، وما يفكرون فيه ويقولونه، والاختيارات التي يتخذونها، وأوجاعهم وأفراحهم، والأحداث التي تحل بهم؛ فالشعر يأخذنا إلى عالم بديل، نرغب في أن نكون فيه.
ولا عجب في كون أسلوب متمهل كهذا مواتيا للتوصيفات الدقيقة للأشياء والأحداث. على سبيل المثال، عندما يستعد بريام في الكتاب الرابع والعشرين من «الإلياذة» لزيارة المعسكر اليوناني، يجهز الخدم عربته:
ثم أنزلوا نير البغال من الوتد الخشبي، وهو ذو رأس مستديرة، ومزود بالحلقات كي يمر منها اللجام. وكذلك أحضروا سيرا من الجلد بطول تسعة أذرع، وبه ثبتوا النير جيدا فوق العريس المصقول، من خلال الحلقات الأمامية؛ وذلك بوضع الحلقات في وتد خشبي، ثم ربطها ثلاث مرات من الجانبين فوق سرة النير، وبعد تثبيتها جيدا صنعوا عقدة في نهاية السير الجلدي. (الإلياذة، 24، 268-274) [ترجمة عادل النحاس، المركز القومي للترجمة (بتصرف يسير)]
في كتب المعارك في «الإلياذة» تظهر توصيفات مفصلة كثيرة للموت المروع:
إذ ضربه ابن تيلامون، الذي اندفع من بين الجموع، عن قرب شديد، على خوذته البرونزية ذات الجوانب الواقية للصدغ، فانشطرت الخوذة المزينة بعرف من خصلات من شعر الجياد تحت رأس الرمح؛ إذ أصابها الرمح العظيم واليد القوية، واندفع المخ عبر الجرح على طول مغرز الرمح، الذي تلطخ كله بالدماء ... (الإلياذة، 17، 293-298) [ترجمة عبد السلام البراوي، المركز القومي للترجمة (بتصرف)]
يتميز جمهور هوميروس بولع بالدم، وهو الولع الذي يشبعه وصف دقيق، ولكنه يأنف من الإشارة إلى التوظيفات الجسدية أو التوصيفات الصريحة للأفعال الجنسية، التي لا تتناسب مع العالم البطولي ومع إكباره لخصال الرجولة.
تعزز رغبة هوميروس في قول كل شيء - وهو الأمر الذي يبلغ حد التطرف - من مسألة تعديد الأسماء، التي يوجد منها الكثير في كلتا القصيدتين. ومن الأشكال الشائعة لتعديد الأسماء، سلسلة النسب، التي يعدد فيها البطل أسلافه ليثبت جدارته. وفي مشاهد المعارك يمكن لتعديد أسماء الضحايا أن يعظم الفعل ويضخمه، كما في الكتاب الحادي عشر من «الإلياذة» عندما يختبر أوديسيوس، المحاصر، معدنه: ... ولكنه ضرب أولا البطل الفذ ديوبيتيس بعد أن قفز فوقه وضربه أعلى كتفه برمحه الحاد، وبعد ذلك قتل ثوون وإنوموس، ثم انقض على خيرسيداماس وهو يثب من عربته وضربه برمحه في السرة من تحت درعه الضخم، فسقط في التراب وتشبث في الأرض بقبضته. وترك أوديسيوس هؤلاء وحدهم وهاجم خاروبس بن هيباسوس، شقيق سوكوس الثري، وقتله بضربة من رمحه. (الإلياذة، 11، 420-427)
ما مصدر الأسماء الألف التي تظهر في هذه القصائد؟ على ما يبدو أن هوميروس يأخذها من مستودع عام للأسماء (فلا نسمع بمعظم هؤلاء الناس أبدا قبل أو بعد هوميروس)، ذاك الذي يعد جزءا من ذخيرة المنشد الملحمي. ففي أكبر تعديد أسماء في الملحمتين، وهي قائمة السفن الشهيرة في الكتاب الثاني من الإلياذة، يرتب هوميروس معلومات جغرافية حقيقية تبعا لنسق معقد. ولتعديد الأسماء نظائر بارزة في أدب الشرق الأدنى. على سبيل المثال، يخصص قسم كامل تقريبا من ملحمة الخلق البابلية من بلاد ما بين النهرين «إنوما إليش»، (وهما ببساطة أول كلمتين في الملحمة) وتعني «عندما كانت السماوات العلى ...» تلك التي تحكي قصة انتصار الإله مردوخ خالق العالم على قوى الفوضى، لتعديد لأسماء مردوخ. فمما لا شك فيه أن في مجتمع شفاهي كان تعديد الأسماء وسيلة لتنظيم المعلومات، أخذه كتبة الشرق الأدنى الملمون بالقراءة والكتابة مثلما أخذوا خصائص أسلوبية أخرى يتسم بها الشعر الشفاهي.
ثمة سمة لافتة أخرى يتسم بها أسلوب هوميروس وهي ميله إلى «النظم الدائري»، أي أن يطرح المعلومة [أ]، و[ب]، و[ج] ثم يجيب عليها بترتيب معكوس أي [ج] ثم [ب] ثم [أ]. على سبيل المثال، عندما يلتقي أوديسيوس بأمه في العالم السفلي يسألها:
أي منية من منايا الموت المفجع ألمت بك [أ]؟ أكان مرضا طويلا، أم أن أرتميس، رامية السهام، أصابتك بسهامها النبيلة [ب]؟ وخبريني عن أبي [ج] وابني [د]، اللذين خلفتهما ورائي. هل ما زال الشرف [
geras ]، الذي كان لي، بين ظهرانيهما، أم إن رجلا آخر الآن يملكه، وهل يقول الناس إنني لن أرجع أبدا [ه]؟ وخبريني عن زوجتي المخلصة، عما تنويه وما يدور بخلدها. هل ما زالت إلى جوار ابنها، وتبقي كل الأشياء مصونة؟ أم إن من هو أفضل الآخيين قد تزوجها بالفعل [و]؟ (الأوديسة، 11، 171-178)
عندما تجيب والدة أوديسيوس (الأبيات 180-284)، فإنها تفعل ذلك بترتيب معكوس: فبينيلوبي لا تزال صامدة في المنزل [و]، ولا يحوز رجل آخر شرفه [ه]، وابنه ما زال على حاله [د]، وأبوه يعيش في الريف [ج] (تستفيض مطولا في الحديث عن معاناته). أما بشأن موتها، فلم تكن أرتميس [ب] هي التي قتلتها، وإنما الشوق إلى ولدها، أوديسيوس [أ]. وقد استنبط باحثون كثيرون أنماطا معقدة للنظم الدائري في القصيدة ككل وفي أجزائها المتنوعة. وهذه بالضبط هي الطريقة التي ننظم نحن بها المعلومات عندما نتحدث علنا ويكون حديثنا عفويا دون إعداد مسبق. ومجددا، تعكس سيطرة النظم الدائري على صعيد الأسلوب وفي أنماط أوسع، الأصول الشفاهية لهذه القصائد. (3) التشبيهات
ثمة سمة بارزة من سمات أسلوب هوميروس المتمهل تستحق اهتماما خاصا وهي التشبيه. والتشبيه، الذي يعد أكثر شيوعا بكثير في «الإلياذة» عنه في «الأوديسة»، هو وسيلة لإيقاف الحدث، والانسحاب منه والتعليق عليه، وإثرائه، وفي بعض الأحيان الحكم عليه. كما في وصف هوميروس لدرع آخيل، الذي هو نفسه عبارة عن تشبيه ممتد؛ إذ يرينا هوميروس عالما عاديا يقطنه أناس عاديون في منظومة معتادة؛ رعاة يحمون القطعان، ويحلبون الأبقار، ويحصدون القمح، أو نساء بسيطات يغزلن:
ثم بسرعة شق ابن أويليوس [أي أياس الأدنى شأنا] طريقه نحو المقدمة، وعلى مقربة بعده جرى أوديسيوس الإلهي. وأصبح على مقربة منه كدنو وشيعة المغزل من صدر امرأة ذات نطاق جميل، وهي تشدها بيديها بعناية وتسحب خيط الغزل عبر السداة، وتمسك العصا على مقربة من صدرها، هكذا بهذا القرب ركض أوديسيوس وراءه. (الإلياذة، 23، 758-763)
عادة ما يلتقي التشبيه بالموقف الذي يصفه في نقطة واحدة فقط. في هذه الحالة، في سباق عدو، كان قرب أوديسيوس من أياس يكافئ قرب وشيعة المغزل من صدر امرأة. وبخلاف ذلك فالمشهدان مختلفان تماما عن عمد. فهناك، من ناحية، المسلك البطولي على السهل العاصف، ومن الناحية الأخرى، العالم الهادئ المصون والمسالم المحيط بمسلك أنثى مبدعة.
تستدعي الطبيعة تشبيهات كثيرة وبخاصة عمليات الافتراس التي تقوم بها السنوريات المفترسة، التي يسهل مقارنتها بالمحاربين في عدوانيتها الخطرة. ومع ذلك، فنقطة الالتقاء ستكون بسيطة. آخيل يهاجم إنياس مثل أسد كاسر:
وعلى الجانب الآخر اندفع ابن بيليوس لملاقاته وكأنه أسد، أسد كاسر يتلهف الرجال لقتله، جمع من الناس احتشد، ويتجاهلهم الأسد في البداية ويمضي في طريقه، ولكن عندما يرميه واحد من الشبان السريعين في النزال برمح، عندها يستجمع قواه ويفغر فاه ويسيل الزبد من بين أنيابه، وفي قلبه تزمجر روحه الشجاعة ويلطم بذيله أضلعه وجنبيه على هذا الجانب وذاك ويستجمع نفسه للقتال وبعينين متقدتين يهجم مباشرة وهو في فورة غضبه، إما أن يقتل أحدهم أو يلقى حتفه في الهجمة الأولى. هكذا كان حال آخيل المدفوع بحميته وروحه لمجابهة إنياس ذي القلب الباسل. (الإلياذة، 20، 164-175)
غضب عات هو كل ما يجمع بين حال آخيل وحال الأسد: فآخيل لم يجرح (أما الأسد فجرح) وآخيل لم يكن في البداية غير مبال، ثم استشاط غضبا على العدو.
ومع ذلك، يمكن أحيانا للحال في التشبيه أن يتشابه مع الحال الذي يصفه. فعندما يرى أوديسيوس الوصيفات وهن يمضين ليعاشرن الخطاب، يزمجر قلبه ويفكر في قتلهن حينئذ:
ومثلما تراقب الكلبة عن كثب جراءها الغضة، وتزمجر عندما ترى رجلا لا تعرفه، وتتحمس لقتاله، كذلك زمجر قلبه بين أضلعه في غضبته على فعالهم الخبيثة. (الأوديسة، 20، 14-16)
إن نقطة الالتقاء هي «الزمجرة»، ولكن حاليهما متشابهان إجمالا؛ فالكلبة تزمجر لأن صغارها الأحباء مهددون؛ بينما يزمجر أوديسيوس لأن ملكات يمينه، الوصيفات ، يستولي عليهن غرباء.
إجمالا، لقد رأى القراء في التشبيهات اللمسة الشخصية العظمى للشاعر هوميروس نفسه، كما هو الحال لدى شعراء العصور الحديثة في تصورنا؛ لأن استخدامه للغة والتصوير في التشبيهات مفعم بالإحساس ومدهش لدرجة أننا نشعر بالتقارب مع شخصية الشاعر. وفي حين آل التشبيه إلى هوميروس على هيئة أداة أسلوبية تاريخية، مألوفة في أدب بلاد ما بين النهرين ولكنها غير مطورة أو مستغلة (ومما يثير الدهشة أنه لا يكاد يكون لها وجود في «الملاحم» غير الغربية)، فإنه يبدو أن هوميروس الإنسان قد طوره ووظفه ليصبح وسيلة لامتدادات فكرية مذهلة، مثلما في التشبيه التالي من مشهد مبارزة، حيث يقارن هوميروس بين الجيشين اللذين يشدان من الجانبين جثمانا فيما بينهما بقرويين يدبغون جلد ثور:
وكما حينما يعطي رجل جلد ثور ضخم، غارق في الشحم، إلى قومه لكي يشدوه، وعندما يأخذونه يقفون في دائرة ويشدونه، فتخرج الرطوبة من فورها وينفصل الشحم جراء جذب أياد عديدة، ويتمدد الجلد من كل اتجاه إلى أقصى حد، هكذا من هذا الجانب وذاك كانوا يتجاذبون الجثمان جيئة وذهابا في مساحة ضيقة وقلوبهم مفعمة بالأمل، أمل الطرواديين في أن يسحبوا الجثمان إلى طروادة، أما أمل الآخيين فكان أن يعودوا به إلى السفن المجوفة. (الإلياذة، 17، 389-397)
بل إن ثمة تشبيهات أكثر رقيا:
عاد الدانانيون يتدفقون بين السفن المجوفة، وتصاعد صخب واستمر. ومثلما، من فوق الذروة المطلة لجبل شاهق يبعد زيوس جامع الصواعق غيمة كثيفة عنه، فتبين قمم الجبال والمرتفعات والوهاد ويتدفق من السماء النسيم العليل المتواصل، هكذا كان الدانانيون عندما كانوا يبعدون نار [الطرواديين] الآكلة عن السفن، ويستريحون استراحة محارب قصيرة، مع أن الحرب لم تتوقف. (الإلياذة، 16، 295-302)
ما نقطة الالتقاء هنا؟ من الواضح أنها قصر فترة استراحة الدانانيين من الحرب. لا يقول هوميروس إن الغيمة المكفهرة ستعود سريعا لتغطي الجبل، ولكن علينا أن نخمن ذلك. ففي البداية ثمة عتمة تكسو الجبل، ثم يسطع بنور الشمس، ثم يعود معتما ثانية. كذلك ينغمس الدانانيون في الحرب، ويجدون متنفسا، ثم يعودون للانغماس في الحرب . نستخلص من ذلك أن جمهور هوميروس المثقف يقدر التصوير المبدع ويميل إلى الفكر الراقي. (4) هوميروس وحبكة القصة
إن الصيغ والعبارات المدبجة، والوصف المفصل، والعداء للتشويق، والتشبيهات المتقنة، كلها وجدت لتدعيم القصة التي يرويها هوميروس، التي تمثل البناء الذي تقوم عليه الحبكة، والتي هي بمثابة العمود الفقري الذي يقوم عليه الأسلوب السردي. إننا نعتبر الحبكة أمرا مسلما به في وسائل الترفيه الحديث، في الروايات والأفلام الروائية الطويلة، ولكن ثمة القليل من الدلائل على وجودها في آداب عصر ما قبل الهيلينية. ثمة استثناء بالغ الأهمية وهو ملحمة «جلجامش»، التي تحتوي بالفعل على حبكة بدائية، على الأقل في الصيغة المحفوظة على الاثني عشر لوحا التي عثر عليها في مدينة نينوى. إن المعنى الذي نعرفه لمفهوم الحبكة يرجع مباشرة إلى هوميروس، ولكنه في هذه المسألة، مثلما في مسائل أخرى كثيرة، بنى على إنجازات سابقة.
قد يبدو الأدب السردي وكأنه يشبه الحياة، بيد أن في الحياة ليس ثمة حبكة؛ فالتشبه بالواقع في الأدب ليس إلا وهم. ما هي الحبكة، ذلك المحرك لقصائد هوميروس؟ كان أرسطو (384-322 قبل الميلاد) أول من حلل عناصر الحبكة، التي يدعوها
muthos (ما نسميه نحن «الأسطورة» أو «الخرافة»). وأغلب تفكيره يدور حول الدراما الإغريقية، التي هذبت فيها مبادئ أرساها هوميروس وحولت إلى الحبكة المعاصرة التي نألفها في زمننا الحاضر:
إن الترتيب الصحيح للحوادث ... هو أول وأهم نقطة في المأساة. لقد قررنا أن المأساة هي محاكاة فعل [
mimesis praxeos ] تام وله مدى معلوم؛ لأن الشيء قد يكون تاما دون أن يكون له مدى. والتام هو ما له بداية ووسط ونهاية. البداية هي ما لا يعقب شيئا آخر بالضرورة، ولكن يعقبه شيء آخر، يوجد أو يحدث كنتيجة طبيعية له والنهاية على العكس من هذا، هي ما يترتب بالضرورة أو أحيانا على شيء آخر، ولكن لا يعقبه شيء. أما الوسط فهو ما يترتب على شيء آخر ويترتب عليه شيء آخر. ومن ثم لا يجب للحبكات [
muthoi ]، حين يجاد تأليفها، أن تبدأ وتنتهي كيفما اتفق، بل يجب أن تنسجم مع المبادئ التي أوردنا ذكرها. (أرسطو، «فن الشعر»، نقله إلى الإنجليزية دبليو هاميلتون فايف (بتصرف)، القسم 1450ب)
إذن للحبكة عناصر ثلاثة: بداية، ووسط، ونهاية. وهذه العناصر ليست قابلة للتبادل فيما بينها وإنما لها خصائص متفردة. وقد ظهرت تلك العناصر، حسبما رأى أرسطو، أول ما ظهرت في شعر هوميروس:
إذ إنه حينما ألف «أوذوسيا» [الأوديسة] لم يرو جميع حوادث حياة أوديسيوس - مثلا، أنه جرح على [جبل] فارناسوس [بارناسوس] وتظاهر بالجنون حينما احتشد الإغريق - لأن هذين الحادثين لا يرتبطان بحيث إذا وقع الواحد وقع الآخر بالضرورة [أو] احتمالا، وإنما ألف «أوذوسيا» بأن جعل مدار الفعل [
praxis ] فيها حول شيء واحد بالمعنى الذي نقصده. وكذلك فعل في «الإلياذة». وكما في سائر فنون المحاكاة تنشأ وحدة المحاكاة من وحدة الموضوع؛ كذلك في الخرافة [الحبكة]؛ لأنها محاكاة فعل [
mimesis praxeos ]، فيجب أن تحاكي فعلا واحدا وتاما، وأن تؤلف الحوادث المكونة بحيث إذا نقل أو بتر جزء انفرط عقد الكل وتزعزع؛ لأن ما يمكن أن يضاف أو ألا يضاف دون نتيجة ملموسة لا يكون جزءا من الكل (أرسطوطاليس، «فن الشعر») [ترجمة عبد الرحمن بدوي (بتصرف)، القسم 1451أ، ص25-26].
إن كلمات أرسطو هي بعض أكثر الآراء خضوعا للدراسة والبحث في النقد الأدبي. يبدو أنه يعني أن، أولا، الأدب ليس الحياة وإنما «محاكاة»
mimesis . محاكاة لماذا؟ «لفعل»
praxis
واحد ولمجمله (الذي يشتمل على ثلاثة أجزاء). والفعل المتعلق بملحمة «الأوديسة» هو عودة أوديسيوس إلى الوطن والبيت. وليس الفعل المتعلق بملحمة «الإلياذة» هو «حرب طروادة»، التي لا يمكن أن تكون مبحثا واحدا، وإنما غضبة آخيل. ففي الملحمتين نكتشف كل شيء عن هذين الفعلين، من البداية إلى النهاية، في ثلاثة أجزاء ليست قابلة للتبادل فيما بينها.
وتظل تلك هي عناصر الحبكة في الأدب الروائي المعاصر، الذي يعد الفيلم الروائي الطويل، بفارق شاسع، أهم قوالبه. والحبكات في الأفلام الروائية الطويلة تتبع صيغة صارمة؛ إذ تقسم إلى ثلاثة أجزاء تفصلها «نقطة تحول في الحبكة»، أي حدث يغير وجهة القصة. في فيلم مدته 120 دقيقة، تظهر نقاط تحول الحبكة الأساسية في الدقيقتين الثلاثين والتسعين وثمة نقطة تحول ثانوية في الدقيقة الستين، التي تمثل منتصف الفيلم.
إن كلا من «الإلياذة» و«الأوديسة» تفوق الفيلم الروائي الطويل طولا بثماني أو تسع مرات، ولكنهما تندرجان ضمن البنية الثلاثية نفسها. في الجزء الأول من «الإلياذة»، يتنازع آخيل مع قائده، الذي يأخذ منه محظيته. وتلك هي نقطة التحول الأولى في الحبكة، التي تنعطف بالأحداث منتقلة إلى القسم الأوسط بالغ الطول، الذي تمثله الكتب من الثاني وحتى السادس عشر، حيث تتحول دفة القتال ضد اليونانيين. وينقسم القسم الأوسط إلى نصفين عند نقطة المنتصف بحدث إرسال البعثة غير المثمرة إلى آخيل في الكتاب التاسع، الذي يمثل نقطة تحول ثانوية للحبكة. ويعد موت باتروكلوس في الكتاب السادس عشر هو ثاني نقاط التحول الرئيسية في الحبكة، الذي ينعطف بالقصة إلى شطرها الثالث الذي ينتقم فيه لباتروكلوس، ويذهب عن آخيل غضبه أخيرا.
تملك «الأوديسة»، شأنها شأن «الإلياذة»، بنية ثلاثية. فالبداية مخصصة لتليماك؛ حيث فوضى وبلبلة في البيت وابن يحاول العثور على أبيه. في نقطة التحول الأولى في الحبكة يهرب أوديسيوس من جزيرة الحورية كاليبسو وتتحول وجهة القصة ونحن نستكشف جهود أوديسيوس للعودة إلى بيته ووطنه، ليكون الإفصاح عن هويته على جزيرة فياشيا هو نقطة التحول الوسطى في الحبكة، التي بعدها يصف أوديسيوس رحلاته، ذاك الذي يعد بمثابة رجل ولد من جديد على وشك دخول بيته ووطنه اللذين غادرهما منذ زمن بعيد. القسم الثالث والأخير تدور أحداثه على جزيرة إيثاكا. يلقى الابن أباه، تلك هي نقطة التحول الثانية في الحبكة، ومعا يسويان الصراع بين أولئك الذين يسلكون مسلكا يتعارض مع العدالة، ويأخذون ما ليس لهم، وأولئك الذين يدافعون عن بيوتهم وزوجاتهم في مواجهة الاعتداء على حرماتهن. (5) هوميروس والنوع الأدبي
كثير من الكلمات التي نستخدمها لوصف، أو مناقشة، الأدب القديم ليس لها نظير في اللغات القديمة، ويشمل ذلك أغلب مصطلحات النقد الأدبي المعاصرة (على سبيل المثال، «التناص»
Intertextuality ، و«ما وراء المسرح/الميتامسرح»
metatheatre )؛ وكلمات ذات أصل يوناني اتخذت عندنا معنى مختلفا. وكلمة
Epic «ملحمة/ملحمي » هي واحدة من تلك الكلمات، التي نستخدمها للدلالة على نوع أدبي رئيسي من الأدب القديم استهله هوميروس. بيد أن اليونانيين لم يملكوا كلمة تكافئ لفظة «القصص الشفاهية» ولم يقسموا القصص التي رووها إلى أنماط أو أنواع مثل «الملاحم». أما في مجال الترفيه المعاصر، يحدد النوع بعناية؛ فإذا ذهبت إلى مشاهدة فيلم رعب، لا تتوقع أن ترى حبيبين تتعانق أيديهما في المرج (إلا في حالة ظهور وحش يقطعهما إلى نصفين!) إذن فالنوع الفني هو ما يتوقعه الجمهور، وأعني شيئا مختلفا تماما عن بندار، الذي يمتدح الرياضيين في أبيات معقدة مناسبة للرقص، وعن هوميروس، الذي يستكشف عوالم رحبة ذات أبعاد ليس لها مثيل، وهو ما نعتبره سمة مميزة «للملاحم».
لا شك أن المشاهدين اليونانيين كان لديهم توقعات مختلفة في ظروف مختلفة ومواضع مختلفة، ولكن لم يكن لديهم تصنيف من قبيل الشعر «الملحمي»
Epic . ويشتق مصطلح
Epic
في اللغة الإنجليزية من الكلمة اليونانية
epos ، والتي تعني «كلمة»، بيد أنه في ملحمتي هوميروس، تقتصر كلمة
epos
في صيغة المفرد على الإشارة إلى الحوار العادي. أما في حالة الجمع، يمكن للفظة
epea
في ملحمتي هوميروس أن تمثل مرادفا للفظة
muthos ، التي تعني «قول قاطع» في القصائد الهوميرية (ولكنها تعني «حبكة» في كتابات أرسطو). في كتابات أرسطو أصبحت
epea «كلمات» تشير إلى أي شيء له علاقة بالشعر السداسي التفعيلات الدكتيلية، وهو تعريف اصطلاحي خالص؛ لأن شتى صنوف النظم وضعت في قالب الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية، بما في ذلك قصيدة هيسيود التوجيهية/التقويمية «الأعمال والأيام»، بل الأطروحات العلمية. يفرق أرسطو بين كلمة
epea ، التي هي أعمال أدبية منظومة على الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية، وكلمة
tragoidia ، وتعني «الأغنية العنزية»، أي التراجيديا، حيث الوزن مختلف عن الوزن السداسي التفعيلات الدكتيلية؛ بيد أن هذا التمييز يشبه تمييزنا نحن ما بين الفيلم والرواية، أي تمييز متعلق بالوسائط وليس بالنوع. ولم تؤد مكانة هوميروس - أي دوره بصفته من عرف الهيلينية ونسبها إلى الهيلينيين - إلا لاحقا، في العصرين الهيليني والروماني، إلى معادلة طابع قصائد هوميروس بنمط نوعي من الشعر يمكن تعريفه على هذا النحو؛ فقد بدأنا نسمع عن
epikê poiêsis «الشعر الملحمي»، الذي يعني «قصيدة سردية ممتدة تستخدم لغة راقية أو مفخمة، وتحتفي بمآثر بطل أسطوري أو تقليدي.» وقد أثار استنباط فئة أدبية عامة من القصائد الهوميرية ذهولا بالغا في أوساط الباحثين الذين يذهبون إلى أفريقيا المعاصرة أو الهند أو أمريكا الشمالية بحثا عن «ملاحم شفاهية»؛ فما يعثرون عليه لا يماثل على الإطلاق القصائد الهوميرية. (6) هوميروس والأساطير
رأينا سابقا كيف استخدم أرسطو الكلمة اليونانية
muthos
بحيث تعني «حبكة»، وهي بنية ثلاثية موجودة في القصائد الهوميرية وفي التراجيديا. بيد أن «أسطورة» تعني لنا قصة تقليدية، تنوقلت عبر الزمان والمكان بالاستعانة ليس عن طريق الكتابة، وإنما بالتناقل الشفاهي. ولقد توصلنا إلى تعريفنا عبر التحليل العلمي الحديث؛ ففي دراستنا للقصائد الهوميرية نعتبر أن الأسطورة هي الإطار الذي يحتوي حكايات منقولة شفاهيا، يتشاركها الشاعر بطريقة ما مع جمهور من رجال أرستقراطيين، وإن ندر ما يستطيع الشاعر تقديمه من تفصيلات.
بينما يوجد مؤلفون للقصائد، مثلما صاغ هوميروس «الإلياذة»، فإن الأساطير ليس لها مؤلفين. ويظل هذا صحيحا حتى وإن كان محتما أن شخصا ما قد روى القصة لأول مرة. ولأن الأساطير ليس لها مؤلفين، فلا يوجد مقصد للمؤلف، ولا غرض أصيل لرواية القصة. ولكن عندما يسرد هوميروس أسطورة، فإن القصة تكتسب غرضا لذلك السرد؛ فهوميروس مؤلف، أي إنه عقل متفرد يمتلك غاية متفردة.
تعيش الأساطير فقط عندما يكون من الممكن أن يعاد حكيها، ومن ثم يمكن مواءمتها لتتناسب مع الظروف المتغيرة. ولعدم وجود قصة أصلية، فإننا بحاجة لاستيعاب الأسطورة باعتبارها تقليدا ينطوي على تنوع؛ أي إنه لا وجود لما يسمى صيغة «أصلية» للأسطورة، مثلما كان هناك في حالة نص القصائد الهوميرية، أما الأسطورة فدائما ما تكون مجموعة من التنويعات. ومما يؤسف له أن الفشل في استيعاب الفارق بين الأسطورة وقصائد هوميروس قد ضلل بعض المعلقين وساقهم إلى الاعتقاد بأن قصائد هوميروس، هي أيضا، «مجرد تقليد» وأن هوميروس هو «رمز لذلك التقليد».
والمفارقة أنه لا يمكن لنا مطلقا أن نطالع الأسطورة على نحو مباشر؛ لأنها لا توجد إلا ضمن تنويعات محددة، أيا كان ما تصادفه وفي أي وقت كان، وفي دراستنا للعالم القديم، نجد تلك التنويعات دوما في صورة مدونة. ومع ذلك فإن الأسطورة، التي هي عبارة عن قصة ذات بنية، تقبع متوارية وراء كل تلك التنويعات. لنتأمل، مثلا، أسطورة أوديب. يحكي لنا هوميروس (في الأوديسة، 11، 348-360) أن أوديب تزوج أمه وقتل أباه، ولكنه لا يذكر شيئا بشأن فقء أوديب عينيه، وهو الأمر الذي من أهميته في رواية سوفوكليس ذائعة الصيت للقصة كان ذروة الأحداث. وكلتا الصيغتين تمثل «أسطورة أوديب» بصرف النظر عن الفروق بينهما.
في المثال الوحيد على وجود شكلين مختلفين لأسطورة واحدة في كل القصائد الهوميرية، نعرف في الكتاب الأول (الأبيات 586-594) من «الإلياذة» أن زيوس الغاضب أمسك هيفايستوس ذات مرة من قدمه وقذف به من جبل الأولمب، ولعل هذا هو مصدر عرجه (لا يقول هوميروس ذلك). وفي الكتاب الثامن عشر (الأبيات 394-397) نكتشف أن هيرا أم هيفايستوس ألقت به من السماء، اشمئزازا من عرجه. لا هذه ولا تلك هي الأسطورة الصحيحة عن «طرد هيفايستوس»، ولكن كل واحدة منهما هي تنويع استمده الشاعر من «مستودع من التقليد» يجسده على أنه الوحي (إله الإلهام): مصدر كل ما يعرفه ويقوله. علاوة على ذلك فإن كل شاعر شفاهي يضيف باستمرار لهذا المستودع، أو يغير من خصائصه، إذا كان شاعرا عظيما ويتمتع بالتأثير. نعم إن التقليد شيء حقيقي، ولكنه ليس موجودا إلا في أفواه وعقول الشعراء الذين يجسدونه، لا في أي مكان آخر.
يقسم النقاد المعاصرون الأساطير تقليديا إلى ثلاثة أنواع، حسب محتواها وطبيعة الشخصيات الفاعلة فيها. تختص «الأساطير الإلهية» بالآلهة وتصرفاتهم؛ وتختص «أساطير الأقدمين» بمآثر رجال ونساء عظام عاشوا منذ زمن بعيد؛ وتتعلق الحكايات الشعبية ببشر عاديين أو حيوانات. تختلف أساطير الأقدمين عن التصنيفين الآخرين نظرا لزعم صحتها تاريخيا. تصنف «الإلياذة» و«الأوديسة» ضمن أساطير الأولين، وطالما تقبلهما اليونانيون باعتبارهما قصصا تاريخية، على الرغم من تضمنهما لبعض الأساطير الإلهية والحكايات الشعبية. فقصة إسقاط هيفايستوس من السماء أسطورة إلهية. تحتوي «الإلياذة» على نزر يسير جدا من الحكايات الشعبية، في حين أن «الأوديسة» في مجملها، على النقيض، هي شكل مختلف من «نوع» من الحكاية الشعبية يدعوه الباحثون «عودة الزوج إلى الديار» (يوجد مئات الأنواع من الحكايات الشعبية في الأدب الشعبي العالمي). و«الفكرة النمطية (الموتيفة)» المحورية للحكاية الشعبية في القصة هي «قدوم الزوج للديار في نفس الوقت الذي كانت فيه الزوجة على وشك الزواج من آخر». وهذا النوع الرائع من الحكايات الشعبية موجود على نطاق جغرافي شاسع، من أيسلندا إلى إندونيسيا، ونال الكثير من المعالجات الأدبية. تظهر تنويعات عديدة، تحتوي على تشابه ملحوظ مع «أوديسة» هوميروس، في التقليد السلافي الجنوبي الذي درسه باري ولورد. لاحقا سيكون لدينا المزيد مما سندلي به بشأن الأسطورة في قصائد هوميروس. (7) الخلاصة: إنجاز هوميروس
عادة عندما ندرس عملا أدبيا يكون لدينا بعض المعلومات حول توقيت إنشائه، ومكان تأليفه، وكيفية انتشاره. في حال قصائد هوميروس ليس لدينا أي من هذه المعلومات. فهو ينتمي إلى مرحلة قريبة من بداية معرفة الأبجدية الغربية، ولكن كيف ولماذا؟ إن قصائده أطول بكثير من أن تكون مألوفة أو اعتيادية. وبعد ألفين وخمسمائة سنة من البحث المكثف ما زلنا لا نستطيع أن نجزم بالغرض الذي من أجله نظمت هذه القصائد.
إن أعظم العقبات التي تعترض الفهم نتجت عن توقع كل جيل أن هوميروس كان يتصرف مثلما نتصرف، ومثلما يتصرف أولئك المحيطون بنا. وكأنه جلس على منضدة وكتب قصيدتين طويلتين ومعقدتين؛ وقرأهما الناس، وقلدوهما، واقتبسوا منهما، وأحبوهما. بيد أن أدلة دامغة تكشف عن أن ذلك لم يحدث على الإطلاق. لقد جاء هوميروس من عالم لا يسعنا إلا التخمين بشأنه، وهو العالم الذي يقع زمنيا على مشارف معرفة الأبجدية اليونانية.
وفقا لتفسير يبدو مقنعا، يمكننا القول إنه أملى قصائده على شخص ما، وقد يكون ذلك حدث على جزيرة عوبية في أواخر القرن التاسع أو أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. ولا شك في أنه قد آل إليه تقليد بالغ القدم من النظم الشفاهي للأنشودات تعود جذوره إلى بلاد ما بين النهرين. وعلى مدى مئات الأعوام كان هذا النوع من الأنشودات، نوعا ما، يدون بخط سامي غربي أو فينيقي؛ وبعد ذلك دونت كلمات هوميروس بالأبجدية اليونانية التي كانت جديدة تماما وقتئذ، والتي تعد أول تقنية قادرة على حفظ ملامح تقريبية للسمات الصوتية للكلام البشري. ومن ثم كانت القصائد، أو أجزاء منها، أساس التعليم اليوناني ثم الروماني. وحتى في وقتنا الحالي تعتبر القصائد الهوميرية محورية للتعليم الإنساني.
حالما نضع هوميروس الإنسان في زمنه الصحيح، يمكننا أن نعتبره شاهدا على أسلوب حياة اليونانيين في ذلك الوقت، ولكن كي نفعل ذلك علينا أولا أن نجرده من عناصر الصنعة الأدبية التي أضفى بها على قصصه سمة التشويق وهي: الحبكة، والشخصية، وجمال العبارة، والأسطورة، والخيال، والصراع الشعوري والأخلاقي، وتسوية الصراع. لو كان هوميروس قد افتقر إلى تلك الصنعة الأدبية، لما اتسم بهذا القدر من التشويق بالطبع، أو يمكننا القول إنه لم يكن سيصبح له وجود على الإطلاق؛ لأنه لا بد وأن عظمة هوميروس «كمنشد ملحمي» هي السبب وراء تكبد شخص عناء إنشاء نصوص من شعره من الأساس.
ولما كانت الاستعراضات العامة المتعلقة بفقه اللغة والتاريخ والأدب لقصائد هوميروس مثيرة لقدر كبير من الاهتمام، يتعين علينا الآن أن نفحص بتدقيق أكبر عناصر الصنعة الأدبية لنرى الكيفية التي تعني بها هذه القصائد ما تعنيه، منتقلين من مشهد إلى مشهد ومن تعاقب إلى تعاقب. دعونا نتابع الاستعراض التفصيلي للشاعر، مبدين، ونحن نمضي قدما، ملاحظات على مسائل اجتذبت اهتمام مؤرخين أدبيين، يعود بعضهم إلى أقدم العصور. وإن كان لنا أن نجد إنجاز هوميروس الباقي على مر الزمن، فلسوف نجده ها هنا.
الجزء
القصائد
الفصل الرابع
الإلياذة
تتسم «الإلياذة» بأنها هائلة الطول إلى حد يجعلها مستعصية على الفهم السريع. وإذ نستحضر إلى ذاكرتنا أن تقسيم الكتب إلى أربعة وعشرين جزءا وفقا لحروف الأبجدية اليونانية جاء بعد وقت طويل من إملاء هوميروس لنصه، فبوسعنا مع ذلك أن نرى أن هوميروس يعمل/يدخل وحدات ذات نطاق واسع، وأحيانا قائمة بذاتها، في بنائه لحبكته. هذه الوحدات، أو المشاهد ، كانت واضحة بما فيه الكفاية لمن قسم الملحمتين الشعريتين، أيا كانت ماهيته، إلى أربعة وعشرين كتابا لكل منهما؛ لأن الوحدة الواحدة غالبا ما سوف تكون بطول كتاب. وكان لدى اليونانيين أسماء لهذه الوحدات، مثال ذلك «هيلين على الأسوار»، و«المعركة عند السفن»، و«معركة الآلهة». وكان لبعض هذه الوحدات، دون شك، منزلة مستقلة في التقليد الشفاهي أو ربط بوحدات أخرى بطرق مختلفة على يد منشدين مختلفين في أوقات مختلفة. في أيام التحليل الهوميري، كان يعتقد أن هذه الوحدات شكلت قصائد منفصلة جمعها المنقحون لينشئوا النص الذي وصلنا، ولكن لم يعد أحد يعتقد بذلك الآن.
في الواقع أن كل ملحمة من الملحمتين الشعريتين الهوميريتين هي، دون شك، عبارة عن وحدة واحدة، ووحدات السرد التي أميزها فيما يأتي هي لمعاونتنا على فهم هذه القصيدة التي أحيانا ما تكون صعبة التناول. وسوف أستخدم عناوين لهذه الوحدات، وغالبا ما ستكون من ابتكاري. (1) الابتهال: «غضبة آخيل» (1، 1-7)
إننا نقرن طول «الإلياذة» الهائل الذي يصل إلى حوالي 16 ألف بيت بالنوع الأدبي المسمى «الملاحم». ويكمن الخطر في الملحمة في افتقاد الخيط السردي (حبكة القصة)، بيد أن الاستهلال يضع القصة مباشرة أمام أعيننا. إن أول كلمة في القصيدة باليونانية هي «غضبة» (mênis) : وكأنه يقول إن ما يلي هو قصة عن «الغضب» وما يصنعه «الغضب» بك، كما سوف يتضح من معرفة مصير آخيل، ابن بيليوس: «غني يا ربة [الشعر]، غضبة آخيل، ابن بيليوس.» و«ربة الشعر» هي ذلك الكائن الغامض الذي يجسد قدرة المنشد الملحمي على الاستفاضة والتوسع في ارتجال أنشودة ما ارتجالا وليد اللحظة؛ فهي سوف تعينه على أن يحكي عن كيفية نشأة الغضب وعن كل الضرر الذي ألحقه.
ومتى بدأ هذا الغضب؟
منذ أن وقع النزاع بين أتريوس، ملك الرجال، وآخيل الرائع. (الإلياذة، 1، 5)
لا يشرع هوميروس في قصته «في وسط الأحداث» كما يزعم كثيرا، وإنما يبدأ من البداية، من التنازع بين آخيل وأجاممنون. تحدث قصة غضب آخيل ، من بدايتها إلى نهايتها، خلال بضعة أيام على ما يبدو في السنة العاشرة للحرب (الإلياذة، 2، 134). ولكن ما الباعث على هذا التنازع؟ (2) «فدية خريسيس» (1، 8-611)
كان الإله أبولو هو من تسبب في اشتداد الأزمة. كان الكاهن خريسي قد قدم إلى المعسكر اليوناني ليسترد ابنته خريسيس، التي أسرت في إحدى الغارات، ولكن خريسيس الآن كانت ملكا، «غنيمة» (التي تكافئها كلمة
geras
باليونانية) لكبير قادة الحرب أجاممنون. وغنيمة أحدهم هي برهان ظاهر وواضح على ما له من
timê (tēmā) ، وهي كلمة عادة ما تترجم «سؤدد/شرف» ولكنها تعني «حظوة» أو «وجاهة».
يأمر أجاممنون خريسي بمغادرة المعسكر على الفور. ويغادر بالفعل، ولكنه يبتهل إلى أبولو، الإله الذي يخدمه، والذي من أجله سقف مزارا مقدسا. وينتصر تأثير خريسي الخاص، وصار الإله هو الذي يخدمه الآن. يطلق أبولو سهاما فتاكة على الحيوانات أولا، ثم على البشر، كناية عن الطاعون.
بحكم سلطته، يدعو آخيل، الذي يشغل منصب قائد حربي من منطقة ثيساليا إلى جانب كونه ملكا أو بالأحرى زعيما (المرادف اليوناني هو كلمة
basileus ، التي منها جاءت أسماء الأشخاص «فاسيلي»
Vasily
و«باسيل»
Basil )، إلى اجتماع لمناقشة الخطر المشترك. ويكشف النبي كالخاس، الذي كان محجما في البداية، أن الخطأ يقع على عاتق قائدهم، وأن رفض أجاممنون التخلي عن خريسيس تسبب في الطاعون.
يوافق أجاممنون، في ظل عجزه عن مناهضة المصلحة العامة، على التنازل عن الفتاة، شريطة أن يعطى «غنيمة» أحد ما حتى لا يصير، وهو أعظم الملوك قاطبة، بلا سؤدد. وإن استلزم الأمر، فسيصل به الأمر إلى أن يأخذ بريسئيس، غنيمة آخيل، في القسمة العادلة للغنائم. فيؤدي وعيد أجاممنون، وتهديده الصريح «لغنيمة» آخيل إلى رد فظ من آخيل، يحدد فيه بوضوح بنود الخلاف بينهما:
فنظر إليه آخيل ذو القدمين السريعتين شزرا وقال له: «آه، المتلحف بقلة الحياء، المنشغل بالغنائم، كيف لأي رجل من الآخيين أن يطيع كلماتك بقلب متلهف، في الارتحال أو في قتال رجال أشداء؟ أنا لم آت هنا من أجل قتال حاملي الرماح الطرواديين؛ فهم لم يسيئوا لي. ولم يشتتوا ماشيتي ولا خيولي ولا أفسدوا محاصيلي في أرض فثيا [في ثيساليا] الخصبة، راعية الرجال . فثمة الكثير مما يفصل بينا وبينهم؛ كالجبال الظليلة والبحر الهادر. ولكننا، يا من لا يعرف الخجل، تبعناك لنرضيك، يا ذا العينين الكلبيتين، وأنت تسعى للظفر بالشرف لمينلاوس ولنفسك من الطرواديين. إنك لا تفطن لهذا الأمر. والآن تهدد بأن تأخذ مني غنيمتي، التي جاهدت جهادا مريرا لأنالها، التي منحني إياها أبناء الآخيين. وأنا الذي لم أحصل أبدا على غنيمة مثل غنيمتك، عندما سلب الآخيون حصنا منيعا للطرواديين. أنا الذي أتحمل وطأة القتال الضاري، ومع ذلك عندما يحين وقت توزيع الغنائم، تكون غنيمتك أنت أكثر بما لا يقاس، بينما أعود أنا إلى سفني بغنيمة أصغر ولكنها غالية على نفسي، بعدما يكون قد أعياني الجهد في القتال. أما الآن فإني سأعود إلى فثيا. إن العودة إلى الوطن في سفني ذات المقدمات المعقوفة أفضل كثيرا، ولا أنتوي وأنا هنا مهان أن أكوم لك الغنى والثراء.» (الإلياذة، 1، 148-171)
يهدد آخيل مباشرة سلطة أجاممنون، بهجوم جبهوي مباشر، ويتملك الغضب أجاممنون. إنه بالفعل سوف يأخذ فتاة آخيل، بريسئيس. ويستل آخيل، الغاضب هو الآخر، سيفه ليقتل أجاممنون، وهو الأمر الذي قد يبرره حرصه على الظفر بالشرف. الموقف يخرج عن السيطرة: إن قتل آخيل أجاممنون، فستنهار الحملة وسيخسرون الحرب (ولن يكون ثمة قصة تروى). غير أن أثينا، التي لا يراها إلا آخيل وحده، تجذبه من شعره وتوقف يده، وتقول له إنه إن رضخ الآن، فسوف ينال لاحقا من التشريف أكثر من أي وقت مضى ويحصل على ثلاثة أضعاف من الغنائم.
يرضخ آخيل بالفعل. يمكن لأجاممنون أن يأخذ بريسئيس، ولكن المقابل هو بحر من الغضب يستنزف آنذاك كل كيان آخيل. لقد تعرض للإهانة على رءوس الأشهاد. لن يقاتل بعدئذ لأجل حثالة مثل أجاممنون وغايته الرخيصة. قريبا سوف يندم الملك أجاممنون، وكل من سمحوا له بأن يتصرف بهذه الطريقة، أن آخيل لن تطأ قدماه ساحة القتال بعد الآن. يحاول نيستور، الذي يمنحه عمره المديد حكمة واعتبارا، تهدئة القائدين، ولكن الأمور كانت قد تجاوزت الحد ويفترقان غاضبين.
هكذا تبدأ القصة. يقع ذلك الفيض من الأحداث في أقل من 300 بيت، ويعد واحدا من تسلسلات الأحداث العظيمة في الأدب. يعرف هوميروس، مبتكر الحبكة الأدبية، القصة ذات المأزق المزدوج: أي أيا كان الاتجاه الذي تسلكه الشخصية، فإنها هالكة. وهو تصور يوناني الخصائص. فنحن نتعاطف مع آخيل، ونعتقد أن أجاممنون يعامله بإجحاف، ولكن ما الخيار الذي يملكه أجاممنون؟ إذ لا بد أن يستبدل أجاممنون غنيمته
geras ، التي يجبره الطاعون على التنازل عنها، وإلا فسوف يصير بلا سؤدد، وهو أمر من غير المحتمل أن يليق بقائد حملة دولية في عالم كل السلوك فيه موجه صوب الظفر بالسؤدد. فالسؤدد يولد «الشهرة/الذكر» والتي تكافئ كلمة
kleos
باليونانية، والتي تعني في واقع الأمر «ذاك الذي يسمع»، ومصدرها
kluo «يسمع». فأنت تمتلك شهرة
kleos
عندما يتغنى «منشد ملحمي»
aoidos
بمآثرك، وعبر الشهرة
kleos
تظل حيا (مثلما ما زلنا إلى يومنا هذا نذكر آخيل). بهذه الطريقة يتحدى المحارب العظيم لعنة فناء البشر. يقول هيكتور عندما يطرح على الآخيين تحديا من أجل أن يواجهه أحدهم في مبارزة قوية:
ولكن إن سلبته حياته، ومنحني أبولو مدعاة للتفاخر، فسأجرده من درعه وأحمله إلى إليون المقدسة، وأعلقه أمام معبد أبولو، الإله الذي يرمي عن بعد. وأما جثته فسأعيدها لتؤخذ بين السفن ذات مقاعد التجديف الجيد، لكي يدفنه الآخيون ذوو الشعور المنسدلة، ويجمعوا له
sêma [مرادفها «إشارة/شاهد»، ويعني كومة تراب] قرب شاطئ بحر هيليسبونت الرحب. وذات يوم سوف يقول شخص ما، من الأجيال القادمة، وهو يبحر بسفينته ذات مقاعد التجديف الكثيرة في البحر القاتم بلون الخمر: «هذا شاهد قبر رجل مات في الأيام الغابرة، قتل وهو في أوج عظمته (أوج العظمة يكافئه كلمة
aristeia )، على يد هيكتور المجيد.» هكذا سيتحدث رجل ما ذات يوم، ولن ينقطع ذكري أبدا. (الإلياذة، 7، 87-91)
إن تنازله عن فتاته والتي هي غنيمته لأجاممنون هو أمر شأنه شأن التنازل عن الهدف من الوجود. ومن الناحية الأخرى، كان يمكن له أن يتصرف بطريقة أكثر لباقة (ولكن ذاك كان من شأنه أن يقوض القصة).
يحاول نيستور أن يوقف هذا التنازع المحفوف بالمخاطر بتذكيره للقائدين بهدفهما المشترك، وهو الاستيلاء على طروادة، التي سيسر حكامها بمثل هذا الشقاق. بيد أنه لا هدف مشترك يمكن أن يطغى على النزاع الشخصي. لا يوجد في عالم هوميروس حكومات، تلك القوة المركزية التي من شأنها كبح رغبة الفرد في فرض إرادته على العالم. إن الحملة على طروادة تواجه خطر التفكك والتشرذم.
يعيد الآخيون (ويدعون أيضا الدانانيين أو الأرجوسيين) خريسيس إلى أبيها، ويأخذ المرسلون بريسئيس من كوخ آخيل. ويمضي آخيل ليجلس وحيدا على شاطئ البحر. ويذرف الدمع وينادي أمه الإلهية ثيتيس، وهي حورية من حوريات البحر، قائلا:
أماه، بما أنك حملتني، وإن كان حدث لحياة قصيرة، فإنه كان يجب على سيد الأولمب، زيوس مطلق الرعد من الأعالي، أن يضع السؤدد بين يدي، ولكنه لم يقدم من ذلك ولا النزر اليسير. بل إن ابن أتريوس، أجاممنون ذا السلطان المديد، قد سلبني سؤددي، بأخذه غنيمتي بفعلته المتغطرسة واحتفاظه بها. (الإلياذة، 1، 352-356)
تأتي ثيتيس من البحر لتواسيه. ويطلب منها آخيل أن تتشفع إلى زيوس، الذي تتحقق مشيئته دوما، بأن يسقط الآخيون، حلفاؤه السابقون، أمام ضراوة الطرواديين. أما من جانبه هو، فلن يقاتل معهم بعد ذلك.
يختم هوميروس الوحدة (المشهد) بتضرع ثيتيس المستجاب إلى زيوس وبشكوى هيرا التالية بشأن تأثير النساء الأخريات. وفي النهاية يرد هيفايستوس المصلح الأعرج، الذي نجح في مسعاه أكثر مما فعل نيستور على الأرض، سكان الأولمب إلى كئوسهم وإلى عقولهم. (3) «الحلم الملفق» (2، 1-440)
يقدم مشهد «فدية خريسيس» إيضاحا بشأن منشأ التنازع بين آخيل وأجاممنون، ورفض آخيل الغاضب للقتال هو نقطة التحول الأولى في الحبكة؛ إذ يتبدل الآن اتجاه الأحداث تماما. في الفيلم الروائي الطويل الحديث يطلق على السرد حتى نقطة التحول الأولى في الحبكة «التمهيد أو التأسيس» وتستغرق ربع الفيلم، أي حتى الدقيقة الثلاثين. يتسم تمهيد هوميروس بأنه مضغوط على نحو هائل، الأمر الذي يعطي استهلال الشاعر قوة عظيمة؛ فأمور كثيرة تحدث بسرعة كبيرة.
لا بد لتسلسل المشاهد الذي يتبع انسحاب آخيل أن يبين كيف ألحق زيوس الهزيمة بالآخيين، حسب طلب آخيل من ثيتيس وطلب ثيتيس من زيوس. إن الأمر الوحيد الذي يمكن أن يطفئ غضب آخيل هو موت أصدقائه. ومع أن هوميروس لا ينسى مطلقا مقصده، فإنه الآن ينتهز الفرصة ليروي «قصة حرب طروادة»، ووجود آخيل لا يستشعر إلا بالكاد لفترة طويلة جدا. من الأمور المستحيلة في فيلم معاصر أو رواية معاصرة أن تسقط شخصية رئيسية لثلث القصة، مثلما يسقط آخيل هنا. ومع ذلك فإن تسلسل المشاهد - التي يربط بينها خيط سردي أحيانا ما يكون خفيا - بالفعل يعطي الإحساس بأن الوقت يمر وأن أمورا تحدث بينما آخيل يمضي الوقت مكتئبا في خيمته.
ومن أجل أن يحقق زيوس مقصده المتمثل في معاقبة الآخيين، حسب طلب ثيتيس، يقرر أن يرسل حلما ملفقا إلى أجاممنون. وفي اليوم التالي مباشرة لليوم الذي يستطيع فيه نهب طروادة، سيهمس بالحلم الملفق. من الواضح أن مقصد زيوس هو استدراج الآخيين إلى العراء في انتظار النصر حيث يكونون عرضة لغضب الطرواديين، كما لو كانوا بحاجة لأن يستدرجوا إلى القتال.
يقدم هوميروس الخديعة في صورة ساخرة؛ فيدبر أجاممنون الأخرق، بعد تلقيه للحلم، خطة حمقاء ليعكس رسالة الحلم (الملفق)؛ إذ سوف يخبر القوات أنهم لن يستولوا «أبدا» على طروادة! ظنا منه أن هذا القول سيحفزهم لا محالة على القتال بضراوة أكثر فحسب. بدلا من ذلك يهرب المحاربون الآخيون وهم يصرخون في فوضى عارمة عائدين إلى القوارب، متلهفين للإبحار إلى ديارهم، في فرار جماعي من أجل السلام. ولا يستطيع إيقافهم إلا الداهية أوديسيوس.
إن التسلسل في مجمله طرفة والغرض منه إثارة الضحك؛ إذ تكمن الفكاهة، وهي الشيء الذي يجعلك تضحك أو تبتسم، في الشعور بالتناقض، وثمة الكثير منها في «الإلياذة» (ولكن ليس لها وجود تقريبا في «الأوديسة»). من المفترض أن الآخيين المدرعين بالبرونز لا يتوقون إلى شيء في الحياة أكثر من السؤدد الذي يمكن للبسالة في القتال أن تجلبه، ومع ذلك ففي لحظة وبسبب سوء فهم يهربون مذعورين! إن جمهور هوميروس يطل برأسه عبر هذا المشهد؛ فالطرفة تروق للمقاتلين الذين شعروا بحاجة ماسة إلى مجرد الهرب. وقد كان مقدرا للشاعر الجندي أرخيلوخوس، الذي ربما يكون قد عاش في القرن السابع قبل الميلاد، أن يكتب قصيدة شهيرة يتفاخر فيها بأنه ألقى درعه وهرب؛ إذ كان في استطاعته دوما أن يحظى بآخر، كما أن شعراء آخرين في أزمنة لاحقة تباهوا بالأمر ذاته؛ فالمحاربون الحقيقيون يعرفون قدرا كبيرا للغاية عن الحرب يجعلهم لا يصدقون أن بها صلاحا، وما قد ندعوه الموضوعات المناهضة للحرب كان دوما جزءا من ثقافة المحارب اليوناني.
ينتزع أوديسيوس الصولجان، رمز السلطة، من أجاممنون المرتبك ويستعيد النظام. ويجلس الجميع باحترام عدا ثرسيتيس، «أقبح رجل أتى إلى طروادة»، الذي كان هدفا للسخرية بجسده المشوه ورأسه المدبب. فهو المقابل لآخيل، الذي قيل عنه إنه «أكثر الرجال الذين أتوا إلى طروادة وسامة.» وأورد التراث في أزمنة لاحقة أن آخيل قتل ثرسيتيس؛ لأنه تهكم على آخيل بسبب اشتهائه بينثيسيليا الملكة الأمازونية (التي قتلها آخيل). واعتبر معلقون كثيرون أن ثرسيتيس هو الفرد الوحيد الذي ذكر اسمه، باليونانية
dêmos ، من «الناس» العاديين (جنود الصف) بسبب وقاحته وقبحه. ومع ذلك فإن تسلسل نسبه يبدو كتسلسل نسب أي أحد آخر. كذلك لسنا متيقنين تماما من المقصود بلفظة «عاديين/جنود الصف» في القتال الهوميري. يتبرم ثرسيتيس بشأن الحرب وسلوك أجاممنون تجاه آخيل إلى أن يلطمه أوديسيوس بصولجان أجاممنون الملكي، مخلفا كدمة كبيرة، ويضحك الجميع كثيرا.
يغتنم أوديسيوس الفرصة ليوضح المسلمات السياسية التي يعيشون في ظلها: لا يمكن للجميع أن يصيروا ملوكا! يذكر أوديسيوس الجيش وجمهور هوميروس بمبتغاهم من هذه الحرب وبحتمية النصر في نهاية المطاف. من المقرر للقتال أن يبدأ. (4) «قائمة السفن» (2، 441-887)
لتمجيد عظمة المعركة، وتوافقا مع مبتغاه المتمثل في التراجع إلى الوراء وسرد «قصة حرب طروادة» كنوع من الحشو السردي، ولأن المادة السردية جذابة في ذاتها، يدرج هوميروس أسماء المقاتلين في «قائمة السفن». تبدأ هذه الوحدة المهمة بأشهر مجموعة من التشبيهات في القصائد الهوميرية. في البداية يشبه هوميروس القوات بالطيور والذباب:
وكما تنطلق سحائب الطير المختلفة، من إوز وكراكي وبجع طويل العنق في المروج الآسيوية قرب روافد نهر كاوستريوس [في آسيا الصغرى] وهي تتماوج في طيرانها مزهوة بقوة أجنحتها، ثم تحط في موجات متصادمة فتردد المروج أصداءها، كذلك كانت القبائل العديدة تتدفق من السفن والمقرات إلى سهل سكاماندروس، والأرض ترتج مرعدة تحت أقدامهم وتحت حوافر خيولهم. أخذوا مواقعهم في سهل سكاماندروس المزهر وكانوا بالآلاف، مثل الأوراق والزهور التي تتفتح في موسمها. ومثل الأعداد التي لا تحصى من أسراب الذباب التي تنتقل بين مرابط الحظائر في فصل الربيع حين يتطاير الحليب من أوعيته بأعداد غفيرة كهذه، هكذا وقف الآخيون ذوو الشعور المسترسلة في السهل في مواجهة الطرواديين، والقلوب تتحرق لتمزيقهم إربا. (الإلياذة، 2، 459-473) [ترجمة المجمع الثقافي السوري، ص77 (بتصرف)]
ومع استمراره في تكديس المزيد من التشبيهات التي تؤكد على عظمة الحملة، يتضرع إلى الميوزات (ربات الإلهام)، اللواتي لا بد وأن يكن معادلات «للربة» المذكورة في البيت الأول للقصيدة، أن يساعدنه على تذكر قادة الفرق المتنوعة وأعداد السفن بترتيبها.
تشتهر قائمة السفن بكونها قراءة مملة وأحيانا ما تحذف من الترجمات، بيد أنها وثيقة ذات أهمية عظيمة؛ إذ تعد أول عمل جغرافي للعالم الغربي. إن المعلومات التي تحتويها لا تتفق دوما مع المعلومات في بقية القصيدة، كما لو كان للقائمة مسار مستقل بذاته. ها هو بند نمطي، وهو البند الخاص بالعوبيين، الذين عاشوا في الجزيرة الطويلة المحاذية للساحل الشرقي لبر اليونان الرئيسي، وهو الموضع الذي استخدمت فيه الأبجدية اليونانية لأول مرة والذي قد تكون نصوص هوميروس قد خرجت منه إلى حيز الوجود:
والأبانتيون الذين ينفثون الغضب، الذين كانوا يسيطرون على عوبية وخالكيس وإريتريا وهيستيايا، الغنية بالكروم، وكيرينثوس المطلة على البحر وقلعة ديوس الشديدة الانحدار، والذين كانوا يسيطرون على كاريستوس ويقطنون في ستيرا؛ وكان يقود هؤلاء جميعا إليفينور، تابع آريس، الذي كان ابنا لخالكودون وزعيما للأبانتيين ذوي الهمة العالية. وتبعه الأبانتيون السريعو الخطى ذوو الشعور الطويلة المنسدلة على ظهورهم، الرماحون التواقون، برماحهم الطويلة المصنوعة من خشب الدردار، لتمزيق الصدارات المشدودة على صدور الأعداء. وتبعه أربعون سفينة سوداء . (الإلياذة، 2، 536-545)
ليس واضحا السبب في تسمية العوبيين بالأبانتيين. كانت خالكيس وإريتريا أقدم دويلتين متنافستين في اليونان التاريخية في اجتذاب حلفاء من الخارج، حسب كتابات المؤرخ ثوسيديديس (الكتاب 1، الفصل 15)، وكانت «الدولة المدينة» كاريستوس تقع على أقصى الساحل الجنوبي، ولكن لا أحد يعرف أين تقع الدول المدن هيستيايا، أو كيرينثوس، أو ديوس. إن المزج بين أماكن معروفة وغير معروفة هو أمر نمطي في قائمة السفن، مثلما هو ظهور أبطال شهيرين جنبا إلى جنب مع أشخاص مجهولين بالكلية من أمثال إليفينور وخالكودون.
لا بد أن قائمة السفن كانت أنشودة تقليدية في مقاطعة بيوتيا، وهي منطقة البر الرئيسي التي عاش فيها هيسيود الذي يكاد يكون معاصرا لهوميروس قبالة جزيرة عوبية. لذلك السبب، يبدأ هوميروس وصفه بالبيوتيين بدلا من أن يبدأ بالأرجوسيين، الذين قادوا الحملة، وهو الأمر المحير للمعلقين، ثم يدور عكس اتجاه عقارب الساعة جنوب غرب بيوتيا إلى الفرقة العسكرية القادمة من منطقة فوكيس، ثم شرقا إلى منطقة لوكريس، ثم أبعد شرقا إلى جزيرة عوبية، ثم جنوبا عبر جزيرة سالاميس إلى مدينتي أرجوس وميسينيا. ونحن بالتأكيد مندهشون لمعرفة أن ديوميديس يسيطر على أرجوس، في حين إن ميسينيا التي تبعد أميالا فقط هي موطن أجاممنون العظيم؛ ولكن لعلها محاولة لتوضيح أنه في زمن هوميروس كان سلطان الدوريين منبسطا على إسبرطة (مما يعني أن ديوميديس من شمال غرب اليونان، من حيث جاء الدوريون). وتهبط القائمة أكثر جنوبا إلى إسبرطة، ثم تدور مع اتجاه عقارب الساعة إلى مدينة بيلوس الساحلية، ومنطقة أركاديا الداخلية، ومنطقة إيليا الساحلية، والجزر الأيونية (ومنها إيثاكا)، عبورا إلى منطقة أيتوليا. من أيتوليا تهبط القائمة إلى الجنوب إلى جزيرة كريت، ثم تدور مرة ثانية عكس اتجاه عقارب الساعة لتضم جزيرتي رودس وكوس وجزرا أخرى بالقرب من ساحل آسيا الصغرى، ثم تعود مباشرة إلى البر الرئيسي لتضم الممالك الثيسالية شمال بيوتيا، ومنها فثيا موطن آخيل وإقليم هيلاس (الذي أطلق اسمه لاحقا على اليونان كلها)، ثم شمالا إلى إيولكوس، ثم أبعد إلى الغرب عبر سلسلة جبال بيندوس إلى منطقة شمال غرب اليونان النائية، ومنها منطقة دودونا.
ليس لدينا دليل على وجود خرائط في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن تنظيم هوميروس لجغرافية القائمة هو تنظيم مكاني؛ إذ من الممكن رسمه على خريطة حديثة. لا بد أن المسافرين كانت لديهم وسيلة ما لتنظيم المعلومات المتعلقة بالأماكن التي يزورونها، بخاصة البحارة، كما أنه لا بد وأن سلسلة أماكن هوميروس - التي تتحرك في شكل دائري، في البداية عكس اتجاه عقارب الساعة، ثم مع اتجاه عقارب الساعة - تعكس معرفة جغرافية شائعة. يتفق التركيز على بيوتيا والبيوتيين في القائمة مع الاقتراحات القائلة إن جمهور هوميروس الحقيقي ضم هؤلاء الأبانتيين أنفسهم عبر المضيق الذي يفصل بيوتيا عن جزيرة عوبية.
إن القائمة هي عبارة عن سجل طويل للغاية؛ ابتهج جمهورها بموسيقى الأسماء وما يتصل بها. والقائمة الطروادية الأقصر كثيرا، والتالية لها، هي أيضا قائمة جغرافية، ترتب الآن من الشمال إلى الجنوب، من طروادة إلى إقليم كاريا، ثم تتبع الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى إلى ليكيا، وهي الأراضي التابعة للاستيطان اليوناني في أوائل العصر الحديدي فيما بعد حوالي عام 1000 قبل الميلاد. وهذا الكم الهائل من الأسماء في كلتا القائمتين يعطينا إحساسا بعظم الحرب التي على وشك النشوب. (5) «هيلين على الأسوار» (3، 121-242)، و«المبارزة بين مينلاوس وباريس» (3، 1-120؛ 245-461)
إن آخيل في حالة حرب مع أجاممنون، ولكن الآخيين في حالة حرب مع طروادة، بقيادة هيكتور الذي لا نظير له، ابن الملك بريام. قبل أن يشتبك حشد الآخيين (عشرة رجال لكل طروادي) مع الطرواديين، وقبل أن يبدأ الصراع، نلتقي الآن مع هيكتور العظيم عندما يقف أمام الجميع ويقترح إجراء مبارزة بين الفاعلين الأصليين، باريس ومينلاوس. بالتأكيد أي مبارزة من هذا النوع تخص، منطقيا، بداية الحرب، وليس عامها العاشر. لا بد أن هوميروس كان لديه الكثير من هذه المواد في ذخيرته الأدبية، التي يعاد استخدامها الآن كعملية إرجاء لكسب الوقت من أجل خلق وهم بأن أمورا كثيرة تحدث بينما آخيل ينتظر تحقيق مشيئة زيوس. إن هوميروس ليس معنيا بمعقولية المبارزة وإنما بالحاجة إلى تأخير الحدث؛ فهو يتجاهل الواقعية من أجل تلبية الحاجة الدرامية.
يقود اقتراح المبارزة بسهولة إلى مشهد «هيلين على الأسوار». لقد سمعنا بالفعل عن هيلين. فآخيل في مذمته لأجاممنون، الذي كان يهدد بأخذ امرأته، ذكر أجاممنون بأنهم جاءوا إلى طروادة لأجل امرأة. إن الشخصية
Character (والتي تعني في الأصل
imprint «دمغة/سمة») معززة للحبكة، ولكن هوميروس لا يصف لنا أبدا الشخصية، خلافا لما يجري في الرواية المعاصرة حيث يمكننا أن نعرف أعمق أفكار بطل الرواية. بدلا من ذلك، يستعرض هوميروس أناسا يقومون بأمور ويقولون أمورا.
تسمع هيلين شائعات بشأن المبارزة وتترك مخدعها لتلحق بالشيوخ الطرواديين على الأسوار، لتطل بناظريها على السهل، ربما كما كانوا يفعلون في الأيام الأولى للحرب. وقد سبق وأن رأينا في «الحلم الملفق» قصد التسلية عن طريق السخرية من الشخصيات المثالية البطولية (فلا يليق بالأبطال أن يفضلوا الديار على الحرب) وعن طريق السخرية من ثرسيتيس مشوه الخلقة المثير للمتاعب. وتقدم وحدة «هيلين على الأسوار» التسلية بأن تعرض لنا ما لامرأة رعناء على الشيوخ من الرجال من سلطان، ولكنها تتحول إلى الجدية في صورة ذهنية للصراع الداخلي الذي يكتنف هيلين والحزن إزاء عارها.
عندما يرى بريام والشيوخ هيلين، يثرثرون بشأن مدى ما تتمتع به من جمال، بيد أنها لا تساوي ثمن الحرب. يدعو بريام هيلين إلى جانبه ويؤكد لها، وهو يقف على مقربة منها، أن ما حدث كان خارجا عن نطاق سيطرة أي أحد. ويسأل عن هوية الأبطال الواقفين بالأسفل على السهل الذين يستعدون للمبارزة، وهو ثانية أمر مناسب للأيام الأولى للحرب. وبسخرية ماكرة تشير إلى أجاممنون شقيق زوجها، وأوديسيوس (أحد الخطاب)، وأياس ابن تيلامون (المدعو أياس الأعظم)، وإيدومينيوس الكريتي. عندما لا ترى أخويها كاستور وبولوديوكيس، تخشى ألا يكونان قد أتيا لشعورهما بالعار من سلوكها؛ إذ تدعو نفسها بقولها «أنا بغي». والحقيقة أنهما قد ماتا؛ إذ قتلا وهما يقومان بغارة لسرقة الماشية، إلا أن فسق هيلين تسبب في عزلتها عن أسرتها وفجأة أصبحت بمفردها. يصف هوميروس ببراعة طبيعة شخصية هيلين لكل الأزمان في هذا المشهد القصير؛ فهي محاصرة بالافتقار إلى الثقة بالنفس والحزن، ولكنها مع ذلك امرأة تحصل على ما تريده من خلال جاذبيتها وفتنتها.
أما المبارزة فهي عبارة عن تمثيلية هزلية مضحكة بين زوج وعشيق زوجته. فشخصية باريس في القصائد الهوميرية هي شخصية زير نساء مخنث ولا قبل له بمينلاوس الضخم المفتول العضلات، الذي يطرحه أرضا ويجرجره من خوذته. ويتوغل حزام الخوذة عند الذقن في حلق باريس. وفجأة وفي لمح البصر، يختفي باريس من أمام عيني مينلاوس! أين يمكن أن يكون؟ ويفتش حوله، وهو يبدو تماما كالأحمق.
لقد جاءت أفروديت من السماء لتزيح فتاها المفضل بعيدا، حاملة إياه إلى خدر هيلين؛ فالإلهة تمثل قوة «الرغبة الجنسية» المدمرة التي لا تقاوم؛ فهي التي استدرجت هيلين إلى فراش باريس في المقام الأول، وهي التي تستطيع أن تفعل أشياء مثل هذه. لا أحد يستطيع مقاومة أفروديت، ولا حتى زيوس (كما سوف نعرف لاحقا في القصة). بيد أن الظلام والموت هما النتيجة التي تعقب الرغبة الجنسية الجامحة، بل يصل الأمر إلى حد دمار مدن بأكملها وهلاك شعوب بأسرها، وعالم ملتهب.
في المخدع تذكر أفروديت هيلين، التي كانت تجأر بالشكوى، بحاجتها إلى حماية أفروديت، فيتعين عليها أن تمضي إلى فراش باريس من فورها. يبدو على باريس بعض الاندهاش من نجاته أو من حظه الطيب أو من رغبته في معاشرة هيلين في تلك اللحظة، وهو ما يفعله بالفعل بينما زوجها المثير للسخرية يثب بجنون، إلى أعلى وإلى أسفل وهو يضرب برجليه السهل بحثا عنه. (6) «غدر بانداروس» (4، 1-219)، و«تعبئة الحشد» (4، 220-421)،و«مجد ديوميديس» (4، 364-5، 909)
عندما يصل هوميروس إلى نهاية وحدة ما، مثلما في هذا الحال، عادة ما يقدم «مشهد اجتماع في السماء» ليتمكن من تحريك الأحداث ثانية. فالاجتماع الإلهي، هو مشهد نمطي، وأداة من أدوات السرد.
ومن المزح المستمرة عن الحياة في السماء التذمر المزعج من قبل الإلهات، وبخاصة هيرا وأثينا، من زيوس وحاجة زيوس إلى تذكير الإلهات بانخفاض مرتبتهن. ويذكرنه بمنزلته، هو أيضا، وفي هذه الحالة يذكرنه بحقيقة أن مينلاوس انتصر في المبارزة. ويرين أنه بسبب أن هيلين لم تكن ستعود، على أية حال، إلى الآخيين، فلا بد أن يبدأ القتال مجددا.
تفد أثينا متخفية إلى صفوف المقاتلين وتشجع الطروادي بانداروس على خرق الهدنة المقدسة برمية قوس مختلسة. ويؤخذ مينلاوس، الذي أصيب إصابة سطحية جدا، لتلقي الرعاية الطبية بينما يواصل هوميروس تعطيل اندلاع الحرب الشاملة بقائمة ثانية من أسماء المقاتلين الآخيين، تلك التي تعرف باسم «تعبئة الحشد».
يمشي أجاممنون ببطء يستعرض صف القوات ويستجمع قوى الأبطال واحدا تلو الآخر، مبلورا نصائحه بتفصيلات من حياتهم وخلفياتهم. فيبدأ أولا بإيدومينيوس، زعيم الكريتيين؛ ثم «الأياسين» (من الجائز أنه في هذا الموضع يقصد أياس ملك سلاميس وأخاه غير الشقيق توسر)؛ ثم نيستور، زعيم البيلوسيين؛ ومينيسثيوس، زعيم الأثينيين. لسبب ما يختص أجاممنون بالتقريع أوديسيوس الإيثاكي، الذي يكبح جماح نفسه، وديوميديس الأرجوسي، وهو ما يسمح لهوميروس بالاستطراد بشأن توديوس والد ديوميديس، الذي مات في الحرب مع مدينة ثيفا (طيبة). إن هوميروس يستخرج من مخزون من القصص عن تلك الحرب العظيمة الأخرى التي نشبت قبل جيل. وينشئ تحدي أجاممنون لبسالة ديوميديس أول سلسلة كبيرة من مشاهد قتال، تتمحور حول مآثر ديوميديس.
ثمة أنماط متعددة تحكم وصف هوميروس للقتال. ويبدو أنه لا توجد وحدات منظمة، مثلما كان يوجد في الحروب التقليدية، وإنما يقاتل الأبطال بمفردهم أو بمساندة عرضية من رفاق لهم. وهذا النوع من أساليب القتال هو أساس انشغال القصيدة بفكرة السؤدد، وهي مكافأة تأتي لمقاتل منفرد عندما يكون مظفرا، وليس لفرقة أو فيلق أو سرية أو كتيبة. فالبطل هو من يقتل وهو الذي يتلقى التشريف. ويطلق على تتابع المشاهد التي تمجد بطلا ما باليونانية اسم
aristeia
وتعني «لحظة الامتياز».
كيف يصف المرء عنف الحرب وفظاعتها؟ وكيف ينقل اضطراب الحرب، وهولها، وشدتها إلا عبر وصف تصويري نابض بالحياة للعنف المفرط؟
فاقترب منه ابن فيليوس، الشهير برمحه، وضربه برأس رمح حاد على وتر رأسه، فمرق البرونز مباشرة من بين أسنانه ليقطع لسانه من جذره. فسقط في التراب وهو يعض على البرونز البارد بأسنانه. (الإلياذة، 5، 72-75)
لا أحد يهتم إذا ما سقطت جمهرة من الجنود التافهين المجهولين على الأرض؛ لذا عادة ما يتوقف هوميروس للحظة، مع موت كل رجل، ليخبرنا بمعلومات كافية عنه حتى نشعر بالأسى لموته. وهكذا مات، على سبيل المثال، فيريكلوس ابن تكتون الطروادي (الصانع)، ابن هارمون (الذي يجمع الأشياء معا). كان تكتون قد بنى السفن التي أبحر بها باريس إلى إسبرطة، بيد أنه بقيامه بذلك كان يصنع حزنه هو:
وقتل ميريونيس فيريكلوس، ابن تكتون، ابن هارمون، ذي اليدين المدربتين على صنع كل أنواع الأعمال التي تتطلب المهارة. وكانت بالاس أثينا تحبه أكثر من كل الرجال. وكان هو الذي بنى لألكسندروس السفن الجميلة، منبع الكروب، التي صنعت لتجلب اللعنة على كل الطرواديين وعليه هو نفسه أيضا؛ لأنه لم يفهم نبوءات الآلهة. (الإلياذة، 5، 59-64)
أما وحدة «مجد ديوميديس»، التي تستغرق معظم الكتاب الخامس، فهي عبارة عن
aristeia «لحظة الامتياز» الخاصة بواحد من أعظم المقاتلين الآخيين. بعد مناوشات بين العديد من الآخيين والطرواديين، يقتل ديوميديس مجموعة من الطرواديين، ثم يواجه بانداروس، الذي كان قد خرق الهدنة والذي في هذا الموقف يصيب ديوميديس بجرح مثلما أصاب مينلاوس. يمثل الموت العادل للطروادي الغادر إحدى العقد في سلسلة مشاهد القتال. فما دام بانداروس يطلق سهامه من بعيد دون أن يشارك في القتال، لا يستطيع ديوميديس قتله. وعندما يعتلي بانداروس العربة مع إنياس، وهو حليف طروادي مهم (والمقدر له أن ينشئ العرق الروماني، حسبما يرد في تراث لاحق)؛ سيحمله إنياس إلى موضع قريب من القتال الدائر حيث يمكنه أن يموت كالرجال.
ثمة نوع من الصخب في القتال الهوميري، مثلما نجد في قتال الشوارع بين العصابات. ففي هذا الموقف نجد ديوميديس، رغم أنه مدجج بدروع من البرونز ومسلح برمح وسيف، بيد أنه:
أمسك بيديه حجرا، ويا له من عمل جبار، يعجز عن حمله رجلان من رجال هذه الأيام، ومع ذلك فقد تمكن من التحكم فيه بمفرده. وأصاب به إنياس في مؤخرته عند موضع التقاء مفصل الفخذ بالمؤخرة - أي الكأس، كما يدعوه الرجال - وهشم عظمة الكأس وقطع الوترين ومزق الحجر المسنن الجلد تمزيقا. (الإلياذة، 5، 302-310)
تتدخل أفروديت، أم إنياس (ولهذا فهي حامية عائلة يوليوس قيصر، الذي زعم أنه ينحدر من نسل إنياس)، لصالح ابنها، إلا أن ديوميديس ثابت الجأش يهاجمها ويجرح يدها. إن الحرب ليست للنساء، وخاصة إن كانت هذه المرأة هي إلهة الرغبة الجنسية!
قد يذكرنا هذا النوع من المشاهد بأنه من غير المحتمل أن يكون جمهور هوميروس قد اشتمل على النساء، على الأقل حسبما هو مألوف؛ ففي وصف «الأوديسة» «للمنشد الملحمي»، نجد أن كل الجمهور من الرجال باستثناء أريت، الملكة، على جزيرة فياشيا. فمن شأن جمهور كله من الرجال أن يستمتع بقصة «جرح أفروديت»، التي يرجع أصلها إلى بلاد ما بين النهرين والتي تشتمل عليها وحدة «مجد ديوميديس»، التي تحكي أنها هربت شاكية إلى زيوس، الذي وبخها برفق على سلوكها غير اللائق (للاطلاع على نموذج بلاد ما بين النهرين لهذه القصة، طالع قسم «هوميروس والشرق الأدنى» في الفصل الثاني: ملحمتا هوميروس عند المؤرخين). وتبدي أثينا ملاحظة دنيئة حقا؛ إذ تقول إنه لا بد وأنها أصابت نفسها بخدش من دبوس زينتها وهي تحض إحدى النساء الآخيات على ممارسة الجنس مع طروادي (الإلياذة، 5، 421-425).
إن دخول أفروديت المعركة هو دخول هزلي، بيد أنه عندما يظهر آريس إلى جانب هيكتور، يرتعد الآخيون خوفا. وهذا هو هدف هوميروس الأعظم، أن يجعل الآخيين يتقهقرون إلى الخلف، ولكنه يريد أولا أن يجسد عظمة الحرب وتعقيدها. فالحروب العظمى تستلزم خصوما عظماء، وهوميروس يبرهن على بسالة الحليف الطروادي ساربيدون بإظهاره وهو يقتل رجلا يدعى تليبوليموس في مبارزة طويلة. إننا بحاجة لأن نرى عظمة ساربيدون؛ لأنه في أزهى أوقاته سوف يقتل على يد باتروكلوس في جزء حاسم من القصة.
لا يؤدي تدخل آريس إلا إلى تحريض هيرا وأثينا على مناوأته، ويسخر هوميروس من المشهد النمطي لتسلح أحد الأبطال استعدادا للمعركة حينما يروي كيف أن أثينا:
ابنة زيوس الذي يحمل الدرع «أيجيس» تركت رداءها المطرز بسخاء ينزلق عنها على عتبات أبيها، ذلك الرداء الذي حاكته بيديها، وارتدت عباءة زيوس جامع السحب ولبست الدروع استعدادا للحرب المفجعة. ورمت على كتفيها الدرع «أيجيس»
aegis
ذا الذؤابات، يملؤها الذعر، الذي تحيط به لوكي، روح الهزيمة المنكرة، من كل جانب كالتاج وبداخله روح آريس ربة الشقاق، وروح الجرأة وروح الهجوم التي تجمد الدم في العروق، وبداخله رأس الوحش الرهيب، الجورجونة، الرهيبة والمهولة، النذيرة بزيوس الذي يحمل الدرع «أيجيس». وعلى رأسها وضعت الخوذة المصنوعة من الذهب ذات القرنين وبها أربعة نقوش بارزة، والمزينة بصور رجال مدججين بالسلاح من مائة مدينة. ثم امتطت العربة النارية وقبضت على رمحها الثقيل والضخم والقوي، الذي به تشتت صفوف الرجال من المحاربين الذين تصب عليهم غضبها؛ فهي ابنة السيد الجبار. وبسرعة لمست هيرا الخيول بالسوط. (الإلياذة، 5، 733-748)
يعد هذا الوصف مصدر إلهام لآلاف التجسيدات القديمة للإلهة، ولكن يوجد في سياقها سخرية وخفة ظل في وصف أنثى ترتدي الدروع كما لو كانت آخيل أو أجاممنون. عندما تعتلي عربة ديوميديس، «أحدث محور العربة المصنوع من خشب البلوط صريرا عاليا تحت وطأة ثقلها؛ إذ كانت تحمل إلهة رهيبة ومحاربا لا نظير له» (الإلياذة، 5، 838).
إن هذا المزج الممتع للعادات المتصلة بالواقع - كالاستعداد للمعركة، والانتقال بالعربة، والقتال - مع الحصانة الواجبة للآلهة يبلغ ذروته عندما يطعن ديوميديس آريس في أحشائه، بمساعدة أثينا، ويطلق صرخة عالية كصرخة عشرة آلاف محارب. ويضطر إله الحرب البائس المقهور إلى الشكوى لوالده زيوس بشأن المصير القاسي الذي ابتلي به في الحياة. ويلقي زيوس باللوم كله على زوجته! (7) «جلاوكوس وديوميديس» (6، 119-236)
يفترض أن تكون القصة الكبرى هي اطلاعنا على الطريقة التي يهزم بها الآخيون بموجب وعد زيوس لثيتيس، ولكن في واقع الأمر أن الآخيين بقيادة ديوميديس وأياس وأوديسيوس ومينلاوس وأجاممنون يسحقون الطرواديين. فثلاثة طرواديين يلقون حتفهم في مقابل كل واحد من الآخيين. لا بد وأن هوميروس قد توارث تراثا خصبا يحكي عن انتصارات الآخيين، يعود بلا شك لأسلاف أمثال هؤلاء من مقاتلي العصور القديمة، وتراثا هزيلا يحكي عن انتصار الطرواديين.
أيا كان الأمر، يستغل هوميروس تفوق الآخيين ليدفع هيلينوس، العراف، شقيق هيكتور إلى إرسال هيكتور إلى المدينة للتضرع إلى أثينا. وليس الأمر أن الأحداث تتطلب مثل هذا التضرع في هذه اللحظة، وإنما يريد هوميروس أن يظهر لنا شيما معينة لدى هيكتور الرجل الذي سوف يقتل عما قريب على يد آخيل.
في ذلك الحين، يتيح لقاء جلاوكوس، ابن هيبولوخوس، من ليكيا (الساحل الجنوبي الأوسط لتركيا المعاصرة)، وديوميديس، ابن توديوس، من أرجوس (في شبه جزيرة بيلوبونيز) فرصة لالتقاط الأنفاس من سفك الدماء ونهاية هادئة لمآثر ديوميديس البطولية في ميدان الحرب الدموية. كان ديوميديس قد جرح لتوه إلهين واستعان بأثينا للقيام بدور قائدة مركبته، ولكنه يتوقف لبرهة عندما يرى جلاوكوس، معتقدا أنه قد يكون إلها. (لم يهاجم ديوميديس آريس إلا بتوجيه من أثينا.) يقص ديوميديس قصة صغيرة عن معاناة البشر عندما يدخلون في صراع مع الآلهة، وعن ملك تراقيا المدعو ليكورجوس والذي طارد ديونيسوس إلى البحر ولكنه دفع ثمنا باهظا جراء ذلك، وهي إحدى الإشارات القليلة إلى الإله البهيج ديونيسوس في القصائد الهوميرية، ولعل جمهور هوميروس الأرستقراطي لم يرحب بهذا الإله الجامح وبالإباحية التي صاحبت عبادته. تمثل قصة ليكورجوس ما ندعوه «أسطورة»، على الرغم من أن هوميروس لا يستخدم كلمة
muthos
على هذا النحو مطلقا.
وردا عليه يقص جلاوكوس، هو الآخر، «أسطورة»، هي عبارة عن سلسلة نسب تحتوي قصة بيليرفونتيس، الذي ذبح وحش الكمير الضاري، وهي حكاية شعبية شرقية تحتوي على الإشارة الوحيدة للكتابة في القصائد الهوميرية (انظر أعلاه؛ الفصل 1، قسم «لوح بيليرفونتيس: حجج فريدريش أوجست وولف».). يطلق الباحثون في الأدب الشعبي على هذا النمط القصصي اسم «زوجة فوطيفار» نسبة إلى يوسف في الكتاب المقدس، الذي خانته زوجة فوطيفار الشهوانية وأودت به إلى السجن. في قصة جلاوكوس، رغبت ملكة إفيري (أي مدينة كورنث [كورنثوس]) في مضاجعة بيليرفونتيس الوسيم، إلا أنه رفضها. فقالت لزوجها الملك إن بيليرفونتيس قد تحرش بها جنسيا. ولم يستطع الملك أن يقتل ضيفه، مثلما استحق تماما، دون أن يخالف الأعراف المقدسة
xenia (خانيا )، التي تعني «حسن الضيافة»؛ لذا أرسله إلى والد الملكة في ليكيا حاملا اللوح المطوي الشهير الذي يحوي «علامات مهلكة».
يتذكر ديوميديس أن جده قد أحسن وفادة بيليرفونتيس، مما جعل البطلين
xenoi ، أي «أصدقاء ضيافة»؛ ومن ثم لا يمكنهما أن يتقاتلا. واحتفاء بصداقة خانيا
xenia
التي تجددت، يتبادل الرجلان درعيهما. ولأن درع جلاوكوس كان مصنوعا من الذهب (وهو احتمال مستبعد) ودرع ديوميديس من البرونز، فإن ديوميديس كان الطرف الأكثر ربحا في الصفقة، حسبما يشير هوميروس. بيد أن أحدا لم يفسر مطلقا ما كان الشاعر يقصده بهذه المبادلة المستغربة. (8) «هيكتور وأندروماك» (6، 237-529)
في بقية الكتاب السادس يقدم هوميروس هيكتور في أدواره المتمثلة في كونه ابن هيكوبا، وشقيق باريس، وشقيق زوج هيلين، وزوج أندروماك، ووالد أستياناكس (الاسم يعني «ملك المدينة»). قد يتساءل آخيل عن السبب الذي يدفعه للمجازفة بحياته بالقتال على السهل العاصف، ولكن هيكتور يعرف جيدا جدا: من أجل أن يحمي حياة المدينة وعلاقاتها الأسرية المتشابكة التي يوحدها الاحترام والحب. ومع أن مآله هو والمدينة إلى الهلاك، ولكن عليه أن يتصرف كما لو أن جهوده يمكن أن تصنع فارقا.
يلقى هيكتور أمه في القصر البديع ويرفض تناول كأس من الخمر؛ فهذا ليس أوان الخمر. تأخذ هيكوبا ثوبا من صناعة صيدونية (أي فينيقية) منسوجا نسجا متقنا وتحمله في موكب إلى معبد أثينا، وهي المرة الوحيدة التي يشير فيها هوميروس إلى معبد قائم بذاته. تضع الكاهنة الثوب على ركبتي الإلهة، ولكن الإلهة ترفض الصلاة.
في تلك الأثناء يذهب هيكتور إلى مخدع هيلين، حيث كان باريس الوسيم قد أنهى مطارحة الغرام معها. يعنف هيكتور أخاه على جموده وتراخيه. فيقول باريس دائم المرح إنه سوف يبذل جهدا أكبر، بينما تحاول هيلين الفاتنة أن تجعل هيكتور يسترخي ويجلس. وكما رفض كأسا من الخمر من أمه، يرفض طلبها بكياسة ويحث خطاه إلى بيته ليتفقد زوجته أندروماك وطفلهما أستياناكس. ولكنها، كحال هيلين، كانت قد ذهبت إلى الأسوار. ويلقاها عند بوابة سكاي (أي «الغربية») بينما كان على وشك العودة إلى السهل.
إن مشهد هيكتور وأندروماك عند بوابة سكاي هو واحد من أشهر المشاهد في القصائد الهوميرية. تتوسل أندروماك إلى هيكتور ألا يرجع إلى القتال وترسم صورة لما سوف يحدث لابنهما، الذي كان في ذلك الحين نائما بين ذراعي المربية، إن فقد والده. من الطبيعي لها، كونها زوجة وأما، أن تخشى وقوع ما هو أسوأ وأن تحاول أن تمنع حدوثه. غير أن هيكتور يبين لها أن القتال أو عدم القتال ليس أمرا له فيه خيار؛ إذ قد يفقد هو وأسرته السؤدد إن قعد عن القتال. إن واجبه، كونه ابنا، وزوجا، وفردا في المجتمع، أن يقاتل.
بعد ذلك يرسم صورة قاتمة لما سوف يحدث لأندروماك؛ أن تغتصب وتسترق ويقتل ابنهما، إذا ما سقطت المدينة. ويمد هيكتور يده ليحمل طفله، الذي يبكي، مرتاعا من الخوذة المخيفة. فيضع هيكتور الخوذة على الأرض وحينها يتعرف الطفل عليه، على هيكتور الأب، وليس هيكتور المحارب. وفي مشهد يحمل مشاعر عذبة يضحك هيكتور وأندروماك مثلما يفعل أبوان محبان لطفلهما.
إن المستمع إلى هيكتور وأندروماك ليعرف أن رؤية هيكتور القاتمة للمستقبل في واقع الأمر سوف تتحقق. إن هيكتور وأندروماك، وأستياناكس هم أسرة، على عكس زواج باريس وهيلين الذي لم يثمر عن أطفال، والقائم على الشهوة، والذي لا يؤدي إلى شيء إلا الموت. إن انغماسهما في الملذات، وعبوديتهما للمتعة الأنانية سوف يؤديان إلى هلاك المدينة، التي ما هي إلا مجموعة من البيوت ومن الأسر التي تقيم فيها. (9) «المبارزة بين هيكتور وأياس» (الكتاب 7)
يجري نطاق «الإلياذة» الزمني في مجمله عبر عدة أسابيع، إلا أن الأحداث كلها تقريبا تجري في أربعة أيام ويومي هدنة (من الكتاب الثاني إلى الثاني والعشرين). لم نكمل بعد اليوم الأول للقتال حينما يرجع هيكتور إلى السهل، هذه المرة بصحبة باريس. قد نتوقع أن تغيب الشمس، كختام ليوم جيد، إلا أن مشهد «هيكتور وأندروماك» يدفعنا إلى توقع أحداث فورية. وكالمعتاد تتدخل الآلهة للمضي قدما بالأحداث؛ فبتحريض من أبولو ، يطرح هيكتور فجأة تحديا على الآخيين للنزال في مبارزة، فما زال ثمة مشهد آخر، مثل مشاهد «قائمة السفن»، و«هيلين على الأسوار»، و«المبارزة بين مينلاوس وباريس»، ينتمي إلى السنوات الأولى للحرب.
كان مشهد «المبارزة بين مينلاوس وباريس» مشهدا هزليا صاخبا وكأنه سيرك، إلا أن المبارزة يمكن أن تتيح للشاعر أن يعطي مثالا على السلوك الرجولي والفضيل. فيصرح هيكتور بأنه سوف يمنح خصمه مدفنا لائقا، إن سقط، وأنه يتوقع المعاملة نفسها، إلا أن المنتصر يمكنه الاحتفاظ بالدرع. يصور المشهد رجالا نبلاء في مسعى نبيل، فكل شيء يساعد على تحقيق السؤدد والخير العظيم الذي يستتبعه، وهو الاشتهار الأبدي.
يتطوع مينلاوس لقتال هيكتور، ولكن سرعان ما يكبح جماحه [على يد أجاممنون]. فهو ليس ندا لهيكتور (رغم أنه قد أبلى بلاء حسنا في ميدان القتال)، وعلى أي حال فقد كان صبيحة ذلك اليوم في مبارزة مع باريس. ويتطوع تسعة أبطال. ومن أجل أن يحسموا الأمر، يضع كل واحد منهم علامة على قرعة ويضعها في سلة. قد يكون هوميروس أشار ها هنا إلى الكتابة، لو كان يعرف أي شيء عن الكتابة. وتتطاير قرعة أحدهم خارجة من السلة ويمر بها البشير على الصف إلى أن يتعرف أياس على العلامة.
تتبع المبارزة أسلوبا متقنا؛ إذ يتواجه الخصمان، أياس بترسه المتفرد «الذي يشبه جدار مدينة»، والذي يعيد على نحو واضح إلى الأذهان شكل الدرع في العصر البرونزي. ويصرح كل منهما بأنه رجل ذو بأس، وهو نوع من التجاوز اللفظي الشعري القتالي الذي يطلق عليه أحيانا
flyting «المساجلة اللفظية/المهاجاة» (وهو يكافئ ما يدعوه الأسكتلنديون
contention
أي «الإلحاف في الهجاء»). في الحقبة الكلاسيكية كان مقاتل الهوبليت يحمل رمحا طعنيا منفردا ثقيلا لم يكن يقذفه أبدا، ولكن في القصائد الهوميرية نجد أن الرمح يقذف. فيلقي هيكتور أولا، ولكن درع أياس يصمد؛ ففي القتال الهوميري لا تكلل الرمية الأولى أبدا بالنجاح. ثم يلقي أياس رمحه ويخترق الرمح درع هيكتور وصداره ولكنه لا يلحق به أذى. عندئذ يسحب الرمح المغروز في درعه ويوجه به طعنة إلى خصمه. ويجرح هيكتور جرحا طفيفا. ومن الواضح أنهما حينئذ يلقيان الرمحين؛ لأن الأمر التالي الذي نعرفه هو أن كلا منهما يلتقط حجرا ضخما ويرميه نحو الآخر. وكالعادة تخيب الرمية الأولى. ويطرح حجر أياس هيكتور أرضا، ولكنه سرعان ما ينتصب.
من المتوقع الآن، بعد أن استنفدا رمحيهما وألقيا حجريهما، وكما هو معتاد، أن يسحب المتبارزان سيفيهما القصيرين من غمديهما ويتجالدا بهما في مواجهة مباشرة، ولكن لإبراز الشكل الرسمي المنهجي لهذه المبارزة، يتدخل رسولان ليفضا الاشتباك بينهما. لقد أثبت كل رجل منهما جدارته. ومنح كل منهما الآخر هبة نابعة من الاحترام المتبادل، وهي تعادلهما في مباراة السلوك المشرف، مثلما يحدث في حدث رياضي. وهكذا تتضافر الحرب والمنافسة الرياضية تضافرا وثيقا في «المبارزة بين هيكتور وأياس».
يبدو مستغربا أن هوميروس قد أدخل مبارزتين في يوم واحد، ولكن الجمهور مأخوذ بفيض السرد ولا يشعر بمرور الوقت على نحو صحيح. إن تلك الأحداث لا تؤدي إلى أي شيء فيما بعد في القصيدة، ولكنها تستكشف طبيعة الحرب والشخصيات المتورطة فيها. لقد عرفنا بشأن أياس (الأعظم شأنا) ومينلاوس وأوديسيوس وإيدومينيوس، وبشأن هيكتور الطروادي، وبريام، وباريس (وهيلين). وختاما للعرض التفصيلي الطويل، يدعو نيستور إلى هدنة لدفن الموتى، وفي انتقال آخر لافت أيضا إلى بداية الحرب، يوصي نيستور بأن يبني الآخيون جدرانا ترابية لحماية السفن، وفي العام العاشر للحرب يبنون جدارا دفاعيا! الأمر ببساطة أن هوميروس سوف يحتاج إلى هذا الجدار في القتال القادم، ولهذا يدخله إلى القصة.
في هذه الأثناء يجتمع المجلس الطروادي للنظر في أمر التنازل عن هيلين والكنز الذي سرقه باريس، وهي محاورة تختص هي الأخرى بالأيام الأولى للحرب. ويقول باريس إنه سوف يعيد الكنز ولكنه أبدا لن يعيد المرأة. وهكذا يودي الغدر والبغي بالطرواديين، بمن فيهم هيكتور الرائع وأسرته الجميلة، إلى التهلكة.
بعد بناء الجدار، يتذكر بوسيدون على جبل الأولمب جدارا سابقا كان قد بناه هو وأبولو من أجل الملك الطروادي لاوميدون، وهي أسوار المدينة نفسها، ويخشى من أن هذا الجدار الجديد قد يحجب مجدهم. ولذلك يفكر زيوس بالمستقبل ويعطي الإذن بتدمير هذا الجدار الترابي تدميرا كاملا ما إن تضع الحرب أوزارها. ومثلما كان الحال في التشبيهات، يشق هوميروس نافذة داخل السرد ويذهب بالمستمع بعيدا داخل عوالم موازية مدهشة؛ ومن ثم فهو في فقرات كهذه يضع أحداث الحرب في إطار أعظم في شكل يوحي بالخلود في زمن كانت فيه حرب طروادة، بكل مجدها، قد ولت دون أثر. يعتقد البعض استنادا إلى هذه التفصيلة أنه لا بد أن يكون هوميروس قد رأى منطقة ترواد بنفسه، حيث لم يكن للجدار الترابي أي وجود. (10) «الطرواديون المظفرون» (الكتاب 8)
بعد أن قدم هوميروس شخصيات قصته وخلفيتها، يلزمه أن يهيئ نقطة التحول الوسطى في حبكته، وذلك حينما يرفض آخيل البعثة التي يريد أعضاؤها أن يجعلوه يعود إلى المشاركة في الحرب (الكتاب 9). ولكي يشعر الجمهور بوجود حاجة إلى البعثة، نحتاج إلى أن نرى الآخيين متراجعين تراجعا كاملا. لم يصل الأمر بعد إلى الهزيمة الساحقة التي وعد بها زيوس ثيتيس، والتي سوف تحين لاحقا، وإنما هي نكسة خطيرة من شأنها أن تسوغ إرسال البعثة. وفي واقع الأمر أن الآخيين حتى ذلك الحين كانوا بالإجمال وفي غالب المواجهات متفوقين على الطرواديين.
يتعين على هوميروس بطريقة ما أن ينفذ مسألة اندحار الآخيين دون قتل أو جرح مقاتليه الرئيسيين؛ أوديسيوس، وأجاممنون، ومينلاوس، وديوميديس، الذين يدخر هوميروس أمر القضاء عليهم إلى القتال الرهيب القادم. ويفعل هذا بأن يجعل زيوس يمسك بزمام الموقف بغلظة إلى حد ما وينزل صواعق تلقي الرعب في قلوب الآخيين وتثبط إرادتهم. ورغم ذلك يعيد الآخيون تنظيم صفوفهم ويحظى البطل الثانوي توسر (الأخ غير الشقيق لأياس الأعظم شأنا) ب
aristeia «لحظة امتياز»، وكأن هوميروس لا يستطيع أن يكبح جماح نفسه من الاحتفاء ببطل آخي.
في العلياء، يحظر زيوس على الآلهة أن يتدخلوا، وبخاصة أثينا وهيرا، اللتين تكرهان طروادة وسبق وأن آزرتا الآخيين، ويعلن عن قوته في صورة مباراة لشد الحبل؛ إذا أمسك كل الآلهة الآخرين حبلا وحاولوا زحزحته، فبمقدوره أن يقتلعهم جميعا ، ومعهم الأرض والبحر. يعتلي هوميروس مركبته ويذهب إلى جبل إيدا خلف طروادة، وهي صورة تكررت لعدد لا يحصى من المرات في الأعمال الفنية فيما بعد حقبة هوميروس. يتقاتل البشر الفانون البائسون على السهل العاصف بالأسفل، أما هوميروس فيحمل موازينه ليرى إلى أي جانب سوف تميل كفة الحرب. فتهبط كفة [موت] الآخيين، وتصعد كفة الطرواديين؛ وذلك توضيحا للأمور في حال إذا ما التبس الأمر على أي من المستمعين بشأن ما ستئول إليه القصة.
قد ترجع جذور صورة زيوس المذهلة، التي يظهر فيها في هيئة الممسك بميزان الأقدار، إلى الديانة المصرية؛ فإجراء وضع قلب الرجل المتوفى في الميزان، لمعرفة إذا ما كان قد عاش حياة مستقيمة، مرسوم في كتاب الموتى الذي يرجع إلى عهد المملكة المصرية الحديثة (النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد)، بيد أن الأمر في هذه الحالة مجرد من كل مدلول ديني. فزيوس هنا شاء للآخيين أن يعانوا، ويوضح الميزان قطعية مشيئته. والصاعقة التي تسقط أمام عربة ديوميديس، بينما كان ديوميديس يطبق على هيكتور، هي دليل قاطع على تحيز زيوس للطرواديين، وهو الأمر الذي يدركه ديوميديس؛ ومن ثم يسمح لنيستور بأن يقوده بعيدا عن ساحة القتال.
يعرب هيكتور عن ابتهاجه بالإشارات الواضحة على التفضيل الإلهي في خطابين، أحدهما يوجهه إلى القوات والآخر إلى خيوله (الإلياذة، 8، 173-197)، ولكن حتى يطيل هوميروس أمد قصته، يجعل أجاممنون يعود ليلهب حماس الآخيين مجددا (ويوافق زيوس بإرساله نسرا فألا وعلامة). يقتل رامي السهام الآخي توسر الكثيرين، إلى أن يسقطه هيكتور بحجر، في الوقت الذي يتذكر فيه زيوس مقصده المتمثل في الوقوف إلى جانب الطرواديين. ويهاجم هيكتور الخندق والجدار هجوما ضاريا، حتى إن هيرا وأثينا لا تستطيعان منع نفسيهما من التسلح وامتطاء عربتيهما، ولا تمتنعان عن ذلك إلا عندما يهددهما زيوس تهديدا عنيفا.
يركب زيوس عائدا من جبل إيدا إلى جبل الأولمب ويجلس على عرشه ويهدد الإلهتين مجددا، بأنه ينبغي ألا تكثران من الشكوى؛ إذ يتنبأ زيوس بأن باتروكلوس سوف يموت، ثم سيعود آخيل، وهي محصلة في غير صالح الطرواديين الذين تكن لهم الإلهتان كراهية شديدة. وبنبوءته تلك يبقي زيوس الأطر الرئيسية للقصة الكبرى جلية، ويثير هوميروس شهيتنا لمعرفة ما سوف تئول إليه هذه الأحداث. عندما يقيم هيكتور المفرط في الثقة والمقاتلون الطرواديون معسكرا على السهل وراء جدار الآخيين، نعتقد في وجود خطر محدق بالآخيين وحاجتهم إلى القيام بشيء حياله. (11) «البعثة إلى آخيل» (الكتاب 9)
يحتل مشهد «البعثة إلى آخيل» الكتاب التاسع ويعتبره كثيرون تسلسل الأحداث الأشهر في «الإلياذة»، ونموذجا لدراسة مسألة القدرة على الإقناع وقوة الحجة، ونقطة التحول الوسطى للحبكة الطويلة الممتدة. في مشهد «فدية خريسيس» عرفنا السبب وراء غضب آخيل؛ أما هنا فنرى ما أحدثه غضب آخيل من تغيير في ذاته وفي كيفية رؤيته للعالم.
حدثت أمور كثيرة منذ وعد زيوس لثيتيس بأنه سوف يثأر لما حاق بآخيل من إجحاف، ولكن هوميروس كان مهتما بقصة حرب طروادة أكثر من اهتمامه بتجسيد هزيمة الآخيين لمستمعيه. كان الآخيون يحققون الانتصارات تحت قيادة ديوميديس البارع، الذي بلغ به الأمر أن جرح أفروديت وآريس لبسالته، وأردى سائق مركبة هيكتور قتيلا، وكاد أن يقتل هيكتور هو الآخر، لولا أن زيوس تدخل بإرسال صاعقة. يريد هوميروس هنا أن يعيد قصته إلى آخيل، الذي قاده غضبه إلى التنكر لرفقائه ولعنهم. يفصح هوميروس مباشرة عما أصاب الآخيين من قنوط وضيق، كما رأينا، ويقدم الطرواديين المتحمسين وهم يقيمون معسكرا لهم بعجرفة على السهل. وفي تشبيه جدير بأن يذكر، تبدو نيران معسكرهم في كثرتها كالنجوم في سماء ليلة بلا غيم.
في معسكر الآخيين، يكرر أجاممنون ذو الروح الانهزامية المشهد السابق في «الحلم الملفق»، معلنا أمام القوات أنهم لا يمكنهم أبدا أن يستولوا على طروادة وأنه ينبغي عليهم العودة إلى ديارهم، بيد أنه هذه المرة يعني حقا ما يقوله. لقد كان المشهد السابق هزليا وينطوي على استهزاء بالأبطال عندما هرب الجميع في فوضى عارمة إلى السفن. أما في حالتنا هذه، فالمشهد جاد إلى أقصى حد ولا أحد يهرب. وينتقد ديوميديس الجسور أجاممنون انتقادا شديدا لضعفه، ويرى نيستور فرصة سانحة لإعادة آخيل إلى القتال.
ينزوي القادة إلى مجلس، ويتهم نيستور أجاممنون صراحة بإهانة شرف آخيل وجرهم إلى هذا الوضع الراهن المؤسف. يجيب أجاممنون موافقا: «نعم، لقد تملكني آتي
atê [a-tā]
الجنون» (الإلياذة، 9، 116). يقصد أجاممنون بقوله «آتي»
atê «الجنون» نوعا من القوة المتجسدة التي تذهب منطق المرء السليم (إلهة الأذى والخداع والخراب والحماقة)، مثلما نقول «لقد خرج عن شعوره». ليس واضحا على الإطلاق إن كان أجاممنون يتحمل المسئولية عما اقترف، بخلاف وقوعه ضحية «آتي»
atê ، ولكنه يوافق على إرسال هدايا رائعة كثيرة، فيض من الغنائم
geras ، لكي يعيد إلى آخيل سؤدده
timê
ويخفف غضبه. لقد توقعت ثيتيس أن هذا سوف يحدث بحذافيره. سوف يقدم له سبعة مراجل ثلاثية القوائم، وعشرة مثاقيل من الذهب، وعشرين قدرا، واثنا عشر جوادا قويا، وسبع نساء حسناوات ماهرات في الأشغال اليدوية اللطيفة، وبريسئيس، التي يقسم أنه لم يجامعها مطلقا، بالإضافة إلى عشرين امرأة من طروادة، عندما يستولون على المدينة، بل سوف ينكح آخيل إحدى بناته الثلاث (حتى يصبح آخيل زوج ابنته!). يبدو أن هوميروس لا يعرف القصة التي اشتهرت عن طريق رواية تراجيدية يونانية، والتي تحكي أن أجاممنون كان قد قتل إحدى بناته، وهي إفيجينيا، ليؤمن للأسطول رياحا مواتية عندما يبحر من أوليدة إلى طروادة. وأيضا سوف يمنحه ثلاث مدن خاضعة:
إذا ما تخلى عن غضبه فليهدأ؛ فإن هاديس، حسبما أظن، هو وحده الذي لا يهدأ ولا يسيطر على غضبه، ولهذا السبب هو المكروه من البشر أكثر من كل الآلهة، وليذعن لي؛ فأنا الأكثر سلطانا، وأنا الأكبر سنا. (الإلياذة، 9، 158-161)
يحمل ثلاثة رجال العرض إلى خيمة آخيل؛ أوديسيوس، بحديثه المقنع، وأياس الأعظم شأنا، المحارب شديد البأس (ولكن لماذا ليس ديوميديس؟) وشخصية تظهر من العدم، هو فوينيكس، معلم آخيل. ويتبعهم، أيضا، رسولان. لقد سبق أن ناقشنا هذه الإشكالية الجوهرية، حيث نلاحظ أن الأمر يبدو وكأن المنشد الشفاهي يدخل تعديلات على أنشودته وهو مستطرد في إنشاده، ولكن الأمور لا تستقيم معه على الدوام؛ فبدلا من أن يقول إن الرجال الثلاثة ساروا بمحاذاة شاطئ البحر (أو الرجال الخمسة، إذا ما أحصينا الرسولين)، نجده يقول: «وسار «الاثنان » بمحاذاة شاطئ البحر الهادر» (الإلياذة، 9، 182) (طالع: الفصل 1، قسم «بقايا التأليف الشفاهي في نصوص هوميروس»). إن اللغة اليونانية الهوميرية تشتمل على صيغة المثنى (المستخدمة في لفظة «الأياسين» [أي الاثنان اللذان يحملان اسم أياس])، بالإضافة إلى صيغتي المفرد والجمع اللتين تشتمل عليهما اللغة الإنجليزية، وفي هذا الموضع يستخدم هوميروس صيغة المثنى للضمير وللفعل (أي إنه في الواقع يقول «الاثنان سارا»)، وفي موضع تال يتراجع عائدا إلى صيغة الجمع عندما يشير إلى أعضاء البعثة. طرحت تفسيرات كثيرة لهذا الشذوذ النحوي، إلا أن أنه يبدو أن أفضل تفسير هو ذلك القائل إن هوميروس توارث صيغة لمشهد البعثة لم يكن فوينيكس مشمولا فيها. ثمة دور مهم لفوينيكس يؤديه في بعثة هوميروس، إلا أن الأمر يبدو وكأن الأرض تنشق عنه ليظهر فجأة في القصة؛ فالأمر إذن أن هوميروس أدخل فوينيكس إلى القصة، ولكنه لم يكن دائما يعدل صيغة المثنى (فالرسولان الإضافيان ليسا حقا طرفا في البعثة). في هذا الموضع نرى «المنشد الملحمي» وهو دليل جيد ولكنه محير على أن الشاعر - أو محرري نصه - لم يدخلوا تعديلات على «الإلياذة» و«الأوديسة»، المكتوبتين عن طريق الإملاء، لاستبعاد الأشياء الخارجة عن المألوف ومحو الأجزاء المملة.
تجد البعثة آخيل يعزف على قيثارة غنمها في نفس الغارة على طيبة التي سبى فيها خريسيس. ويجدونه ينشد عن «مآثر الرجال»، وهي الإشارة الوحيدة في «الإلياذة» إلى أنشودة بطولية، ولو أن آخيل ليس «بمنشد ملحمي». أما «الأوديسة» فهي، على النقيض من «الإلياذة»، تشير إلى المنشدين الملحميين مرارا وتكرارا.
ولكونه مضيفا كريما يقدم آخيل الطعام إلى الرجال، الذين بعدئذ يسلمونه رسالتهم. ويبتدئ أوديسيوس، مكررا حرفا بحرف عرض أجاممنون السخي، وفقا للنمط الشفاهي في نقل الرسائل، عدا أنه يسقط كلمات أجاممنون الأخيرة غير المقبولة عن كونه الأكثر سلطانا. يستميل أوديسيوس تعطش آخيل نحو الاشتهار إلى الأبد والسؤدد اللذين سوف تمنحهما له كثرة الغنائم. وبعودة آخيل إلى القتال، سوف يقدم أيضا العون إلى رفاقه ، الذين يعانون كثيرا، وفي المقابل سوف يجلونه كل الإجلال. ويضيف أوديسيوس أن الآن هو فرصته المثلى ليقتل هيكتور.
تجسد إجابة آخيل الشهيرة حالته الذهنية، وغضبه المتأصل من الطريقة التي كان يعامل بها، تجسيدا مثاليا. إن حديثه «يمثل» غضبه. فهو يكره من يقول شيئا، ولكنه يضمر في قلبه شيئا آخر بقدر ما يكره بوابات هاديس (وهو السلوك الذي يفتخر به أوديسيوس في «الأوديسة»). وهو لا يجد أي تأثير في إغرائهم له بالسؤدد؛ لأن التقدير، كما يمكن لكل شخص أن يرى، ليس بالضرورة أن يكون هو الجزاء؛ فالموت يتربص بالجميع ولذلك فالجميع متساوون، من يستحقون التقدير ومن لا يستحقونه. ويقول إنهم ربما يكونون قد أتوا إلى طروادة للثأر من سرقة امرأة من أحدهم، ولكن قائدهم الجبان ذاته متورط في سرقة من نفس النوع. من أجل ذلك ما الداعي لأن يموت أي أحد في سبيل استعادة هيلين؟ وأما عن هيكتور، فليقاتله أجاممنون؛ إن كان هو «أفضل الآخيين» كما يدعي. كان يتعين عليه ألا يوجه الإهانة إلى أعظم مقاتليه. غدا سوف يحزم آخيل أغراضه ويبحر عائدا إلى الديار. أما عن غنائم أجاممنون، فلا يمكن أن تكون كافية أبدا؛ لأن حياة آخيل ليست للبيع. وحياته هو هي المهددة بالخطر. أما عن ابنة أجاممنون، فليجد لها شخصا من مكانة اجتماعية مناسبة؛ لأن من الواضح أن آخيل ليس من مرتبة لائقة بما يكفي. عندما يفقد المرء حياته، لن تعيدها أي عطايا ولا أي نساء. وحسب إحدى النبوءات، فإن آخيل يستطيع أن يحرز مجدا، لكنه سوف يموت شابا، أو يعيش مديدا دون مجد، ويقول مهددا إنه درب ربما يكون عليه الآن أن يختاره؛ نظرا لأن المسعى العسكري بلا طائل. وينصحهم جميعا بأن يذهبوا إلى ديارهم مثلما سوف يفعل هو لا محالة. إنهم بحاجة إلى خطة أخرى من أجل إنقاذ أنفسهم؛ فهذه الخطة ليست مجدية.
يا لعظم الغضب الذي يستنزفه!
ومع ذلك فإن إجابة آخيل، رغم ما به من غضب يختلج في كل جوارحه، تلبي المتطلبات المنطقية لمناشدة أوديسيوس ؛ فهو ليس بمقدوره أن يقبل العرض؛ لأنه رفض القيم التي يعتبرها العرض من المسلمات، تلك القيم التي طالما عاش هو وفقا لها إلى أن أظهر له أجاممنون، الأعلى منه سياسيا ولكنه أدنى منه حربيا وأخلاقيا، كم هي فارغة. يصرف آخيل البعثة ويسأل معلمه فوينيكس أن يبيت ليلته عنده.
ربما كان هوميروس نفسه هو من ابتدع الظهور المفاجئ لفوينيكس، الذي يمثل الالتزامات العاطفية التي يكنها المرء لعائلته وضرورة الاستجابة لاستعطاف متوسل. يحكي فوينيكس قصة مشوقة عن حياته، وكيف أنه عاشر محظية والده، ثم صار عنينا بسبب لعنة والده. واستقبله بيليوس والد آخيل كلاجئ وسلم إليه الطفل الصغير آخيل ليتولى تنشئته. (لذا فرغم كل شيء ينبغي على آخيل أن يقبل التماس أجاممنون.) إن فوينيكس هو، نوعا ما، «بمثابة» الأب لآخيل، وكونه أبا، فهو يتوقع من آخيل أن يجلب له الشهرة، وأن يقر بفضله. ويقول فوينيكس إنه حتى الآلهة يمكن إقناعها؛ لذا فآخيل، الذي هو مجرد إنسان، يمكن إقناعه أيضا.
يسرد فوينيكس قصة رمزية مبهمة نوعا ما عن كينونات لاهوتية، هن «إلهات الصلاة» اللواتي يتبعن درب «آتي»
atê ، [ربة] «الغضب الشديد والجنون والأذى والخداع والخراب والحماقة»، ذات القوة التي تذرع بها أجاممنون لتبرير سلوكه الطائش. يقول فوينيكس إن «آتي»
Atê
تتسم بالسرعة ودائما ما تسبق إلهات الصلاة. إذا ما خضع المرء لإلهات الصلاة اللواتي يتحن بعدما تصيبه «آتي»
atê (في تلميح إلى أن ذلك الحال الذي كان عليه أجاممنون)، فستصبح الأمور كلها على ما يرام. ولكن إن أنت أنكرت إلهات الصلاة، فستتابع «آتي»
atê
مسيرها بسرعة أكبر. بعبارة أخرى، الأمور لا تزداد سوءا إلا عندما يرفض المرء أن يقبل التسويات العادلة المقدمة بصدق.
في البداية يقدم فوينيكس نصيحة مباشرة، ثم حكاية رمزية، والآن «أسطورة ميلياجروس» المعقدة عن ذلك البطل من أيتوليا (الركن الجنوبي الغربي من بر اليونان الرئيسي، شمال شبه جزيرة بيلوبونيز) الذي قتل الخنزير البري الكاليدوني الرهيب. وأدى الصراع حول الصيد (الخنزير) إلى حرب بين الكاليدونيين وجيرانهم الكوريتيين والتي في غمارها أجهز ميلياجروس على خاله، شقيق والدته. ومقتا لابنها بسبب هذا، أطلقت أم ميلياجروس عليه لعناتها. واستياء من اللعنة حبس ميلياجروس نفسه في حجرته مع زوجته. ورغم أن الكاليدونيين عرضوا عليه هدايا كثيرة ليعود إلى الحرب، فلم يعد إلا عندما وصلت النار إلى بابه، وعندئذ لم يتلق سؤددا من أي أحد. والمغزى الأخلاقي من هذه القصة هو: لا تجعل هذا يكون مصيرك يا آخيل.
خاطب أوديسيوس حب آخيل للمجد، بيد أن فوينيكس خاطب تقديره للسلوك الأخلاقي؛ فالأمور تجري في العالم بهذه الطريقة أو تلك. إن تعرضت للأذى ينبغي أن تقبل التعويض؛ حتى يمكن للحياة أن تمضي في طريقها. كان موقف ميلياجروس مفهوما، ولكن لأنه تمادى فيه، لم ينل أي سؤدد في النهاية. وتلك طبائع الأمور.
أما رد آخيل فمقتضب:
فوينيكس، يا سيدي الكبير، يا أبي، يا من رباك زيوس، إنني لست بحاجة لسؤددهم؛ فإنني، حسبما أظن، أتلقى سؤددا قسمه لي زيوس. (الإلياذة، 9، 607-608)
اعتبر بعض المعلقين أن تصريح آخيل الغريب والمتطرف ينطوي على اكتشافه لطريقة مختلفة لهيكلة القيم، مشابهة لطريقة العالم الغربي المعاصر، يكون فيها الذنب، وليس العار، هو الشعور الأساسي الذي يختلج المرء عندما يتجاوز القواعد الأخلاقية، التي أسماها آخيل قسمة زيوس. وهذا النوع من المواقف تجاه السلوك الخير والشرير هو موقف مصري في الأصل، ولكنه نقح من قبل اليهود والمسيحيين لكي يكون مألوفا لنا. فرادع الذنب نابع من الداخل، وهو شعور المرء بتأنيب الضمير؛ ذلك هو حالنا. أما العار، على النقيض، فينبع من قصور في نمط مثالي لسلوك اجتماعي؛ وذلك هو الحال مع المحارب الهوميري. ظلت الحضارات الآسيوية الحديثة «ثقافات عار» لا يترك فيها «فقدان ماء الوجه» (خسارة المرء لكبريائه) سببا يذكر لبقاء الفرد على قيد الحياة. إن رادع العار هو رادع خارجي، مثلما أن «غنيمة» آخيل هنا هي معادلة لسؤدده. إننا نرى بوضوح عبقرية هوميروس الأخلاقية في ادعاء آخيل الاستثنائي بعدم مبالاته بما يعتقده الناس بشأنه، في رفضه لثقافة العار.
ومع ذلك يقبل آخيل بأن يفكر هو وفوينيكس في اليوم التالي بشأن ما إذا كانا سيرحلان أم لا؛ أي إنه خفف من موقفه. وعندئذ يوجه له أياس الأعظم شأنا أقصر مناشدة، مبديا ملاحظة مفادها أنك إن قتلت رجلا، فإن الناس يأخذون ديته ويتغاضون عن الأمر؛ وهذا التنازع دائر حول شيء أقل أهمية بكثير، حول امرأة، بل إنهم قد عرضوا عليه سبع نساء أخريات. من الواضح أن قلب آخيل قد قد من الصخر؛ فهو رجل سيسمح بموت رفاقه بسبب خصومة حول امرأة.
إن توسل أياس بالصداقة الحميمة له الأثر الأعظم على آخيل، ومع ذلك لا يمكن تنحية غضب آخيل الكاسح جانبا. فهو يتراجع خطوة واحدة: فهو لن يقاتل إلى أن تصل النار إلى السفن. حينئذ فقط سوف يتدخل. (12) «أنشودة دولون» (الكتاب 10)
تشغل القصة، المسماة «الدولونيا» (وتعني أنشودة دولون أو قصيدة دولون)، التي تدور حول غارة ليلية على الطرواديين، الكتاب العاشر ببراعة، وهي قطعة أدبية رائعة تشتمل على مزاج وحشي غريب يميل لقطع الرقاب يظهر لنا جانبا من الحرب لم نعاينه؛ وهي العملية الخفية في خطوط العدو وسط عدد لا يحصى من الجثث من أجل قتل المزيد من الرجال والحصول على معلومات استخباراتية.
تعد «الدولونيا» أوضح مثال على وقوع إقحام جوهري على نص القرن الثامن قبل الميلاد الذي أملاه هوميروس. لا توجد إشارة في أي موضع آخر في «الإلياذة» إلى الأحداث الواردة فيها، وأشار بعض الدراسات الأسلوبية إلى وجود اختلافات عن الكتب الأخرى. على الجانب الآخر، تشير «الدولونيا» إشارة صريحة إلى الموقف المصور قبل حدوث البعثة إلى آخيل، وهي كالآتي: الطرواديون معسكرون في السهل آملين تحقيق النصر في اليوم التالي، وكل جانب يبتغي معرفة المزيد من المعلومات عن نوايا الجانب الآخر. وتحتاج القصيدة إلى فترة راحة من التحرك الكبير المحصور بين بداية غضب آخيل في مشهد «فدية خريسيس» وفورته في مشهد «البعثة إلى آخيل»، و«الدولونيا» تقدم فترة الراحة هذه. قبل بدء القتال في الصباح التالي، يجب أن نشجع الآخيين المحبطين لدرجة أنه في اليوم السابق كان أجاممنون على استعداد لتقبيل قدمي آخيل. لا يمكننا أن نستهل المعركة الكبرى - التي سوف تنتهي بهزيمة الآخيين - بهزيمة وعندئذ سوف تتحقق مشيئة زيوس وصلاة زيوس لثيتيس. إن الآخيين بحاجة إلى التشجيع في هذه المرحلة، والنجاح في الهجوم الليلي يمدهم به. لربما كان هوميروس يستعين بمادة أدبية أقدم، ولكنه أدخل عليها تعديلات لتتناسب مع نواياه الدرامية.
ومع وجود نيران معسكر الطرواديين مشتعلة على مقربة، وآخيل الراغب عن مد يد العون، يوقظ بعض قادة الآخيين بعضهم ويقررون إرسال ديوميديس وأوديسيوس إلى داخل المعسكر الطروادي لاكتشاف ما يمكنهم اكتشافه. في تسليح الجاسوسين تتبين لنا واحدة من الإشارات القليلة إلى أداة ميسينية، وهي خوذة ناب الخنزير التي يأخذها أوديسيوس من شخص يدعى ميريونيس (انظر شكل
2-3 ):
وأعطى ميريونيس أوديسيوس قوسا وجعبة سهام وسيفا، ووضع على رأسه خوذة مصنوعة من الجلد، ومقواة من الداخل بشرائط رفيعة مشدودة بإحكام، أما من الخارج فوضعت بإحكام وبطريقة بارعة أنياب خنزير بري لامعة على هذا الجانب وذاك، وفي وسطها ثبتت بطانة من اللباد. (الإلياذة، 10، 260-265)
تنوقلت الخوذة عبر أجيال عديدة حتى وصلت إلى ميريونيس؛ لذا فقد يكون هوميروس نفسه قد رأى واحدة، ولم يؤل إليه الوصف من مئات السنوات قبله.
في الوقت ذاته، يشرع الطروادي دولون، الذي يتصف بالحمق الصارخ، في التجسس على الآخيين. تعهد هيكتور بغطرسة أن يمنح دولون جياد آخيل مكافأة له؛ إذ كان هيكتور واثقا من تحقيق انتصار سريع في اليوم التالي. يرصد ديوميديس وأوديسيوس دولون، ويخضعانه، ويستخرجان منه معلومات، ثم دون سابق إنذار يقطعان رأسه (شكل
4-1 ). إن دولون هو عبارة عن شخصية هزلية، مستغرب في ادعاءاته، وقتله ليس أكثر إثارة للشفقة من قتل قط لفأر.
قبل موته يخبر دولون آسريه عن ريسوس ملك الثراسيين، الوافد حديثا ومعه خيول أصيلة ورجال كثيرون، ويتسلل الثنائي الذي لا يكل إلى الصفوف، ومثل أبطال لعبة فيديو يجهزان على واحد تلو الآخر. فبينما يتولى ديوميديس عملية القتل، يسحب أوديسيوس جانبا الجثث ليمهد سبيلا للخيول التي يسرقانها، والتي قد تحجم عن السير فوق الجثث البشرية! ثم يقتلان ريسوس نفسه، ويأخذان الخيول الأصيلة وبمهارة ويعودان إلى المعسكر معتلين صهوتها وبداخلهما نشوة الانتصار، وهي الإشارة الوحيدة في القصائد إلى الركوب على صهوة الخيل.
تنسجم الأحداث في «الدولونيا» مع قدر التعطش للدماء الذي يمارس في أكثر أحداث الحرب. ومثل هذا السلوك بالضبط كان النشاط الرئيسي للقبائل الهندية الأمريكية المقاتلة في السهول الشمالية إبان القرن التاسع عشر، من التسلل إلى معسكر للعدو، وقتل بعض الأعداء أثناء نومهم، وسرقة الخيول، وقتل الأسرى، ثم الانصراف ممتطين ظهور الخيل دون سرج. وحمل رجال القبائل أولئك أيضا الأقواس والسهام أسلحة رئيسية لهم، مثلما يحمل أوديسيوس قوسا وسهاما هنا، وإن كان لا يستخدمها على الإطلاق. وفي الواقع لم يعرف ديوميديس وأوديسيوس أي شيء عن نوايا العدو، ولكن لا يبدو أن أحدا يعير ذلك اهتماما.
يعترض نقاد «الدولونيا» على سلوكيات قطع الرقاب التي تتضمنها، ولكن هذا النوع من النقد هو نقد غير تاريخي. أو أنهم يرون أن الكتاب خارج عن سياق «الإلياذة»، بل مجرد مطاردة مثيرة عبر الظلال فوق تلال من الجثث وأن كسر شوكة عدو غافل هو أمر سيبرر نفسه بنفسه. ولا نندهش أن نجد الآخيين في الصباح التالي مستعدين للهجوم. (13) «جرح القادة» (11، 1-595)
وهذا بالضبط ما حدث؛ إذ عندما يبدأ القتال في اليوم التالي، يصف هوميروس في تفصيل ممتع مهارات أجاممنون القتالية الفذة، عدو آخيل اللدود، الذي كان آخيل قد دعاه جبانا و«امرأة». هذه هي فرصتنا لنرى أجاممنون، الذي يزعم أنه «أفضل الآخيين»، في غمار معركة حربية. بادئ ذي بدء يسلح أجاممنون نفسه (11، 15-46)، في واحد من أكثر نماذج مشاهد هوميروس النمطية عن التسلح تفصيلا، عدا مشهد تسلح آخيل الذي يأتي لاحقا (19، 369-391). عندما يتسلح محارب، فإنه يرتدي أو يخلع القطع نفسها بالترتيب ذاته. يرتدي أجاممنون أولا درع الساق، ثم قطعا فضية للكاحل، ثم الدرع الواقي للصدر، وهو هدية من قبرص مزين بلفائف من اللازورد، والذهب، والقصدير ومرصع بحليات لازوردية على شكل حيات، ثم يضع حول كتفيه سيفه، ويرفع درعه «الذي يحمي الرجل على الجانبين» (11، 32)، المزين بدوائر من البرونز، ونقوش بارزة من القصدير، ورأس الجورجونة. ثم يأخذ خوذته ذات القرنين والمزينة بعرف من شعر الخيل ، وأخيرا، رمحين.
شكل 4-1: «الدولونيا»، على مزهرية أتيكية، يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 410 قبل الميلاد. المشهد يحدث في غابة. أوديسيوس إلى اليسار، يرتدي قبعة مسافر مخروطية ويمسك بخنجر، ويمسك بتلابيب دولون بيده اليسرى بينما إلى اليمين نجد ديوميديس، مرتديا خوذة، يحتضن رمحا، يمسك به من الناحية الأخرى. يحمل دولون قوسا وجعبة سهام ويلبس قبعة وعباءة من جلود الحيوانات. حقوق النشر محفوظة للمتحف البريطاني (
F 157 ).
مدججا بالسلاح والدروع، يسحق أجاممنون الطرواديين سحقا في «لحظة امتياز» بديعة. ويصل الأمر إلى درجة أن زيوس يثني هيكتور عن الاقتراب من أجاممنون، الذي من الجلي أنه في مجده، إلى أن يصاب أجاممنون، ويعده زيوس أنه عندئذ سوف يتحول التفوق إليه. وعلى مدار 200 بيت لاحقة يظل أجاممنون يجتز الرءوس، إلى أن يصاب أخيرا بجرح يؤلمه مثل الألم الوخزي الذي تشعر به المرأة عند المخاض.
عندئذ يأتي دور هيكتور في القتل. في بيان المعمعة، يستخدم هوميروس أداة لدفع المستمع إلى التركيز عندما ينقل زمام القيادة إلى شخصية أخرى، ويطرح لغزا بلاغيا على المستمع؛ إذ يتساءل قائلا: «من كان أول القتلى؟» لنحصل حينها على قائمة طويلة.
أصيب أجاممنون، والآن يأتي دور ديوميديس، الذي يضربه باريس بسهم. فيقول ديوميديس متبرما إن الرجال الحقيقيين يقاتلون بالرماح (وهو أمر فوق طاقة باريس)، ولكنه يصاب «بالفعل» ويتدخل أوديسيوس ليكون له ساترا. يمر أوديسيوس «بلحظة امتياز» محدودة، ويسقط طرواديون كثيرون قبل أن يصاب هو الآخر. والآن يأتي دور أياس الأعظم شأنا، الذي يقتل المزيد من الطرواديين، ولكنه يدفع هو الآخر إلى التراجع.
إن هوميروس آخذ في التجهيز لنقطة التحول الثانية في الحبكة، وهي موت باتروكلوس، تلك التي سوف تعيد آخيل إلى القتال وتوجه القصة إلى موضع انحلال عقدتها المتمثل في مقتل هيكتور وافتداء جثته؛ إذ يؤدي جرح الأبطال أجاممنون، وديوميديس، وأوديسيوس وتراجع أياس إلى جعل هذا التحول في الأحداث حتميا. (14) «خطة نيستور» (11، 596-848)
أصاب باريس ماخاون، طبيب الجيش، ويحمل نيستور الحكيم الرجل الجريح بعيدا في عربته. ويراهما آخيل بينما يشرئب بعنقه ويراقب من مؤخر سفينته، متلهفا معرفة أخبار سير المعركة. فيبعث بباتروكلوس لمعرفة من جرح. كان باتروكلوس حتى ذلك الحين في خلفية الأحداث، ولكنه في هذه اللحظة يتحدث للمرة الأولى وسرعان ما يصبح محطا للأنظار.
يود نيستور أن يحسن وفادة باتروكلوس ويبرز كأسا متوارثة، وهي «كأس نيستور» الشهيرة. كما رأينا سابقا (راجع حديثنا عن كأس نيستور في نهاية الفصل الأول)، تشير كأس من جزيرة إسكيا في خليج نابولي، منقوش عليها«هذه هي كأس نيستور ...»، إلى وجود نص أقدم من «الإلياذة»، إن كانت الكأس تفصيلة من بنات أفكار هوميروس وليس عنصرا تقليديا متوارثا في نظم الشعر الشفاهي. على الرغم من أن باتروكلوس يتوق للعودة إلى خيمته، ما إن يرى أن ماخاون هو الذي جرح، فإن نيستور يبقيه بأن يروي له مآثره القتالية عندما كان شابا في شمال غرب شبه جزيرة بيلوبونيز. والسبب وراء قتله لرجل يسمى إيتيمونيوس في غارة لسرقة الماشية في عمل انتقامي موجه ضد أوجياس ملك إيليس (الذي قتله هرقل [هيراكليس] حسب تراث شعبي لاحق). ويصف له الحرب التي أعقبت ذلك. يعتقد الكثيرون أن هذا النوع من القصص المحلية، مثل قصة نيستور، تولد عن أحداث حقيقية، حفظها المنشدون الملحميون، وأن هوميروس، بطريقة أو بأخرى، سمع القصائد تنشد في غرب شبه جزيرة بيلوبونيز.
إن نيستور ثرثار ولكنه واضع للخطط، فيقترح أن يلبس باتروكلوس درع آخيل ليجعل الطرواديين يظنون أن آخيل قد عاد. وهذا من شأنه تخفيف العبء ورفع المعاناة عن الآخيين، المتدهور وضعهم في القتال تدهورا كبيرا. ومن خطة نيستور يأتي كرب لا يخمد يصيب آخيل ودافع جديد لغضبه الهائل. (15) «المعركة عند الجدار» (الكتاب 12)
وصف هوميروس سابقا بناء جدار غامض لحماية السفن (مع أنهم تدبروا أمرهم لتسع سنين من دون جدار)، والآن يستعين باللغة الأسطورية للفيضان العالمي ليعلل اختفاء الجدار في نهاية المطاف:
عندما لقي أشجع الطرواديين جميعا حتفهم، ومات كثير من الأرجوسيين وبقي بعضهم، ونهبت مدينة بريام ودمرت في السنة العاشرة، ورجع الأرجوسيون في سفنهم إلى أرض أجدادهم الحبيبة، عندئذ تشاور بوسيدون وأبولو بشأن تدمير الجدار، مستعينين بقوة جميع الأنهار التي تجري من جبل إيدا إلى البحر. (الإلياذة، 12، 13-18)
إن رؤية هوميروس هي رؤية مستقبلية لوقته الحاضر الذي يسترجع من خلاله الأحداث التي يصفها في هذه اللحظة. ليس ثمة شك بشأن النهاية التي سوف تئول إليها الحرب، فلا حيرة ولا ترقب في أذهان المستمعين. إن تدمير الجدار يرمز إلى الفاصل بين الماضي البطولي وزمن هوميروس المعاصر، ولكن لغة الطوفان العظيم، الذي يكتسح كل شيء أمامه، قد تعود إلى قصة يرجع أصلها إلى بلاد ما بين النهرين عن الطوفان الذي أغرق العالم. لا يمكن لأي يوناني أن يكون قد مر بتجربة مباشرة مع مثل هذه الفيضانات الكارثية، ولعلنا في هذه الفقرة نلمح العناصر العريقة في القدم في قصائد هوميروس.
عندما يتخذ باتروكلوس سبيله عائدا إلى خيمة آخيل، يشدد هوميروس على الخطر المحيق بالسفن ويصعد من الاحتياج الماس إلى تنفيذ مخطط نيستور لإرسال آخيل بديلا. إن هيكتور يهاجم الجدار فعليا، والكتاب الثاني عشر بأسره مخصص لهذه المعركة المهمة والضخمة. ونعرف الآن أن ثمة خندقا به أوتاد خطرة مثبتة فيه يجثم أمام الجدار، الذي يشتمل على بوابات عديدة. وخوفا من الخندق، يترجل الطرواديون على أقدامهم، وينقسمون إلى ست فرق، ويتحضرون للهجوم في الوقت الذي يهرع فيه الآخيون إلى الداخل.
إن لغة هوميروس في هذه السلسلة الطويلة لمشاهد المعركة، التي تؤدي إلى نصر مؤقت لهيكتور، مستمدة من الموضوع التقليدي المتعلق بنهب وتدمير مدينة، وفي بعض الصيغ من موضوع نهب وتدمير طروادة. بل إن هوميروس يشير في إحدى المرات إلى الجدار بكونه «حجريا» تضطرم فيه النيران (12، 177-178)، على الرغم من أن الجدار ليس حجريا ولا النيران مضطرمة فيه. ونجد أن التصوير على مدار الكتاب الثاني عشر يتمحور حول نهب وتدمير مدينة، وليس حول الاستيلاء على جدار دفاعي:
سعوا، معتمدين على بأسهم، لتحطيم جدار الآخيين العظيم. فهدموا أبراج التحصينات وأسقطوا شرفات الجدار الدفاعية ونزعوا الدعامات التي كان الآخيون قد وضعوها في البداية في الأرض تدعيما للجدار، فحاولوا سحبها وإخراجها، وكانوا يأملون أن يحطموا جدار الآخيين. ومع ذلك لم يفسح لهم الدانانيون السبيل، وإنما سيجوا شرفات الجدار الدفاعية بجلود الثيران وتحصنوا بها واستمروا يقذفون على الأعداء، بينما كانوا يقتربون من الجدار. (الإلياذة، 12، 256-264)
ويثبت فأل مخيف لنسر يهاجم ثعبانا لا يزال حيا أن نصر الطرواديين سيكون مؤقتا، ولكن هيكتور يرفض الفأل بغضب شديد؛ فمثل هذا الهوس متوقع من رجل مصيره الهلاك (12، 195-250).
بعد قتال مثير، يهاجم الليكيون بقيادة ساربيدون وجلاوكوس (الذي تبادل الدروع في السابق مع ديوميديس فأعطاه درعه الذهبي وأخذ درع ديوميديس البرونزي) إحدى البوابات. ويلخص ساربيدون عقيدة الأبطال (12، 322-328): لو كان بمقدور المرء، بطريقة ما، أن يفلت من قبضة الموت، لما كان للحرب معنى؛ ولكن بما أنه لا يوجد إنسان يفلت من قبضة الموت، فيمكنك بالمثل أن تسلك مسلكا مشرفا.
وفي حماسة شديدة، يهاجمان الجدار بضراوة حتى إن مينلاوس، ملك الأثينيين، المدافع عنه، يستدعي الأياسين، اللذين يحبان أن يقاتلا معا (ليسا أقرباء). فيهرع أياس الأعظم شأنا، ابن تيلامون، إلى معاونة مينلاوس ويقتل الكثيرين حينما يصعد هيكتور، الذي يلتقط حجرا ضخما ويقذف به على البوابات، فيكسر المزلاج، وتنفتح البوابة على مصراعيها. ويخترق الجدار. (16) «المعركة عند السفن» (الكتاب 13)
كان من شأن دخول المعسكر وحرق السفن أن يكون فائق السهولة على هيكتور والطرواديين، في الوقت الذي يعود فيه باتروكلوس أدراجه إلى خيمة آخيل. ولكن هوميروس بحاجة إلى إبطاء الأحداث حتى يستطيع الاستمرار في تسلية المستمعين عبر تصويرات حية للعنف. ثمة ميزة ملحوظة في أسلوب هوميروس؛ إذ رغم تسارع الأحداث، لا يوجد تعجل لإنهاء القصة، كما لو لم يكن لديه أي قيود زمنية على الإطلاق. كنا نتمنى لو استطعنا تفسير ميل هوميروس إلى هذه الوتيرة المتمهلة، ولكن لا يسعنا إلا أن نستنتج أن ناسخه وراعيه أعجبا واستمتعا بها. لقد كان هوميروس هو أعظم أساتذة إطالة أمد الأحداث؛ إذ، حسبما نعلم، لم ينظم أي شاعر آخر قصائد بهذا الطول.
في هذا الموضع نجده يبطئ تسارع الأحداث بمشهد «المعركة عند السفن»، الذي يختبر فيه إقدام هيكتور؛ بسبب تغافل زيوس وتحريض بوسيدون . يجلب هوميروس إلى الموقف الدرامي كل القادة العظام (عدا آخيل) من الجانبين، ونحصل على أفضل لقطة لقادة الجيشين المتحاربين حتى الآن. فقادة الآخيين (بالنظر إلى أن ديوميديس، وأجاممنون، وأوديسيوس مصابون) هم الأياسان، وتوسر (الأخ غير الشقيق لأياس ابن تيلامون)، وأنتيلوخوس (ابن نيستور)، ومينلاوس، وإيدومينيوس ملك الكريتيين، ومينيسثيوس ملك أثينا (وليس ثيسيوس الشهير، الذي كان سلفه)؛ أما قادة الطرواديين فكانوا الأشقاء الأربعة هيكتور، وباريس، وديفوبوس (الذي سوف يصبح قرين هيلين بعد موت باريس)، وهيلينوس (العراف)، فضلا عن إنياس (ابن أفروديت).
عندما يقول هوميروس إن انتباه زيوس شرد بعيدا عن ساحة المعركة، يعرف المستمع أن ثمة استطرادا في سبيله إلى الوقوع، وهو في هذه الحال استطراد طويل جدا؛ إذ لا يعيد هوميروس المعركة إلى ما كانت عليه عند نهاية مشهد «المعركة عند الجدار» إلا بعد ذلك بكتابين ونصف.
في موضع سابق هدد بوسيدون وهيرا بالتصدي لمخطط زيوس لهزيمة الآخيين، والآن يستغل بوسيدون غفلة زيوس الطائشة ليدخل المعركة بنفسه. يقبل بوسيدون على طروادة في وصف مؤثر:
فأسرج إلى عربته جواديه ذوي الحوافر البرونزية، سريعي الحركة بعرفيهما الذهبيين، وكسا جسده بالذهب وتزود بالسوط الذهبي متقن الصنع وامتطى عربته وقادها فوق الأمواج. إذ ذاك تقافزت وحوش البحر من تحته من كل جانب منطلقة من الأعماق؛ إذ كانت تعرف سيدها جيدا، وانشق البحر عن طيب خاطر أمامه. وانطلق الجوادان المتبختران بأقصى سرعة دون أن يبتل دولاب العجلات البرونزي تحتهما يحملان سيدهما إلى سفن الآخيين. (الإلياذة، 13، 23-31)
إن كل تمثيل فني لبوسيدون/نيبتون يرجع إلى هذا الوصف، كما فهم هيرودوت عندما أشار إلى أن هوميروس وهيسيود «هما اللذان لقنا اليونانيين بشأن نزول الآلهة، ومنحا الآلهة أسماءها، وحددا نطاقاتها وأدوارها، ووصفا أشكالها الخارجية» (كتاب «التاريخ» لهيرودوت، 2، 53).
متخذا هيئة العراف كالخاس، يحمس بوسيدون الأياسين وقائمة من الأسماء الأخرى. ويموت الكثيرون مع اشتداد وطيس القتال. يتخذ بوسيدون هيئة شخص يدعى ثواس ويشجع الملك الكريتي إيدومينيوس، الذي يلقى مواطنه الكريتي ميريونيس بعد ذلك بفترة وجيزة، على الخروج من المعركة لجلب رمح، مما يتيح لإيدومينيوس أن يلقي خطابا عن الشجاعة والجبن، وكأن هوميروس لا يشعر أبدا بالحاجة إلى العجلة.
من الصعب أن ندرك كيف يتخيل هوميروس توزيع القوات؛ لأن بوابة واحدة فقط هي التي خلعت، وهو الموضع الذي منه هاجم هيكتور ودافع الأياسان. غير أنه يبدو أن الصف منقسم إلى ثلاثة أجزاء، جناحين وقلب، مع أننا لا نسمع أي شيء على الإطلاق عن ميمنة الجيش الطروادي. يمضي إيدومينيوس وميريونيس إلى ميسرة الجيش الطروادي ويقتلان كثيرين، بعضهم ممن لهم شأن. وسرعان ما يجد إيدومينيوس نفسه مع إنياس العظيم، الذي يدخل معه في مبارزة غير فاصلة. ويصاب الطروادي هيلينوس، وهو رامي سهام مثل باريس، والطروادي ديفوبوس وينسحبان. وفي رقصة الموت المعقدة، يرضي هوميروس ولع جمهوره بسفك الدماء التخيلي ويقدم للعالم أول وصف لمشهد «إصابة بطلقة في الأحشاء»، وهي أسوأ طريقة للموت (كما يعرف كل مقاتل بالأسلحة النارية):
تراجع أداماس وسط جمع رفاقه، اتقاء للمنية. ولكن ميريونيس لاحقه فيما كان يمضي ورماه برمحه، وأصابه في المنتصف فيما بين أعضائه الحميمة وسرته، وهي أكثر المواضع التي يقسو فيها آريس على الفانين التعسين. ومع ذلك غرز [ميريونيس] رمحه في ذلك الموضع وكان الآخر [أداماس] يتلوى، وهو ينحني نحو قصبة الرمح التي اخترقته، كثور قيده الرعاة وسط الجبال بحبال مجدولة وجروه معهم بالقوة، هكذا، حينما تلقى الضربة، تلوى قليلا، ولكن ليس لوقت طويل. (الإلياذة، 13، 566-573)
بعد ذلك في موضع ما (13، 617)، يحطم مينلاوس عظام وجه أحد الرجال تحطيما؛ حتى إن عينيه تخرجان من محجريهما وتسقطان على الأرض!
تؤدي إنجازات إيدومينيوس العظيمة في ميسرة الجيش الطروادي، بالإضافة إلى مقاومة الأياسين الصلبة لهيكتور في قلب الصف، ببوليداماس إلى حث هيكتور على التراجع. كان بوليداماس هو الذي فسر في وقت سابق نذير النسر والثعبان الباقي على قيد الحياة. يتفقد هيكتور الميسرة وينتقد شقيقه باريس بغلظة، كما هي العادة، ثم يعود إلى قلب الجيش حيث يتجدد القتال. يستعد هيكتور لمنازلة أياس ابن تيلامون. من الناحية العسكرية، لم يتغير شيء منذ حطم هيكتور البوابة. ويستمر هوميروس ببراعة فائقة في تأخير الأحداث. وإننا لنتساءل أين آخيل وأين باتروكلوس طوال هذا الوقت؟ (17) «خداع زيوس» (الكتاب 14)
من أجل أن يمنح هوميروس عمقا لتأخيره للأحداث، وليضفي معقولية على عنفوان المقاومة الآخية، يقدم سلسلة من المشاهد التي تجري على ما يبدو في نفس وقت «المعركة عند السفن»، حسب عرف في النظم الشعري الملحمي مفاده أن الأحداث المتزامنة تروى متوالية (لا يتفق جميع الباحثين مع هذا الرأي). على أي حال، فإنه في نهاية مشهد «المعركة عند السفن»، يدخل هيكتور في مواجهة مباشرة مع أياس؛ وفي نهاية مشهد «خداع زيوس» يواجه أياس مرة أخرى. يبدو أن هوميروس يكمل من حيث توقف.
والآن فقط يخرج نيستور من خيمته؛ إذ يدفعه صوت المعركة إلى التنبه. فيتسلح سريعا، وينطلق، وعلى الفور يلقى رهط القادة الذين أصيبوا سابقا في القتال، أجاممنون، وديوميديس، وأوديسيوس، وثلاثتهم يتكئون على رماحهم كما لو أنهم شيوخ طاعنون في السن، ويا له من منظر بائس! للمرة الثالثة في القصيدة، يقترح أجاممنون القانط والفظ أن يلوذوا بالفرار، إلا أن أوديسيوس يسكته بمحاضرة خشنة مفادها: إن هربوا، فسيفقد الرجال المرابطون على الجدار شجاعتهم وثقتهم ويقتلون. لدى ديوميديس الجواب؛ فرغم أنهم مصابون، فإنهم ينبغي أن يعودوا ويقاتلوا. ويظهر بوسيدون المتخفي، الذي يتجول بين الصفوف يلهب حماس الآخيين للقتال دفاعا عن السفن، بجانبهم.
في تلك الأثناء، تستمر الحياة في السماء بسلاسة وبلا هموم. فلا نجد تفسيرا على الإطلاق لغفلة زيوس في بداية «المعركة عند السفن»، إلا أن هيرا تبرزها؛ إذ تستحسن جهود بوسيدون للتدخل. إن رؤية هوميروس الهزلية لاذعة وهو ينتقل من الميتات البشعة للكثيرين ومصير المحارب المروع إلى ما يجري في قاعات السماء. وحتى تتيقن هيرا من أن يظل زيوس غافلا عن نية بوسيدون لمعاونة الآخيين، فإنها تضع خطة مستحيلة؛ إذ سوف تغوي زوجها!
يصف هوميروس، في محاكاة ساخرة قوية لمشهد تسلح [أثينا]، كيف تضع هيرا زينتها؛ إذ تمسح بالزيت بغزارة على جسدها ، الذي لا يكون لزيوس رغبة عادة في لمسه. ومع ذلك ستظل بحاجة إلى المزيد من المساعدة، وتحصل عليها من شقيقتها أفروديت، في صورة تميمة للحب على هيئة حزام. وأيضا ترشو الإله العظيم النوم لينضم إليها.
في مشهد مضحك يتملى هوميروس بناظريه في الإلهة المجددة ولا يدور بخلده إلا خاطر واحد، وهو أن يقنع هيرا بحدة رغبته الجنسية، فيلقي على سمعها قائمة سريعة بالنساء الكثيرات جدا اللواتي خانها معهن:
أما الآن، فتعال نسعد ونضطجع معا عشقا، فلم تواتني الرغبة إلى ربة أو حتى إلى امرأة فانية بمثل ما تغمر قلبي الذي بين أضلعي وتدفعني لإشباعها الآن. بل إنني لم أتيم عشقا، ولا حتى بعروس إكسيون التي أنجبت لي بيريثوس، صنو الآلهة في الحكمة. ولا شغفتني حتى داناي، جميلة الكعبين، ابنة أكريسيوس، التي أنجبت بيرسيوس المتفوق على المحاربين أجمعين؛ وما همت بابنة فوينيكس ذائعة الصيت التي أنجبت لي مينوس ورادامانثيس الإلهي؛ ولا لم أتيم بسيميلي ولا بألكميني في طيبة التي أنجبت لي هرقل الابن الشجاع القلب؛ وسيميلي التي أنجبت ديونيسوس بهجة الفانين؛ ولا بالمليكة ديميتر جميلة الضفائر. ولم أشغف بليتو المجيدة، بل ولا بك أنت نفسك بمثل ما أتيم بك الآن وتتملكني الرغبة اللذيذة والشهوة الطاغية. (الإلياذة، 14، 314-328) [ترجمة عبد السلام البراوي، المركز القومي للترجمة (بتصرف)]
وبينما يتطارح زيوس وهيرا الغرام على قمة جبل إيدا تنبت الزهور من حولهما. يربط مؤرخو الأديان هذا الوصف بعبادة الخصوبة؛ لأن زيوس هو إله السماء وهيرا مثل الأرض، كما لو كان اتحادهما هو اتحاد بين السماء والأرض الكائنين منذ الأزل. غير أن اهتمامات هوميروس هي اهتمامات ساخرة تماما. فهوميروس يخفف مشاهد سفك الدماء وبقر البطون وتمجيد الذات المبالغ فيه لأبطاله الفانين بضحك فاحش من شأن جمهور كله من الذكور له زوجة واحدة فقط أن يستمتع به كثيرا.
ما إن يفتن زيوس على يد هيرا ويخضعه [إله] النوم، حتى يصبح لدى بوسيدون الحرية في أن يفعل ما يشاء (أي أن يتصرف بالطريقة التي ورد وصفها في مشهد «المعركة عند السفن»). في المبارزة بين أياس وهيكتور، التي نعود إليها الآن، يضرب أياس هيكتور بحجر، وتذهب كل جهود زيوس لتنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه لثيتيس، في اللحظة الحاضرة، هباء؛ فبمشيئة زيوس فقط يمكن أن تكون الغلبة للطرواديين. وزيوس في سبات عميق. (18) «النيران تحيق بالسفن» (الكتاب 15)
عندما يستيقظ زيوس يتميز غيظا ويرى مسلك بوسيدون ودور زوجته فيه. وإبهاجا لجمهور هوميروس بلمحات من سلطة الذكور التي لا تقاوم، يصف زيوس معاملته القاسية لهيرا في السابق، عندما تجاوزت حدودها:
ألا تذكرين عندما علقت من عل، ومن قدميك دليت سندانين، وحول معصميك سبكت عصابة من الذهب لا يمكن كسرها؟ وتدليت معلقة في الهواء وسط السحب، وكانت الآلهة في كل أرجاء الأولمب الشاهق ساخطة، ولكنهم لم يكونوا قادرين على الاقتراب وتخليصك؟ (الإلياذة، 15، 18-22)
تقسم هيرا قسما لا ينقض أن «الأمر كله من فعل بوسيدون». أوضح زيوس موقفه بجلاء، وبنبرة ألطف يأمر بأن تتدخل إيريس هي وأبولو لقلب الأوضاع غير المرضية.
في «الإلياذة» لا يستخدم زيوس العنف أبدا مع الآلهة الآخرين، على الرغم من أنهم يتآمرون عليه باستمرار. في هذا الموقف يجمل زيوس حبكة «الإلياذة»، مؤكدا سلطته وموضحا مسلكه، بعبارات احتفظ بها هوميروس في رأسه وهو يستفيض ويتوسع بتكاسل في نظم 16 ألف بيت من الشعر:
ليقهر هيكتور الآخيين ثانية، بأن يبث فيهم رعبا شديدا مثلما فعل من قبل. حتى يهربوا ويتراجعوا بين سفن آخيل بن بيليوس كثيرة المجاديف، ولسوف يبعث آخيل رفيقه باتروكلوس، الذي مع ذلك سيقتل على يد هيكتور المجيد برمح أمام أعين سكان إليون، بعد أن يقتل باتروكلوس آخرين كثر، ومن بينهم ابني ساربيدون الوسيم. وفي فورة غضب آخيل لمصرع باتروكلوس سوف يقتل هيكتور. ومن ذلك الحين فصاعدا سوف أحدث تراجعا في صفوف الطرواديين بعيدا عن السفن أكثر وأكثر إلى أن يستولي الآخيون على إليون العالية بناء على توصيات أثينا. ولكن حتى ذلك الحين لن أكبح جماح غضبي، ولن أسمح لأي أحد آخر من الآلهة الخالدين أن يقدم العون للدانانيين هنا، إلى أن تتحقق رغبة ابن بيليوس، كما تعهدت في البدء وأومأت برأسي موافقة أيضا، في اليوم الذي أمسكت فيه الإلهة ثيتيس بركبتي، سائلة إياي أن أمجد آخيل مدمر المدن. (الإلياذة، 15، 61-77)
في توضيحه يرضخ زيوس لهيرا؛ لأنه يسلم بأنه في النهاية سوف تسقط طروادة، كما ترغب. إن زيوس مع كل ما له من قدرة لا يستطيع أن يغير ما هو مقدر له أن يكون.
بيد أن ما تحيكه هيرا السيئة الطبع من مكائد لزوجها المهدد المتوعد لم ينته، وعندما تعود إلى الأولمب تحرض الآلهة الآخرين وتثير غضب آريس، بسبب موت أحد أبنائه، حتى إن آريس يستعد للذهاب إلى السهل وخوض غمار المعركة متحديا توجيهات زيوس. فتثنيه أثينا، التي تظن أن زيوس يعني ما يقول، عن ذلك. وكذلك لا تلقى الرسولة إيريس بترحاب عندما تبلغ بوسيدون بأن يكف [عن الحرب والقتال]. إن تفهم بوسيدون لتوزيع السلطات منذ الأزل يضعه في مكانة متساوية مع زيوس ومع هاديس، ويحتج بأن كل واحد منهم يسيطر على ثلث من العالم. من الواضح أن سلطان زيوس ليس مكفولا تبعا للقواعد المنظمة للسلطات أكثر من سلطان أجاممنون. ومع ذلك فإن بوسيدون يفضل، هذه المرة، ألا يشدد على هذه النقطة.
ينعش أبولو الإله الشافي هيكتور ويعيد الآخيين - وهو يمسك «أيجيس» (الدرع) المخيف السحري أمامه، وهو أداة ترتبط عادة بزيوس أو أثينا - أدراجهم نحو السفن. قد يكون «الأيجيس»، (وتعني «جلد الماعز») في الأصل درعا بدائيا ويظهر في الفن الكلاسيكي مع ثعابين على هيئة شرابات (شراشيب) عليه رأس جورجونة. لا يريد هوميروس أن يورد ثانية وصفا لهجوم معقد على الجدار؛ لذا يدك أبولو بتلويحة من يده قسما من التحصينات. وبأمر من زيوس تمضي المعركة في مصلحة الطرواديين (على الرغم من أنك إن عددت القتلى، ستجد أمام كل قتيل من الآخيين قتيلين من الطرواديين). يذكرنا هوميروس بأن باتروكلوس لا يزال في طريقه إلى خيمة آخيل.
في قتال شرس يتراجع الآخيون إلى السفن، ويعتلي أياس الأعظم شأنا، ابن تيلامون، إحدى السفن وبحربة طولها ثلاثون قدما من الحراب التي تستخدم في المجابهات بين السفن يبعد الطرواديين حاملي النيران، مرديا اثني عشر بضربات بارعة. بيد أن النار تصل لا محالة إلى السفن. (19) «موت باتروكلوس» (الكتاب 16)
ينتقد باتروكلوس، المهتاج بسبب المحنة التي يتعرض لها الجيش، آخيل انتقادا لاذعا؛ لأنه سمح للغضب بالقضاء على ما لديه من شفقة. يعترف آخيل بذلك ولكنه عاجز أمام هذا الشعور الطاغي:
إن حزنا رهيبا يصيب القلب والروح عندما يبتغي رجل أن يحقر ندا له ويجرده مما حظي به من غنائم
geras
لأنه يفوقه سلطة. إن هذا الأمر أصابني بحزن رهيب، ولقد عانيت حرقة في قلبي جراء ذلك. الفتاة التي انتقاها لي أبناء الآخيين غنيمة
geras ، تلك التي فزت بها برمحي عندما اجتحت مدينة محصنة، سلبها أجاممنون بن أتريوس صاحب الأمر من بين ذراعي، كما لو كان يحسبني دخيلا لا حقوق له. (الإلياذة، 16، 52-59)
يعود آخيل بتألق فائق إلى شخصية متبع منهج الأخلاق المطلقة الذي تعرض وما زال يتعرض للغبن، ومع ذلك لن يسكت على هذا الغبن، وهي الشخصية التي تتوهم عالما يفنى فيه كل الطرواديين وكل الآخيين. ولا يبقى فيه إلا هو وباتروكلوس فحسب:
يا أبانا زيوس ويا أثينا ويا أبولو، إنني أتمنى ألا ينجو واحد من الطرواديين، أيا كان عددهم، من براثن الموت، ولا من الأرجوسيين، فلا يسلم من الهلاك سوانا نحن الاثنين، حتى نقضي وحدنا على تاج طروادة المقدس. (الإلياذة، 16، 97-100)
لن يرجع آخيل ولكنه لن يخرج على خطة نيستور. إن آخيل في اضطرابه لا يرى أنه تخلى عن عزمه على ألا يستسلم أبدا حتى يتجرع أجاممنون مرارة الهزيمة حتى الثمالة. فقد قال لأياس في مشهد «البعثة إلى آخيل» إنه سوف يعود عندما تصل النيران إلى السفن، ولكنه لن يفعل. إنه يحاول أن يمسك بالعصا من المنتصف؛ بأن يتمسك بعزمه على أن يجعل أجاممنون وأعوانه يقاسون الويلات، وأن يرضخ أمام استعطاف رفيقه والشدة التي يتعرض لها الجيش. إنه لا يعرض لعدم الاحترام الذي أبدي له إلا لميل لديه نحو تجاوز ما يشعر به من ضير. فسماح آخيل لباتروكلوس بالذهاب إلى المعركة بديلا له يتعارض مع ما عزم عليه، ويعرض حياة رفيقه للخطر، ويزيد من تعرض سؤدد وشرف آخيل نفسه للخطر، إن أحرز باتروكلوس نجاحا أكثر من اللازم؛ ولهذا السبب ينبه آخيل باتروكلوس إلى أن يصد الطرواديين فقط، وأن يرجع بعد ذلك. ووسط مشاعر من الغضب والتعاطف تتنازعه، يتخذ آخيل قرارا لا يمكن أن يجلب إلا كارثة مع خروج حياته عن نطاق السيطرة.
يلبس باتروكلوس أسلحة آخيل (عدا الرمح، الذي لا يستطيع أحد حمله إلا آخيل). كان الغرض الأصلي من ذلك هو بث الخوف في قلوب الطرواديين بإيهامهم بعودة آخيل إلى القتال، ولكن هوميروس يصرف النظر عن هذه الحيلة ويقدم باتروكلوس فحسب في لحظة امتياز مبهرة. فيقتل عددا كثيرا، ويعوق تقدم الطرواديين، ويلقي بآخرين داخل الخندق أمام الجدار. ويجابه ساربيدون العظيم، زعيم الليكيين، أحد أبناء زيوس نفسه ورفيق جلاوكوس (الذي أعطى درعه الذهبية لديوميديس؛ لأن أسلافهما كانوا أصدقاء ضيافة). يفكر زيوس المهموم في أمر إنقاذ ساربيدون، وهو من الأبطال الأدنى شأنا، من مصيره، ولكن هيرا تذكره بأنها كانت ستفعل الشيء نفسه، وبعدها يمكن لأي شيء أن يحدث. إن حديثهما ليس بيانا للتصور اليوناني للقدر بقدر ما هو وصف لمتطلبات القصة. إن «القدر» بالنسبة إلى هوميروس هو الحبكة، ومن أجل مصلحة الحبكة، يجب أن يموت ساربيدون.
في كل سرديات القتال يواجه هوميروس مشكلة تمجيد مقاتليه مع تجنب القضاء على الرجال أنفسهم الذين سوف يجلب مقتلهم المجد؛ فاللافت للنظر أن بطلين فقط من الأبطال الرئيسيين يلقيان مصرعهما في القصيدة، وهما باتروكلوس وهيكتور. فعلى الأقل لا بد لساربيدون أن يموت إن أريد لباتروكلوس المجد. يبعث زيوس ربي النوم والموت إلى الأرض ليحملا جثمان ساربيدون العاري المسلوب عائدين به إلى ليكيا، في الساحل الجنوبي الأوسط لتركيا الحالية، وهو الموضوع الذي تتناوله المزهريات المرسومة التي ترجع إلى الحقبة الكلاسيكية القديمة (شكل
4-2 ).
تحين ساعة باتروكلوس ويدفعه أبولو الغامض نفسه إلى الوراء ليبعده عن أسوار طروادة التي لوهلة توعدها باتروكلوس، الذي تملكت منه «آتي »
atê . يضرب أبولو نفسه باتروكلوس ويتطاير درعه، فيصبح حاسرا بلا دروع، يحاصره الطرواديون من كل جانب. ويصيبه طروادي برمح في ظهره ويجهز عليه هيكتور بطعنة في البطن. كان آخيل قد أخبر باتروكلوس ألا يمضي ليقف في مواجهة أسوار طروادة، التي يحبها أبولو، وحيث يكون هيكتور في أوج قوته، ولكن باتروكلوس نسي. إن مجد قتل باتروكلوس لا ينسب حتى إلى هيكتور؛ فقد كان ثالث من تمكنوا من إصابته بضربة. بيد أن هيكتور سوف يتحمل الجزاء النهائي جراء موت باتروكلوس.
شكل 4-2: إله النوم (هيبنوس) إلى اليسار وإله الموت (ثاناتوس) إلى اليمين يحملان ساربيدون الميت من ساحة القتال، يراقبهما هيرميس، الذي يرشد الأرواح إلى العالم الآخر. وعلى الجانبين يقف محاربان من الهوبليت. آنية لخلط الخمر من طراز الرسوم الحمراء رسمت بواسطة يوفرونيوس، حوالي عام 515 قبل الميلاد (مدينة نيويورك، متحف متروبوليتان
1972,11,10 . معارة من قبل الجمهورية الإيطالية
L.2006.10.
حقوق النشر لصالح متحف متروبوليتان للفن، نيويورك). (20) «التصارع على جثة باتروكلوس» (الكتاب 17)
لم يقبل آخيل بشروط البعثة؛ لأن عرض أجاممنون، رغم سخائه، لم يكن عن تواضع. ومن ثم فقد شكك آخيل في الأساس الأخلاقي للسلوك البطولي، الذي انتهك جراء ممارسات أجاممنون. كان إرسال باتروكلوس بمثابة تسوية هزيلة. فلو أن النصر كان حليف باتروكلوس، وقتل هيكتور، حينئذ كان آخيل سيخسر فرصته لنيل المجد؛ ولو قتل باتروكلوس، فذاك سيكون أسوأ. وكما تنبأ فوينيكس في «البعثة»، حينما يرفض المرء إلهات الصلاة، حينئذ يرسل زيوس «آتي»، وثمار «آتي»
atê
هي الكوارث.
يقبع جسد باتروكلوس الميت والحاسر بلا دروع تغطيه (والذي رغم ذلك وبطريقة ما يجرده هيكتور من درع آخيل) عاريا على السهل وينشب حوله صراع معقد ودموي لحمل الجثمان إما إلى المعسكر أو إلى طروادة حيث يمكن امتهانه حسبما هو متعارف عليه. يتمكن هوميروس ببراعة من إتاحة الفرصة لهيكتور للاستيلاء على الدرع، دون الجسد. فمن شأن استيلاء الطرواديين على جثة باتروكلوس أن يعصف بالقصة؛ وذلك لأنه يمكن بعد ذلك إعادتها بمبادلتها بجسد هيكتور، الذي يشكل أمر فديته وتخليصه ذروة الحبكة والانحلال النهائي للعقدة في القصيدة. ولكن يجب أن يلبس هيكتور درع آخيل، ليرمز إلى تملك «آتي» منه وهلاكه البائن.
يرى الكثير من الباحثين أن هذا المشهد نشأ أولا في التقليد الملحمي ليصور التقاتل على جثمان آخيل، ولكن لأن هوميروس لا يريد أن يدرج موت آخيل في قصته؛ لذا فقد كيفها في هذا الموضع لمقتضيات أخرى. وهذا النهج النقدي للقصائد الهوميرية يطلق عليه «التحليل النقدي الحديث»، وهو البحث عن قصائد أقدم غير موثقة كامنة وراء النص الذي حفظ حتى وصل إلى أيدينا. إننا نعرف من روايات لاحقة على «الإلياذة» أن آخيل قتل محاربا عظيما يسمى ممنون، ملك إثيوبيا. وبعد ذلك بفترة وجيزة يقتل باريس آخيل بمعاونة أبولو. وفي «الإلياذة» المعروفة لنا، يقتل باتروكلوس، الذي يقوم مقام آخيل، ساربيدون، الذي يعد حليفا للطرواديين مثلما كان ممنون، ثم يقتل هو نفسه بمعاونة من أبولو. إذن فقد أبقى هوميروس على النمط العام ولكنه بدل الأسماء. وتبرز مسألة ارتداء باتروكلوس لدرع آخيل التشابه. فنجد أن خيول آخيل الإلهية الخالدة تنتحب نحيبا لا ينقطع عند موت باتروكلوس، وهو تصرف أكثر ملاءمة لموت آخيل.
يتخذ التقاتل المطول على جسد باتروكلوس شكل سلسلة من أنماط السرد المتكررة. فنجد محاربا يوبخ آخر على تقاعسه، ويقود المحارب الموبخ هجمة مفاجئة. وهذا النمط يظهر خمس مرات. في نمط آخر نجد رجلا ينادي طلبا للعون ويجاب طلبه. كذا ينادي مينلاوس أياس ابن تيلامون طالبا منه العون، ثم ينادي قادة الآخيين، وأخيرا وباقتراح من أياس يستدعى آخيل عن طريق أنتيلوخوس، أحد أبناء نيستور. وهكذا يغادر أنتيلوخوس ساحة القتال.
يختلط بالسرد التشبيه تلو الآخر، ومعظم هذه التشبيهات يشبه الآثار المدمرة للحرب بالهجمات الضارية للحيوانات أو اصطيادها من قبل حيوانات أخرى ومن قبل البشر. في النهاية يرفع مينلاوس وميريونيس الجسد العاري بينما يعيق الأياسان هيكتور ورفاقه من الطرواديين. (21) «درع آخيل» (الكتاب 18)
كان آخيل سلفا يخشى أن يكون باتروكلوس قد مات، ولكن عندما يبلغه أنتيلوخوس بالحقيقة، نجده يصعق حزنا. يورد أنتيلوخوس الحقائق المجردة، أن باتروكلوس قد مات، وأنهم يتقاتلون على جسده، وأن الدرع في حوزة هيكتور.
لا يقول آخيل أي شيء؛ فلا توجد كلمات يمكن أن تبوح بحزنه. فيسقط على الأرض في يأس بليغ. تسمع أمه الإلهية في أعماق البحر صرخته، وفي شكواه يفصح لثيتيس عن أنه يدرك سير أحداث حياته وأن قصته تدور حول القوة المدمرة للغضب، ذلك الغضب حلو المذاق:
كعبء لا طائل منه على الأرض، وأنا الذي ليس لي نظير في الحرب، من بين الآخيين لابسي البرونز، رغم أنه يوجد من يفوقني حكمة ومشورة؛ فليت الصراع بين الآلهة والبشر ينتهي، وكذلك الغضب الذي يجعل الغضب يتزايد في نفس الرجل، مهما كانت حكمته ويكون مذاقه أحلى من العسل المتقطر ويتمدد كالدخان في صدور الرجال، تماما مثلما دفعني أجاممنون، ملك الرجال إلى الغضب. (الإلياذة، 18، 104-111)
يوافق آخيل على التخلي عن غضبه نحو أجاممنون، فقط لينقله إلى قاتل باتروكلوس، الذي لا يمكنه حاليا أن يهرب. لقد تغيرت دوافع آخيل؛ ففي السابق كان الغبن هو ما يستثير غضبه، والآن شهوة الانتقام. بيد أن حزن آخيل على باتروكلوس سوف يستحيل إلى حزن ثيتيس. إنها تعرف أن سلسلة الأحداث التي انطلقت من عقالها سوف تنتهي بموت آخيل نفسه. إن الأم والابن متحدان في شعورهما بالحزن، الأمر الوحيد الذي يشترك فيه كل البشر.
على الأقل يمكنها أن ترجع من عند هيفايستوس بطاقم جديد من الدروع بدلا من الدروع التي أخذها هيكتور، والتي كانت هي الأخرى دروعا إلهية، ورثها آخيل من بيليوس، الذي حصل عليها من هيفايستوس. وبينما ترتحل إلى الأولمب، يستمر الاقتتال على الأرض على جسد باتروكلوس. فيما سبق تدخل أبولو مباشرة إلى جانب الطرواديين حينما ضرب باتروكلوس على ظهره وتطايرت الدروع الإلهية عن جسده. والآن تتوسط أثينا لصالح الآخيين وتلقي حول آخيل درعها «الأيجيس»
aegis ، وغيمة ذهبية حول رأسه، فيتوهج جسده كنار متوهجة.
في مشهد غريب يبشر بأحداث أكثر غرابة، يقف آخيل على الربوة التي تقع وراء المعسكر ويصيح ثلاث مرات بصوت عال حتى إنه «في التو هلك اثنا عشر رجلا من خيرتهم وسط عجلاتهم الحربية ورماحهم» (18، 230). تهن عزيمة الطرواديين، حتى إن الآخيين يتقدمون ويأخذون جثمان باتروكلوس بينما تغرب الشمس. يحملون الجثمان إلى معسكر آخيل، حيث تنظفه الإماء وينحن عليه، وفوق الجثمان يقسم آخيل على الانتقام.
في تغيير تام للحال السائد وللمكان تدخل ثيتيس إلى سحر وغموض بيت هيفايستوس على الأولمب، حيث يصنع لآخيل أروع درع شهدها العالم، وهو ما ناقشناه سابقا وقلنا إنه تصوير لعالم هوميروس نفسه (راجع: الفصل 2، قسم «هوميروس والفن»). يقول هوميروس إن هيفايستوس يسبك معدن البرونز، ولكن في وجود اثني عشر منفاخ كير لتوليد درجات حرارة عالية، لا بد أن يكون هوميروس يتخيل ورشة حدادة من عصره. ألهم وصف هوميروس للدرع الكثير من المقلدين، حيث في وصف تصويري لعمل فني
ekphrasis («مشهد جانبي» مطول يصف عملا فنيا) يصف الشاعر بحيوية شديدة شيئا ماديا كما لو كان يخلق عالما مستقلا أو موازيا.
برغم كونه متسخا وأعرج ومنبوذا من المجتمع، فإن هيفايستوس هو الكرم ذاته حين يستريح من عمله الشاق ليكرم وفادة ثيتيس، ممتنا لها ومستعدا لرد الجميل. ويقول إنها فيما مضى شملته برعايتها عندما رمته أمه من السماء لكونه أعرج (مع أن هيفايستوس في الأبيات 590-594 من الكتاب الأول من «الإلياذة» يذكر أن «زيوس» هو من ألقاه من السماء؛ راجع الفصل 3، قسم: «هوميروس والأساطير»).
حاول كثيرون إعادة تشكيل شكل الدرع ورسمه فنانون، بيد أن وصف هوميروس مبهم وغير واضح. فهو درع دائري وله طبقات خمس، وربما يكون مقسما إلى أرباع دائرة. لا بد أن هوميروس يتخيل قطعة معدنية كان قد شاهدها. إن التقليد الفني للشرق الأدنى الذي يشتمل على تمثيل الملوك والآلهة بمقياس أكبر من البشر العاديين هو ما يؤكد على أن نموذج هوميروس على ما يبدو مأخوذ في الأصل عن الشرق الأدنى:
وذهب الباقون، يقودهم آريس وبالاس أثينا، وكلاهما مشكل من الذهب، وكانت ملابسهما التي يرتديانها من الذهب. وكانا مليحين وفارعي الطول في هيئتهما التي تليق بالآلهة، ويبرزان بوضوح بين الباقين، وكان القوم عند أقدامهما أصغر حجما. (الإلياذة، 18، 516-519)
إن درع هيفايستوس هو درع سحري، وهو أفضل مثال في القصائد الهوميرية لشيء مادي ثمين ومشغول بإتقان فائق ؛ فالأشياء والأشخاص عليه مفعمون بالحياة ويتحركون مثل المراجل السحرية الثلاثية الأقدام ذات العجلات في غرفة استقبال هيفايستوس، التي تقبل عليك كالروبوتات حينما تستدعيها. وكأن الدرع هو النظام الكوني وهيفايستوس هو خالقه. وعليه تجد الأرض، والسماء، والبحر، والشمس، والقمر، والمجموعات النجمية. وفي مصر نجد أن الإله الحرفي بتاح، المعادل لهيفايستوس عند الإغريق، كان خالق الكون.
لا يوجد أي مضمون أسطوري للأحداث الواردة على الدرع المتحررة من الحاجة إلى إنشاء بعد ملحمي. ففي المدينة التي تعيش في سلام، نجد نزاعا يسوى، مع أننا لا نستطيع أن نفهم قواعد هذه التسوية. وفي المدينة التي تعيش في حال حرب، نجد عدوا يحاصر مدينة بينما ينصب سكان المدينة كمينا. وفي قسم آخر من الدرع نجد أرضا منخفضة وحصادا وكرمة بها صناعة نبيذ وقطعان ماشية. وحول كل ذلك يجري نهر أوقيانوس الذي يحيط بالعالم كما يعلم الجميع. (22) «اعتذار أجاممنون» (الكتاب 19)
يعد موت باتروكلوس هو نقطة التحول الثانية في الحبكة، التي تعيد آخيل إلى الأحداث حتى يتسنى له قتل هيكتور وبذلك يحكم على نفسه بالموت. قبل أن يكون بوسعنا أن ندخل إلى «لحظة الامتياز» الختامية العظمى، التي انتظرناها طويلا جدا، يحتاج آخيل إلى إبرام اتفاق صداقة مع أجاممنون ويتخلى عن غضبه تجاهه:
ليت أرتميس كانت أردت بريسئيس بسهم عند السفن يوم أخذتها من الغنيمة، بعدما دمرت ليرنيسوس! ساعتها ما كان كثيرون من الآخيين سيلقون حتفهم مدحورين على يد العدو بسبب غضبي الجامح. كان ذلك لصالح هيكتور والطرواديين، ولكن الآخيين فيما أعتقد سيذكرون لأمد طويل الخصومة بيني وبينك. على أي حال لندع هذه الأمور تصبح ماضيا فات ومات، من أجل كل ما كابدناه من ألم، كابحين جماح ما يجيش في صدورنا؛ لأن الضرورة تلزمنا بذلك. إنني الآن صدقا أنهي غضبي. فليس من الصواب أن أكون غاضبا إلى الأبد دون توقف. (الإلياذة، 19، 59-68)
يصر أجاممنون على تقديم الهدايا التي عرضها سابقا. ويوافقه أوديسيوس؛ فليس ثمة سبيل إلى المحافظة على قواعد المجتمع إلا عن طريق الطقوس المناسبة، مهما يكن من ترفع آخيل عن الحزن وعدم اكتراثه بتلك الهدايا، لدرجة أنه يتمنى لو أن بريسئيس، التي لم يمسسها أجاممنون أبدا، كانت قد ماتت. فهي عنده الآن ليست إلا امرأة تسببت في تناحر لا داعي له وفي موت صديقه.
إن آخيل جاف وحديثه مقتضب وفي صلب الموضوع فيما يتعلق بنبذه لغضبه، ولكن في اعتذار مطول يتسم بالإطناب الممل يبين أجاممنون كيف أنه لم يرد مطلقا لأي من هذا أن يجري. إن الأمر كله كان من جريرة «آتي»؛ فهي من فعلتها. وحتى يثبت قدرة «آتي»، فإنه يحكي أسطورة. ذات يوم احتالت هيرا على زيوس حتى خضع ابنه الحبيب هرقل، الذي كانت هيرا تكرهه، لسلطان يوريسثيوس المستبد. ورماها زيوس من السماء ملقيا اللوم على «آتي» كبرى بناته.
تعرض الهدايا أمام الجميع ليروها ويبدوا إعجابهم بها. ومع أن آخيل يرفض تناول الطعام، يصر أوديسيوس على أن يمنح الآخرون فرصة للأكل. ويكشف آخيل لأول مرة عن أن له ابنا، وهو نيوبتوليموس، على جزيرة سكيروس (شرقي جزيرة عوبية)، لا يظهر أبدا في «الإلياذة» ولكن كان له دور مهم في القصص التي تتناول خراب طروادة وما أعقبه من أحداث. يرتدي آخيل درعه الجديدة، المصنوعة بيد إله ولكنه قاصر عن إنقاذ حياته. حتى إن حصانه الخرافي كسانثوس «وتعني الأحمر» يتنبأ بموته في نهاية المطاف، قبل أن تسكته الإيرينيات، اللواتي يحافظن على النظام الطبيعي، بما في ذلك الفصل بين البشر والحيوانات. (23) «مجد آخيل» (الكتاب 20)
مع عودة آخيل إلى المعركة يبدأ حل عقدة الحبكة الذي سوف تصل فيه حرب آخيل مع العالم إلى نهايتها. ربما يكون هوميروس قد جعل آخيل يندفع إلى السهل، ويلاحق هيكتور حتى يمسك به ويقتله، ولكنه يبتغي عوضا أن يبطئ الأحداث، حتى يؤجل اللحظة الكبرى. ويبتغي كذلك أن يظهر آخيل وهو يلحق هزيمة ساحقة بالجيش الطروادي كله، لا أن يقتل قائده فحسب.
لقد شهدنا الكثير من القتال، ولكن هذا القتال سوف يكون أكبر وأفضل من كل ما سبق. يلفت هوميروس، بطريقة درامية، الانتباه إلى جسامة الصراع الوشيك بجعل زيوس يدعو الآلهة جميعها، بمن فيهم الأنهار والحوريات، للمشاركة في القتال، متحيزين لأي جانب شاءوا. يقسم هوميروس الآلهة تقسيما يدعو إلى التعجب. فمعظم الآلهة يذهبون إلى جانب الآخيين: هيرا، وأثينا، وبوسيدون، وهيرميس، وهيفايستوس؛ ولكن يحصل الطرواديون على آريس، وهو بصرف النظر عن كل شيء إله الحرب، وبالطبع فويبوس أبولو، ومن ثم أيضا أخته أرتميس وأمه ليتو (التي لا يكاد يوجد ذكر لها على الإطلاق من قبل هوميروس). واستشرافا لمشهد «المعركة مع النهر»، ينضم النهر كسانثوس (الذي يسميه البشر سكاماندروس) إلى جانب الطرواديين.
يضاهي هذا المشهد، الذي يمثل المعركة الأخيرة في القصيدة، مشهد «مجد ديوميديس»، أول معركة في القصيدة، ويقوم فيه آخيل مقام ديوميديس. في كلتا المعركتين نجد الآلهة ماثلين. يحرض أبولو، المتخفي في هيئة بشري فان، إنياس ليتصدى لآخيل، الذي تحول الآن إلى آلة للقتل آخذة في الاندفاع عبر السهل على رأس الآخيين. يقبل إنياس التحدي ويرمي [رمحه] ولكنه يخفق. يقذف آخيل [رمحه] ليمر عبر حافة درع إنياس ويكاد يقتله وحينئذ يختفي إنياس في غمامة من الغبار، وينقل بعيدا على يد بوسيدون (مثلما أنقذ أبولو إنياس أثناء مبارزته مع ديوميديس). وشاءت الأقدار أن ينجو إنياس من حرب طروادة وأن يحكم أحفاده منطقة ترود، حسبما يقول بوسيدون للآلهة الآخرين:
هيا؛ لننقذه من الموت حتى لا يغضب ابن كرونوس [أي زيوس] إن قتله آخيل؛ لأنه مقدر له أن يفلت فلا ينقطع نسل داردانوس [الطرواديين] ولا تفنى له ذرية؛ فداردانوس كان ابن كرونوس الذي أحبه حبا فاق كل أبنائه الذين ولدوا له من نساء البشر. وإذ صار ابن كرونوس مؤخرا يكره نسل بريام، والآن حقا سيصبح إنياس الجبار ملكا على الطرواديين، وسيحكمهم أحفاده، وسلالتهم في مقبل الأيام. (الإلياذة، 20، 300-308)
على هذه الفقرة استندت أسطورة تأسيس إنياس لروما ذات التأثير الهائل، والمستوحى منها القصة التي استعان بها فيرجيل لصياغة ملحمته العظيمة «الإنياذة» بعد هوميروس بثمانمائة سنة؛ فقد اعتقد كثيرون أن هوميروس يشير إلى سلالة حاكمة حقيقية ادعت انحدارها من نسل إنياس وحكمت منطقة ترود في زمن هوميروس، ولكن ليس ثمة دليل مباشر على أي سلالة حاكمة من هذا القبيل.
بعد قتله للكثيرين، يعثر آخيل على هيكتور، بيد أن أبولو يبعده ويخفيه عن الأنظار. إن هوميروس لا يزال يبتغي إرجاء قتل هيكتور لوقت أطول، إلى أن يكون قد برهن على نحو أوفى السبب الذي من أجله كان ينبغي على أجاممنون أن يوليه المزيد من الاحترام من البداية. أضف إلى ذلك أننا نستطيب هذا التعطيل. هذه هي المرة الثالثة التي يبعد فيها إله بطلا ويخفيه عن الأنظار في غيمة، وهو ما شهدناه أول مرة في مشهد «المبارزة بين مينلاوس وباريس». (24) «المعركة مع النهر» (21، 1-382)، و«معركة الآلهة» (21، 383-513)
يقسم آخيل الطرواديين نصفين، مرسلا نصفا إلى المدينة بينما يسقط النصف الآخر في مياه نهر سكاماندروس، الذي يعرف أيضا باسم كسانثوس، «المخضب بالحمرة» (مثل حصان آخيل). ولكن حتى قبل هذا المشهد لم يكن النهر قد صار بارزا في طوبوغرافية ساحة المعركة. ويمضي آخيل عبر المياه الضحلة، معملا سيفه في الجميع. ويصادف ليكاوون، أحد أبناء بريام والأخ غير الشقيق لهيكتور. كان آخيل قد أسره في السابق وحصل على فدية مقابله. وعندما يتوسل إليه ليكاوون كي لا يقتله، يذكره آخيل أن الجميع هالكون لا محالة؛ كباتروكلوس مثلا، الذي كان رجلا أفضل من ليكاوون، ثم يغمد سيفه في عظم ترقوته بجانب رقبته. نتبين الكراهية المفعم بها آخيل واستبداده الفكري؛ إذ صاغ أساسا فلسفيا لمسلكه الذي تنعدم فيه الشفقة، مثلما فعل الكثير من القتلة المتعمدين عبر التاريخ.
يلقي آخيل بجثة الشاب في نهر كسانثوس، مطلقا بذلك واحدة من أغرب وأكثر تسلسلات الأحداث خيالية في الأدب. كل الأنهار لها أرواح، أو هي أرواح في ذاتها، في عقيدة هوميروس، وفي مشهد «مجد آخيل» رأينا في تقسيم الآلهة كيف أن كسانثوس انضم إلى جانب الطرواديين. يمثل المشهد بانوراما سيريالية لمواقف تنطوي على مبالغات. تملأ جثث كثيرة جدا النهر لدرجة أنها تعلق بفروع شجرة مائلة إلى أسفل وتسد النهر حتى إنه يثور ويهاجم آخيل، ويكاد أن يغرقه. وينجو بمعجزة عندما يجفف هيفايستوس، المنوط به جانب الآخيين، المياه بعاصفته النارية.
تفصلنا الحالة الخيالية التي تسود المشهد عن مشهد قتل ليكاوون بدم بارد وتمهد للقتال الكبير القادم. إن آخيل بشري فان، بيد أن مشهد «المعركة مع النهر»، شأنها كشأن واقعة بناء الجدار أمام المعسكر السالف تناولها، قد ترجع جذوره إلى روايات أسطورية لأحداث القرون الأولى، حينما وجد العالم من التناقض بين الماء والنار. إن قصة المواجهة بين بطل وبين المياه المدمرة والماحقة هي قصة بالغة القدم، ونجدها مثبتة في قصيدة الشرق الأدنى من أوغاريت التي ترجع إلى حوالي 1400 قبل الميلاد، والتي فيها يتصارع إله العواصف إيل مع الإله يم، الذي يمثل البحار في القرون الأولى، ويتغلب عليه.
يتقاتل آخيل مع النهر، وهو ما ينتج عنه قتال هيفايستوس ضد كسانثوس، الذي يؤدي إلى مشهد «معركة الآلهة» الشامل، الذي فيه يشن الخصوم الذين كانوا مجتمعين في السابق هجوما شديد الوطأة بعضهم على بعض. فتدخل هيرا في صراع مع آريس في مشهد هزلي بعيد كلية عن حدث المذبحة الصارم وهالة الخطر الكوني اللذين شهدناهما في صراع آخيل في النهر. من شأن جمهور هوميروس أن يتهكم على أثينا وهي تتصرف مثل أياس وتلتقط حجرا ضخما وتصيب به إله الحرب نفسه بعدما يهاجمها برمح:
قال هذا وضرب درعها «أيجيس» المزين بالشرابات (شراشيب) - درع «أيجيس» الرهيب الذي لا تستطيع حتى صاعقة زيوس أن تتغلب عليه - ضربه آريس الملطخ بالدماء برمحه الطويل. تراجعت [أثينا] وأمسكت بيدها القوية حجرا أسود هائلا مسننا كان على أرض السهل، كان القدامى يضعونه علامة حدودية لحقل. ضربت به آريس الغاضب على عنقه فتراخت أوصاله. تمدد في سقطته على سبعة أفدنة وتوسخ شعره بالتراب وأصدرت دروعه حوله أصوات قعقعة. ولكن بالاس أثينا أطلقت ضحكة وقالت بكلمات مجنحة وهي تقف فوقه متفاخرة: «أحمق، لم تكن حتى بعد تعرف كم أنا أقوى منك، لدرجة أنك ضاهيت قوتك بقوتي. الآن تكفر بالكامل عن النقمات التي استنزلتها عليك أمك، التي تدبر لك الشر غضبا منك لأنك تخليت عن الآخيين وتمد يد العون للطرواديين المغترين.» (الإلياذة، 21، 400-414)
أيضا توجه أثينا لأفروديت ضربة في صدرها (في الموضع الذي يؤلم كثيرا). يرفض أبولو أن يشتبك مع بوسيدون، حتى إن أخته أرتميس توبخه إلى أن تبرهن هيرا البغيضة لمن تكون الزعامة:
عندئذ أمسكت بيدها اليسرى كلتا يدي الأخرى [أرتميس] من معصميهما وباليمنى أخذت القوس وعدته من على كتفيها وضربتها بهذه الأسلحة، وهي تبتسم طوال الوقت، بجانب أذنيها وهي تدور يمنة ويسرة، وتساقطت السهام السريعة من الجعبة. (الإلياذة، 21، 489-492)
لا يمكن للقتال بين الكائنات الإلهية إلا أن يكون مدعاة للسخرية. (25) «مصرع هيكتور» (الكتاب 21، من البيت 514 إلى الكتاب 22)
في بعض الأحيان يتقاطع عالما البشر والآلهة، وفي هذا المشهد يلاحق آخيل أبولو عبر السهل، وهو يحسب أنه يطارد أجينور، أحد نبلاء الطرواديين. عندما يكشف أبولو عن خدعته، يعود آخيل أدراجه صوب المدينة. يراه بريام، كنجم الشعرى اليمانية، يسطع لامعا، نذير سوء. في خطبة مطولة بإملال وتنطوي على رثاء للذات يتوسل بريام لهيكتور راجيا إياه أن يدخل. إن مصرع هيكتور لهو هلاك لطروادة، ويتصور بريام الهول الذي سيلاقيه عند موته هو نفسه:
أراني أنا نفسي في النهاية تمزقني كلاب متوحشة عندما تأتي إلى بابي، بعدما تنتزع الحياة من أوصالي بطعنة سيف برونزي حاد أو رمية سهم. نفس تلك الكلاب التي ربيتها في قاعات قصري وأطعمتها من أطايب مائدتي لتحرس بابي. وبعد أن تشرب دمي في وحشية تضورها، سوف تتمدد هناك في المدخل؛ فالشاب يبدو حسنا عندما يصرع في المعركة ويجندل ممزقا بالبرونز الحاد؛ إذ رغم أنه ميت، فالأمر كله جليل ومشرف، عندما يكون بمقدورك أن ترى كل جزء منه. ولكن عندما تلحق الكلاب الهوان بالرأس الأبيض الشعر واللحية البيضاء وفي عورة شيخ كبير ميت، فهذا أكثر شيء مدعاة للشفقة يصيب التعساء من البشر. (الإلياذة، 22، 66-76)
تكشف هيبوكا أم هيكتور ثدييها؛ فهو قد رضع من هذين الثديين وهو مدين لأمه بشيء. تتدافع الأفكار في ذهن هيكتور. هل يدلف إلى الداخل ويفقد السؤدد والشرف؟ هل يحاول أن يعقد صفقة مع آخيل ، ويعيد هيلين والأسلاب؟ ماذا لو مزق آخيل أوصاله مثل امرأة؟ لقد سبق السيف العذل بالفعل بالنسبة إلى هيكتور؛ فآخيل يوشك أن يلحق به. يفقد الطروادي العظيم رباطة جأشه ويجري بكل ما أوتي من قوة كأنما يجري خلفه أسد؛ إذ تغلب خوفه على شجاعته. إن آخيل الآن يستحق نعته «ذا القدمين السريعتين». في الطليعة رجل صالح ولى الأدبار، كان لديه أشياء مهمة يتوجب عليه الدفاع عنها وأمور كثيرة من شأنه أن يخسرها، ولكنه ملاحق من قبل رجل أشد قوة، دروعه وأسلحته من صنع الآلهة ومتفان في الانتقام. «ولم يكن سباقهما من أجل أضحية أو جلد ثور؛ تلك الجوائز التي تقدم لأسرع الرجال في سباقات الجري، ولكنهما كانا يتسابقان من أجل حياة هيكتور، مروض الخيول» (22، 159-162).
يطارد آخيل هيكتور على طريق العربات، مرورا بالنبعين، اللذين يتسم واحد منهما بسخونة مياهه حتى في الشتاء عندما يتصاعد منه البخار، وواحد ببرودة مياهه التي تصل إلى التجمد حتى في الصيف. بحث مستكشفو العصر الحديث دون جدوى عن هذين النبعين، بيد أنهما دلالتان أدبيتان على البلاد وقت السلم، عندما كانت الصبايا الطرواديات يغسلن ثيابهن فيهما. أما الآن فطروادة في حرب وعلى وشك أن تفقد أفضل أبنائها. يركض البطلان ثلاث مرات حول أسوار طروادة (ولكن الأطلال في منطقة هيسارليك، التي تعتبر طروادة، واقعة على نتوء صخري بحري).
حينما مات باتروكلوس، ضربه أبولو أولا حتى تتطاير دروعه. الآن تتخذ أثينا هيئة ديفوبوس شقيق هيكتور وتستدرج هيكتور إلى قتال لا يمكنه أن يخرج منه منتصرا. يتبارز آخيل وهيكتور، ولكن عندما يختفي ديفوبوس كسحابة دخان، يدرك هيكتور أنه هالك. نحن الجمهور كنا نعرف ذلك من البداية. يضرب آخيل هيكتور برمح يمر عبر حلقه ولكنه لا يصيب الأحبال الصوتية، حتى يظل بإمكان هيكتور أن يتوسل طالبا أن يحظى بجنازة مشرفة. فيصرح له آخيل بأنه يفضل أن يلتهم لحمه. على الأقل يمكنه حينها أن يعامل جسد هيكتور معاملة مشينة. ويموت هيكتور.
ينهار بريام وهيكوبا، اللذان يراقبان من فوق الأسوار، بيد أن الزوجة الطيبة في غرفتها تغزل. تسمع صرخة وتطل من فوق الأسوار، فترى زوجها مسحوبا خلف عجلة آخيل الحربية، وشعره الطويل الداكن منسدل خلفه.
ثم غشى عينيها ظلام ليل حالك السواد وطوقها وسقطت على ظهرها وتصاعد لهاثها شاهقة وكأن روحها تكاد تفارق جسدها. وطرحت عن رأسها زينتها اللامعة؛ الإكليل والمنديل والعصابة المجدولة، والحجاب الذي كانت أفروديت الذهبية قد أعطتها إياه يوم اقتادها هيكتور ذو الخوذة اللامعة عروسا له من بيت إييتيون بعدما كان قد أحضر هدايا زواج لا تعد ولا تحصى. (الإلياذة، 22، 466-472)
يمثل حجاب أندروماك عفتها، الرابط الجنسي بينها وبين هيكتور الذي عاجلا ما سينتهك عند الاستيلاء على المدينة وتقديم النساء للاغتصاب. إن طرحها للحجاب يمثل تقديمها لنفسها للاغتصاب، مثلما يعني «هتك حجاب» مدينة ما تدميرها؛ فالكلمة اليونانية
krêdemnon
ذاتها تعني «حجاب» و«شرفة الحصن الدفاعية». ونحن نتناول كذلك «اغتصاب مدينة». تصور أندروماك المستقبل البائس الذي ينتظر طفلهما اليتيم الأب حتما، بيد أننا نعرف أنه سوف يكون أكثر سوءا. (26) «شبح باتروكلوس» (23، 1-107)، و«جنازة باتروكلوس» (23، 108-897)
لن يغتسل آخيل حتى يدفن باتروكلوس. في تلك الليلة تظهر
psychê «روح» باتروكلوس أو شبحه لآخيل في حلم، وهو تسلسل في الأحداث يقابله تسلسل مناظر في قصيدة جلجامش من الشرق الأدنى، عندما يظهر شبح إنكيدو لجلجامش ويتوسل إليه أن يدفن. الفقرة الهوميرية هي عبارة عن «شاهد كلاسيكي» على فهمنا للتصور الهوميري لما يطلق عليه
psychê ، الذي يعتبرها بالفعل النفخة التي تبارح الجسد عند الموت (فكلمة
psychê
تكافئ «روح الحياة/أو نسمة الروح»، وجمعها
psychai ):
ادفني بأسرع ما يمكن حتى يتسنى لي عبور بوابات هاديس؛ فالأرواح
psychai ، أشباح الرجال الموتى الذين عبروا، تدفعني وتبقيني بعيدا ولن تسمح لي بأن أنضم إليها فيما وراء النهر، ولكني أهيم بلا هدف عبر بيت هاديس ذي البوابات الهائلة. (الإلياذة، 23، 71-74)
لا يمكن للروح أن «تطرح»؛ أي أن يتخلص منها، وتبعث إلى العالم الآخر، إلا بعد أن تدفن، وهي تعاني عندما تكون هائمة على غير هدى في عالم متوسط بين عالمين. وعلى الرغم من أن للروح نفس الهيئة التي كانت عليها في الحياة، فإنها غير مادية، وعندما يمد آخيل يده ليلمسها، «مضت الروح مثل بخار تحت الأرض، مصدرة همهمة غير مفهومة» (23، 100-101). يرد مشهد مشابه في «الأوديسة» عندما يحاول أوديسيوس أن يلمس روح أمه، ولكنه لا يستطيع، ويحاكيه فيرجيل عندما يظهر إنياس في العالم السفلي يمد يده نحو شبح دايدو (الإنياذة، 6، 472-473).
لا يعصي آخيل أمر الروح. ويحرق جسد باتروكلوس في محرقة اكتست بدماء التضحية بالعديد من الرجال والحيوانات. تتأجج نيران المحرقة وتجمع العظام. في الألعاب الجنائزية التي تعقب ذلك يغير أسلوبه تماما ليقدم أقدم تعليق رياضي في العالم، هذا الذي رأى فيه كثيرون أرقى صور براعة هوميروس الأدبية، مثبتا مرة أخرى تمسكه بإيقاع سردي بطيء.
في هذا السياق نجد، خلافا للألعاب في الحقبة الكلاسيكية القديمة، أن كل متسابق يفوز بجائزة، وتخبرنا الجوائز شيئا عن الاقتصاد الهوميري. على سبيل المثال، في إحدى المسابقات يحصل الخاسر على امرأة، تعدل أربعة ثيران! والأنشطة الثمانية هي سباق العجلات الحربية، والملاكمة، والمصارعة، وسباق العدو، والقتال بالأسلحة، ورمي الجلة، ورماية السهام، ورمي الرمح. ولعل سباق العجلات الحربية هو أطولها وأكثرها تعقيدا؛ إذ يستغرق نصف طول الألعاب بأكملها. وحتى الآلهة تشارك في الحدث؛ فنرى أثينا تتدخل لإعادة سوط ديوميديس بعدما يسقط من يده. وتتضح حالة النبل السائدة في الألعاب الجنائزية جلية، مقارنة بالوحشية والكآبة اللتين كانتا مسيطرتين سابقا، عندما يقدم أنتيلوخوس، ابن نيستور، هدية ثانية لمينلاوس ويرفضها مينلاوس بلباقة. ونجد آخيل، المسيطر سيطرة كاملة على انفعالاته والذي يظهر في صورة المدير المثالي للألعاب، يمنح جائزة لأجاممنون رغم أنه لا يتبارى، قائلا إن أجاممنون هو «الأعلى سلطة»، ومن ثم يضع حدا لمصالحتهما الرسمية. (27) «فدية هيكتور» (الكتاب 24)
بعد دفن باتروكلوس، ينتاب آخيل شعور بالحزن والوحشة، ويكاد سلوكه المفرط دوما يصل إلى حافة الجنون؛ فيستغرق في التفكير في الأوقات الطيبة التي تشاركاها، ويمشي على الشاطئ ليلا، وفي الصباح يجر جثة هيكتور الهامدة عبر التراب في مشهد بديع ينم عن انعدام جدوى الجسد الفاني. لا يمكن لآخيل أن يتعافى أبدا، وليس ثمة حرمة في الانتقام. لقد حظي باتروكلوس بدفنته الحسنة اللائقة، وهو ما يكاد يكون تعويضا عن الموت نفسه. أما هيكتور فهو، على النقيض، جثة ممثل بها (رغم أن أبولو لن يدعها تتحلل). ومع ذلك لا تقل حدة حزن آخيل. ترغب الآلهة في إنهاء الانتهاك وتفكر في إرسال هيرميس، إله اللصوص، لسرقة الجسد. وفي هذا السياق يقدم لنا هوميروس الإشارة الوحيدة في القصائد الهوميرية إلى قصة حكم باريس الشهيرة؛ فيذكر هوميروس بوسيدون، إلى جانب هيرا وأثينا، باعتبارهم المتضررين جراء قرار باريس بالحكم بأن أفروديت أكثر جمالا من هيرا أو أثينا؛ ربما لأن هؤلاء الآلهة الثلاثة هم الأعداء الإلهيون الرئيسيون لطروادة:
وسر الأمر [إرسال هيرميس ليسرق الجسد] الباقين جميعا، عدا هيرا وبوسيدون والفتاة ذات العينين اللامعتين [أي أثينا] ولكنهم استمروا كما كانوا في البداية في كراهيتهم لمدينة إليون المقدسة ولبريام وشعبه، بسبب جريمة ألكسندروس [أي باريس] الذي ألحق العار بهاتين الإلهتين عندما قدمتا إلى مزرعته وفضل تلك التي أججت شهوته المشئومة. (الإلياذة، 24، 25-30)
يستدعي زيوس ثيتيس، التي ستنصح آخيل بأن يتخلى عن الجثمان حتى يدفن. تذهب الإلهة الرسولة إيريس إلى بريام وتخبره بأنه يجب أن يقوم برحلة إلى خيمة آخيل، حاملا فدية مقابل جثمان ابنه. غير أن آخيل يشارف من خلال فهمه الخاص على الوصول إلى نهاية غضبه، الذي وجهه في البداية نحو أجاممنون، ثم هيكتور؛ فيقول ببساطة ردا على طلب أمه:
فليكن. ليحمل الجثة ويأخذها من يجلب الفدية، إن كان ذلك هو مقصد الأوليمبي وغايته الحقيقية. (الإلياذة، 24، 139-140)
إن هيرميس لم يطالعنا إلا قليلا في هذه القصيدة؛ فنراه ينضم إلى «معركة الآلهة» في مواجهة ليتو، لكنهما يقرران ألا يشتبكا. في العقيدة الإغريقية الكلاسيكية يصل هيرميس هذا العالم بالعالم الآخر، وقد لاحظ كثيرون أن مشهد «فدية هيكتور» يبدو مستندا إلى ما يسمى
katabasis ، أي «الذهاب إلى الأسفل»، وهي أسطورة موغلة في القدم عن الهبوط إلى العالم السفلي. وبينما يتسلل بريام في جنح الظلام عابرا السهل ، يصل إلى نهر (يتوسل باتروكلوس من أجل أن يسمح له بعبور النهر إلى العالم الآخر). وهناك يلتقي به هيرميس، متخفيا في هيئة تابع لآخيل. يتولى هيرميس قيادة العربة، وعندما يصلون إلى المتاريس، يهبط نوم غريب جميل على عيون الحراس وتنفتح البوابات على مصراعيها من تلقاء نفسها. إن مسكن آخيل موصوف في السابق وصفا مبهما بأنه كوخ أو خيمة، ولكنه الآن حصن ضخم له مزلاج هائل لا يستطيع تحريكه إلا ثلاثة رجال عاديين (بالطبع يستطيع آخيل أن يقوم بالأمر بمفرده). يبدو آخيل مثل رب الموت، وهذا المكان هو مستقره. إن هوميروس يستخدم لغة
katabasis (النزول إلى العالم السفلي) التقليدية حتى يضفي هيبة وتأثيرا دراميا على انحلال عقدته النهائي. قدم بريام ليستجلب جثة، يقوده هيرميس الذي يصل هذا العالم بالعالم الآخر. وفي أسطورة لاحقة، يهبط أورفيوس إلى العالم السفلي لكي يسترجع زوجته المتوفاة يوريديس.
تضفي البنية الأساسية الأسطورية على المشهد جوا مخيفا، بيد أن مراد هوميروس هو أن يحل عقدة قصته. ينبذ آخيل الأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه السلوك البطولي في مشهد «البعثة إلى آخيل»، رافضا الهدايا المقدمة وزاعما أن سؤدده/شرفه يأتي من زيوس. بعد قتل آخيل لهيكتور، تكلم بمغالاة مماثلة، وبمفردات مشابهة، عندما قال إنه لن يترك قط الجثة لتدفن، ولا حتى إن نال وزنها ذهبا. أما الآن «فلسوف» يتركها، ويترك معها سخطه. ويدرك أنه لا طائل من تقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء في حين أن كل البشر، حتى هو وبريام، متحدون في معاناتهم. في هذا المشهد نختبر عبقرية هوميروس الأخلاقية؛ إذ يتوقع مبدأ الأخوة بين بني البشر الذي نشره لاحقا فلاسفة الإغريق والفلاسفة الأخلاقيون المسيحيون.
وبفضل معاونة هيرميس، يدخل بريام إلى الكوخ دون أن يلاحظه أحد:
دخل بريام العظيم دون أن يراه أحد ووقف على مقربة من آخيل وطوق ركبتي آخيل بذراعيه وقبل يديه، اليدين الرهيبتين قاتلتي الرجال اللتين أودتا بحياة كثير من أبنائه. ومثلما يحدث حين تحيق آتي برجل فيقتل في وطنه رجلا آخر ويهرب إلى أرض غريبة، وإلى بيت رجل ذي مكانة، فيتملك العجب من كل من يرونه، تملك العجب آخيل وهو ينظر إلى بريام شبيه الآلهة وتملك العجب الآخرين أيضا، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر. بيد أن بريام توسل إليه وتكلم قائلا: «يا آخيل الشبيه بالآلهة، تذكر أباك، الذي في مثل سني، على عتبة الشيخوخة المفزعة.» (الإلياذة، 24، 477-487)
وإذ ينظر آخيل إلى الرجل المسن يرى فيه أباه، وعند هذه اللحظة يفهم:
ولكن تعال واجلس، ولندع أحزاننا قابعة في قلوبنا، رغم ألمنا. فلا فائدة ترجى من الندب المرير. فهكذا غزلت الآلهة حياة البشر التعساء حتى يعيشوا في ألم في حين أن الآلهة لا تعرف الحزن. فعلى عتبات زيوس توجد جرتان للعطايا التي يمنحها، إحداهما تحوي الشر، والأخرى تحوي البركات. فمن يعطيه زيوس، الذي يطلق الصواعق، نصيبا مختلطا، عندئذ يواجه الشر تارة، والخير تارة أخرى. أما من لا يعطيه إلا الشر فإنه يجعله مكروها من بني البشر ويسيره على وجه الأرض المقدسة جوع مقيت، ويهيم على وجهه لا يجد مكرمة من الإلهة ولا من البشر. (الإلياذة، 24، 522-533)
إن الحياة بالنسبة إلى البعض سيئة تماما، ولآخرين، ثمة خير يحدث أحيانا، أما فيما عدا ذلك فالحياة سيئة، وهو تلخيص نموذجي للفلسفة التشاؤمية عند الإغريق. لا يطيق بريام صبرا على هذا التفلسف ويريد أن يأخذ الجثة ويمضي في سبيله، وفي تصوير أدبي واضح للشخصية نرى غضب آخيل وهو ينتفض عائدا للحياة. حسنا، إنه قد يقتل الرجل المسن بأي حال؛ كونه أبا الرجل الذي قتل صديقه، وربما ينبغي على بريام أن يضع ذلك في اعتباره.
ثم يتناولان الطعام وبتناولهما للخمر واللحم تذوي الكراهية والريبة حتى إن كليهما يرى عظمة الآخر. وهكذا ينتهي غضب آخيل. وبعد أحد عشر يوما، يحرق الطرواديون هيكتور ويدفنونه. وبذلك تنتهي القصيدة. (28) الملخص والاستنتاجات: تراجيديا «الإلياذة»
إن «الإلياذة»؛ كونها نتاجا للنظم الشفاهي نقلت إلى الكتابة الأبجدية عبر الكلام المملى، مكونة إلى حد كبير من موضوعات وأدوات تقليدية تراثية. فنجد الفكرة العامة المتعلقة بانسحاب بطل من القتال، وما يعقب ذلك من دمار ، ثم عودته المظفرة والثأرية تظهر في قصص من كل أنحاء العالم، ونجده في «الإلياذة» يشكل قصة موازية عن ميلياجروس (الكتاب 9) والتي يرويها فوينيكس من أجل أن يقنع آخيل بالتخلي عن غضبه. سلب النساء وعواقبه الوخيمة هو، بالطبع، ما يمثل خلفية أحداث القصة، ولكنه يقود الأحداث مباشرة في سلب أجاممنون، أولا، لخريسيس، ثم لبريسئيس. الأمر اللافت وسط المشاهد النمطية هو التوسل والدعاء، وله أربعة أمثلة رئيسية؛ عندما تتوسل ثيتيس إلى زيوس ليحيق الأذى باليونانيين (الكتاب 1)، وعندما تتوسل البعثة إلى آخيل من أجل أن يعود (الكتاب 9)، وعندما يتوسل باتروكلوس لآخيل من أجل أن يعود (الكتاب 16)، وعندما يتوسل بريام لآخيل من أجل جثمان هيكتور (الكتاب 24). يوجد، كذلك، العديد من المشاهد الثانوية للتوسل والدعاء، وبخاصة في ميدان المعركة. وتوجد مبارزات عدة بين أبطال رئيسيين: بين باريس ومينلاوس (الكتاب 3)؛ وبين هيكتور وأياس (الكتاب 7)، وبين آخيل وهيكتور (الكتاب 22). وثمة مشهد نمطي آخر وهو الألعاب الجنائزية المكرسة لأجل باتروكلوس (الكتاب 23)، المماثلة للألعاب الجنائزية المكرسة لأجل آخيل والمذكورة في الكتاب 24 من «الأوديسة».
تتسم الآلهة بطلاقة الوجود دوما وفي كل مكان، ولكنهم نادرا ما يتخذون أي مبادرة، فيما عدا إبعادهم لأبطالهم المفضلين عن مواطن الخطر خفية. ويكاد لا يوجد أي سحر في القصيدة، وحتى الأبطال المولودون من آلهة لا يقومون بأعمال فائقة للبشر، مثلما هو معهود في الأعمال التراثية الملحمية. فيبدو أن هوميروس، أو التقليد الذي آل إليه، قد طمس تلك العناصر، ولكنها أحيانا ما تطل في لمحة خاطفة؛ فمثلا، الدروع التي يستعيرها باتروكلوس من آخيل، التي أعطاها الإله هيفايستوس لبيليوس والد آخيل، لا يقال عنها أبدا أنها منيعة، مثلما هو معتاد في الأعمال التراثية الملحمية، ومع ذلك لا يموت باتروكلوس إلا بعد أن يسقطها أبولو عن كتفيه. عندما يقتل آخيل هيكتور، الذي كان مرتديا الدروع في ذلك الحين، فإنه لا يخرق دروع هيكتور، وإنما حلقه. إن هوميروس بتجنبه أو طمسه للعناصر الخيالية، يشكل منظوره الإنساني المتفرد.
لا يمكننا تفسير الطول الهائل لملحمة «الإلياذة»، إلا عن طريق تخيل ظروف خاصة أنشأ في ظلها ناسخ ما النص، وعن طريق تخيل الدافع لدى من أمر بإنشاء النص. إن الأمر الأجدر بالملاحظة يتمثل في أن هوميروس لا يشكل ملحمته اللانهائية عن طريق تكديس حادثة فوق أخرى، أو عن طريق سرد «قصة حرب طروادة» كاملة، وإنما عن طريق التركيز على أربعة أيام في العام العاشر من الحرب (دون حساب أيام الطاعون التسعة والاثني عشر يوما التي أمضاها الآلهة بين الإثيوبيين، الكتاب 1؛ والأحد عشر يوما التي انتهك فيها آخيل جثة هيكتور وأيام مأتم هيكتور التسعة، الكتاب 24).
ومن الأمور الرائعة استخدام هوميروس للحوار المباشر. فنسبة 45 بالمائة تقريبا من القصيدة تدور على لسان شخصياتها. وفي الكتاب التاسع، الذي يمثل مشهد «البعثة إلى آخيل»، ترتفع تلك النسبة إلى 81 بالمائة. يميل هوميروس إلى عرض الحوار دون تعليق، ولا يزيد عادة على التعليق بعبارة «وهكذا تحدثت» أو «قال ما يلي» حتى يكون انطباع القارئ شبيها بقراءة عمل درامي، ذاك الذي يردنا فيه كل ما نعرفه عن أفكار شخصية ما مما تقوله. ومما لا شك فيه أن حوارات هوميروس كان لها تأثير مباشر على الكتاب التراجيديين، الذين نشئوا على قراءة شعره وقصائد سداسية التفعيلات.
وكحال مشاهد الأحداث، تنقسم المشاهد الحوارية أيضا إلى أنواع:
الإقناع (بخاصة في جمع).
الرسائل (عادة ما تكرر حرفيا).
المفاخرة (بخاصة قبل الهجوم على غريم مباشرة).
التحدي (قد يصاحب التفاخر).
التوسل (عادة في أرض المعركة).
التحميس (الخطب الحماسية من أجل المعركة).
التقريع (عندما يعجز شخص ما عن إنجاز أمر على نحو نموذجي).
مناجاة النفس (أعمق أفكار المرء مقدمة في هيئة حوار).
يصف هوميروس طبيعة شخصياته عبر الحوارات برشاقة ودقة. وهكذا نعرف من الحوار الأول لأجاممنون في الكتاب الأول أنه متغطرس (في رفضه لمطلب خريسي المقبول)، وفظ (في ملاحظة يبديها عن زوجته)، وغير مبال بمصلحة الجماعة (في بغيه على آخيل ورفضه لمطلب خريسي). تميط هيلين الفاسقة، في حوارها مع بريام الذي ينطوي على انتقاص للذات في الكتاب الثالث، اللثام عن امرأة حزينة لديها مشاعر رقيقة تجاه عائلتها، بينما تسحر لب الملك بجمالها. يظهر هيكتور - في حديثه إلى أندروماك المتوسلة في الكتاب السادس - رجلا محبا لأسرته وسوف يؤدي واجبه، مهما كانت العواقب؛ لذا يعتبره كثير من القراء المعاصرين أكثر الشخصيات جاذبية في القصيدة.
كانت «التراجيديا»، التي تعني حرفيا «الأغنية العنزية»، عبارة عن قصيدة تؤدى على مسرح ديونيسوس في مدينة أثينا بداية من أواخر القرن السادس قبل الميلاد، ولكنها تدل بالمعنى النقدي على نوع من القصص، تمثل «الإلياذة» أقدم مثال له. في التراجيديا يخوض شخص ذو شخصية فردانية إلى حد كبير صراعا مع العالم من حوله، ويصبح تدريجيا أكثر انعزالا عن هذا العالم، وفي النهاية يصبح وحيدا تماما، وينتهي به الحال إلى عزلة مميتة، أو تكاد تكون كذلك. ورغم ذلك يجد آخيل نفسه في نزاع مع رئيسه وأنصاره. وينغمس في مشاعره القوية المستندة إلى مفهوم للعدالة، ويأبى أن يتصالح مع أولئك الذين أهانوه حتى وصل به الأمر إلى إيذاء شخص يحبه، وعندها يفقد التصالح كل معنى له. ويتحول غضب آخيل نحو أجاممنون إلى غضب نحو هيكتور، الذي تعامل جثته معاملة بربرية من قبل آخيلو. عندما يتخلى آخيل عن غضبه، ويتخلى معه عن جثة هيكتور، يعتنق رؤية أخلاقية عميقة حيال المعاناة العالمية التي توحد البشرية كلها، ولكنه لا يجد أحدا ليتشارك معه هذه الرؤية. تخبرنا القصيدة مرارا وتكرارا أن قريبا سيكون مصيره الموت، وهو الأمر الذي بات الآن يقينا فعليا. في تراجيديا «الإلياذة» ليس ثمة حل سعيد للمعضلة التي تواجهها البشرية كلها، وهي أن تكون حيا ولكن مصيرك المحتوم هو الموت.
الفصل الخامس
الأوديسة
كل شيء متعلق بملحمة «الأوديسة» مختلف عن «الإلياذة»؛ فهما تعدان نقيضين أدبيين، وهي الحقيقة التي ظلت لوقت طويل تمثل أفضل حجة تساق للدلالة على أن القصيدتين من إبداع رجل واحد، هو واحد من أعظم الفنانين الذين عاشوا على ظهر الأرض على الإطلاق. الحياة كبيرة، وقوامها الأخلاق. وثمة حروب، وثمة رباط الأسرة. تتمحور أحداث «الإلياذة» حول الحرب. أما «الأوديسة» فتدور حول رجل يحاول العودة لدياره، وفي طريق عودته يتحول إلى رمز للروح البشرية في بحثها عن معنى الحياة البشرية. ليس الأمر أن أوديسيوس يفتش عن معرفة من هذا القبيل في رحلاته؛ فهو لا يفعل. وإنما «يرمز» ترحاله إلى السعي البشري نحو المعرفة. ومثلما تجسد «الإلياذة» انشغال الغرب بقضية فلسفة القيمة - التي يعد شغلها الشاغل هو التساؤل عن السبب الذي من أجله يتعين على المرء أن يفعل أي شيء - كذلك تجسد «الأوديسة» سعيه الدءوب نحو اكتشاف أشياء جديدة.
في الوقت الذي فيه أوديسيوس تائه في عرض البحر، ويعتقد أنه في عداد الأموات، تنتقل طغمة من أكثر من مائة رجل من سليلي العائلات عريقي النسب من إيثاكا والجزر المجاورة إلى بيت أوديسيوس، وتأخذ في الإلحاح على بينيلوبي لتتزوج واحدا منهم. يريد كل واحد منهم أن يصبح «البازيليوس»
basileus ، أي «الملك» أو الزعيم، القادم، مع أننا لا نعرف على الإطلاق ما ذلك الذي يؤدي إليه أمر السيطرة على بيت أوديسيوس وأراضيه. في ظاهر الأمر أن أرملة الزعيم القديم (أوديسيوس) تحدد، عن طريق الزواج مرة أخرى، من سيكون الزعيم القادم. في إطارها العام تصف القصيدة الهوميرية المرحلة الانتقالية التاريخية من حكم ملوك ممالك صغرى، أي زعماء العشائر
Big Men (
basileis ؛ جمع كلمة
basileus )، في العصر الحديدي إلى حكم الأقليات الحاكمة الأرستقراطية في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد التاريخية. في قصة هوميروس يكون الظفر من نصيب الجيل الأكبر سنا من زعماء العشائر. ولا بد أن جمهور هوميروس النمطي كان موجودا في بلاط أولئك الرجال تحديدا؛ إذ في النهاية يقتل أوديسيوس كل واحد من المجترئين عليه وعلى بيته والفتيان الشديدي الغباء الذين سمحوا لميول عاطفية بأن تكون مبررا لسلوكهم الفظ. في المقابل، في الترفيه السينمائي المعاصر، الذي يكون فيه الجمهور من الفئة العمرية ما بين الثامنة عشرة والسادسة والثلاثين من العمر، نجد الحبكة الشائعة تظهر الشباب في صورة أشخاص مفعمين بالحيوية وفي قبضة حب صادق في حين يتصدى لهم آباؤهم متوسطو العمر، الداعرون والفاسدون. وفي النهاية يكون النصر دوما للشباب على الكبار.
وفي حين تدور أحداث «الإلياذة» في الحقبة الملحمية البطولية، فإن عالم «الأوديسة» (فيما عدا الأرض الخيالية) ليس إلا عالم هوميروس . أحيانا يطلق النقاد على «الإلياذة» وصف
saga (ساجا: سرد ملحمي طويل يتناول بطلا مشهورا أو مآثر ملوك ومحاربين)، ويرجع ذلك إلى الزعم بأن أحداثها دارت منذ زمن بعيد في عالم كان يأهله عرق أعظم، وعلى «الأوديسة» وصف
romance (أي رواية مغامرات)؛ لأنها تصور عالما معاصرا علاوة على مؤثرات جمالية منمقة. ما السبب في أن مسقط رأس البطل وموطنه هو جزيرة إيثاكا الغامضة، غرب بر اليونان الرئيسي عند مدخل خليج كورنث؟ لقد عثر هاينريش شليمان، الواثق من صحة الوقائع التاريخية للقصائد الهوميرية، على أطلال طروادة وميسينيا وتيرنز، ولكنه لم يعثر على أي شيء على جزيرة إيثاكا، ولا عثرت أعمال التنقيب المكثفة اللاحقة على قصر من العصر البرونزي. ولكن في حقبة استكشاف غرب اليونان، التي بدأت في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن الثامن قبل الميلاد، كانت إيثاكا تقع مباشرة على الطريق الساحلية المؤدية إلى إيطاليا. وما زال أصحاب اليخوت الذين يجوبون البحر المتوسط في يومنا هذا يرسون في الميناء في إيثاكا قبل أن يولوا وجهتهم شمالا إلى جزيرة كورسيرا، التي يكاد الساحل الإيطالي أن يكون باديا للعيان منها. (1) ابتهال واستهلال: «الجريمة لا تفيد» (1، 1-95)
تقع أحداث «الإلياذة» على مدار بضعة أيام في العام التاسع للحرب؛ ومن ثم فقصتها ذات قالب خطي. فنرى في البداية النزاع، ثم البعثة، ثم موت باتروكلوس، ثم دفن هيكتور. لملحمة «الأوديسة»، أيضا، قالب خطي: يمضي تليماك للعثور على أبيه، ويرجع أبوه للديار، ويحيكان خطة، ويقتلان الخطاب. ولكن على النقيض من هذا الإطار توجد أحداث دائرية واسترجاعات لأحداث في مراحل زمنية سابقة، تطيل أمد قصة «الأوديسة» لعشرة أعوام، وتعطي «الأوديسة» شكلا شديد الاختلاف عن «الإلياذة». وتمثل قصة أوديسيوس الخيالية الشهيرة التي يطلق عليها
apologue
بمعنى «حديث» سدس القصيدة بالكامل (الكتب من التاسع وحتى الثاني عشر)، وهي عبارة عن ومضة ورائية طويلة.
تصنف «الأوديسة» من ناحية النوع الأدبي العام على أنها
nostos «عودة للوطن» (جمعها:
nostoi ) وتحتوي على قصص أقصر عن العودة للوطن مقدمة على هيئة ومضات ورائية. على سبيل المثال، في الكتاب الرابع في حوار طويل يصف مينلاوس مغامراته بينما كان في طريق عودته للوطن، وهو ما يبدو وكأنه إيجاز لمغامرات أوديسيوس ذاته. في النصف الثاني من القصيدة، بعد أن يعود أوديسيوس للديار، تأتي سلسلة طويلة متعاقبة من «الحكايات المختلقة»؛ ويقصد بها روايات خيالية لرحلات أوديسيوس. تعطل قصص العودة للوطن الخيالية تلك، مثل القصة الخيالية
apologue
الشهيرة الواردة في الكتب من التاسع وحتى الثاني عشر، تطور السرد مع أنها تثري القصة من خلال العودة بنا إلى أحداث ماضية، حقيقية كانت أم تخيلية. تحتوي «الإلياذة» هي الأخرى على ومضات ورائية عابرة، ومثال ذلك سرد نبوءة الثعبان والطيور (الإلياذة، 2، 303-332)، أو سرد مآثر نيستور السابقة (الإلياذة، 11، 670-761)، ويطيب لهوميروس إطالة قصته من خلال أحداث معقدة ومفاجئة. وعلى الرغم من ذلك فإن بناءها يظل على هيئة تحرك خطي قسري من المأزق إلى الحل. على النقيض، نجد أن «الأوديسة» تنتهز كل فرصة لإطالة القصة من خلال حكايات هامشية ذات صلة بالأحداث.
الموضوع المحوري لملحمة «الإلياذة» هو موضوع سيكولوجي، عن طاقة الغضب المدمرة، ذلك الشعور الأخاذ، والمدمر للذات في الوقت نفسه، المصاحب للكراهية. أما الموضوع المحوري لملحمة «الأوديسة» فهو موضوع متعلق بالأخلاق، وأن الأشرار يدفعون ثمن ما اقترفته أيديهم؛ لذا لا ينبغي أن نشعر بالأسى على الخطاب الذين يقتلون بدم بارد. ويعلن هوميروس الموضوع الأخلاقي من الوهلة الأولى:
أخبريني، يا ربة الإلهام، عن الرجل ذي القدرات الكثيرة، ذي الأسفار الكثيرة والبعيدة بعدما نهب ودمر قلعة طروادة المقدسة. ما أكثر الرجال الذين رأى مدنهم والذين اطلع على أفكارهم، نعم، وما أكثر الأحزان التي شعر بها في قلبه وهو في البحر، وهو يسعى إلى إنقاذ روحه
psychê
وإلى عودة
nostos
رفقائه إلى وطنهم. ومع هذا فإنه لم ينقذ رفقاءه، رغم أنه تمنى كثيرا أن يفعل؛ لأنهم هلكوا جراء حماقتهم العمياء؛ الحمقى! الذين التهموا ماشية هيليوس هيبريون، الذي سلب منهم يوم عودتهم إلى وطنهم. عن هذه الأمور، أخبرينا أيتها الإلهة، يا ابنة زيوس، مبتدئة من حيث تشائين. (الأوديسة، 1، 1-10)
الجريمة لا تفيد، ولهذا السبب مات رجال أوديسيوس ونجا هو . لقد خالفوا القواعد، وانتهكوا المحرمات. فقد أكلوا ماشية الشمس في حين أنهم لم يكن ينبغي لهم فعل ذلك، ولكن أوديسيوس لم يفعل ونجا. فهو «الرجل ذو القدرات الكثيرة»؛ لأنه لين الجانب ومتعدد المهارات، ويقوم بما هو مطلوب. إن أول كلمة في القصيدة هي كلمة
anêr «رجل»، ذكر النوع، مثلما أن كلمة
mênis «غضب» هي أول كلمة في «الإلياذة». إن القصة تدور حول مغامرات الذكر (وليس الأنثى)؛ إذ سوف يلتقي بنساء كثيرات في طريقه. إنه ليس بأحمق، وهو يخضع سلوكه لذكائه الأخلاقي. أما رجاله فكانوا حمقى؛ إذ خالفوا القانون وماتوا.
يشيع هذا النمط من الخير الجذري والشر الجذري، أي التمايزات الأخلاقية الواضحة والبسيطة في ذات الوقت، في تقاليد الحكاية الشعبية في كل أنحاء العالم وملحمة «الأوديسة» في بنيتها العميقة هي نوع من أنواع الحكاية الشعبية، وهو «عودة الزوج إلى الديار» (لا تعد «الإلياذة» حكاية شعبية). من خلال عقد مقارنة بين العديد من التنويعات من مختلف أنحاء العالم، يمكننا أن نصف سلسلة من الأفكار الأساسية (الموتيفات) للحكاية الشعبية والتي قد نتوقع أن نجدها في أي تنويعة من تنويعات عودة الزوج للديار؛ بالطبع ليس كلها دفعة واحدة وليس الجميع بنفس الترتيب (بعض منها ليس له وجود في «الأوديسة»). فنجد أولا مسابقة بين الخطاب، وعادة ما تتضمن رمي السهام (هذه الموتيفة مؤجلة إلى نهاية القصيدة). يفوز البطل بالمسابقة ويتزوج الفتاة (يقتل أوديسيوس الخطاب ويعاشر بينيلوبي)، ولكنه سرعان ما يغادر (يذهب أوديسيوس إلى طروادة). ويعين أمدا محددا عليها خلاله أن تنتظر عودته، قبل أن تتزوج مرة أخرى (الأوديسة، 18، 259-270). ويسجن أو يمنع بأي طريقة أخرى من العودة (يمضي أوديسيوس عشر سنوات في طروادة، وثلاث سنوات مرتحلا، وسبع سنوات محتجزا رغما عن إرادته على جزيرة الحورية كاليبسو). وقد ينزل إلى العالم السفلي (الكتاب 11). وترد أنباء عن موته (14، 89-90) وتجد زوجته نفسها مضطرة إلى الزواج مرة ثانية (15، 15-17، و19، 158-159). ويعلم البطل بنيتها (قارن: 11، 115-117) وفي رحلة مبهرة (13، 81-95)، يخلد خلالها إلى النوم (13، 79-80)، يعود إلى الديار متخفيا (يتنكر أوديسيوس في ثياب متسول). فيتعرف عليه أولا أحد الحيوانات (كلب أوديسيوس المسمى أرجوس، وتعني «السريع»). ويكشف عن هويته لأسرته عن طريق الرموز (ندبة أوديسيوس، وفراش زفافه). ويلغى الزفاف الجديد أو يقتل الأفاق (قتل الخطاب).
وفي حين تظهر فكرة مقتل الصديق وما يعقبه من ندم وتأمل، ذاك الذي تتناوله «الإلياذة»، جلية في ملحمة «جلجامش» القادمة من الشرق الأدنى، نجد «أوديسة» هوميروس تعرض أول مثال معروف للحكاية الشعبية التي تتناول الزوج العائد للديار. من المستحيل أن نجزم من أين استقى هذه الفكرة؛ فالشرق الأدنى القديم لا يقدم نموذجا جيدا، رغم أن الكثير من التفاصيل تستند إلى أنماط شرقية؛ مما لا شك فيه أن أنواعا أدبية بكاملها قد اختفت من سجل أدب الشرق الأدنى القديم، على سبيل المثال الحكايات الخيالية للحيوان، الموثقة بشكل واضح في تمثيلات فنية في بلاد ما بين النهرين ومصر ولكن ليس لها وجود على الإطلاق، مكتوبة على ألواح أو بردي. من المرجح أن هوميروس قد توارث قصته من مجموعة كبيرة من الحكايات الشعبية التي كانت تمثل المخزون الأساسي لدى المنشد الملحمي.
في «الإلياذة» يكيل زيوس الخير والشر من جرات أمام عرشه، أو أن ربة الأقدار مسئولة عن المعاناة. في «الأوديسة» يفصح زيوس عن فكرة مسئولية البشر الأخلاقية عندما يحكم مجلس للآلهة بإطلاق سراح أوديسيوس من جزيرة الحورية كاليبسو:
فلتر الآن، كم يسر البشر الفانين أن يلقوا باللوم على الآلهة. إنهم يقولون إن منا يأتي الشر، بيد أنه من أنفسهم، عبر حماقتهم العمياء، تصيبهم كروب فوق ما هو مقسوم لهم. (الأوديسة، 1، 32-34)
لنأخذ، على سبيل المثال، بيت أتريوس، الذي يمثل في «الأوديسة» نموذجا للسلوك السيئ. أنذرت الآلهة إيجيسثوس ألا يجامع كلتمنسترا، زوجة أجاممنون، بينما كان أجاممنون عند طروادة، ولكنه أقدم على الأمر رغم ذلك. وعندما عاد أجاممنون، قتله القرينان الفاسقان. وكان الثمن الذي دفعاه جليا؛ إذ قدم أوريستيس، ابن أجاممنون وكلتمنسترا، من خارج البلاد وقتل إيجيسثوس وكلتمنسترا. من جهة نجد أوديسيوس، وزوجته بينيلوبي، وابنه تليماك ؛ ومن الجهة الأخرى نجد أجاممنون، وزوجته كلتمنسترا، وابنه أوريستيس. انحرفت كلتمنسترا، وظلت بينيلوبي مخلصة . «فتش عن المرأة»، ولا تلم الآلهة على ما بك من كرب.
وبينما يرسل زيوس هيرميس لتحرير أوديسيوس، نجد أثينا تنطلق بسرعة إلى إيثاكا متخفية. (2) «استضافة مينتيس/أثينا» (1، 96-444)
بعد استهلاله ذي الطابع الأخلاقي، يستهل هوميروس قصته في قاعات الطعام المظلمة لقصر أوديسيوس على جزيرة إيثاكا، حيث الشبان الأجلاف يحتسون الخمر، ويزنون، ويستمعون إلى الشعر. وفي خضم «الفضيحة الكبرى» يظهر غريب غامض. إن القصة على وشك أن تبدأ.
إن مينتيس، ذلك الغريب الذي على الأبواب، هو في الحقيقة أثينا متخفية. في «الإلياذة» نجد آلهة كثيرين لهم أدوار بارزة، ولكن في «الأوديسة» يلعب ثلاثة فقط أدوارا مهمة؛ أثينا حامية البطل، وزيوس حامي القانون الأخلاقي، وبوسيدون مضطهد البطل، الذي يمثل البحر وكل أخطاره الحقيقية والرمزية. يمارس مينتيس/أثينا تجارة المعادن الدولية «أبحر عبر البحر المظلم مثل لون الخمر إلى أقوام كلامهم غريب، في طريقي إلى مدينة تيميسي من أجل النحاس، وأحمل معي الحديد اللامع.» (الأوديسة، 1، 183-184). إن موقع مدينة تيميسي غير مؤكد، ولكن لعلها كانت في جنوب إيطاليا، حيث كان العوبيون يبحرون في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد للحصول على المعادن الخام. عرف مينتيس أوديسيوس في الأيام الخوالي قبل حرب طروادة. ويتساءل عما إن كان من الممكن أن يكون تليماك هو ابن السيد، ويجيبه تليماك قائلا:
أمي تقول إنني من صلبه، ولكني لا أعرف؛ إذ لم يعرف أي رجل قط من تلقاء نفسه نسبه. إنني أتمنى لو كنت ابن رجل سعيد الحظ، تبلغ منه الشيخوخة مبلغا وهو بين ممتلكاته. ولكن، نعم، يقولون إنني من نسل ذلك الرجل الذي كان أتعس الرجال الفانين حظا. ما دمت قد سألت. (الأوديسة، 1، 215-220)
تقوم الشخصية الأدبية على الحاجة الدرامية؛ أي ما تبتغيه الشخصية، وعلى المنظور، أي كيفية رؤية الشخصية للعالم. يؤسس هوميروس، دفعة واحدة وفجأة، حاجة تليماك الدرامية؛ وهي العثور على أبيه، ومنظوره الذي يتمثل في كونه مراهقا كئيبا يشك حتى في نسبه إلى أبيه.
يهول مينتيس/أثينا ما يجري في البيت، ويسدي لتليماك نصيحة قوية بشأن ما يجب عليه فعله لاستعادة النظام. يجب أن يطرد الخطاب الطامعين، ثم يبحر إلى مدينة بيلوس على البر الرئيسي، ثم يمضي إلى إسبرطة التماسا لأي أخبار عن مكان وجود أبيه. بالطبع يعرف مينتيس/أثينا تمام المعرفة مكان أوديسيوس، وفي الواقع لن يعرف تليماك شيئا، ولكن الغرض من الرحلة هو إخراج تليماك من عالم الصبية إلى عالم الرجال. تمثل قصة تليماك أول مثال في العالم الأدبي على ما يدعوه الألمان
Bildungsroman ، أي «رواية التنشئة»، أو قصة البلوغ، وهي القصة التي تتناول كيف بلغ صبي أشده وصار رجلا. ومنذ «الأوديسة»، و«رواية التشكيل» تعد نوعا قصصيا رئيسيا في الأدب الغربي.
يترك مينتيس/أثينا المنشد الملحمي فيميوس تيربياديس (والذي لاسمه مدلول على نحو «التراث السردي الذي يقصد به التسلية») ينشد عن عودة الآخيين بعد حرب طروادة؛ و«الأوديسة» هي أنشودة من هذا القبيل، وهو نوع الموسيقى الذي لا يعجب بينيلوبي! عندما تدخل بجرأة عرين الخطاب الشهوانيين لتعترض، يوبخها تليماك، الذي يسعى إلى النضج، على ذوقها في الموسيقى. ويقول إنه عندما يتعلق الأمر بالإنشاد الملحمي، يتعين عليك أن تساير العصر، وهذه الأغنيات التي تدور حول العودة للوطن رائجة جدا. قد يكون تليماك مراهقا ليس له سلطة في بيته، ولكن حديثه مع مينتيس/أثينا جعل منه بالفعل آمرا على أمه. وهو بالتأكيد يعرف أكثر منها ولو قليلا فيما يتعلق بما يجري في مجال الترفيه. (3) «اجتماع الإيثاكيين» و«رحيل تليماك» (الكتاب 2)
ينشئ هوميروس بسرعة مذهلة حبكة قصته. فيدعو تليماك لاجتماع يضم كل الإيثاكيين ويجاهر بأنه قد ضاق ذرعا بتعديات الخطاب وأنه ينبغي لأحد ما أن يفعل شيئا حيال الأمر. ظاهر الأمر أن لأي أحد الحق في الدعوة إلى عقد اجتماع، مثلما يستطيع أي زعيم في «الإلياذة»، ولكن هذا هو أول اجتماع منذ ذهب أوديسيوس إلى طروادة من عشرين سنة، حسبما يقول هوميروس، وممتلكات أوديسيوس غير المصانة ظلت لوقت طويل عرضة للجشع والغصب.
يرسم هوميروس ببراعة شخصية أنتنيوس (أنطونيوس)، وهو زعيم للخطاب، الذي يسلم بغطرسة باتهام تليماك حيال سلوكهم السيئ، ثم يقول إن الخطأ ليس خطأهم لأن بينيلوبي، البارعة في الخداع (كزوجها)، قالت إنها ستتزوج واحدا منهم فور أن تنتهي من نسج كفن جنائزي لليرتيس الشيخ الهرم والد أوديسيوس. ولكنها في الليل كانت تنقض نسجها، وهو قالب (موتيفة) من قوالب الحكايات الشعبية وقصة يرويها هوميروس ثلاث مرات في «الأوديسة». نجحت الخدعة لثلاث سنوات، مع أن هوميروس لا يخبرنا متى كشفت؛ من المحتمل أن ذلك قد حدث مؤخرا؛ لأن الخطاب ظلوا يضايقون بينيلوبي لثلاث أو أربع سنوات.
في بيان، أحيانا ما يكون محيرا ومثيرا للالتباس، لعادات الزواج، لا يتورع أنتنيوس عن اقتراح أن يعيد تليماك بينيلوبي إلى أبيها، حتى يتسنى لها أن تتزوج ثانية وحتى يمكن تبادل الهدايا، والبائنة (من والديها) والمهر (من العريس). يتوعد تليماك بانتقام إلهي من الخطاب ويعضد كلماته فأل من زيوس على هيئة نسرين يتقاتلان. يتنبأ هاليتير، وهو نبيل إيثاكي، بعودة أوديسيوس وموت الخطاب، ولكن لا توجد حدود لسوء مسلك الخطاب الوقحين، والشهوانيين، ومنعدمي الاحترام ولا احترام لديهم للآلهة. إنهم حمقى، كحال رجال أوديسيوس، يظنون أنهم لا يقهرون. وحسبما يروى على لسان الخاطب ليوكريتوس:
لو أن أوديسيوس الإيثاكي نفسه عاد وكان حريصا من شغاف قلبه على أن يطرد من باحته الخطاب النبلاء الذين ينعمون ويولمون في بيته، فيجب عندئذ ألا تفرح زوجته بمجيئه؛ فرغم أنها اشتاقت إليه كثيرا، إلا أنه سيلاقي ها هنا ميتة مخزية، إن تقاتل مع رجال يفوقونه عددا. (الأوديسة، 2، 246-251)
في الحكايات الشعبية، مثلما في الحياة، يسبق الكبرياء الانهيار، وفي الكتاب الثاني والعشرين سوف يقتل ليوكريتوس على يد تليماك.
الجزيرة في تلك الآونة في حالة ثورة عارمة. ويدعو تليماك، الذي يجد نفسه عالقا في غمارها، طالبا سفينة ليبحر بها بحثا عن أبيه. وبعد أن يأخذ مؤنا من القصر، يهرب في تلك الليلة بمعاونة أثينا، التي تتخذ هيئة شخص يدعى منتور (الذي منه جاء لفظ
mentor
الذي يعني ناصح) ومن أجل تجنيد بحارة، تتخذ هيئة تليماك نفسه. إذن تظهر أثينا ثلاث مرات بهيئة جسمانية في المشاهد الافتتاحية لتساعد تليماك، بينما، على النقيض، لا تظهر أبدا بينما أوديسيوس مفقود في أعالي البحار. (4) «تليماك في بيلوس» (الكتاب 3)
كلمح البصر يظهر المركب وبداخله أثينا/منتور، وتليماك وأتباعه على شاطئ مدينة بيلوس حيث يجري تقديم قرابين عظيمة للإله بوسيدون، الذي كان داعما قويا للآخيين إبان حرب طروادة وعدوا صريحا لأوديسيوس (لأن أوديسيوس سمل عين ابنه بوليفيموس). يجتمع حوالي 4500 من أهل بيلوس على الشاطئ لذبح 81 ثورا، ويا له من قربان عظيم، والأمر بما ينطوي عليه من تعبد وكرم هو النقيض للموقف على جزيرة إيثاكا. يسأل تليماك نيستور بكل احترام بشأن ما إذا كان يعرف أي شيء عن والده.
ينشد نيستور أنشودة «العودة للوطن» الخاصة به ويروي كل ما حدث بعد مغادرتهم لطروادة؛ الخلاف بين أبناء أتريوس، وانقسام الأسطول، وعودة نيستور الخالية من الأحداث. يبدي هوميروس في حديث نيستور معرفة جيدة بالممرات البحرية من منطقة ترود إلى اليونان؛ لا بد وأنه سافر عبرها، كما أنه لا بد وأن بعض جمهوره قام بذلك. يرثي نيستور لقدر تليماك ولكنه على يقين من أنه إن كانت أثينا تحبه، مثلما كانت من غير ريب تحب والده، فإن الخطاب سوف يندمون. وحتى بينما هو ماض في حديثه، كانت أثينا المتخفية تقف إلى جوار تليماك! ولكن الشاب الحزين يجيبه قائلا:
أيها الشيخ، لا أظن أن هذا الحديث سوف يتحقق بأي حال من الأحوال. إن ما تقوله أروع من أن يوصف وإن الذهول ليتملكني. ليس لدي أي أمل في أن هذا سوف يتحقق، لا، ولا حتى مع أن تلك يجب أن تكون مشيئة الآلهة. (الأوديسة، 3، 226-228)
تعترض أثينا اعتراضا ودودا على نظرة تليماك الباعثة على الكآبة، مضيفة أنه من الأفضل أن يعود المرء إلى البيت متأخرا ولكن سالما على أن يعود مبكرا وميتا، كحال أجاممنون، الذي يعد مثال زيوس على المسئولية البشرية.
يتساءل تليماك، لماذا لم ينتقم مينلاوس لمقتل أخيه؟ يقول نيستور لأنه كان مفقودا مدة سبع سنوات (رقم سحري). والآن يجب على تليماك أن يسافر نحو الداخل ليزوره، ربما كان مينلاوس يعرف شيئا عن مكان وجود أوديسيوس. عندما يحلق منتور/أثينا بعيدا في السماء على هيئة طائر، يدرك تليماك هوية من كان مصاحبا له. ومن أجل تعظيم الإلهة، يقدم نيستور قربانا ثانيا، بقرة صغيرة. ويخبرنا هوميروس بكل تفصيلة عن نحر البهيمة، حتى نفهم بصورة جيدة، إلى حد ما، ماذا كان يحدث في طقس ديني في اليونان في عصورها الأولى. (5) «تليماك في إسبرطة» (4، 1-331)، و«عودة مينلاوس» (4، 332-619)، و«الخطاب يتآمرون» (4، 620-847)
كما لو كانا في رحلة سحرية، يتخذ تليماك وبيسيستراتوس، ابن نيستور، نقطة توقف وسطى، ثم يسافران بعربة تجرها الخيول فوق سلسلة جبال تايجتوس التي تفصل إقليم ميسينيا في الجنوب الشرقي لشبه جزيرة بيلوبونيز، حيث توجد مدينة بيلوس، عن وادي لاكيديمون في الجنوب الشرقي لشبه جزيرة بيلوبونيز، حيث توجد إسبرطة. إن من شأن هذه الرحلة أن تكون مسيرة صعبة فوق جبال شاهقة وعرة، ولكن يبدو أن هوميروس غير متيقن من الجغرافية الحقيقية لجنوب شبه جزيرة بيلوبونيز.
يعد وصف هوميروس للتوترات الزوجية في إسبرطة بين هيلين ومينلاوس رائعة من روائع الأدب الساخر بين أفراد العائلة الواحدة كما أنه ذو نبرة معاصرة على نحو غير متوقع، كما يحدث أحيانا في القصائد الهوميرية. يصل تليماك وبيسيستراتوس إلى إسبرطة في نفس اليوم الذي ستتزوج فيه هرميون، ابنة هيلين الوحيدة، من ابن غير شرعي لمينلاوس في حفل زفاف ثنائي. كانت هيلين قد تخلت عن هرميون لتهرب مع رفيقها السابق باريس إلى طروادة، وهو ارتباط كان مفعما بالعاطفة لكنه لم يثمر أطفالا، ولكنها الآن عادت للديار وكل شيء مما مضى صار في طي النسيان. وكما تميزت زيارة تليماك لمدينة بيلوس بتقديم قربان ديني، الأمر الذي كان بالغ الاختلاف عن الفساد الأخلاقي الذي عانى منه في البيت، يختبر الشاب الآن بهجة الزواج الشرعي، المغاير كثيرا لجحر الأفعى الكائن على جزيرة إيثاكا. مع كل مثال ينتقل تليماك إلى عالم من الذوق الحسن والاستقرار الاجتماعي؛ إنه طفل دون أب يتعلم نماذج للسلوك.
تتسم ملحمة «الأوديسة» بالهوس بمشاهد التعرف، وهي إحدى أدوات الحكاية الشعبية . ليس ثمة وجود لمشاهد التعرف في «الإلياذة»، ولكنها تتوالى تباعا في «الأوديسة». ويختص أوديسيوس بالمجموعة الكبرى من مشاهد التعرف، ولكن تليماك هو ابنه البار المشابه لأبيه. في بادئ الأمر لا يتعرف عليه أحد في إسبرطة. وعندما يذرف الدمع عند ذكر أوديسيوس، يخامر الشك مينلاوس وتعرف هيلين البارعة والفاتنة أن هذا هو تليماك، ابن أوديسيوس. إن تعرف هيلين على تليماك هو علامة نضجه، ويحيل التفكير في والده النبيل، الذي صار تليماك يشبهه كثيرا، الجميع إلى حالة من الحزن.
تأتي هيلين بعقار قوي يسمى
nepenthê «لا ألم» كانت قد وجدته في مصر وتسقطه في وعاء الشراب. وسرعان ما يشعر الجميع بالمرح. ومن أجل أن تمتدح هيلين أوديسيوس، توضح كيف أنه جاء ذات مرة متنكرا إلى طروادة (كما سوف يفعل على جزيرة إيثاكا)، ولكنها تعرفت عليه وساعدته ليقتل الكثير من الطرواديين. لقد كانت دوما تعمل لمصلحة زوجها!
ولكي ينتقم مينلاوس من ادعاءات زوجته وتلميحاتها، ولكن دون إفساد الحالة المزاجية السائدة، يمتدح هو الآخر أوديسيوس، متذكرا إنقاذه للآخيين في الليلة التي وقفت فيها هيلين خارج حصان طروادة مع ديفوبوس، الرجل الذي كانت تمارس معه الجنس بعد موت باريس، وقلدت أصوات زوجات الرجال المختبئين بالداخل. ويرجع الفضل في ذلك إلى أوديسيوس الذي وضع يده على فم أحد قادة الآخيين الذي كان على وشك أن يرد!
في اليوم التالي يحكي مينلاوس قصة عودته إلى الديار من طروادة، وهي القصة التي تضاهي قصة عودة أوديسيوس، ولو أنها أقل تعقيدا. في البداية علق في مصر، ثم بينما كان يبحر ضل سبيله حتى وصل إلى جزيرة فاروس، «التي تبعد عن الساحل مسافة إبحار يوم كامل» (كانت جزيرة فاروس الحقيقية، التي تعني باللغة المصرية القديمة «بيت ري»، تقع في خليج الإسكندرية على بعد بضع مائة ياردة من الشاطئ). وتصادق مع حورية من حوريات البحر، اسمها إيدوثيا (ويعني «ذات الهيئة الإلهية»؛ مثلما سوف تصادق ربة البحر ليوكوثيا أوديسيوس ). وستر نفسه بجلد عجل من عجول البحر (مثلما سوف يتعلق أوديسيوس تحت كبش ليهرب من السايكلوب). والتقى مينلاوس بشخص متنبئ ذي بأس، هو بروتيوس عجوز البحر، وتغلب عليه (مثلما تحدث أوديسيوس مع تيريسياس المتنبئ على ساحل أرض الكيميريين). عرف مينلاوس من بروتيوس المصير التعس لشقيقه أجاممنون، ولأياس الأدنى شأنا، ابن أويليوس، الذي عوقب على ثقته المفرطة بنفسه. وعرف أيضا أن أوديسيوس كان محتجزا على جزيرة الحورية كاليبسو (التي يعني اسمها «الموارية») رغما عنه (على الرغم من أن أوديسيوس لم يعلم بمصائر رفاقه إلا عندما سافر إلى نهر أوقيانوس).
يغادر تليماك في اليوم التالي، متسلحا بهذه المعلومات الشحيحة، ويهبه مينلاوس وعاء شراب فينيقيا بديعا:
من بين كل الهدايا التي تقبع مخزونة كذخائر في داري، سأمنحك واحدة هي أجملها وأغلاها. سأمنحك وعاء لخلط الشراب محكم الصنع مصنوعا كله من الفضة وذا حواف ذهبية، من صنع هيفايستوس. منحه إياي المحارب فيديموس، ملك الصيداويين حينما أويت إلى داره عند ذهابي إليه، وأنا الآن أرغب في أن أمنحه لك. (الأوديسة، 4، 613-619)
لقد نجت قلة من نماذج فعلية لمثل تلك الأوعية الفينيقية. وتعد تلك الهدايا الثمينة ذات أهمية اقتصادية عظيمة في المجتمع الهوميري؛ فقد أنشأت الهدية علاقات خانيا
xenia «حسن الضيافة»، كتلك التي كانت قائمة بين جلاوكوس وديوميديس في «الإلياذة». وعلى خانيا اليونانية بنيت الشبكة الدولية التي استطاع عبرها رجال من أصول اجتماعية رفيعة أن يتنقلوا دون أن يتعرضوا لأذى.
في تلك الأثناء على جزيرة إيثاكا، يتآمر الخطاب لقتل تليماك عند عودته. إن هؤلاء الرجال ليسوا سيئي الخلق وشهوانيين وطامعين وحمقى فحسب، وإنما قتلة أيضا. نأتي بإيجاز على ذكر جزيرة إيثاكا قبل أن نتحول إلى هروب أوديسيوس من محبسه الغامض بين أعالي البحار عند نقطة التحول الأولى في الحبكة. (6) «أوديسيوس وكاليبسو» (الكتاب 5)
نعود إلى نفس المجلس السماوي حيث بدأت القصيدة، وفي ظاهر الأمر أن الأحداث اللاحقة تقع في نفس وقت ما جرى في السابق، وذلك وفقا لعرف السرد الملحمي الذي يقضي بعرض أحداث متزامنة. تشتكي أثينا مجددا إلى زيوس بشأن محبوبها أوديسيوس، مثلما فعلت في الكتاب الأول، وبعد إلحاحها على تليماك من أجل اتخاذ إجراء حيال الأمر، ها هي الآن تقوم بالشيء نفسه مع أبيه. وفي الوقت الذي ذهبت فيه أثينا إلى إيثاكا متخفية في هيئة مينتيس، يبعث زيوس هيرميس إلى جزيرة كاليبسو بأوامر بتحرير أوديسيوس.
لماذا هيرميس؟ في «الإلياذة» يقتاد هيرميس عربة بريام خلال ظلمة الليل، عبر النهر، مرورا بالحراس حسب النمط الأسطوري المسمى
katabasis
أو الهبوط إلى العالم السفلي. ليس لأثينا (المشغولة على جزيرة إيثاكا على أي حال) أدنى صلة بالعالم الآخر. فأوديسيوس عالق في «سرة (مركز) البحر»، حيث يتلاقى هذا العالم مع العالم التالي. وفي الأزمنة الكلاسيكية القديمة كشف الإله أبولو ذو القدرات الشامانية عن معرفة سرية في منطقة دلفي، التي يطلق عليها «السرة».
إن «الأوديسة»، على مستوى الحبكة السطحية، هي قصة رجل عاد للديار بينما كانت زوجته على وشك الزواج، ولكن على مستوى الأسطورة، أو البنية الداخلية، فملحمة «الأوديسة» هي قصة الرجل العائد من الموت. في الأسطورة، الماء هو العنصر الأصلي الذي نشأ منه العالم، قبل أن يوجد أي شيء. وبوسيدون، إله الماء، هو عدو أوديسيوس. أما من الناحية الرمزية، فإن أوديسيوس على جزيرة كاليبسو «المخفية»، هو أوديسيوس الذي على أرض الموتى، وهي استعارة قد يكون هوميروس هو الذي ابتكرها. الموت هو «المخفي» العظيم (اسم «هاديس» يعني «الذي لا يرى/الخفي»)، وفي اللغة اليونانية الفعل
kaluptô «يواري» يمكن أن يعني ببساطة أن «تدفن» جثة. تريد كاليبسو «الموارية» أن تمنع أوديسيوس عن زوجته وابنه وبيته. والحياة الأبدية التي عرضتها على أوديسيوس، إن كان سيبقى، هي بمثابة موت أبدي للرجل الذي يحب التجربة ويحب بيته. فهو يتوق إلى أن يولد من جديد وأن يحيا مجددا.
تصب كاليبسو جام غضبها على الضوابط التي تبعد الرجال الفانين عن أحضان إلهات مثلها. عندما تعلم أوديسيوس أن في مقدوره الذهاب، يتشكك في أن ثمة خدعة. إن كاليبسو هي الأنثى التي تحمل مشاعر مزدوجة في الحكاية الشعبية؛ فهي تساعد البطل وتحبه، ولكنها تريد أن تعوقه، لتلحق به الضرر، على حد سواء.
في الفقرة الأصعب في القصائد الهوميرية ، يبني أوديسيوس «طوفا» ليهرب من الجزيرة، ولكن يبدو أن هوميروس أكثر ميلا للتفكير في قارب مسطح؛ لأن المركب له «دعامات» وربما «حواف عليا». يعتقد البعض أنه استمد لغة تقليدية من بناء سفينة الأرجو في الملحمة التي تدور حول جيسون، والتي يشير إليها هوميروس لاحقا (الأوديسة، 12، 70). قد يكون أوديسيوس بطلا، ولكنه على عكس المقاتلين الأجلاف بالرماح على سهل طروادة العاصف يمكنه أن يفعل أشياء حقيقية في عالم حقيقي. وراعيته أثينا هي الإلهة المختصة بهذا النوع من المهارات العملية، بالنسج والنجارة، تلك المهارات التي تصنع فارقا في حياة البشر.
يلمح بوسيدون، لدى عودته من عند الإثيوبيين المباركين، أوديسيوس في أعالي البحار ويرسل عاصفة عارمة، وهو وصف يلفت الانتباه للهول الذي يعرفه كل بحار. لا يحب أي بحار البحر، وبوسيدون الخطير والحقود، الذي انحاز للآخيين أثناء حرب طروادة، هو الآن العدو. ليس ثمة أي عامل خارجي يشكل دافعا لظهور ليوكوثيا من الأمواج التي تمثل، بغطائها الغريب الذي يشبه الحبل السري، العامل الأنثوي الذي يتيح لأوديسيوس الهروب من عالم بوسيدون غائر العمق (مثلما تيسر إيدوثيا عودة مينلاوس إلى الديار).
إن أوديسيوس عاري البدن، مجرد من كل متاع دنيوي، لا حول له ولا قوة، ضعيف، خارج من العنصر الأولي [الماء] الذي فيه أيضا يعيش الجنين. وكما لو أنه كان ميتا على جزيرة كاليبسو، يعود إلى الحياة على سكيريا، جزيرة الفياشيين. وما إن يصل أوديسيوس إلى الشاطئ، بمعاونة ليوكوثيا، وهو يكاد يشارف على الغرق، حتى يختبئ تحت شجيرتين متداخلتين معا بإحكام شديد حتى إن المطر لا يتخللهما مطلقا. ينام أوديسيوس في تجويف يشبهه هوميروس بمجمرة تحفظ شرارة نار، في مشهد يرمز إلى ولادته من جديد. فبعدما احتجز أسيرا لمدة سبع سنين، وهو رقم سحري، يبرز عاريا من البحر، الذي يمثل الموت ومع ذلك تنبثق منه الحياة. أما التجويف الذي يحميه فهو رحم. الكلمة اليونانية المقابلة لكلمة
spark «شرارة نار» هي
sperma ، التي تعني أيضا «بذرة». ومن شأن هذه الرمزية المغرقة إلى هذه الدرجة أن تثير ذهول القارئ المعاصر ، الذي لا يتوقع مثل هذا العمق وبراعة التعبير في عمل أدبي عمره 2800 عام. (7) «أوديسيوس وناوسيكا» (الكتاب 6)، و«أوديسيوس في البلاط الملكي الفياشي» (الكتاب 7)
عندما يولد أوديسيوس من جديد، يبحث «كشاب» عن رفيقة وفي موقف في غاية الحساسية يجد مبتغاه في ناوسيكا (بمعني «فتاة السفن») الفاتنة، ابنة الملك ألكينوس (ويعني «ذو العقل القوي»). لدى معظم الفياشيين أسماء متعلقة «بالسفن» وهم ليسوا بارعين في استخدام القوس والسهم، كما توضح ناوسيكا، ولكنهم بحارة مهرة. نحن متحوطون بشأن الربط بين المعلومات الجغرافية في «الأوديسة» وبين المعلومات الجغرافية الحقيقية، ولكن في القرن الخامس قبل الميلاد، اعتبر المؤرخ ثوسيديديس أن سكيريا، وهو الاسم الذي يطلقه الفياشيون على جزيرتهم، هي جزيرة كورسيرا (جزيرة كورفو المعاصرة) التي تقع إلى الشمال من جزيرة إيثاكا قبالة ساحل شمال غرب اليونان، والتي تعد موضع الانطلاق الطبيعي للبحارة الذين يرتحلون غربا إلى إيطاليا. تاريخيا كانت كورسيرا في الحقيقة بمثابة نزل في منتصف الطريق بين شبه الجزيرة الإيطالية المقفرة والخطرة إلى جهة الغرب وبين بر اليونان الرئيسي. كان الوصول إلى إيثاكا من كورسيرا يعني أن البحار قد رجع إلى الديار أخيرا. وقد أعاد هوميروس ببراعة صياغة حقيقة تاريخية (أن إيثاكا تعني العودة إلى اليونان) في صورة حكاية شعبية لرجل رجع بعد سنوات عديدة، وفي صورة أسطورة حياة بعد القيامة من الموت. فشل الأثريون في العثور على مستوطنة ميسينية على جزيرة إيثاكا؛ لأن القصة أحدث كثيرا من العصر البرونزي، وهي في هذا الشكل تعبر عن الملاحة البحرية في أواخر العصر الحديدي.
في واحد من أفضل مشاهده يسجل هوميروس تواضع وشجاعة ناوسيكا اليافعة والقلق الجنسي الطبيعي في لقائها مع رجل أكبر سنا وذي خبرة عريضة. بإيعاز من أثينا في حلم، قدمت ناوسيكا، التي كانت تستعد للزفاف، إلى شاطئ البحر مع رفيقاتها لتغسلن ثيابهن (رغم أنها أميرة!)؛ فلا أحد يود أن يلبس ثيابا متسخة في عرس. ومثلما صارت الأوصاف السابقة لزيوس، وأثينا ، وبوسيدون أساسية في الفن الإغريقي، يصوغ هوميروس في هذا الموضع الصورة الشهيرة لأرتميس التي نعرفها جميعا. ففي تصوير يستهوي الرسامين والنحاتين لاحقا وشائع في أغنيات العذراوات التي تتغنى ببلوغ صبية صغيرة سن الرشد، يشبه هوميروس ناوسيكا وسط وصيفاتها بإلهة:
بل مثلما تجول أرتميس رامية السهام فوق الجبال على طول سلسلتي جبال تايجتوس أو إريمانثوس الشاهقتين، مبتهجة وهي تطارد الخنازير البرية والغزلان السريعة، وحوريات الأشجار، يشاركنها بنات زيوس الذي يحمل درع الأيجيس، التسلية، وليتو [أم أرتميس] منشرحة الصدر؛ وعاليا فوقهن جميعا ترفع أرتميس رأسها وحاجبيها وبسهولة يمكن تمييزها، رغم أن كلهن جميلات؛ كذا وسط وصيفاتها تألقت الفتاة التي لم تتزوج بعد. (الأوديسة، 6، 102-108)
كلمة
nymphê
اليونانية يمكن أن تعني ببساطة «فتاة شابة»، وفي موضع ساحر على جزيرة غريبة تشبه ناوسيكا ووصيفاتها حقا أرتميس و«حورياتها».
تلعب الفتيات بالكرة ولكن عندما تضل الكرة تصرخن، فتوقظن أوديسيوس. فيمشي بينهن متهاديا وجسده مغطى بالماء المالح، عاريا إلا من غصن يمسك به، خارجا لتوه من ثلاثة أيام في البحر. وهذا التباين بين رجولته الخشنة وشبابها البتولي يجعل شرارات الجنس تنتشر فيما حولهما. لقد أمضى عشرين يوما على طوف وعشرين سنة في بلاد غريبة، منها سبع سنوات كان فيهم في حصار جنسي من قبل كاليبسو الإلهية، في حين كانت ناوسيكا في الليلة السابقة تحلم بالزواج. فيصبح الزواج هو أحد موضوعات حديثهما، ويرى أوديسيوس أن الرجل الذي يستحوذ على ناوسيكا سوف يكون محظوظا حقا:
لأن ليس ثمة شيء أعظم أو أفضل من هذا، عندما يجمع بيت واحد رجلا وامرأة معا، ويتشاركان قلبا واحدا وعقلا واحدا، فذاك حزن عظيم لأعدائهما وسرور لأصدقائهما، بينما تكون شهرتهما بلا نظير. (الأوديسة، 6، 182-185)
الزواج هو التقليد الذي يتهدده الخطاب هناك على جزيرة إيثاكا من خلال جشعهم وشهوتهم. في «الإلياذة» كان زواج هيكتور وأندروماك عبارة عن مأساة وكان زواج هيلين وباريس كرواية هزلية. أما زواج أوديسيوس وناوسيكا فهو أمر مستحيل، مهما كان مدى رغبتهما فيه. فأوديسيوس هو الرجل الذي يعرف أن عليك أن ترجئ إشباعك المؤقت إن أردت تحقيق رغباتك العميقة؛ إذ يجب على أوديسيوس أن يحرص على عدم الإساءة لوالدي ناوسيكا، الملك والملكة؛ فمن دون مساعدتهما لا يستطيع أن يرجع إلى الديار.
إن المشهد مبني على نحو يشبه الحكاية الشعبية المسماة الأمير الضفدع، وهي القصة الأولى في مجموعة قصص الأخوين جريم، حيث تسقط فتاة كرة في بئر، فيسترجعها ضفدع. وعندما تقبل الفتاة الضفدع، يتحول إلى أمير، ثم يتزوجها. على نحو مماثل تلقي إحدى رفيقات ناوسيكا كرة في مجرى الماء وتوقظ أوديسيوس، الذي يبدو مظهره للناظر والمتأمل وكأنه وحش حقيقي. على أي حال، لا يستطيع أوديسيوس أن يتزوج ناوسيكا، وفقا لنمط الحكاية الشعبية الذي يسير سرد حكايته. بعد إتمام ناوسيكا لمهمتها المتمثلة في ضمان دخول أوديسيوس إلى القصر، تسقط من القصة، ولا تظهر ثانية إلا ظهورا موجزا.
يتبع أوديسيوس ناوسيكا عن بعد، تحريا للعفة، إلى المدينة، ولكنه يمضي بحذر منحرفا عن الطريق قبل أن يراهما أحد معا. تلقاه أثينا متخفية في هيئة فتاة صغيرة، وهي معاونة البطل المعتادة في الحكايات الشعبية، وتوجهه إلى القصر. وجهت ناوسيكا إليه النصح، وتكرر أثينا النصيحة، بأن يلجأ إلى رحمة الملكة أريت. يدخل إلى غرفة العرش يخفيه غيم، ويقبل على الملكة، ويطوق ركبتيها بذراعيه، ويسألها إعادته إلى دياره.
لا أحد يعرف السبب وراء حاجة أوديسيوس إلى الإقبال على الملكة أريت بدلا من الملك، الذي، أيا كان الأمر، يقبل على الفور طلب الغريب بتأمين رحلة عودة إلى الديار. ربما ينتمي الحدث إلى نمط الأنثى التي تكون عدائية في أول الأمر، ثم تغدو متعاطفة مع عودة أوديسيوس إلى الديار. وهكذا كانت كاليبسو تريد أن تستبقيه، ثم تساعده في الإعداد لرحلته إلى جزيرة سكيريا. وأرادت سيرس (كما سنرى) أن تفتن أوديسيوس أو أن تفقده رجولته، ثم تساعده في رحلته التالية. ليس الفياشيون ودودين تماما (كما سيتضح عما قريب)؛ فهم، كشأن مخلوقات السايكلوب، من نسل بوسيدون، عدو أوديسيوس اللدود. ودخول أوديسيوس إلى القصر متخفيا، كخطيب محتمل للأميرة، مناظر لاقتحامه القصر على جزيرة إيثاكا خفية، حيث يتنافس مع الخطاب للظفر بسيدة البيت.
وأخيرا تسأله أريت: «من أين حصلت على تلك الثياب؟» إذ تشك محقة في أن ثمة شيئا بين أوديسيوس وابنتها. وبكثير من الكياسة يبين الغريب نواياه الطيبة، ولكن الملك ألكينوس يتقدم ويعرض عليه بالفعل يد ناوسيكا! (8) «الغريب في المسابقة» (الكتاب 8)
يعيش الفياشيون على تخوم أرض سحرية؛ فهم يعيشون في جنة. يبدو أوديسيوس للفياشيين كما لو أن كائنا إلهيا ظهر بينهم (بفضل تأييد أثينا له). وكحال سكان الأرض السحرية، نجدهم هم أيضا، بطريقة غريبة، خصوما لأوديسيوس، حسب نمط الحكاية الشعبية الذي يتبعه هوميروس، وحينئذ:
جعلته أثينا أطول وأقوى في عين الرائي، حتى يكون موضع ترحيب من كل الفياشيين ويظفر بالهيبة والوقار، وينجز المآثر العديدة التي اختبر الفياشيون فيها أوديسيوس. (الأوديسة، 8، 20-23)
قبل الاختبارات، سوف يقيم الملك وليمة عامرة. أنزل نيستور تليماك في ضيافته، وأنزل مينلاوس تليماك في ضيافته، وأنزلت كاليبسو أوديسيوس في ضيافتها، وسوف ينزل الفياشيون أوديسيوس في ضيافتهم، إن أوديسيوس هو أيضا الرجلإن أوديسيوس هو أيضا الرجل وكانت أفضل مأدبة فيها جميعا هي تلك التي تضم ديمودوكوس المنشد الملحمي الشهير الذي يقوم بدور المرفه. ولا يسعنا إلا أن نعجب بالصورة الذاتية التي رسمها هوميروس لديمودوكوس:
ثم دنا المنادي، وهو يقود «المنشد» الطيب، الذي أحبته إلهة الإلهام (الميوز) أكثر من كل الرجال الآخرين، وأعطته خيرا وشرا معا. فحرمته من بصره، ولكنها منحته هبة الغناء العذب. وضع له المنادي بونتونوس كرسيا مرصعا بالفضة وسط المضيفين، مسندا ظهره إلى عمود طويل، وعلق القيثارة ذات النغم الصافي في مشجب قريب فوق رأسه، وأراه كيف يمد يده ليصل إليه. وبجواره وضعت سلة وطاولة جميلة، وكأس من الخمر، ليتجرعها عندما يعن له ذلك. (الأوديسة، 8، 62-70)
يبدو أنه إلى هذه الفقرة تعزى الأسطورة القائلة إن هوميروس كان أعمى، بيد أن إدراكه البصري الفائق [في تصويره للأحداث والمشاهد] يجعل ذلك مستبعدا.
ينشد ديمودوكوس أغنية لا نعرف عنها أي شيء من مصدر آخر إطلاقا، وهي أغنية «نزاع آخيل وأوديسيوس». من المرجح أنه يشير بطريقة غير مباشرة إلى «الإلياذة»، التي تدور أيضا حول نزاع بين القادة. ربما تكون دموع أوديسيوس التي ذرفها عند سماع الأغنية قد تسببت في بدء مشهد تعرف ردا على السؤال «لماذا تبكي؟» ولكن هوميروس يريد أن يمتد في سرده بأقصى ما يستطيع، ليعزز قوة هذا التعرف.
وهكذا ينتقلون إلى ساحة اللعب. وبعد مسابقات مشابهة للألعاب الجنائزية لباتروكلوس في «الإلياذة»، يتهكم نبيل فياشي على أوديسيوس، قائلا إنه ليس في وسعه مطلقا أن يؤدي رياضة بدنية؛ بسبب خلفيته الاجتماعية التي من الواضح أنها من الطبقات الدنيا. يستنكر أوديسيوس الإهانة غير المبررة، ثم يبرهن على خلفيته الأرستقراطية بإلقائه قرص الرمي أبعد كثيرا من الآخرين جميعا. نعم إنه محارب حقيقي، من العالم الحقيقي، وعلى قدم المساواة اجتماعيا مع الفياشيين الذين يجوبون البحار، وهذا أقل ما يقال في هذا الشأن. يعتذر ألكينوس إلى الغريب ويبين سمات الشخصية الفياشية (الذي اشتبه البعض في كونه امتداحا لشخصية العوبيين الذين كانوا يجوبون البحار، في زمن ما معاصر لزمن الجمهور الذي يستمع إلى هوميروس مباشرة):
إننا لسنا ملاكمين أو مصارعين لا يشق لنا غبار، ولكننا سريعو الركض في سباق العدو، ونحن أفضل بحارة، ونحب الولائم والقيثارة والرقص وتغيير حلل الثياب والحمامات الدافئة، والاضطجاع على الأريكة. (الأوديسة، 8، 246-249)
من أجل تخفيف التوتر، يستدعي ألكينوس ديمودوكوس ثانية، الذي لا بد وأنه موسيقي بارع بالإضافة إلى مهارته في الغناء «االملحمي». فيعزف موسيقى مصاحبة لرقص أكروباتي معقد يتميز الفياشيون بالبراعة فيه، ثم يغني الأغنية السيئة السمعة «زنا آريس وأفروديت»، وهي أغنية كانت تناسب المزاج النوعي لجمهوره بموضوعها الذي يدور حول الخيانة الجنسية والتصوير شبه الإباحي للإلهة العارية في أحضان إله الحرب العاري بينما يلقي الآلهة الذكور الآخرون نظرات فاحصة. ما كان يمكن لهوميروس أبدا أن ينشد أغنية كتلك أمام نساء محترمات؛ فالغناء «الملحمي» هو غناء للذكور، وديمودوكوس في هذه الحالة يغني أمام جمهور كله من الذكور. الأغنية عبارة عن دعابة تأتي ذروتها عندما يحرض أبولو هيرميس على الكلام. عندما يسأله هل يريد أن يكون محل آريس؟ فيرد هيرميس قائلا بالقطع لا! يكرر موضوع الأغنية تكرارا بارعا، في شكل فكاهي، مثلث الحب الجاد جدا مينلاوس/هيلين/باريس، الذي تسبب في حرب طروادة وأدى إلى موت الآلاف، بمن فيهم باريس، مثلما يكرر مثلث أجاممنون/كلتمنسترا/إيجيسثوس، الذي أدى إلى موت أجاممنون، وإيجيسثوس، وكلتمنسترا. سوف يكون لمثلث الحب أوديسيوس/بينيلوبي/الخطاب محصلة مختلفة، بفضل امرأة تعرف كيف تقول لا.
لا يزال ثمة متسع من الوقت لألعاب أكروباتية، ثم الذهاب إلى القصر من أجل الاغتسال على يد الأميرات، وهي عادة محببة تكررت مرات عدة في «الأوديسة». يرى أوديسيوس الممجد ناوسيكا مرة أخرى، وتودعه وداعا مؤثرا:
وداعا، أيها الغريب، وآمل أن تذكرني بعدئذ حتى في بلدك الأم؛ لأن لي أنا أولا أنت مدين بحياتك. (الأوديسة، 8، 461-462)
لم تستطع الزواج منه، ولكنها بالفعل أنقذته؛ إذ تلقفته عاريا من البحر وكأنها أم بديلة.
يحتل ما يلي أهمية بالغة لدى المؤرخين الأدبيين؛ لأن هوميروس يصف كيفية ممارسة المنشد الملحمي لما يقوم به. في الوليمة يطلب أوديسيوس أغنية «عن حصان طروادة»، أغنية في هذا الموضوع وليس بهذا العنوان، فما يكون من ديمودوكوس إلا أن «يستغرق في سرد الحكاية» منذ كان الآخيون يبحرون مغادرين، كما لو كانت «الحكاية» هنالك في مكان ما تنتظره، مكان ما في مجمع التقليد. يختبر أوديسيوس معرفة المنشد الملحمي بهذا التقليد:
إذا رويت لي بالفعل هذه الحكاية كما ينبغي أن تروى، سأعلن للبشرية جمعاء أن الآلهة بقلب متهيئ قد وهبتك منحة الغناء الإلهي. (الأوديسة، 8، 496-498)
ومع ذلك، يبدأ ديمودوكوس من حيث يشاء ويمضي كما يحلو له إلى أن يبكي أوديسيوس، للمرة الثانية، منشئا مشهد تعرف دراميا ونقطة وسطى في حبكة «الأوديسة». والسبب هو أنه الرجل الذي حوله تنشد الأغنية، أوديسيوس، الرجل واسع الحيلة ذو القدرات الكثيرة! (9) المجموعة الأولى: «شعب السيكون، آكلو اللوتس، السايكلوب» (الكتاب 9)
إن أوديسيوس هو أيضا الرجل الذي اختبر الكثير من المعاناة، محتملا كربا تلو آخر. وقد فعل هذا من أجل «الشهرة/الذكر»، ويفعله من أجل الوطن:
أنا أوديسيوس، ابن ليرتيس، يعرفني كل الرجال لخدعي الحربية، وشهرتي ترتفع إلى عنان السماء. أستوطن إيثاكا الواضحة للعيان؛ حيث يوجد جبل نيريتوس المغطى بالغابات ذات الأشجار المتهادية، البارز من بعيد، وحولها تقع جزر عدة قريبة من بعضها، دوليتشيوم وسيمي وزاكينثوس المشجرة. أما إيثاكا نفسها فتقع على مقربة من البر الرئيسي أبعد ما يكون نحو الظلمة، ولكن الجزر الأخرى تقع متفرقة نحو الفجر والشمس؛ هي جزيرة وعرة ولكنها مرعى جيد للشبان. وفيما يخصني لا يسعني أن أرى شيئا أحلى من بلد المرء. (الأوديسة، 9، 19-28)
لم يفسر أحد كيف يمكن لإيثاكا أن تكون «أبعد ما يكون نحو الظلمة»؛ لأن الجزر الأخرى من مجموعة الجزر الأيونية تقع على مسافة أبعد جهة الغرب، ولسنا متيقنين من الجزر التي يقصدها بجزيرة دوليتشيوم (هل يقصد ليفكاس الحالية؟) وسيمي (من المرجح أنه يقصد جزيرة كيفالونيا). ومع ذلك، ففي تفاصيل أخرى يبدو هوميروس وكأنه كان لديه معرفة مباشرة بالجزيرة.
الآن يبدأ أوديسيوس حكايته، أشهر المغامرات في الأدب العالمي، وهو ما يعتقد الكثيرون أنه موضوع «الأوديسة»، على الرغم من أن القصيدة أكثر اهتماما بالدراما المحلية عن المغامرات الخيالية. فالمغامرات تنتظم في أربع مجموعات ثلاثية، كل مجموعة تتألف من مغامرتين قصيرتين وواحدة طويلة، وفي الوسط نجد الرحلة إلى العالم السفلي، في نوع من النظم الدائري وعلامة واضحة على اهتمام الشاعر بوضع سرده في نمط هندسي. تبدأ المغامرات في عالم معروف، هو أرض شعب السيكون، وهي قبيلة حقيقية في منطقة تراقيا شمال غرب طروادة، في مغامرة تحاكي العدوان على طروادة في صورة مصغرة. مرة أخرى يسلك الآخيون مسلك قطاع طرق يسلبون وينهبون مدينة، ولكن هذه المرة لا تمضي الأمور كما يتمنون. فخلافا لنصيحة أوديسيوس، لا يغادر الإيثاكيون على الفور. وفي اليوم التالي يجتاحهم السيكون ويقتلون ستة رجال من كل قارب (مثلما سيموت ستة رجال في كهف السايكلوب وستة بين مجسات الحورية/الوحش البحري سيلا). يعد التوتر بين القائد ورجاله من الموضوعات المحورية في عودة أوديسيوس إلى الوطن؛ إذ يستسلمون للشره والجوع، لشهوة البطن (مثل الخطاب)، في حين يتذكر أوديسيوس (عادة) مبتغاه الذي يتجاوز شهوة مؤقتة، وهو أن يصل إلى الديار (ليولد من جديد).
قبالة كيب ماليا، الطرف الجنوبي الشرقي لشبه جزيرة بيلوبونيز الذي تضربه عواصف عاتية على طريق البحارة العوبيين بين الشرق والغرب، تقودهم عاصفة لتسعة أيام وتسع ليال بعيدا إلى أرض خيالية. يشعر آكلو اللوتس بالسعادة، ولكنهم مخدرون. لذا عندما يأكل رجال أوديسيوس اللوتس، ينسون حاجتهم للعودة للديار. إن نباتات اللوتس الحقيقية ليست نباتات مخدرة، وإن كانت نباتا مقدسا في الفن الديني المصري. ربما ينبغي لنا أن نفكر في آكلي اللوتس على أنهم موجودون على ساحل أفريقيا.
أول قصة طويلة هي مغامرة بوليفيموس السايكلوب (السايكلوب يعني حرفيا «ذو العين المستديرة»)، وهي واحدة من أشهر القصص على الإطلاق. يكشف رسو أوديسيوس على جزيرة مقابلة لأرض السايكلوب عن العين الفطنة الثاقبة للمستعمر؛ إذ يرى على الفور الكيفية التي يمكن بها تنمية الأرض وتحسينها. للأسف لا يعرف جنس السايكلوب فنون الحضارة، وفنون الزراعة، والملاحة البحرية. ليس لديهم حياة سياسية، ولكنهم يعيشون في وحدات أسرية منفردة. ولا يصنعون الخبز. إنهم أقوياء ولكنهم أغبياء، وعلى مستوى واقعي يمثلون الشعوب الأجنبية التي تنازع معها المستعمرون اليونانيون في البلدان الغربية.
علاوة على كل ذلك، لا يحترم بوليفيموس قواعد «حسن الضيافة»، التي أبديت لتليماك في بيلوس وإسبرطة. يمضي أوديسيوس أياما على جزيرة سكيريا قبل أن يسأله أحد عن هويته، في حين أن بوليفيموس عندما يرى اليونانيين المهزولين لأول مرة يسألهم على الفور «من أنتم؟» وبدلا من إطعام ضيوفه يأكلهم! وكهدية رمزية لأوديسيوس، سوف يكون آخر من يؤكل. إن بوليفيموس مثل الخطاب الذين يلتهمون ثروة أوديسيوس، ولكن في النهاية يقضى عليهم بواسطة حيلة، عندما يدخل رجل، يتظاهر بأنه شخص آخر، إلى قاعة الولائم المظلمة.
خدعة أوديسيوس هي أن يخبر بوليفيموس أن اسمه هو «لا أحد»؛ حتى بينما هو محبوس داخل الكهف، وحتى بينما يدمر الموت الهوية الإنسانية. ومثل أبطال كثيرين في الحكاية الشعبية، يجعل أوديسيوس الموت-الوحش مخمورا، ويتغلب عليه بخدعة، ويحدث به عاهة بسلاح خاص (الوتد المدبب). وعندما يولد من جديد بخروجه إلى الضوء، يصرح باسمه. فيصيح قائلا: «أنا أوديسيوس!» وذلك صحيح؛ إذ قبل وقت طويل تلقى بوليفيموس نبوءة بأن شخصا يدعى أوديسيوس سوف يلحق به أذى. ولكن بوليفيموس لم يظن أبدا أنه سيكون بشريا فانيا بالغ الصغر هكذا. وبينما يجدف أوديسيوس ورجاله مبتعدين، يدعوه السايكلوب للعودة إلى الكهف حتى يتمكن من أن يظهر له ما يليق من حسن الضيافة
xenia ، ويعطيه الكثير من الهدايا الرمزية.
إن بوليفيموس، كشأن كل مخلوقات السايكلوب، من نسل بوسيدون إله البحر. عندما يصاب بالعمى، يدعو أباه ليصب على أوديسيوس لعنة أن يشرد أعواما وأن تكون عودته صعبة. بوسيدون هو إله البحر، والبحر هو عدو أوديسيوس الذي يمثل التحلل والموت والفوضى. ومن ثم فإن لعنة بوليفيموس هي تفسير أسطوري لسبب معاناة أوديسيوس، التي تعد اضطهادا يتناقض تناقضا غريبا مع موعظة زيوس الأخلاقية التي مفادها أن البشر هم من يتسببون في مشكلاتهم. إن أوديسيوس بلا شك هو من أعمى بوليفيموس، ولكن من يستطيع أن يلومه على ذلك؟
إن نمط الحكاية الشعبية المسمى «إصابة الغول بالعمى» موجود في كل أنحاء العالم في مئات الأمثلة. وعلى ما يبدو أن كثيرا من التنويعات مستمد من قصة هوميروس، أقدم القصص الموثقة، ولكنها تفتقر عادة إلى موتيفة «حيلة اسم لا أحد»، التي يبدو أنها تنتمي إلى نمط قصصي منفصل؛ فعندما يجرح البطل شيطانا أو جنية، حين يسأله ذلك الشيطان أو تلك الجنية عن اسمه. فيجيب قائلا «نفسي» أو «لا أحد»، بحيث عندما يحاول الغريم أن يهتدي إليه، ويخبر الجميع قائلا «أنا أبحث عن لا أحد»، لا يستطيع العثور عليه. يبدو أن هوميروس قد مزج عناصر من حكايتين شعبيتين منفصلتين لخدمة أغراض حكايته الأكبر، التي تعتبر فيها موضوعات الولادة من جديد (دحر الموت، والهروب من الكهف) وفقدان الهوية (أنا لا أحد) موضوعات محورية. (10) المجموعة الثانية: «أيولس، اللستريجونيين، سيرس» (الكتاب 10)
كان على أوديسيوس أن يتعامل مع شعب السيكون، ورجال عاديين، ومواد مخدرة في أرض اللوتس، وعملاق آكل للحوم البشر ؛ والآن عليه أن يتعامل مع أحد سادة العناصر، وهو ملك الرياح أيولس الذي يعيش كإله في وليمة أبدية، حيث يطعم أبناؤه وبناته الاثنا عشر دوما، ومتزوجون بعضهم من بعض في قران بين محارم (أيولس هو أيضا اسم مؤسس بيت إيولكوس، الذي انحدر منه جيسون، والذي لا صلة له على ما يبدو بأيولس الأول). القصة عبارة عن حكاية شعبية صرفة. يقدم ملك الرياح للبطل منحة، هي كل الرياح السيئة في جعبة، فلم يبق إلا الرياح الجيدة لتهب، ومعها النهي الشائع في الحكايات الشعبية: «لا تفتح تلك الجعبة!» يفعل أتباع أوديسيوس الغادرون ذلك على أي حال، بعد أن خامرهم الشك في أن يكون الجشع الذي يأكل أحشاءهم قد أصاب زعيمهم، ويدفعون الثمن. القصة ملائمة لموضوع هوميروس المتعلق بالجريمة والعقاب، ونرى مدى ابتعادنا عن أسلوب السرد الواقعي عندما يبحر أوديسيوس لمدة تسعة أيام وتسع ليال سحرية ولا يغلبه النوم إلا عندما يكون قريبا جدا من الشاطئ، حتى إن بمقدوره أن «يرى دخانا». فجشع رجاله واشتياقه إلى النوم «هما» العدو. إن أي رجل تقف ضده أمور كثيرة على هذا النحو لا بد وأنه محل غضب مهلك مصدره قوى فوق قدرة البشر، كما يؤكد أيولس بينما يطرد المسافر غير الطائع الذي يرجع إليه. فلكي ينجو أوديسيوس، عليه أن ينهض (من رقاد الموت).
تظهر أرض اللستريجونيين بملامح شمالية تماما، وهي على ما يبدو دليل على مستودع أوروبي شائع للحكايات الشعبية. يصل رجال أوديسيوس إلى مرفأ ضيق، أشبه ببوغاز نوعا ما، ولكن دون تبرير يكون هو الوحيد الذي يرسو بسفينته خارجه. يوجد على ما يبدو اثنتا عشرة سفينة (مثلما ذكر في قائمة السفن في الإلياذة، 2، 637)، وهكذا تدخل السفن الإحدى عشرة الأخرى إلى المرفأ الضيق. تمضي جماعة منهم إلى الداخل ويلتقون بفتاة عند بئر، وهي إحدى موتيفات الحكايات الشعبية، بصرف النظر عن أن أوديسيوس التقى بناوسيكا بالقرب من البحر. يندفع اللستريجونيون - العمالقة المتوحشون آكلو لحوم البشر والذين يشبهون مخلوقات السايكلوب (انظر شكل
7-1 ) - صوب الآخيين الذين لا حول لهم ولا قوة ويضربونهم بحرابهم، على نحو يشبه اصطياد أسماك في برميل. ولا ينجو إلا أوديسيوس، عن طريق حيلة الرسو خارج البوغاز. لا بد أنه كان يعرف مسبقا أن شيئا ما سيحدث، فاستعان ب «عقله»
mêtis
ليتوقع الخطر ويتخذ تدبيرا يكفل له تفاديه. فأحد نعوت أوديسيوس هو
polymêtis «كثير العقول».
إن «الأوديسة» بلا ريب معنية للغاية بالعلاقات بين الجنسين وبالقوة التي يهيمن بها كل جنس على الآخر. في سيمفونية الأنماط الأنثوية في «الأوديسة»، نجد أن سيرس في المغامرة الطويلة في المجموعة الثانية هي الغاوية الأبرز. فنجدها موجودة مباشرة قبل هبوطه إلى العالم السفلي، ثم تستقبله من العالم السفلي عندما يرجع. فهي تمثل الموت من ناحية كونها امرأة وغاوية، ثم تصبح الحياة والتنبؤ والأمل بناء على الغموض الغريب للإناث في «الأوديسة».
كذلك فإن نكهة هذه القصة تذكر معلقين كثيرين بالحكايات الشعبية من بلدان الشمال. ففي البداية يذبح أوديسيوس أيلا، وهي موتيفة في الحكاية الشعبية تسبق مواجهة ساحر أو ساحرة. تعيش سيرس في منتصف غابة مظلمة موغلة، وأعمدة الدخان تتصاعد إلى السماء. اتبع ذلك الدخان، وسوف تجد الساحرة. من ناحية أخرى، تنتمي سيرس إلى الشرق؛ كونها ابنة هيليوس (إله الشمس) وأخت آيتيس، ملك مملكة كولخيس الواقعة على الطرف الشرقي للبحر الأسود؛ حيث سافر جيسون ليجلب الصوف الذهبي، واعتقد البعض أن الحدث معدل من ملحمة خيالية أسطورية (ساجا) شفاهية عن رحلة سفينة الأرجو. ومع ذلك فمنذ زمن بعيد جدا حدد موقع جزيرة سيرس، تخمينا، في مكان ما في خليج نابولي (لا يزال يوجد جبل يسمى مونت سيرسيو بالقرب من مدينة سورينتو). يقول هوميروس إنك لا يمكنك أن ترى موضع شروق الشمس أو غروبها، أي إن الجزيرة تقع في مكان ما هناك، في العالم الآخر الموجود عبر المرآة، حيث لا شيء يبدو على حقيقته. ولكن عندما يغادرون، ويبدأ أوديسيوس المجموعة الثانية المكونة من ست قصص، تشرق الشمس على الجزيرة.
أن يعرف المرء سيرس يعني أن يصبح خنزيرا. فشأنها شأن آكلي اللوتس، تضيف إلى طعامها عقاقير تمنع عودتك إلى الديار. وهي جميلة، إنها تلك القوة الأنثوية التي تدني من شأن الذكر وتحوله إلى حيوان مقزز له خوار، مولع بأكل الروث، وهي حالة هزلية ما زال معمولا بها في مجال التسلية والترفيه في وقتنا الحاضر. إنها تهدف إلى إلحاق الأذى بأوديسيوس؛ فإن كانت لا تستطيع تحويله إلى حيوان، فسوف تجرده من رجولته، حسب نبوءة هيرميس الذي يظهر للبطل في الغابة المظلمة ويعطيه عشبة اسمها مولي، هي بمثابة طلسم للفحولة. وهذه هي المرة الوحيدة في المغامرات التي يظهر فيه إله لأوديسيوس مباشرة، ومجددا لم يكن من ظهر هو أثينا، التي تختص براعتها بالعالم العلوي، وإنما هيرميس الساحر، الذي يربط هذا العالم بالعالم الآخر.
يلقن هيرميس أوديسيوس كيفية التصرف. يجب عليه أن يروض هذه المرأة (التي تمثل الموت). لا بد أن يضعها تحت سيطرته بأن يضع سلاحا على رقبتها ويجبرها على التعهد بنبذ الإيذاء. وبعد ذلك ستكون له.
بعد أن يتغلب أوديسيوس على سيرس، تتعرف على هويته. وتقول سيرس إن هيرميس، الذي أنقذ أوديسيوس، تنبأ قبل ذلك بوقت طويل أن أوديسيوس سوف يتغلب عليها. وما إن أقسمت بأنها لن تلحق به أذى، وذهبا إلى الفراش، حتى تحولت سيرس إلى المضيفة المثالية. ومثل سدوري «سيدة الحانة الإلهية» التي تلتقي بجلجامش عند حد البحار عند حافة العالم، تبعث سيرس أوديسيوس في أخطر أعماله؛ رحلة إلى أرض الموتى. عندما تعود من هناك، فأنت دون شك تولد من جديد. (11) «أرض الموتى» (الكتاب 11)
تتبع «أنشودات» الأوديسة، بوجه عام، نمط الحكاية الشعبية المتعلق بالوصول/الصراع/التعرف/الحل، ولكن وحدة «أرض الموتى»، بدلا من ذلك، هي سلسلة من القوائم. لا بد أن هذه الوحدة تدين بلبناتها البنائية للنوع الأدبي الشفاهي المسمى شعر القوائم (الذي يلقي بتأثيره كثيرا على هيسيود المعاصر لهوميروس). يتبع أوديسيوس توجيهات سيرس، ويسافر عبر نهر أوقيانوس، الذي عادة ما يعتقد أنه ينساب عبر العالم في دائرة هائلة، إلى «أرض الكيميريين». كان الكيميريون شعبا تاريخيا عاش في شمال البحر الأسود، وحولوا هنا إلى سكان أسطوريين لعالم آخر.
للوهلة الأولى لا يبدو أن أوديسيوس في العالم السفلي، بيت هاديس؛ لأنه لكي يتواصل مع الموتى، يتصرف وكأنه نكرومانسر «مستحضر لأرواح الموتى»، أي ساحر ممارس للسحر الأسود. فيقتل كبشين أسودين فوق حفرة. وفي مشهد خارق للطبيعة تتجمع «نسمات الأرواح/أرواح الموتى» حول الدماء، التي فقدتها تلك الأرواح بموتها، حتى يتسنى لها لوهلة العودة إلى الوعي؛ لأن «حياة الجسد هي في الدم»، كما في العبارة التوراتية. ويردعهم أوديسيوس بسيفه الذي صار عصا ساحر يسيطر المتحكم فيها على المخلوقات غير المادية.
أول من يتكلم هو «روح إلبينور»، أحد رجال أوديسيوس، الذي مات قضاء وقدرا عندما سقط من فوق سقف قصر سيرس. لا يشرب الدم؛ لأن روحه لم «تطرح» بعد، أي لم تبعد حسب الطقوس من هذا العالم إلى العالم التالي؛ ومن ثم تظل بمثابة خطر على الآخرين وعذاب له (شكل
5-1 ). ويتوسل إليه أن يدفن دفنا لائقا. وبعده تأتي روح تيريسياس المتنبئ من ثيفا (طيبة) وتشرب. ينبئ تيريسياس أوديسيوس بالمتاعب التي ألمت بهم في الديار وبنصره المؤكد. يجب عليه يوما ما أن يمضي إلى الداخل إلى حيث لم يسمع الناس هناك بالبحر ويقدم القرابين إلى بوسيدون، إله البحر. والسبيل الوحيد الذي يمكن به استرضاء عدوه البحر، الذي هو الموت، والذي يقف حائلا بين أوديسيوس وبين عودته للديار، هو بتوسيع سلطان بوسيدون، الذي أعمى ابنه أوديسيوس. ويقول تيريسياس إنه في النهاية سوف يموت «ميتة وديعة على يد البحر» (الأوديسة، 11، 134-135). استخدمت النبوءة، على سبيل التسويغ، في التقليد اللاحق لتشير إلى رأس حربة صنعت من سمكة الرقيطة واستخدمها تيليجونوس، ابن أوديسيوس من سيرس، الذي يقتل أباه عن غير عمد (لا تبوح «الأوديسة» بأي شيء عن وجود ابن من سيرس). الموت هو الموت ولا أحد يهرب منه، ولكن ميتة أوديسيوس سوف تكون وديعة، بعكس ميتات هيكتور، وبريام، وآخيل، وباتروكلوس، وأجاممنون، وأياس. تلك هي مكافأة الرجل الداهية.
شكل 5-1: أوديسيوس وشبح إلبينور. «روح إلبينور» ترتفع من الأرض إلى اليسار وتبادر بالكلام إلى أوديسيوس الذي يرتدي قبعة مسافر ذات حافة عريضة ويمسك بالسيف واضعا إياه فوق حفرة الدماء. الشاتان المذبوحتان مكومتان عند قدميه . هيرميس، الذي يصل بين هذا العالم والعالم المتاخم له، يقف إلى اليمين، ممسكا بعصاه السحرية، ومرتديا حذاءه المجنح وقبعته المجنحة. جرة من طراز الرسوم الحمراء، ترجع إلى حوالي عام 430 قبل الميلاد. متحف الفنون الجميلة، بوسطن. صندوق تمويل ويليام أموري جاردنر، الصورة 34، 79، متحف الفنون الجميلة، بوسطن، حقوق النشر محفوظة، 2007.
يتحدث أوديسيوس مع روح أمه التي ماتت ميتة مثيرة للشفقة وتشتاق إليه. ومع أن تيريسياس يذكر الخطاب، إلا أن أم أوديسيوس لا تعرف إلا بشأن الفترة التي تسبق عودة أوديسيوس إلى الديار بعشرة أعوام، عندما كان تليماك لا يزال «آمنا» في المنزل؛ فهي لا تملك قدرة تنبؤية. بعد ذلك تأتي «قائمة النساء الشهيرات»، التي تشمل ألكميني، أم هرقل، وليدا، أم هيلين طروادة، وكلتمنسترا، وأريادني، زوجة ثيسيوس، وأخريات كثيرات، بعضهن مجهولات تماما في قائمة الأعمال اللاحقة عن الأساطير الإغريقية.
تختتم المجموعة الأولى من ثلاثة أحاديث بقائمة النساء، وهو وقت جيد لأخذ استراحة في البلاط الملكي لجزيرة سكيريا. يذهل الفياشيون من قدرة أوديسيوس على سرد الحكايات. فقد تصرف حقا وكأنه «منشد ملحمي» مثالي (رغم أنه لا يستخدم قيثارة)، مجتذبا انتباه مستمعيه على نحو مذهل في مأدبة. ورغم أن أوديسيوس يقول إنه يود أن ينال بعض الراحة، فإنهم لن يدعوه، فهم يرغبون في المزيد.
في المجموعة الثانية المكونة من الأرواح الثلاثة التي يستجوبها أوديسيوس، يعود هوميروس إلى مثال أجاممنون وكلتمنسترا. تصعد روح أجاممنون مقبلة. ويحكي كيف مات هو ورفاقه؛ إذ قتلوا في مأدبة (مثلما سوف يقتل أوديسيوس الخطاب في مأدبة). ويلعن جنس النساء (سوف يشكو الخطاب المتوفون من أن بينيلوبي كانت وراء كل ما حدث)، ويسبغ الثناء على أوديسيوس لحسن طالعه أن يكون له زوجة مثل بينيلوبي. وبعد الإمعان في الأمر:
وسأقول لك أمرا آخر، وعليك أن تسره في نفسك ولا تبديه؛ فلترس بسفينتك على شاطئ وطنك العزيز في السر وليس في العلن؛ إذ لا يمكنك أبدا أن تثق في امرأة . (الأوديسة، 11، 454-456)
عليك أن تكون حذرا حتى مع بينيلوبي؛ وتلك لمحة مزاح نادرة.
والآن تظهر روح آخيل. يسري أوديسيوس عنه بالحديث عن شهرته وذكره الباقي في ذاكرة العالم، ولكن آخيل يجيب إجابة شهيرة:
لا، لا تحاول، يا أوديسيوس المجيد، أن تحدثني حديثا هادئا عن الموت. إنني لأوثر، لو كان لي أن أعيش على الأرض، أن أكون أجيرا لرجل آخر لا يملك ثروة، وأسباب العيش لديه بسيطة، على أن أكون سيدا على كل الموتى الذين كان هلاكهم على يدي. (الأوديسة، 11، 488-491)
كم كان غاليا هذا العالم وما فيه من أشياء على اليونانيين، وكم مقبض وكئيب هو العالم المقبل. يريد آخيل، مثل أوديسيوس، أن يعرف أحوال ابنه، نيوبتوليموس.
ثالث روح من هذه المجموعة تدنو من الدماء هي روح أياس، ابن تيلامون، الذي قتل نفسه بعد أن جن. إنه لا يشرب من الدماء؛ لأنه لن يتحدث إلى أوديسيوس، الذي منح دروع آخيل في حين أن أياس هو من كان يستحقها، كما يعرف الجميع.
يبدو عند هذه النقطة أن هوميروس ينسى أن أوديسيوس يستجوب الأشباح إلى جوار حفرة دماء ويخوض في «قائمة الآثمين». يبدو أن أوديسيوس موجود في العالم السفلي نفسه؛ إذ يصف هوميروس العقوبات الشهيرة لتيتيوس، وتانتالوس، وسيسيفوس (سيزيف). يرى أوديسيوس هرقل، ولكنه ليس إلا طيفا، مجرد
eidolon «صورة». فهرقل الحقيقي في السماء، متزوج من هيبي «إلهة الشباب». وفجأة يفزع حشد غفير من الأرواح أوديسيوس. ويخشى من احتمال ظهور رأس الجورجونة. فيوقف استحضار الأرواح ويعود إلى سفينته. (12) «السيرينات»، و«سيلا وتشاريبدس»، و«ماشية هيليوس» (الكتاب 12)
من المفترض أن أوديسيوس قد عبر نهر أوقيانوس ليعرف من تيريسياس كيفية الوصول إلى الديار. لم يخبره تيريسياس، ولكن عندما يعود أوديسيوس إلى جزيرة سيرس، تعطيه إرشادات دقيقة بشأن الأخطار المحدقة وما يتعين عليه فعله. القصص الثلاث الأخيرة من مغامرات أوديسيوس هي قصص معروفة جدا، مما يجعل من الصعب قراءتها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من القصيدة. وإننا لنتساءل: كيف كان وقعها على أسماع جمهور يوناني؟
تمثل السيرينات (وهي الكلمة التي منها جاءت كلمة «السارينة/صفارة الإنذار»)، شأنهما شأن سيرس، القوة الأنثوية الفتاكة الفاتنة ذات الجاذبية التي لا تقاوم، ولكنها مميتة. وهما تجسدان مبالغة غريبة فيما يتعلق بقدرة المنشد الملحمي، الذي يبعث غناؤه على «السرور»، كما يقول هوميروس مرات عديدة؛ إن غناءهما يبعث على السرور أيضا، ولكن الثمن هو الموت. تحتوي القصة على عناصر مشتركة مع الحكاية الشعبية التوراتية عن آدم وحواء، اللذين أكلا من شجرة معرفة الخير والشر؛ لأن السيرينات أيضا تقدمان المعرفة:
هلم إلى هنا، فيما أنت مسافر، يا أوديسيوس ذائع الصيت، يا فخر الآخيين العظيم. ألق مرساتك حتى يتسنى لك أن تستمع إلى صوتينا. فما من رجل جدف مغادرا هذه الجزيرة في سفينته السوداء إلا بعد أن يكون قد سمع الصوت العذب الصادر من شفاهنا. لا، بل يسعد به ويمضي في طريقه رجلا أكثر حكمة؛ إذ إننا نعلم كل المتاعب التي كابدها الأرجوسيون والطرواديون في طروادة الرحيبة بمشيئة الآلهة، ونعلم كل الأمور التي جرت على الأرض الخصيبة. (الأوديسة، 12، 184-191)
تعرف السيرينات، كشأن الميوزات، كل شيء عما حدث عند طروادة ويمكنهما أن تجيبا على أي أسئلة قد تراودك. طرد آدم وحواء من الجنة لأكلهما ثمرة الفاكهة من الشجرة، ولكن أوديسيوس بحكمته معه كعكته ويأكلها. بينما هو مربوط إلى صاري السفينة ليأمن شر السيرينات، يتوقع أنه سوف يتضرع إلى رجاله كي يفكوا وثاقه، ولكنه يتحايل على إرادته نفسها بأن يأمر رجاله أن يعكسوا معنى كلماته وأن يحكموا وثاقه أكثر. في هذه القصة، كما في المغامرات عموما، لا يعتبر أوديسيوس شخصية في عمل أدبي بقدر ما يعد رمزا للروح البشرية، التواقة إلى مغامرة لذيذة وشهوانية دون الاضطرار إلى دفع الثمن الرهيب. وأحيانا ما يجعل الذكاء، أو بمعنى أصح الحيلة، ذلك ممكنا.
ولأن سيرس وضعت إرشادات دقيقة، فإننا قد نستحسن التزام أوديسيوس الصمت تجاه رجاله بشأن سيلا وتشاريبدس إذ لم يذكر كلمة عنهما لرجاله. إن سيلا أنثى، هي الأخرى، ولكنها وحش بالكامل، لها ست رءوس واثنتا عشرة رجلا أفعوانية وتنبح كالكلب، فهي شيطان الموت . نبهته سيرس إلى أن تشاريبدس الدوامة هي بمثابة موت محقق للجميع، إلا أن سيلا ، التي لا يوجد دفاع مستطاع في مواجهتها، سوف تأخذ ستة رجال (مثل عدد من ماتوا في كل قارب عند جزيرة إزماروس على يد شعب السيكون، ومثل عدد من ماتوا في كهف السايكلوب). ومع ذلك يتسلح أوديسيوس ويلبس الدروع، وهو ينوي أن يحارب حتى النهاية في تحد سافر لنصيحة سيرس. ولا ينفعه ذلك في شيء.
تقع المغامرة الطويلة في ثالث ثالوث المغامرات على ثريناسيا، جزيرة هيليوس، إله الشمس. كان يعتقد منذ وقت مبكر أن ثريناسيا هي جزيرة صقلية؛ إذ يبدو أن سيلا وتشاريبدس هما صورة أسطورية لمضيق ميسينا الخطر، الواقع بين طرف بر إيطاليا الرئيسي (الذي يبدو على الخريطة في شكل حذاء طويل الرقبة) وبين جزيرة صقلية. كان البحارة العوبيون قد ارتحلوا خلال نفس هذه المياه في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وإلى وقتنا الحاضر ما زالت السياحة الإيطالية تروج لصقلية على أنها «جزيرة الشمس».
تتمحور هذه الحكاية الشعبية، أيضا، حول انتهاك المنهي عنه، ولكن المرء يتساءل كيف نفذ هيليوس إلى القصة، وهو إله لا يكاد يظهر أبدا في الأساطير الإغريقية إلا باعتباره شاهدا على العهود. ثمة قصة مصرية نادرة تسمى «الملاح التائه» ترجع إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، يرسو فيها البحار على جزيرة رع، إله الشمس، وقد تكون الموتيفة انتقلت بطريقة ما إلى هوميروس من هذا المصدر (إلا أنه في القصة المصرية لا يعيش على الجزيرة إلا ثعبان عطوف). يبدو أن ماشية هيليوس البالغ عددها 350 ترمز إلى حوالي 350 يوما في العام.
كما رأينا، يختص هوميروس بالذكر قصة ماشية هيليوس في استهلال القصيدة حتى تلخص كل المغامرات، وهي تشتمل على موتيفات محورية. يغلب النعاس أوديسيوس في التلال بينما يلتهم رجاله الماشية، مثلما غلبه النعاس قبالة شواطئ إيثاكا عند مجيئه من جزيرة أيولس. ومجددا يبدي رجاله عنادا وينقادون لشهوة البطن ويغلبونها على غايتهم؛ وهي العودة إلى ديارهم أحياء.
وهكذا أخذهم الموت جميعا عدا واحد، كما هي العادة في الحكاية الشعبية. وعندئذ صار أوديسيوس بمفرده. (13) «عودة أوديسيوس» (الكتاب 13)
شكل 5-2: جزيرة إيثاكا، من الاتجاه الشمالي الغربي، من الجبل الواقع خلف قرية فاثي الحالية (التي تعني «عميق»). الوصلة الضيقة التي تربط فرعي الجزيرة واضحة في الوسط، وتلال جزيرة كيفالونيا المجاورة ترى عن بعد في الأفق. بلدة ستافروس على الجانب الآخر من التل البادي إلى يمين الصورة. الجبل على اليمين يطلق عليه في الوقت الحالي اسم جبل نريتون، وهو مسمى على غرار وصف هوميروس. التقطت الصورة بواسطة المؤلف.
لا بد أن يعود البطل من رحلته البعيدة جالبا معه كنوزا، ويعوضه الفياشيون عن كل ما فقده وأكثر من مغانم حملها من طروادة. فيزودونه بوسيلة انتقال سحرية، تصل عالم أعالي البحار المظلم بما له من رموز للموت بعالم الديار البهي بما يحمله من تأكيد على الحياة. لقد تكرر وقوع أوديسيوس في أخطار جراء النوم أو الخدر، والآن يغلبه النوم مجددا:
وبعد ذلك فرشوا لأوديسيوس بساطا ودثارا من كتان على سطح السفينة مجوفة القعر في المؤخرة، حتى يمكنه أن ينام بعمق، وكذلك صعد هو على متن السفينة، ورقد في صمت. ثم جلسوا جميعهم على مقاعد التجديف على التوالي، وفكوا رباط السفينة من الحجر المثقوب. وحالما رجعوا بظهورهم إلى الوراء وطرحوا نصال مجاديفهم في الماء الأجاج، حتى استسلمت عيناه لنوم هانئ، نوم بلا يقظة، على أحسن ما يكون، نوم أشبه كثيرا بالموت. (الأوديسة، 13، 73-80)
يضعه الفياشيون وهو نائم على الشاطئ بالقرب من شجرة زيتون وكهف تأوي إليه الحوريات وجعلوا كنوزه إلى جانبه. إنه الفجر، يوم جديد وميلاد جديد. إن شجرة الزيتون تمثل الحياة، مثلما تعلق بشجرة فوق تشاريبدس، وكما أن فراش زفافه، كما نعرف، منحوت في شجرة. يحول بوسيدون فلك الفياشيين إلى صخرة، حقدا منه عليهم لدورهم كناقلين للرجال الآيسين، وهي تفصيلة غريبة حملت لاحقا على أنها تشير إلى حجر كبير في ميناء جزيرة كورسيرا (التي يقول ثوسيديديس إنها جزيرة فياشيا). لن يربطوا بعد الآن العالمين معا بسحر الحوريات الخاص بهم. كان الفياشيون مقدرين لأوديسيوس وحده، الذي كانت رحلته متفردة، وما ينطبق عليه لا ينطبق علينا أنا وأنت. يرمز تحجر سفينة الفياشيين إلى نهاية العصر البطولي؛ فالآن الأمور مختلفة وليس ثمة عودة إلى الوراء أبدا.
يبدي هوميروس معرفة جيدة بالجغرافيا الإيثاكية عندما يصف ميناء فوركيس بأنه يحده رأسان بحريان منحدران، وهو وصف جيد لميناء فاثي (وتعني «العميق») المعاصر على الشاطئ الشرقي لجزيرة إيثاكا (خريطة 4). وإيثاكا هي جزيرة صغيرة على شكل ساعة رملية تقع ضمن ما يطلق عليه مجموعة الجزر الأيونية، الواقعة غرب المدخل المؤدي إلى خليج كورنث. تمتلك جزيرة إيثاكا ميناء جيدا آخر عند قرية ستافروس الحالية على الناحية الأخرى والطرف الآخر للجزيرة، على أقصى الطرف الغربي الذي يواجه جزيرة كيفالونيا الحالية، التي ربما تكون جزيرة سيمي التي يذكرها هوميروس (سيمي هو التسمية الحديثة للقرية الميناء الواقعة على جزيرة كيفالونيا في مواجهة إيثاكا، جنوب قرية آيا إيفيميا على خريطة 4).
خريطة 4: إيثاكا والجزر الإيونية (اليونان المعاصرة).
يوجد بالفعل كهف خارج ميناء فاثي له فتحتان، كما يقول هوميروس عن كهف الحوريات. وعثر الأثريون في كهف ثان بالقرب من الميناء الآخر (بالقرب من قرية ستافروس الحالية) على قطع من ثلاثة عشر مرجلا ثلاثي القوائم قديمة جدا من البرونز، صنعت في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد. وثمة نقوش من القرن الثالث قبل الميلاد تثبت أن الكهف كان بعد ذلك مقاما لأوديسيوس، ولكننا لا نستطيع التأكد من توقيت حدوث حالة الانطباق بين المقام، وما يحويه من قرابين، وأسطورة أوديسيوس. ولا توجد اكتشافات مشابهة لهذا الكشف الأثري المذهل. تكهن البعض بأنه لا بد وأن هوميروس كان على دراية يعرف بأمر هذه المراجل ثلاثية القوائم، عندما يقول إن أوديسيوس عاد ومعه «برونز متين» (الأوديسة، 13، 368) وضعه في كهف، أو ربما حتى إن القصيدة كانت موجودة في صورة نص مكتوب في ذلك الوقت واستلهم منها تكريس المراجل ثلاثية القوائم. إن تحديد أواخر القرن التاسع قبل الميلاد كتوقيت لوجود نصوص هوميروس المكتوبة (على نحو ما ادعى أحد الباحثين استنادا إلى هذه الكشوف الأثرية) هو أمر مستبعد قطعا .
صادف طاقم أوديسيوس، لدى وصوله إلى أرض اللستريجونيين، ابنة الملك؛ وفي سكيريا قابل أوديسيوس ناوسيكا، والآن يقابل أثينا متنكرة في هيئة شاب. وحدهما أوديسيوس وأثينا هما من يظهران متنكرين في القصيدة. وهنا تبدأ مجموعة متنوعة من الحكايات الكاذبة، تكاد تمثل نوعا أدبيا فرعيا داخل «الأوديسة»، التي يتشكل جانب كبير منها من حكايات؛ تلك الحكايات التي يحكيها نيستور، والتي يحكيها مينلاوس، والتي يحكيها أوديسيوس في أرض الفياشيين. حكايات، وحكايات، بينما السرد الجامع متطور بعض الشيء. تتبع هذه الحكايات الكاذبة أنماطا قريبة من أنماط الحكايات «الحقيقية» التي رواها أوديسيوس للفياشيين، ولكنها بدلا من ذلك تجري في عالم واقعي ما بعد العصر البطولي بما يحويه من ممارسات الحياة اليومية من غدر وقتل وقرصنة وإتجار.
في مشهد التعرف الأول على جزيرة إيثاكا يروي أوديسيوس لأثينا، التي تجسد الحكمة والمهارة الدنيوية، رواية مضللة عن كيف أتى من جزيرة كريت مسقط رأسه. فتروي أنه مقاتل طروادي ولكنه قاتل وطريد أودعه الفينيقيون وهو نائم على الجزيرة. إن الفينيقيين مثل الفياشيين (حتى إن الاسمين متشابهان)، ولكن الفياشيين الخياليين في عالم هوميروس القصصي المختلطة فيه الأمور هم قوم «حقيقيون» في حين أصبح الفينيقيون التاريخيون «مختلقين»!
يعتقد البعض أن هذه القصة، والقصص التي ستليها التي ستربط أوديسيوس بجزيرة كريت، قد تعكس صيغا بديلة لملحمة «الأوديسة»، وهي رؤية يدعمها بيتان إضافيان يظهران في بعض المخطوطات في الكتاب الأول الذي تصف فيه أثينا رحلة تليماك إلى مدينتي بيلوس وإسبرطة «ومن هناك إلى كريت إلى الملك إيدومينيوس، الذي حل في المرتبة الثانية بعد الآخيين المدرعين بالبرونز.» هذا التأويل معقول؛ إذ يوحي بأن نسخ «الأوديسة» الأخرى، لم تكن منشغلة كثيرا بالترحال الرمزي الأخروي (هذا النوع من النقد هو شكل من أشكال التحليل النقدي الحديث). كان هوميروس يمتلك هذه المادة الأدبية الإضافية، ولأن لديه متسعا كبيرا من الوقت، فإنه يضيفها.
إن حب أوديسيوس للقصة الجيدة التي تتنافي مع الحقيقة، وهو ما يحاول عن طريق الدهاء أن يخفيه ويزيله، يجعله محبوبا لدى أثينا. فهما مثل عاشقين لم يلتقيا منذ أمد بعيد. يذكر أوديسيوس أنه لم يرها طوال المدة التي كان فيها ضائعا في عرض البحر. تساعده أثينا في إخفاء الكنز، ولكن لا يؤتى على ذكره ثانية أبدا. وتتنبأ بموت الخطاب العتاة الشرسين. (14) «أوديسيوس وراعي الخنازير» (الكتاب 14)
ثمة بضع سمات لافتة للانتباه في قصائد هوميروس، ومنها وتيرته الهادئة غير المتعجلة. فبعد الكثير من الضيافة الأرستقراطية، يمكث أوديسيوس الآن مدة قصيرة مع راعي الخنازير البسيط إيومايوس، الذي يخاطبه هوميروس خطابا مباشرا ودودا بقوله «يا راعي الخنازير العزيز» (في «الإلياذة» يتوجه بالخطاب أيضا إلى باتروكلوس بهذه الطريقة). إن إيومايوس هو النظير الأخلاقي والبنائي للفياشيين والنقيض المباشر لمخلوقات السايكلوب. سيرس، هي الأخرى، كانت راعية خنازير! وقفت كلاب ذهبية أمام بيت ألكينوس، مثلما تهاجم هنا كلاب ضارية أوديسيوس وتكاد تفتك به. يصف هوميروس بواقعية ثاقبة منزل إيومايوس وزرائب الخنازير التي بناها، مستعينا بهذا النوع من اللغة المعتاد في «الإلياذة» الذي نجده في التشبيهات.
لا يملك إيومايوس إلا القليل - بسبب جشع الخطاب! - ولكنه عن طيب خاطر يضيف ضيفه حسب الإرشادات الواضحة لحسن الضيافة. يحتاج أوديسيوس إلى عباءة حتى تغطي ثيابه البالية، ويتنبأ بأن أوديسيوس سوف يصل في نفس اليوم (كونه يخفي عن راعي خنازيره أنه هو أوديسيوس). في مقابل تنبئه، يتوقع من إيومايوس أن يعطيه عباءة، ويقول أوديسيوس لإيومايوس إنه لن يأخذها إن كان تنبؤه غير صادق. المشهد ساخر جدا؛ لأن أوديسيوس، حتى في تلك اللحظة، يجلس أمام إيومايوس. فعباءة من إيومايوس تماثل ذهبا من الفياشيين. وقد لمسنا سابقا المفارقة التي تنبع من التنكر عندما تنقل أوديسيوس متخفيا وسط الفياشيين، وتسود الفكرة باقي القصيدة، بل إنها تعتبر موتيفتها المحورية.
ولإثبات أن أوديسيوس قريب (لذا من الأفضل لإيومايوس أن يتأهب للتنازل عن العباءة)، يحكي أوديسيوس حكاية كريتية ثانية، هي بمثابة إعادة تشكيل للقصة التي سمعناها في مأدبة الفياشيين. وكما حكى آنذاك أنه شن هجوما على شعب السيكون في منطقة تراقيا، نجده الآن يروي أنه شن هجوما على مصر، كان له نفس العواقب الكارثية . وكما أعطاه الفياشيون ثروة، كذلك يجمع ثروة في مصر. وكما أوصله الفياشيون إلى إيثاكا ، الآن يحمله الفياشيون عنوة إلى هناك، قاصدين بيعه كعبد. بيد أن صاعقة أصابت قاربهم، مثلما حدث لأوديسيوس ورجاله عندما غادروا جزيرة ماشية الشمس. وكما ركب على عارضة قعر السفينة في القصة الأولى، يركب في هذه القصة على صاري مركب، ويهبط إلى ثيسبروتيا على بر اليونان الرئيسي المواجه لجزيرة إيثاكا. يزعم أوديسيوس أنه ترك ثروته في ثيسبروتيا ومضى إلى كاهن منطقة دودونا، في نفس الوقت الذي كان فيه أوديسيوس يتلمس من تيريسياس أنباء عن عودته إلى الوطن. ظن أوديسيوس أن الفياشيين خانوه حالما استيقظ على جزيرة إيثاكا، والآن يخونه أهل ثيسبروتيا، الذين وكل إليهم أمر إيصال أوديسيوس إلى جزيرة دوليتشيوم، ويخططون لبيعه كعبد. فيهرب بأعجوبة. تخفي الحكاية الملفقة ببراعة الحكاية «الحقيقية»، ولكن مجددا نجد أن الحكاية الحقيقية هي الحكاية «الخيالية»، وأن الحكاية الملفقة هي «الواقعية».
لا يزال إيومايوس لا يصدق الغريب، أن السيد سوف يعود عما قريب، وفي تلك الحالة يتوجب عليه أن يعطي عباءة للغريب. يحكي أوديسيوس حكاية رمزية أنه ذات مرة عند طروادة لم يستطع أحد إلا أوديسيوس أن يجلب له عباءة عن طريق الحيلة. وحتى الآن يحاول أوديسيوس أن يجلب عباءة للغريب/أوديسيوس عبر الحيلة بالتظاهر بأنه شخص آخر. يقتنع إيومايوس الرقيق الجانب بالمغزى الأخلاقي من الحكاية ويوافق على ضرورة حصول المتسول على عباءة، ولكنه للأسف ليس لديه عباءة إضافية. عندما يعود تليماك، عندئذ يمكنه أن يجلب له عباءة. وهكذا يحسن العبد وفادة السيد وبضيافته الكريمة يبرز بجلاء الجرأة اللاأخلاقية لأفراد الطبقة الأرستقراطية الذين يتمتعون بالحرية ويضربون عرض الحائط بالعفة ويفرضون حصارا على منزل أوديسيوس. (15) «عودة تليماك» (15، 1-300؛ و493-557)، و«قصة العبد إيومايوس» (15، 301-492)
في تلك الأثناء، في إسبرطة، تخطر أثينا، التي تحرك الأحداث من وراء الستار، تليماك بالخطر المحدق به جراء فخ نصبه الخطاب وتحذره من أن أمه على وشك الزواج من أحدهم والاستيلاء على ما يخصه. إن بينيلوبي في الحبكتين المتوازيتين بينيلوبي/أوديسيوس/تليماك وكلتمنسترا/أجاممنون/أوريستيس هي الزوجة الطيبة والمخلصة، بيد أن ثمة تلميحات متكررة عن ضعفها والخطر الكبير الذي قد تلحقه بمسألة إعادة تشكيل النظام؛ لقد حذر شبح أجاممنون في السابق أوديسيوس بشأن العودة للبيت جهارا نهارا، خشية أن يقع في فخ من صنع بينيلوبي.
بينما يوشك تليماك على ركوب السفينة، يظهر ثيوكليمينوس المتنبئ الغامض، سليل ميلامبوس، الذي أسس عائلة من المتنبئين البارزين. نسمع عن أسلاف ثيوكليمينوس في استطراد مثير للاهتمام، ولكن لماذا يقدم هوميروس شخصية جديدة فجأة؟ اعتقد البعض أن «ثيوكليمينوس» في صيغة أخرى للقصيدة كان هو أوديسيوس متخفيا. فدوره الوحيد هو أن يتنبأ فيما بعد بهلاك الخطاب، إلا أن هذا الدور بالغ الأهمية؛ فقد تلقى كل من بوليفيموس وسيرس نبوءات بأن أوديسيوس سوف يتغلب عليهما، ومن ثم يجب على الخطاب أن يعرفوا، عن طريق التكهن، بهلاكهم المحدق. أيضا تلفت الواقعة الانتباه إلى نضوج تليماك المكتسب حديثا، الذي ارتحل للخارج حتى يصبح رجلا. فثيوكليمينوس خطر، باعتباره شخصا ارتكب جريمة قتل، ولكن تليماك بحيثيته الجديدة لا يتردد في جلبه إلى متن السفينة.
في تلك الأثناء، في إيثاكا، يحكي إيومايوس قصة عجيبة عن نفسه؛ فهو أمير مثل أوديسيوس، وأبوه ملك جزيرة تدعى سوريا، وهو مكان معروف، مثل فياشيا، بما يعمه من السلام وبسطة العيش، وتقع في مكان ناء، شمال أورتيجيا، جزيرة كاليبسو الأسطورية. الفياشيون غدارون، هذا أمر مؤكد، وكذلك النساء، وأكثر النساء غدرا هي امرأة فياشية. كانت تلك المرأة تخدم في قصر ملك جزيرة سوريا، ولكن عندما أغواها تاجر فياشي، خطفت الأمير وسرقت معه أقداحا ثمينة من المائدة. يشبه إيومايوس أوديسيوس من ناحية كونه أميرا هبط إلى وضع اجتماعي متدن، ولكن القصة تشبه قصة باريس وهيلين. فهيلين، هي الأخرى، خانت أسرتها التي تعيش معها، وسرقت آنية المائدة، وهربت مع عشيقها، جالبة التعاسة للجميع. (16) «التعرف بين أوديسيوس وتليماك» (الكتاب 16)
في الوقت الذي يبحث فيه أوديسيوس عن داره، يبحث تليماك عن أبيه، الذي افترق عنه زمنا طويلا. إن بحث الابن عن أبيه هو موضوع أدبي ذو صدى عميق؛ إذ استخدمه يسوع لإعطاء مثل عن العلاقة بين الرب والإنسان. ومن ثم فالتقاء الأب والابن يمثل نقطة التحول الثانية في الحبكة، التي منها تنساب بقية القصة، ومنها يأتي الانتقام العادل من الخطاب وإعادة إرساء النظام في المنزل وفي المملكة.
استجابة لحث أثينا له، يشق تليماك طريقه إلى كوخ إيومايوس. ومن سخرية القدر أن أباه، الذي سافر بعيدا ليجده، يجلس أمامه في الديار، دون أن يتعرف عليه تليماك. عندما يسمع أوديسيوس مجددا بشأن الحال في المنزل، يقول: «أتمنى لو أنني كنت أوديسيوس»:
ليتني بمزاجي الحالي كنت بمثل شبابك، سواء أكنت ابن أوديسيوس الصالح، أو أوديسيوس نفسه؛ عندئذ لربما كان من الأفضل أن يفصل غريب ما رأسي عن عنقي، إن لم أثبت أنني سبب بلائهم جميعا عندما أدخل قاعات [منزل] أوديسيوس، ابن ليرتيس. (الأوديسة، 16، 99-104)
بعد أن يرسل تليماك إيومايوس إلى المنزل ليبلغ بينيلوبي أنه عاد سالما، تستدعي أثينا أوديسيوس من الكوخ، وكما لو كنا في حكاية خيالية تضربه بعصاها السحرية، مبدلة هيئته. ثمة قوى لا بشرية تؤثر على مجريات الأمور، وتلك ليست المرة الأولى. للوهلة الأولى يحسب تليماك أباه الذي تبدلت هيئته إلها من الآلهة ولا يستطيع أن يصدق أنه أباه، العائد نوعا ما من الموت. لن تجدي المعجزات نفعا، يجب على أوديسيوس أن يقنعه! يقدم أوديسيوس، الذي يستخدم منطقا فطريا، حقيقة تبدل هيئته على أنها دليل على أنه أوديسيوس. نحن نتوقع في مشهد التعرف أمارة، شيئا ماديا ملموسا يثبت الهوية، ولكن معرفة أوديسيوس بأثينا سوف تفي بالغرض في هذا المشهد.
في النهاية يسلم تليماك بالأمر، وذلك في المشهد الأول من مشهدي تعرف يمثلان ذروة الأحداث على جزيرة إيثاكا، والمشهد الثاني سيكون مع بينيلوبي. يريد تليماك أن يكون مثل أبيه والآن هما متشابكا الأذرع، يبللان الأرض بدموعهما، ويخططان لاغتيال أعدائهما. يجمع هوميروس ببراعة خيوط حبكتي عودة الابن وعودة الأب. ولما كان القارب الذي يحمل تليماك قد رسا الآن في الميناء، يدرك الخطاب أن مكيدتهم لقتله قد أحبطت. فيذهب رسول من القارب ليخبر بينيلوبي أن تليماك بأمان ويلتقي الرسول بإيومايوس العازم على نفس المهمة.
في تلك الأثناء، يرشد أوديسيوس تليماك إلى حيلة، أن يرفع كل الدروع من على الجدران عدا درعين ورمحين، وهي الأسلحة التي يمكنهما الإمساك بها واستخدامها لمهاجمة الخطاب. بعد ذلك ينسى هوميروس كل شيء عن خطته عندما ينضم إيومايوس راعي الخنازير وفيلوتياس راعي البقر إلى المكيدة. حسب بيان تليماك السابق، يوجد 108 من الخطاب بالإضافة إلى «منشد ملحمي» (يغني رغما عن إرادته)، ومناد، وعشرة خدم، ليكون الجمع 120 رجلا. حتى لو دخلوا مسلحين في مواجهة رجال غير مسلحين ففرصهم ضئيلة.
في موضع سابق في القصيدة جازفت بينيلوبي بالدخول إلى مأوى الخطاب للاحتجاج على أنشودة فيميوس عن حرب طروادة، والآن تظهر ثانية في معية بغيضة؛ إذ تعترض على رغبة الخطاب في إيذاء ابنها وتذكرهم بما قدمه أوديسيوس من مساعدات لعائلاتهم، ولكن يوريماخوس الكاذب ينكرها كلها.
يعود إيومايوس إلى الكوخ. ومجددا جعلت العرابة الجنية هيئة أوديسيوس تبدو بائسة للناظرين. ويتساءل المرء: كيف يمكن لهم أن يخسروا في وجود عون كهذا؟ (17) «متسول في بيته» (الكتاب 17)
يقع أوديسيوس في أدنى درجات السلم الاجتماعي، أي حثالة الأرض. في أرض اللستريجونيين، عندما يمضي نحو الداخل بعيدا عن البحر، يلتقي بابنة الملك الشرير عند بئر، وفي هذا المشهد عند بئر يلتقي برجل شرير آخر، وهو ميلانثيوس (وتعني «الأسود»). يركل ميلانثيوس سيده في مؤخرته ويهينه ويهدد ابنه. هل كان آخيل سيستطيع أن يقاوم الرغبة الملحة في انتزاع أحشاء هذا التافه في التو واللحظة، لو أنه كان في مكان أوديسيوس؟ أما أوديسيوس فيتذكر مبتغاه ويكظم غضبه. سوف يتعامل مع ميلانثيوس في وقت لاحق.
في المغامرات، تعرف بوليفيموس على أوديسيوس عندما صاح أوديسيوس مفصحا عن اسمه؛ وتعرفت سيرس عليه عندما جابه سحرها. في اللغة الرمزية للمغامرات يمثل التعرف نوعا من الميلاد الجديد؛ تفوقا على الأعداء المتمثلين في الخدر، والنوم، والموت. على جزيرة إيثاكا، يفيد التعرف البناء الدرامي فائدة أكثر مباشرة؛ فأوديسيوس ليس بالهيئة التي يبدو عليها، وإنما متنكر؛ فعن طريق عقله وحكمته (ومعاونة أثينا) يختفي عن الأنظار ويمكنه أن يرى ما لا يستطيع الآخرون رؤيته. سيدمر أعداءه، وسيفعل ذلك باللجوء إلى حيلة.
شيئا فشيئا يسترد أوديسيوس هويته السابقة. عندما يتعرف أرجوس (وتعني «السريع») المسكين، الذي كان ذات يوم كلب أوديسيوس المفضل للتسلية، على سيده عند الباب، يصبح أوديسيوس سيد كلاب الصيد من جديد. إن تعرف أرجوس هو أيضا دليل على أن تنكره يمكن اختراقه، وهو يرمز إلى الانحلال الذي حل على المنزل منذ غادر أوديسيوس. إن موته المثير للشفقة أمام عيني أوديسيوس، على كومة روث خارج الباب المؤدي إلى البهو الملكي، يجعلنا نتساءل عن ثروة الملوك الحقيقيين في زمن هوميروس. يضاهي أرجوس الكلاب الذهبية أمام منزل ألكينوس، والكلاب أمام كوخ إيومايوس، وحتى كلاب سيلا النباحة (وفي الأساطير يروى أن الكلب سيربيروس كان يقف أمام بوابات منزل هاديس).
لا يمكننا أن نضع تصميما هندسيا تخيليا جيدا للغاية لمنزل أوديسيوس من توصيفات هوميروس، ولكنه مبنى بسيط؛ ففي الواجهة يوجد فناء، ويوجد باب قبالة البهو يؤدي إلى قاعة كبيرة في وسطها مدفأة. لا بد أن يكون السطح مفتوحا في وسط القاعة ليسمح للدخان أن ينبعث عبره. أما الأرضية فعبارة عن تربة مضغوطة. ويوجد في غرفة المدفأة هذه أعمدة تدعم السقف. وفي الطابق العلوي توجد أجنحة النساء وغرفة تخزين، قد تكون أمام قاعة.
في كل مكان توجد إشارات إلى أن ثمة شيئا خارجا عن المألوف يجري، ولكن بينيلوبي ترفض بعناد أن ترى، أو تتظاهر بأنها لا ترى. لا يطلعنا هوميروس على أفكار بينيلوبي التي تدور في أعماقها، وسلوكها الذي لا يمكن في بعض الأحيان تفسيره والذي يبعث على التكهن والتخمين. أخبر تليماك أمه بشأن رواية مينلاوس حول احتجاز أوديسيوس على جزيرة. يصرح ثيوكليمينوس، المتنبئ الغامض، بأنه بالرغم من ذلك فإن أوديسيوس على الجزيرة. ولكن حتى النبوءة لا تستهوي بينيلوبي.
يجلس المتسول القرفصاء في مؤخرة غرفة المدفأة مستندا إلى عمود، وعندما يتذمر أنطونيوس المتعجرف المتنمر، يقدم إيومايوس معلومة مشوقة عن حياة المنشد الملحمي:
إن حديثك يا أنطونيوس يخلو من خير رغم ما أنت عليه من نبل. من الذي ينشد غريبا من بلاد غريبة ويدعوه بنفسه، إلا إذا كان واحدا من أولئك الذين يتقنون مهارة عامة؛ كأن يكون متنبئا، أو معالجا للأسقام، أو بناء، نعم، أو «منشدا» إلهيا، يضفي بهجة بإنشاده؟ إذ إن هؤلاء الرجال موضع ترحيب في كل أرجاء الأرض اللامتناهية. (الأوديسة، 17، 381-386)
إذن فالمنشدون هم رحالة، ويسر الناس باستضافتهم. بينما يتسول السيد في منزله، يلتهم الخطاب طعامه، ثم يبخلون أن يقاسموا فيه الآخرين. يضرب أنطونيوس أوديسيوس ضربة موجعة بمسند للقدمين. أمثال هؤلاء الرجال يستحقون الموت. فيحكي أوديسيوس حكاية تحذيرية أنه ذات يوم كان عظيما، ومع ذلك انحدر به الحال وحل به الدمار (مثلما يمكن أن يحدث أيضا للخطاب).
عندما تسمع بينيلوبي أن الخطاب ينتهكون حسن الضيافة ويهينون المتسول - المتسول الذي يمكن أن يكون إلها متنكرا - تصرح بأنها ترغب في الحديث إليه، وهو مشهد نترقبه بتلهف، عندما يقف الزوج والزوجة وجها لوجه بعد عشرين سنة. هل سيتعرف كل منهما على الآخر، ويتهاوى كل منهما بين ذراعي الآخر، وتصل القصيدة إلى نهايتها؟ لو أنك تصورت أن ذلك يمكن أن يحدث، فلا بد وأنك لا تميل إلى طريقة هوميروس في السرد القصصي. (18) «أوديسيوس والمتسول إيروس» (18، 1-158)، و«غواية الخطاب» (18، 157-428)
وسط أجواء التنكر، والتنبؤ، والامتهان يظهر فجأة متسول حقيقي، هو إيروس، الذي يحتج على حق أوديسيوس في مشاركته عتبة الباب. في مشهد صاخب يشبه لعبة مهاجمة الكلاب للدببة وينطوي على سخرية من النزال بين الأبطال، يتمنطق أوديسيوس بعباءته، وفجأة لا يبدو بائسا كثيرا. طوال هذه السلسلة من المشاهد يصبح الخطاب أكثر قلقا من أي وقت مضى من هذا الغريب المحير. يهدد أنطونيوس ببتر أذني المتسول الحقيقي وجدع أنفه وقطع أعضائه التناسلية إن خسر المباراة، وذلك في مشهد «ألعاب» مزيف يضاهي الأحداث الرياضية في ألعاب آخيل الجنائزية. يطرح أوديسيوس إيروس أرضا بلطمة عنيفة واحدة، و«رفع الخطاب النبلاء أيديهم، وكادوا يموتون من الضحك» (18، 99-100). وهذه الهيستيريا غير المنطقية تنذر بالموت.
لم تطالعنا بينيلوبي كثيرا في القصيدة، ولكن بدءا من هذا المشهد فصاعدا تصبح شخصية بارزة. فجأة تتمنى أن تظهر أمام الخطاب، ولكن من أجل استعادة جمالها بعد كثير من الحزن، يغالبها النعاس (مثل أوديسيوس عند المنعطفات الحرجة)، وتمنحها أثينا علاجا تجميليا. وبعد أن تستيقظ وتبدو متألقة (مثل أوديسيوس بعد عمليات تبديل هيئته)، تظهر على درجات السلم، مصحوبة بوصيفتين وقد ضربت بخمارها على وجهها إبداء للحشمة:
ثم للتو ارتخت ركب الخطاب واشتعل في قلوبهم شبق، وابتهل كل واحد منهم جميعا أن يضطجع بجوارها. (الأوديسة، 18، 212-213)
بطريقة محتشمة، تتظاهر بالانشغال على سلامة الغريب، إلا أن يوريماخوس يلتقط الطعم ويرغب فيها بشدة بكلمات ونظرات تلتهمها التهاما. تستغل بينيلوبي إعجاب الخطاب لتنتزع منهم هدايا، شاكية من أنه في فترة الخطوبة يجلب العرسان هدايا، ولكن كل ما يفعلونه هو الأخذ والأخذ فقط. يستحسن أوديسيوس في ذهنه خدعة بينيلوبي البارعة استحسانا تاما، غير ممانع لاستخدام زوجته لجاذبيتها الجنسية أداة لانتزاع مكسب مادي. نعم؛ لأن الكسب المادي أمر جيد، تستحسنه الزوجة مثلما يفعل الزوج الذي سافر كثيرا وبعيدا، والمهدد بشكل أساسي جراء أعمال السلب من قبل الخطاب.
يخيم الليل. حان وقت اللقاء بين أوديسيوس وبينيلوبي. يعد الخطاب مشاعل، ويشربون ويرقصون وتتحضر الخادمات للعمل على خدمة رغبتهم الجنسية؛ ومن شأن اجتماعات الشراب القديمة أن تنتهي بهذه الطريقة أيضا. يعرض المتسول أن يرعى النار، ولكن ميلانثو، التي على ما يبدو أنها شقيقة ميلانثيوس/الأسود، تهينه. كانت بينيلوبي تحمل معزة لميلانثو، ولكنها محظية يوريماخوس، التي تشتاق إلى الليل وما يصاحبه من جنس. يخمد أوديسيوس حميتها عندما يبين أن تليماك عما قريب سيتعين عليه أن يقطعها إربا إربا.
يعرض يوريماخوس، شاعرا بمسحة من التهذيب، على أوديسيوس عملا في مزرعته، ثم سرعان ما يسحب عرضه، وهو ما يؤدي إلى محاضرة أوديسيوس عن قواعد الفلاحة الصحيحة لرجل صالح. يظن يوريماخوس أن هذا المتسول أحمق مجنون، أو مخمور، ويخفق في إصابته بمتكأ يلقيه عليه. وهكذا يستمر المتسول في إثارة حفيظة الجميع. (19) «أوديسيوس وبينيلوبي» (19، 1-360؛ و508-604)، و«ندبة أوديسيوس» (19، 361-507)
ما إن يذهب الخطاب، حتى يعطي أوديسيوس تعليمات إلى تليماك بأن يزيل كل الدروع عن الجدران ويخبئها، متغافلا عن تعليماته السابقة بترك مجموعتين من الدروع؛ ولم يلاحظ الخطاب على الإطلاق الدروع المفقودة. ولما كان أوديسيوس قد أرسل الخادمات إلى غرفهن، تحمل أثينا بنفسها مصباحا ذهبيا لتقود تليماك إلى غرفة التخزين (لسنا متيقنين من مكانها)، وهي الإشارة الوحيدة إلى وجود مصباح في القصائد الهوميرية. ففي أشعار هوميروس عادة ما تكون المشاعل هي التي تنير الطريق، وليس ثمة وجود للمصابيح في السجل الأثري حتى القرن السابع قبل الميلاد. ربما يكون مصباح أثينا إشارة إلى عادة من العصر البرونزي، حينما كانت المصابيح شائعة وكانت تمثل جزءا من الطقوس، إن كانت أثينا تنحدر من إلهة من الحضارة المينوية، كما يعتقد كثيرون.
تدخل بينيلوبي لتجلس بجوار النار، فيخبرها الغريب أن أوديسيوس سيعود عما قريب إلى البيت، ويزعم، مجددا، أنه من جزيرة كريت، وهنا يعطينا هوميروس أول الأمثلة التي وصلتنا للجغرافيا التاريخية (باستثناء «قائمة السفن» الواردة في «الإلياذة»):
هناك أرض تدعى كريت في وسط البحر القاتم ذي اللون الخمري، أرض صالحة غنية محاطة بالمياه، ويوجد عليها رجال كثيرون، أكثر من أن يحصوا، وتسعون مدينة لا تتحدث كلها نفس اللغة، وإنما مختلطة الألسن. هناك يقطن الآخيون، وهناك يوجد الكريتيون المحليون العظام القلوب، وهناك السيدونيون والدوريون ذوو الريش المتموج والبيلاسجيون الطيبون. (الأوديسة، 19، 172-177)
توجد هالة من المعاصرة فيما يختص بحكايات أوديسيوس عن كريت والكريتيين، كما لو أن هوميروس كان يصف أحوالا عرفها وعاينها بنفسه. في هذا السياق من الممكن أن يكون الآخيون هم الميسينيين، والكريتيون المحليون هم دون شك المينويون، والسيدونيون، الذين عاشوا في شمال غرب كريت (خانية المعاصرة)، من مكان ما، والدوريون هم قوم موطنهم شمال غرب اليونان سيطروا على الجزيرة في الأزمنة الكلاسيكية. ولعل هذه هي الإشارة الصريحة الوحيدة في القصائد الهوميرية إلى «قبيلة» الدوريين، الذين كان بينهم وبين الأيونيين منافسة لدودة في الحقبة الكلاسيكية.
إن لقاء أوديسيوس وبينيلوبي منفردين في القاعة المتشحة بطبقة من السواد مبني في هيئة مشهد تعرف، حتى إن أوديسيوس يصف باستفاضة أمارة، دبوسا للزينة ارتداه أوديسيوس عندما قدم إلى كريت. ولكن أمر التعرف ما زال سابقا لأوانه. يعتقد البعض أن في صيغ أخرى للقصيدة تعرفا قد جرى بالفعل في هذه اللحظة، وأن الزوج والزوجة خططا معا لأمر مذبحة الخطاب. غير أنه في نسخة «الأوديسة» التي بين أيدينا، يقدم هوميروس بينيلوبي في شخصية لا ترغب في التصديق، فلا يمكنها أن تعطي اعتبارا لروايته مثلما لم تصدق تليماك ولا ثيوكليمينوس؛ لأنها تعرضت في أغلب الأحيان لخيبة الأمل. عليها أن تعتقد في الأسوأ. تشكر الغريب على حكايته، ثم تكافئه بغسل قدميه، وهي مجاملة تبدى للزوار المتميزين، وليس للمتسولين.
يقبل أوديسيوس بغسل قدميه، ولكنه لن يجعل أيا من الوصيفات الداعرات تلمس جسده. وكما لو كان يبحث عن المتاعب، يطلب عوضا عن ذلك المرأة الوحيدة في المنزل التي يمكنها حقا التعرف على هويته، وهو ما تفعله بالفعل أوريكليا عندما تلمس الندبة الموجودة في ساقه، التي تعد بمثابة أمارة التعرف. في الاستطراد الطويل حول كيفية إصابة أوديسيوس بهذه الندبة، وهو أطول استطراد في القصائد الهوميرية، نعرف أن جده أوتوليكوس (الذي يعني «الرجل الذئب») هو من سماه. من حين لآخر يتلاعب هوميروس بالألفاظ، وفي هذا الموضع يستخدم أوتوليكوس التورية فيما يتعلق باسم أوديسيوس:
أي زوج ابنتي وابنتي، فلتمنحاه الاسم الذي أقوله أيا ما كان هذا الاسم. ألا وإنني قد صرت هنا «رجلا مغاضبا من كثيرين» [
odussamenos ]، من رجال وكذلك نساء يعيشون على الأرض الخصيبة، لذلكم فليكن اسم المولود أوديسيوس [odusseus] . (الأوديسة، 19، 406-409)
ومع ذلك فالكلمة اليونانية
odussamenos
ذات معنى غير أكيد، وقد تعني أيضا «ذاك الذي عانى كثيرا» أو شيئا آخر.
ولما كانت أوريكليا اعتنت بأوديسيوس صغيرا وأرضعته، فهي أمه نوعا ما، وهذا التعرف يقربه من مركز القوة؛ فهو الآن سيد الخدم. وهو لا يكاد يبدي أي عاطفة نحو أوريكليا ويطبق على عنقها مهددا إياها باستخدام العنف إن أحدثت صوتا. ماذا بوسعه أن يفعل غير ذلك؟ أما بينيلوبي غير المصدقة، المستفزة، الشاردة الذهن، والمنزوية إلى حد ما، فلا تلحظ شيئا عندما تسقط أوريكليا الإناء البرونزي الكبير الذي يحدث رنينا على الأرض.
عندما يدنو أوديسيوس مجددا من الركن الذي فيه بينيلوبي، تدلي بنبوءة أخرى مؤكدة عن أوبة زوجها، وهي عبارة عن حلم عن إوزات ينحرهن نسر:
ولكن الآن تعال واسمع حلمي هذا، وفسره لي. حلمت أنني أمتلك عشرين إوزة في المنزل تخرج من الماء وتأكل القمح، ويفرح قلبي برؤيتها. ولكن يأتي خارجا من الجبل نسر عظيم له منقار مقوس ويكسر رقابها ويقتلها وتلقى مبعثرة في كومة في الباحة، بينما كان الهواء يحمل النسر عاليا إلى السماء الساطعة. وبدوري حينئذ بكيت ونحت، رغم كونه حلما، وتجمعت حولي النساء الآخيات ذوات الشعر الأشقر المجدول وأنا حزينة حزنا يبعث على الشفقة؛ لأن النسر قتل إوزاتي. (الأوديسة، 19، 535-543)
من السهل أن نتبين أنها تتحسر على فقد محبيها. ثمة دلائل وعلامات جمة في الكتب الأخيرة من «الأوديسة» الغرض منها تكثيف السرد والتشديد على عجز الخطاب الخامد عن مقاومة القدر، ولكن المرء ليتساءل عن السبب وراء إدراج هوميروس لهذا الحلم. هل تقصد أنها سوف «تفتقد» الخطاب؟ حسنا، لا يمكنك أن تثق بامرأة قط، كما أوصى شبح أجاممنون.
يشتد غموض موقف هوميروس تجاه قصته بإعلان بينيلوبي المفاجئ أنها في اليوم التالي سوف تقترح إقامة مسابقة في رمي السهام، وسوف تتزوج من يفوز. ما دوافعها؟ هل يخامرها الشك في أن الغريب هو أوديسيوس؟ ألفا عام من الشرح والتعقيب المفصلين لم تقدم إجابة. من المؤكد أن هوميروس بحاجة لأن يصل بأنشودته إلى خاتمة، ولكي يفعل هذا يحتاج إلى مسابقة رمي السهام، التي هي بمثابة مناسبة لوقوع تعرف حاسم، حتى دون وجود دافع نفسي مقنع. فاليوم التالي هو يوم عيد لأبولو يقام في ظلمة القمر، وكانت بينيلوبي قد ابتهلت إلى أبولو أن يقتل أنطونيوس (17، 494). سوف يكون الهدف من المسابقة هو شد وتر قوس، الذي هو سلاح من أسلحة أبولو، وأداء مهارة يبرع فيها أوديسيوس نفسه. يبدو الأمر كما لو أنه أحبولة، ولكن هوميروس ضحى بمنطق قصته من أجل رغبته في تصوير شخصية بينيلوبي على أنها قانطة وعنيدة. (20) «نبوءة الهلاك» (الكتاب 20)
في مشهد مشحون بالجنس، يستلقي أوديسيوس في الردهة الكبرى، متسائلا عما إذا كان ينبغي أن يقتل الوصيفات اللواتي يتضاحكن وهن ذاهبات ليسافحن الخطاب، أو ينتظر ويقتلهن فيما بعد. ومع ذلك ينبغي أن يكون مبتهجا؛ لأن أثينا تظهر له - ويا له من خطب عظيم؛ إلهة في المنزل - وتعده بالدعم الذي يحتاج إليه. وعندما ينام أوديسيوس، نجد بينيلوبي، في الطابق الأعلى فحسب، تستيقظ من سباتها، بعدما حلمت بأن زوجها مستلق بجانبها، كما هو حاله تقريبا. إن الكآبة، والرثاء للذات، والمراوغة هي كلها أجزاء من شخصية بينيلوبي، وفي إطار رغبتها في الموت تروي قصة عجيبة، عدا أنها مجهولة، عن بنات بنداريوس التعيسات، مثلما روت فيما سبق قصة مجهولة أخرى عن العندليب، التي هي أيضا ابنة لبنداريوس (19، 518-523).
يستيقظ أوديسيوس مع انبلاج فجر يوم آخر من الفجور. لم يكن ظهور أثينا كافيا لجعله في حالة مزاجية جيدة؛ فيدعو متضرعا أن يجعل له تباشير وعلامات وينال ما طلب. يمضي تليماك إلى المدينة بينما يجلب إيومايوس المخلص وميلانثيوس البذيء وشخصية جديدة هي راعي البقر فيلوتيوس، الذي أحب أوديسيوس أكثر من أي أحد آخر، البهائم إلى الساحة لتذبح لأجل يوم العيد إكراما لأبولو. الفناء هو ساحة للذبح حيث تنحر البهائم وتنزع أحشاؤها؛ عما قريب ستسيل الدماء البشرية أنهارا في المنزل. إن مسألة القتل أمر يدور بأذهان الجميع، ولا يزال الخطاب يخططون للقتل إلى أن يروا أن النذر لا تبشر بخير. فيقررون بدلا من ذلك أن يشربوا حتى الثمالة.
على بعد خطوات في الداخل، يطهو الأفظاظ الصاخبون اللحم ويأكلونه ويبتلعونه بالخمر. ثمة أفواه كثيرة تنتظر الطعام، والخطاب أيضا لهم أفواه ضارية نهمة كفم السايكلوب الملطخ بالدم. يتساءل المرء عما إن كانوا [من نهمهم] بالفعل أكلوا حوافر الثور، لكن ثمة واحدا في السلة سوف يرميه خاطب قذر على الرجل الذي يملك هذا المنزل. وبطريقة ما يعود تليماك من المدينة، ويقدم لنا هوميروس لمحة من الهول الآتي حين يوبخ تليماك الخطاب؛ ومن ثم: ... ألهبت بالاس أثينا فيما بينهم ضحكا لا يخمد ، وذهبت بحصافتهم أدراج الرياح. والآن هم يضحكون عن غير إرادتهم، وكان اللحم الذي أكلوه مخضلا بالدم، وعيونهم كانت مفعمة بالدموع، وأرواحهم يثقلها النحيب. ثم من وسطهم تكلم ثيوكليمينوس شبيه الآلهة، «أيها التعساء، ماذا أصابكم من شر؟ إن ظلاما حالكا يغطيكم من رءوسكم ووجوهكم إلى أخمص أقدامكم. صوت النحيب متأجج، ووجناتكم تغمرها الدموع والجدران وعوارض السقف المتينة تنضح بالدماء. السقيفة والبهو مملوءان بأشباح تسارع هبوطا إلى إيريبوس في جنح الظلام، والشمس تلاشت من السماء، وغيمة شر تحوم فوق الجميع.» (الأوديسة، 20، 345-357)
وإذ أتم مقصده، يغادر ثيوكليمينوس القصر ويختفي. وينفجر الخطاب، الذين أذهبت الخمر والدماء واللحم والجنس والكبر عقولهم، في الضحك أكثر وأكثر، وهم لا يشكون مطلقا في أنهم قد أكلوا طعامهم الأخير على الأرض. (21) «مسابقة القوس» (الكتاب 21)
كل شيء جاهز للتعرف الكبير، حين سيميط اختبار للمهارة والقوة اللثام عن الملك الحقيقي. للأسف من المستحيل أن نفهم تحديدا تصور هوميروس لمسابقة رمي السهام. الجانب الأكثر إثارة للحيرة من هذا الوصف هو أنه استلزم أن يمر السهم «عبر الاثنتي عشرة بلطة جميعها» (21، 76) و«عبر الحديد» (21، 97). كيف يمكن لسهم أن يمر عبر الحديد؟ ثمة تفسير شائع لذلك هو أن رءوس الاثنتي عشرة بلطة كانت مدفونة في أرض طينية في خندق، وشفراتها لأسفل وفتحات مقابضها للأعلى ومتراصة في صف، وأنه بهذا المعنى أطلق سهمه «عبر الحديد». إن كان الأمر كذلك، فيجب أن يطلق السهم على مقربة شديدة من الأرض، وأن يكون رامي السهام جالسا القرفصاء؛ من غير المرجح أن يكون من الممكن القيام برمية كهذه في عالم الواقع. الاقتراح الشائع الثاني هو أن البلطات كانت مثل البلطات المينوية المزدوجة، التي فيها تتقوس الشفرات إلى الخلف تقوسا كبيرا نحو المقبض، لتشكل دائرة مفتوحة نوعا ما عند نهاية المقبض. في هذه الحالة كانت المقابض ستكون متراصة عموديا في صف في الأرض حتى تشكل الدائرة في قمة كل بلطة ما يشبه الأنبوب. إن كان كذلك، فما فائدة الخندق؟ لا يمكننا أيضا أن نكون متيقنين من المكان الذي وضعت فيه البلطات؛ لأنها إن كانت وضعت في القاعة المركزية، فستكون المدفأة في المنتصف. من المحتمل ألا يكون هوميروس نفسه قد فهم طبيعة المسابقة، التي أصبح تفسيرها المتسق الأصلي، المتعذر التوصل إليه في الوقت الحاضر، مفقودا في التراث.
يتغلب أبطال الحكاية الشعبية على أعدائهم بأسلحة خاصة، مثلما أعمى أوديسيوس السايكلوب بوتد خاص مقسى بالنار (بدلا من السيف الذي كان يحمله). والسلاح الخاص هنا هو قوس كان يوما ما ملكا لإيفيتوس، ابن رامي السهام العظيم الأسطوري أوريتوس. قتل هرقل إيفيتوس عندما جاء إيفيتوس إلى منزله بحثا عن بعض الأفراس المفقودة. لأجل هذه الجريمة المروعة في حق مبدأ «حسن الضيافة»، دفع هرقل ثمنا باهظا، حسب تراث لاحق؛ إذ بيع عبدا إلى ملكة مملكة ليديا. وكما عانى إيفيتوس التعدي على مبدأ «حسن الضيافة»، الآن سوف يثأر قوسه من أولئك الذين ارتكبوا جريمة مماثلة.
يعيد مشهد تعرف سريع في الفناء الخارجي بين أوديسيوس والمخلصين فيلوتيوس وإيومايوس، مستندا مرة أخرى إلى أمارة الندبة، هذين الرجلين إلى حبكة القصة. يوجد الآن أربعة رجال في مواجهة أكثر من 100 من الخطاب وحلفائهم.
إن الجهود التي يبذلها الشبان العاجزون لاستعمال سلاح حقيقي يملكه رجل حقيقي هي جهود تبعث على الشفقة. يتجنب أنطونيوس، وهو يرى فشل رفقائه، الحرج بأن يقترح أن يوقفوا المسابقة وينذروا أنفسهم للشراب؛ مثلما شرب السايكلوب قبل أن يتغلب عليه أوديسيوس. تدافع بينيلوبي عن حق المتسول في تجربة القوس، مع أنها بالتأكيد لن تتزوجه! فيلتقط إيومايوس القوس ليعطيها لأوديسيوس، ثم يضعها أرضا بناء على مطالبة صاخبة من الخطاب، ثم تحت تهديدات من تليماك يعود لالتقاطه ثانية. ترتفع حدة التوتر ونحن نصل إلى الفاجعة التي سوف تحل عقدة الحبكة.
يتفقد أوديسيوس القوس، ثم يشد وتره دون عناء، مثل منشد يضع وترا جديدا لقيثارته، حسبما يورد هوميروس في إشارة واضحة. من المؤكد أن هوميروس عند هذا الموضع نقر على وتر قيثارته، لتوضيح قوله، وهو من المقامات النادرة التي يمكننا فيها إعادة بناء المصاحبة الموسيقية لغناء الإنشاد الملحمي. إن الرمية مضمونة، ولكن الوحش ذا المائة وعشرين فما، المخمور والأخرق مثل بوليفيموس، حتى الآن لا يفهم أنه على شفا الموت. (22) «مجزرة الخطاب» (الكتاب 22)
مثل سوبرمان، يخلع أوديسيوس أسماله البالية وبسرعة تأخذ العقل يلقي بجعبة السهام عند قدميه. إن هيئته تشبه هيئة إله، وكأن الأمر تجل لأحد الآلهة. كان ذلك ما يترتب على انتهاك مبدأ «حسن الضيافة» من مخاطر؛ لأنه أحيانا «كان» الغريب يمثل إلها. إن أمثال هؤلاء الحمقى، معدومي العقل والحكمة، يستحقون الموت. يطلق أوديسيوس سهما يخترق حلقوم أول الخطاب، الزعيم أنطونيوس، وهو يشرب من كأس ذهبية، ويختلط دمه بدم اللحم الذي كان يأكله. ما زال حدثاء الأسنان والسفهاء، في طور جنونهم المخمور، لم يتبينوا هوية أوديسيوس ولم يدركوا ما يحدث لهم. بالطبع يحق لها، قبل إعدامهم، أن يعرفوا السبب وراء إزهاق أرواحهم. ثمة صواب وخطأ، والمجرمون مثل إيجيسثوس وكلتمنسترا والخطاب في حالتنا هذه يجب أن يدفعوا ثمن جرائمهم:
أيها الكلاب، ظننتم أنني لن أعود أبدا إلى الديار من بلاد الطرواديين؛ لذا عثتم في منزلي فسادا وأجبرتم الوصيفات على مضاجعتكم، ومع أنني ما زلت حيا خطبتم ود زوجتي، دون خشية من الآلهة الذين يمسكون بالسماء الواسعة ولا من سخط البشر في المستقبل. والآن حلت سراعا عليكم جميعا ساعة الهلاك. (الأوديسة، 22، 35-41)
يلقي الزعيم الآخر يوريماخوس باللوم كله على أنطونيوس بعبارات واهنة، كما لو أن أوديسيوس لم يكن في المنزل معهم وتعرض لإيذاء مباشر من يوريماخوس نفسه. يماثل عرض التعويض الذي يقدمه عرض أجاممنون لآخيل في «الإلياذة»، أو عرض السايكلوب عندما يرغب في إقناع أوديسيوس وهو يهرب بأن يعود إلى كهفه وينال واجب الضيافة
xenia «هدايا رمزية». يا له من أحمق! لا جدوى من الالتماس؛ فالصواب لا بد وأن ينتصر على الخطأ، والعدل لا بد وأن ينتصر على البغي.
لا يمكن لأربعة رجال، ثلاثة منهم لم يخوضوا قتالا أبدا، واثنان منهم من العبيد، أن يأملوا في التغلب على 120 رجلا إلا إذا كانوا عصابة من الجبناء والشباب الغض. تنفد السهام ويبدأ القتال بالرماح. يجلب تليماك، الذي ذاق سفك الدماء لأول مرة بقتله لرجل بالرمح من الخلف، دروعا من غرفة التخزين. في هذا المشهد نواجه أكبر أشكال البلبلة فيما يتعلق بتصميم منزل أوديسيوس؛ إذ رغم أن أوديسيوس واقف على العتبة، نجد الخادم الخائن ميلانثيوس/الأسود يصعد إلى الأعلى بطريقة ما وينزل دون أن يراه أوديسيوس. لا بد وأن غرفة بينيلوبي بالطابق العلوي، على ما يبدو أنها قبالة نفس الطرقة التي تقع بها غرفة التخزين. يوجد أيضا باب خلفي للقاعة يبدو أنه يؤدي إلى الساحة الخارجية، أو المساحة ما بين المنزل وسور الساحة الخارجية، التي يؤدي باب خلفي عبرها إلى خارج المدينة. يؤمن إيومايوس هذا الباب الخلفي أثناء الجزء الأول من المعركة. أيا كان الأمر، يحتجز فيلوتيوس وإيومايوس ميلانثيوس في غرفة التخزين ويربطان يديه وقدميه معا من أجل التمثيل به لاحقا. لا يمكن لأي شيء يحيق بهذا الوغد الأشر أن يكون بالغ السوء.
كانت أثينا، وما زالت، هي من يتحكم بالأحداث في القصيدة (عدا في المغامرات)، ولقد وعدت بمساندة بطلها المفضل في وقت حاجته. في هذا المشهد تظهر لفترة قصيرة في هيئة منتور، مستحثة أوديسيوس أن يبذل جهدا أكبر وهي تحول عنه رماح الخطاب، الذين كان ميلانثيوس قد سلح اثني عشر منهم بدروع من غرفة التخزين. ومع ذلك، لا بد على ناهب المدن، الرجل المتعدد القدرات، الرجل الواسع الحيلة، أن يتحمل وطيس المعركة، وأن يتحمله ابنه الذي كان صبيا ذات يوم ولكنه الآن صار رجلا.
وبأسلوب ساحر، يجعل هوميروس تليماك يبقي على حياة المنشد الملحمي فيميوس، الذي يعد انعكاسا ذاتيا لهوميروس في القصة، والذي أجبر على أن يغني مقهورا، والذي يتوسل للإبقاء على حياته قائلا:
أستعطفك يا أوديسيوس وأنا جاث عند ركبتيك، وأسألك أن تبدي لي احتراما ورحمة؛ إذ سوف تصاب نفسك بحزن فيما بعد إن أنت قتلت «المنشد»، أعنيني أنا، الذي يغني للآلهة وللبشر. لقد علمت نفسي بنفسي وغرست الآلهة في فؤادي كل صنف من صنوف الأنشودات. إني على استعداد أن أغني لك كما لو كنت إلها. لذا لا تتعجل قطع رقبتي. (الأوديسة، 22، 344-349)
وفيما عدا ذلك، لم يعف عن أي أحد إلا «المنادي»، الذي يشبه نوعا ما الساعي.
تجبر اثنتا عشرة وصيفة عديمة الوفاء (من المرجح أن من بينهن ميلانثو) على تنظيف الفوضى. فيسحبن الجثث ويكدسنها في كومات في الساحة، التي كانت منذ الصباح مجزرا وصارت الآن مستودعا لحفظ جثامين أرقى النبلاء المحليين. ويأمر أوديسيوس ابنه بقتل الوصيفات بحد السيف، ولكن في مشهد ينطوي على قسوة بالغة يشنقهن تليماك تباعا في حبل سفينة مربوط بعمود وببناء دائري مقبب في الساحة لم يذكر من قبل. من هذا الحبل كن يتلوين وينتفضن، «ولكن ليس لوقت طويل» (22، 473). لم يفسر أي عمل إبداعي الكيفية التي جرت بها عملية الإعدام هذه، ولكن غموضها الشديد ومباغتتها يزيدان من هولها. يأمر أوديسيوس بأن يحرق كبريت في القاعة. فالأشباح والأرواح الشريرة، التي يرجح وجود قدر كبير منها يحوم في الجوار، تبغض الكبريت وتنفر منه. (23) مشهد «التعرف بين أوديسيوس وبينيلوبي» (الكتاب 23)
إن روح الدعابة الساخرة لدى هوميروس قوية في تقديمه لبينيلوبي التي تكون في بعض الأحيان بلهاء، وتبدو عليها الحماقة في الظاهر فقط، والتي كانت شخصيتها الظاهرية التي تتمثل في كونها شخصا لا يولي اهتماما كبيرا بما يجري عنصرا رئيسا في نجاتها لوقت طويل في ظروف خطرة. سابقا، عندما أوقعت أوريكليا الإناء البرونزي الكبير في الرواق المظلم، لم تلاحظ بينيلوبي أي شيء، والآن توقظها أوريكليا في مخدعها من إغفاءة كانت أهدأ إغفاءة حظيت بها منذ أعوام. تنقل إليها أوريكليا النبأ المذهل. بينما كانت تهنأ بنومها، عاد زوجها إلى البيت وقتل الخطاب. لا هذا الفعل، ولا رواية الندبة يقنعان بينيلوبي الحذرة والماهرة في الخداع.
إن تليماك، الذي بدأ القصيدة بالشكوى من مسلك أمه، يدعوها الآن متحجرة القلب، فمن ذا الذي يجلس إلى جوار زوجها الذي غاب طويلا ولا يرى أنه هو. يتركهما وحدهما، وعندئذ ترضى بينيلوبي بأن هذا الرجل، أيا من كان ، بالتأكيد ليس زوجها، يمكنه أن ينام في سرير أوديسيوس، وسوف تجلبه أوريكليا على الفور. بهذه الأمارة تخادعه بينيلوبي حتى يكشف عن هويته الحقيقية؛ فهو من صنع السرير بنفسه ومكانه الوحيد كان شجرة زيتون مزروعة في الأرض. لا بد إذن أن أرضية حجرة نوم القصر من التربة المضغوطة وأنها في الطابق الأرضي - في حين أن غرفة بينيلوبي في الطابق العلوي - بيد أن موقعها بالنسبة إلى القاعة الرئيسية غير واضح.
وبعد أن تعرفت عليه زوجته أخيرا، يأوي أوديسيوس مع بينيلوبي إلى الفراش لمطارحتها الغرام، بينما فيميوس يعزف وتليماك، وإيومايوس، وفيلوتيوس، والخادمات المخلصات يرقصن في البهو. سوف يظن المارة أن زفافا يعقد، كما هو الحال في واقع الأمر؛ فبينيلوبي قد عقد قرانها مجددا على رجلها الحقيقي. وبينما هما في الفراش يجمل أوديسيوس مغامراته في أعالي البحار، مختزلا مع ذلك عامه في فراش سيرس إلى أن «بعد ذلك روى كل حيل ومكر سيرس ...» (الأوديسة، 23، 321).
ارتأى بعض المعلقين، القدماء والمعاصرين، أن «الأوديسة» في الأصل انتهت عند البيت 296 من الكتاب الثالث والعشرين باجتماع شمل الزوج والزوجة، ولكن لا تزال أمور كثيرة جدا معلقة دون حل على ذلك؛ فعلى الرغم من أن أوديسيوس الآن زوج لزوجته وأب لابنه وسيد لمنزله، فإن كونه ابنا لأبيه وملكا مورثا للبلاد لم يتم بعد. وتحقيقا لهذه الغاية، صبيحة اليوم التالي، يسبغ هو وتليماك والآخرون عليهم من الدروع ويلتقطون الرماح لمواجهة الخطب الذي لا بد وأنه آت بلا ريب. (24) «الخطاب في العالم السفلي» (24، 1-204)، ومشهد «التعرف بين أوديسيوس وليرتيس» (24، 205-411)، و«أوديسيوس ملك إيثاكا» (24، 412-548)
في قفزة تحولية حادة يأخذنا هوميروس إلى العالم السفلي. يرشد هيرميس أرواح الخطاب إلى مروج أسفوديل. وهناك يلتقون بروحي أجاممنون وآخيل تتبادلان الحديث فيما بينهما. يصف أجاممنون جنازة آخيل المهيبة، وهو مثال جيد على كيفية ترتيب «الأوديسة» للتفاصيل المنسية من «الإلياذة». ولما كانت «الأوديسة» تشير إلى «الإلياذة» بهذه الطريقة الذاتية الوعي، وليس العكس، يعتقد الجميع أن «الأوديسة» متأخرة عن «الإلياذة» (وهي الحقيقة الوحيدة عن قصائد هوميروس التي يتفق عليها «الجميع »). يشكو أجاممنون، الذي وضعت قصته كقصة موازية لقصة أوديسيوس في الأبيات الأولى من القصيدة، من قدره ، الذي هو نقيض قدر أوديسيوس. مجددا، «فتش عن المرأة».
يسأل أجاممنون الخاطب أمفيميدون عما حدث، وللمرة الثالثة نسمع قصة مؤامرة بينيلوبي. ومثلما أجمل هوميروس في خطوط عريضة مغامرات أوديسيوس في حديث الفراش بينه وبين بينيلوبي، في هذا المشهد يجمل قصة عودة أوديسيوس. يعتقد أمفيميدون أن بينيلوبي كانت مشتركة في المؤامرة من البداية (وهو الحال الذي ربما كانت عليه في صيغ أخري)، ولكننا نعرف أنها لم تكن كذلك.
في تلك الأثناء، كان أوديسيوس قد عثر على والده المسن السقيم ليرتيس في البستان. يلوعه أوديسيوس بذكريات الماضي عن ابنه المفقود، ويروي له حكاية ملفقة جديدة، مدعيا الآن أنه من صقلية، ثم يكشف عن شخصيته عن طريق الندبة وعن طريق ذكرى الأشجار التي أعطاها له ليرتيس. وكان هذا التوقيت مناسبا؛ إذ إن أهل المدينة يعرفون الآن بما قد جرى.
احتج نقاد كثيرون على النهاية الفاترة لملحمة «الأوديسة»، ولكن النهاية الفاترة أسلوب لدى هوميروس. وختام «الإلياذة» فاتر كذلك؛ «وهكذا دفنوا هيكتور مروض الخيول.» لا يمكنك أن تقتل زهرة شباب الجزر دون عاقبة، وعندما تهاجم عائلات الخطاب القتلى، يقودهم والد الخاطب الرئيسي أنطونيوس، أوديسيوس ومعه الآن تسعة رجال آخرون، يضع ليرتيس، المنتشي بعودة ابنه، رمحا في دماغ الرجل. يمكن للآلهة أن تقف خلف الأحداث، وبناء على إلحاح من أثينا يرمي زيوس صاعقة بين الفريقين. وهو ما جعلهم يتوقفون فجأة عما يقومون به. لقد عاد أوديسيوس. وهو زوج بينيلوبي. وهو سيد إيثاكا، التي هي أرض لا تصلح للخيول. وتنتهي القصة.
الفصل السادس
الخاتمة والملخص:
قصيدتا هوميروس المتكاملتان
لا يبتدئ الأدب الحديث بالقصائد الهوميرية؛ لأن القصائد الهوميرية تنبع من مصدر ما. فلم يكن ممكنا لها أن تظهر للوجود من دون تقليد بلاد ما بين النهرين في السرد القصصي الذي كان يبلغ آلاف السنين في زمن العصر الحديدي اليوناني. ويدين بالكثير، أيضا، لتقاليد يونانية أصلية وللنفوذ الاجتماعي لطبقة أرستقراطية محاربة، كانت تقدر الماضي كقدوة للحاضر واعتبرت الماضي زمنا تقاتل فيه أسلافهم في حرب طروادة أو في الحرب على طيبة؛ فالأرستقراطيون اليونانيون، في النهاية، حظوا بنفوذهم في المجتمع من خلال البراعة العسكرية و«النزاهة» الفائقة (النزاهة باللاتينية تعني
virtus
التي يكافئ معناها «الرجولة/الشهامة»). فعندما يقف محارب في مواجهة مباشرة مع العدو، فيقتل أو يقتل، يعرف أصدقاؤه بالأمر ويحترمونه لرجولته. عندما يكون الأمر اليقيني الوحيد في الحياة هو نهايتها، وهو ما قد يكون أمرا مريعا، فعلى الأقل يمكن للرجل أن يتصرف كرجل ويواجه الموت القادم يقينا. وكل المحاربين ملزمون بفهم الأمر نفسه. لا أحد يعرف ما يفكر فيه الرجل العادي، ربما فيما عدا الفورة الفاحشة للشخصية المستهجنة ثرسيتيس، الذي استهزئ به وضرب ليكون عبرة لأي أحد آخر تراوده رغبة مقيتة مماثلة في «مماحكة سادة القوم [
basileis ]» (الإلياذة، 2، 247). لم يكن ثمة وجود لطبقة أرستقراطية متحررة تتسم فيما بين أفرادها بالمساواة مثل طبقة المحاربين اليونانيين في الشرق الأدنى القديم، حيث كانت الثروة المهولة، التي تولدت عن طريق الزراعة القائمة على الري على ضفاف أنهار دجلة والفرات والنيل، قد شكلت منذ زمن بعيد مجتمعا قائما على التقسيم الطبقي الحاد.
تدور أحداث «الإلياذة» حول رجال في حرب. منذ بدء البشرية، متى بدأت، كانت الحرب امتيازا خاصا بالذكور. ولا يعتقد أنه قد يكون ثمة عالم من دون حرب - من قبيل العبث الاعتقاد بذلك - ولكن معاناتها تقف على طرف النقيض من سبل السلام الرقيقة، عندما كانت النساء الطرواديات يغسلن ثيابهن عند المجاري المائية التي تنساب ساخنة وباردة، والتي مر بها آخيل وهو يطارد هيكتور حتى قتله. الحرب هي ما يفعله الرجال؛ حيث يموتون بطرق مروعة، بينما ترقب النساء مصائرهن بأن يصرن أرامل أو تمسك بهن أيادي السباة العنيفة، الذين سوف يغتصبونهن ويستعبدونهن. يعطي زيوس، حسبما يذكر آخيل في مشهد «فدية هيكتور»، للبعض نصيبا كله من الشرور، ولكن آخرين ينالون بعض الخير إلى جانب الشر. لقد كانت «الإلياذة»، في تشاؤمها العنيد الخالي من القواعد حيال نضال البشر الفانين، تتناول الحياة الواقعية، وما زالت عن الحياة الواقعية.
إننا نستمتع بدراسة القصيدة؛ لأننا نتعرف على العالم الذي تصوره. الخوف هو عدو الجميع، كما نعرف في الخطب الحماسية العديدة في «الإلياذة»، لكن المحارب يتغلب على خوفه. فهو شخص واقعي. في «الإلياذة» يضرب هذا القانون البطولي، كما يطلق عليه، عرض الحائط بالدولة الناشئة التي لا تعتمد فيها القوة والاحترام اعتمادا كاملا على الرجولة، وإنما على الاتفاق العام على أن السلطة المركزية هي للصالح العام. وعلى حجة أجاممنون بنيت أنظمة ستالين وهتلر وماو الاستبدادية الحديثة. ومن المؤكد أن آخيل لا يعجبه ما تعني الدولة الناشئة بالنسبة إليه؛ وهو إذلاله.
قد نتفق على أن أجاممنون هو أول بين أنداد، ولكنه يتصرف مثل لص ليثبت رجولته على حساب آخر، في حين أن سلطته باعتباره رجل دولة يجب أن تعتمد على أساس مختلف. ومن ناحية أخرى فمسلك أجاممنون لا يحتمل؛ فهو يستسلم للغضب عندما لا يجد خيارا أمامه إلا رد أسيرة الحرب الخاصة به؛ ورجل الدولة لا يجب أن يستسلم للغضب. فيسعى لفرض سيطرته على من حوله باندفاع أهوج، وينطلق كالمجنون، يحطم الأشياء يمنة ويسرة. لا شيء إلا الهدوء يمكن أن ينقذ آخيل، ولكن آخيل هو الآخر رجل يتسم بالغضب. وقسمته من شخصيته؛ فهو يزعم أن في مقدوره أن يختار مسارا آخر، حياة طويلة مبهمة مع أسرته هناك في فثيا بدلا من المجد ووفاة مبكرة وأنشودة في مسامع الرجال، لكنه لا يملك أي خيارات ولم يفعل أبدا.
ذلك هو السبب في أن مسلك أجاممنون الشنيع يزلزل نفس آخيل. فآخيل يدافع عن الحرية. إن أجاممنون يسلبه مجده عن طريق السلطة التعسفية للدولة الوليدة. لا يستطيع آخيل أن يقتله (رغم أن نفسه تراوده أن يفعل)، إن كان يود بأي حال أن يعيد سؤدده إلى سابق عهده، وأثينا تؤكد له هذا. وفي الوقت الذي يتصرف فيه أجاممنون بطريقة شائنة، يقف أصدقاء آخيل المزعومين لا يحركون ساكنا ويحدقون ببلاهة. إنهم مذنبون شأنهم شأن أجاممنون بالتآمر لسلب كل ذرة هدف من حياة آخيل.
وكونه رجلا سمته الغضب يلاحق آخيل هيكتور ويقتله. ولا يتخلى عن غضبه إلا عندما يأتي بريام إلى خيمته ، الأمر الذي يمثل حل عقدة القصة. ربما كان سيقتل بريام، بل ربما كان ينبغي عليه أن يفعل هذا؛ فها هو والد الرجل الذي قتل صديقه. ولا يقتله لأنه يرى أنهما في حزنهما متماثلان. فينتحبان معا، ويأكلان معا، ويذهب الغضب، على الأقل في تلك البرهة. وتبلغ القصة منتهاها. ليس الدرس الأخلاقي «لا تغضب» هو ما يهز مشاعرنا، وإنما مشهد رجل توصل إلى فهم حيال وحدة الحياة البشرية.
في «الإلياذة» يتصارع أرستقراطيون في لعبة الشرف، ولكن في «الأوديسة» رجل واحد، بمفرده، يواجه العالم ويواجه الموت ذاته، الموت الذي سوف يبتلع آخيل في لحظة. وينجو أوديسيوس. لا يستسلم أوديسيوس للغضب مطلقا، وإنما يبتلع مشاعر الاستياء المحتدمة، ويخطط مستعينا بالسرية ليحقق بالنصر. ويحققه بالفعل.
يمزج هوميروس بحنكة ومهارة مذهلتين، بطل الحكاية الشعبية الذي يقاتل الوحوش ويقاوم الحسناوات مع المقاتل الطروادي الذي يدمر الأعداء بواسطة البراعة العسكرية. ويحقق هذا الدمج بوضع حكايات على لسان أوديسيوس عن مجابهاته التي تتخذ طابع الحكايات الشعبية، واضعا إياها على خط واحد في السرد. ويشبهه أنطونيوس بوضوح بمنشد ملحمي يفتن الجمهور. ولعل من الأفكار المحورية الطاغية في «الأوديسة» عظمة الإنشاد ومكانته المحورية في الثقافة في حين أنه، باستثناء شخصية ثاموريس المبهمة المذكورة في «قائمة السفن»، يبدو أنه لا وجود للمنشد الملحمي في «الإلياذة» (ينشد آخيل عن «مآثر الرجال المجيدة» بمصاحبة قيثارة (الإلياذة، 9، 189)، ولكن آخيل ليس منشدا ملحميا).
تحدث المغامرات في أرض خيالية حيث لا تجري الأمور مثلما تجري في عالمنا. فعلى جزيرة سيرس لا يمكنك أن تكتشف موضع شروق الشمس وموضع غروبها. تقف أرض الفياشيين، حيث ينشد أوديسيوس المنشد الملحمي أنشودته، على أرضية مشتركة؛ فهي لا تزال مملكة خيالية بوجود حيوانات معدنية نابضة بالحياة تقف أمام الأبواب وسفن سحرية توجه نفسها ذاتيا، ولكن لا وجود لأكلة لحوم البشر والوحوش والنساء المغريات المندفعات. وأخيرا، إيثاكا هي ما يمكن أن ندعوه العالم الواقعي (رغم أنه لا يزال ثمة متسع لإلهات متنكرات). بعبارات أشمل، إن رحلة أوديسيوس تأخذه إلى داخل عالم الرموز وعالم الأشباح، ثم تعود به عبر منزل انتقالي (كوخ إيومايوس) إلى الأفعال الهمجية الرتيبة لإيروس المتسول، وميلانثيوس الوضيع، والشهوات الفجة لشبان لا يملكون الحكمة.
إن موت البطل وميلاده من جديد، كما رأينا، من الموضوعات المحورية الرئيسية في رحلة أوديسيوس إلى وسط المحيط والعودة إلى المدفأة والأهل، ولكن استطرادا يمكننا أن نقول إن رحلته هي رحلة كل الذكور. يدخل أوديسيوس إلى كهوف، ويغلبه النعاس، ويستدرج بواسطة أغنية وامرأة. ودائما ما يكون انتصاره، الذي يميزه التعرف والتلفظ باسمه، عبارة عن حياة جديدة. وفي النهاية يضع يده على امرأته ويسيطر على منزله.
يرتقب آخيل الفناء على يد الموت، وهي العاقبة المنطقية للاختيارات التي يتخذها. وهو مهووس بمغزى سلوكه ومن ثم غير عابئ بالعالم المادي، ولا بغنائم أجاممنون ولا بفدية بريام. يتحدى أوديسيوس الموت ويسعى إلى تحقيق الثراء؛ فالكنز يساوي الحياة، ويعود إلى الديار بقسط هائل منه من عند الفياشيين، ربما أكثر مما جلبه من طروادة. ورغم تلهفه على العودة، كان أوديسيوس يسعد بأن يمضي عاما إضافيا على جزيرة سكيريا، حسبما قال ذات مرة، إن كان ذلك من شأنه أن يزيد غنيمته. ومع ذلك يضع الكنز في كهف وينسى أمره تماما. فالكنز الأعظم ما زال ينتظره، وهو المنزل، بقطعانه وعبيده، ومباهج الحياة الأسرية ونفوذ السلطة الاجتماعية. ولم يكن لدى آخيل أي اهتمام عملي بمصادر الأمان.
تشكل «الإلياذة» و«الأوديسة» حقا نوعا من الوحدة الكاملة؛ فإحداهما تضع علامات استفهام حول أساس القيم التي نقبلها دون تساؤلات، والأخرى تؤكد قيم الملكية والأسرة واستمرارية الحياة. ودائما ما تملأ «الأوديسة» الفجوات في سرد «الإلياذة»، فتمنحنا نهاية القصة. فنعرف ما حدث لأجاممنون ومينلاوس ونيستور وأياس الأدنى شأنا (ابن أويليوس) وأياس الأعظم شأنا (ابن تيلامون). ونعرف بشأن موت آخيل، بل نتحدث معه عند حفرة الدماء. ونسمع قصة حصان طروادة وكيف وصلت الحرب إلى نهايتها. ونرى هيلين وقد عادت مستقرة في البيت، وما زالت تتحكم في زمام الأمور بفتنتها وعقاقيرها. فيما مضى اعتقد الباحثون أن «شاعر «الأوديسة»» كان متأثرا ب «شاعر «الإلياذة »»، وأنه شرع عن وعي في استكمال حكايته. وأفضل شاعر قادر على القيام بذلك هو هوميروس نفسه. فهو يقدم لنا في قصيدتيه رؤية متكاملة للحياة البشرية بكل ما فيها من هول وعذوبة وتعقيد.
الجزء
تلقي الملاحم الهوميرية
الفصل السابع
الملاحم الهوميرية عند الفلاسفة والشعراء
إن رؤية هوميروس الشاملة جعلت الملاحم الهوميرية هي «العمل الكلاسيكي»، والقصة الواحدة، والقصيدتين اللتين يتفق الجميع على أنهما تستحقان الدراسة. بيد أن الخصائص التي نبحث عنها، ونستمتع بها، لدى هوميروس، مختلفة نوعا ما عما وجده القدماء أنفسهم لدى الشاعر. في هذا الفصل الأخير دعونا نأخذ لمحة سريعة عن تأثير هوميروس وكيفية فهم وتفسير بعض المفكرين والشعراء اللاحقين في العالم القديم لقصائده. (1) هوميروس والفلاسفة
سبق أن أشرنا إلى انتقادات المفكر زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد، ذاك الذي بدأ تقليدا من الهوس الفلسفي بهوميروس سيستمر ألفي سنة. بعد زينوفانيس ربما بخمسين عاما أشار هرقليطس الإفسوسي (حوالي 535-475 قبل الميلاد) إلى أن «الرجال يرتكبون أخطاء فيما يتعلق بمعرفة الأشياء المنظورة ... [حتى] هوميروس، الذي كان أحكم اليونانيين» (شذرة رقم 56 بترقيم ديلز-كرانز). من وجهة نظر الفيلسوف القديم هرقليطس أن «هوميروس ينبغي أن يستبعد ويزاح من المنافسات، وبرفقته أرخيلوخوس.» كان هوميروس، ومعه هيسيود، يمثل الثقافة العتيقة الطراز، والرجعية، واللاأخلاقية التي كان الفكر الجديد لفلسفة ما قبل سقراط يكافحها. يشير هرقليطس إلى «المنافسات»، أي المسابقات الشعرية التي كان من شأن الرابسوديين فيها أن يتلوا نصوصا من الذاكرة من شعر سداسي التفعيلة في تنافس مع شعراء غنائيين مثل أرخيلوخوس (حوالي 680-635 قبل الميلاد). اعتقد هرقليطس أنه في بيئة كهذه كان التأثير السيئ للشعراء عظيما.
بعد ذلك بمائة عام نقح أفلاطون (حوالي 427-347 قبل الميلاد)، مستعينا بسقراط كناطق بلسانه، الاعتراضات الفلسفية على هوميروس، ولكنه ركز على هوميروس في قاعات الدرس وليس في المنافسات العامة. فالقصص التي تعرض الموت على أنه شر، أو تظهر قادة هم مضرب للمثل تستحوذ عليهم مشاعر جبانة من المؤكد أنها لن تلهم القادة بأن الدولة بحاجة إلى الازدهار (كتاب «الجمهورية»، 386أ-389أ). ثانيا إن تصوير هوميروس للحقيقة باطل تماما ونظريته اللاهوتية ذات ضرر مدمر (كتاب «الجمهورية»، 376ه-383أ). ومن موقفه تجاه هوميروس نما عداء أفلاطون نحو فن المحاكاة («التقليد» أو «التمثيل»)؛ فالعالم الذي تنقله حواسنا إلينا منعزل بالفعل عن العالم الحقيقي المثالي المختفي وراءه، الذي يمثل العالم الحسي إسقاطا عليه. لا يزال فن المحاكاة، الذي يستنسخ العالم الخادع الحسي، على مسافة أبعد من الحقيقة؛ كما لو أن المرء صنع فيلما بتصوير فيلم سينمائي. كيف يمكن للمرء بأي حال أن يصل إلى الحقيقة عبر فن من هذا النوع، سواء أكان شعرا أم رسما أم نحتا؟ وارتأى أفلاطون أن من الضروري استبعاد هوميروس المخادع الهمجي من المناهج التعليمية المدرسية، فيما يعد شهادة على أهميته في تلك المناهج التعليمية.
الجدير بالملاحظة أن سقراط الخاص بأفلاطون هو أول من بحث عن تأويلات فلسفية لعبارات لا ضرر منها ظاهريا في نصوص هوميروس، ومن ثم «إنقاذ» النصوص من مظهرها المضلل (ولكن مع ذلك لا بد للقصائد أن تستبعد). على سبيل المثال، في محاورة «الثئيتتس» (152ه)، يفسر سقراط بيت هوميروس «أوقيانوس، مصدر الآلهة، وتيثس الأم» (الإلياذة، 14، 201 و302) بأنه يعني أن «كل شيء ينبع من السريان والحركة»، وهو من التعاليم الرئيسة لهرقليطس، وهو أن «كل شيء في سريان دائم» (
panta rei )؛ لذا لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين. يبدو أن أفلاطون يمازح سلفه، الذي أراد استبعاد هوميروس من المنافسات، بأن يعثر على فلسفة هرقليطس ذاتها في شعر هوميروس! إن هذه الحجة تماثل حججا كثيرة ذاعت في القرن الخامس قبل الميلاد مفادها أن كلمات الشعراء تحتوي على «فكر باطني» (
hyponoia ) يمكن للمرء أن يعرضه؛ بحلول حوالي عام 525 قبل الميلاد كان شخص اسمه ثياجينيس الريجي (من مدينة ريجيوم التي كانت تقع في الطرف الأدنى لإيطاليا) قد فسر بالفعل التصويرات الهوميرية للمعارك على أنها كنايات عن اضطرابات جوية.
لم يواصل أرسطو (حوالي 384-322 قبل الميلاد) تشويه أفلاطون لسمعة هوميروس ، وإنما كان أول من جمع مجموعة من «المسائل الهوميرية» أو المعضلات، الموجهة نحو الكلمات الصعبة، ونقاط التحول في الحبكة، مصحوبة ب «حل » لكل معضلة. فقد العمل، ولكن بعضا منه ربما يكون قد بقي على هيئة ملاحظات هامشية لدى المعلقين القدماء. لقد ابتكر أرسطو نوعا جديدا من البحث، يعتبر هذا الكتاب تابعا بعيدا له، وهو التعليق الهوميري.
أنشأ زينون الرواقي (من مدينة سيتيوم في قبرص، حوالي 333-264 قبل الميلاد) المدرسة الفلسفية التي يطلق عليها اسم المدرسة الرواقية (ومن هنا جاءت تسمية اتباعها بالرواقيين)؛ لأن زينون كان يدرس في أثينا أثناء سيره جيئة وذهابا في الرواق المطلي المطل مباشرة على الساحة العامة. ونقح، إما هو وإما أتباعه، التأويل المجازي للشعر الهوميري إلى حد كبير؛ فقد اعتبروا أن الشعر الهوميري وأشعارا ملحمية أخرى، وخاصة أسماء الشخصيات الملحمية، بمثابة المستودع لحقائق عميقة عن الواقع والطبيعة البشرية، تلك التي في مقدور التأويل المجازي أن يكشفها. على سبيل المثال، عندما يقتل أبولو اليونانيين بسهامه في الكتاب الأول من «الإلياذة»، فإن المشهد في الحقيقة يصف أثر طاعون (ومكافئه السهام) انتشر عن طريق حرارة الشمس (التي تكافئ أبولو). إن هوميروس يقدم لنا «تعبيرا فلسفيا عن ظاهرة طبيعية» (حسب كاتب من القرن الثاني الميلادي، يحمل أيضا اسم هرقليطس، 16، 5). فدرع آخيل، الذي صنعه هيفايستوس، هو مجاز عن خلق الكون. الآلهة أيضا يمثلون صفات أخلاقية؛ فأثينا هي الرشد، وآريس هو الشجاعة، وأفروديت هي الرغبة. وحسب المذهب الرواقي، يمكن لاشتقاق الأسماء («التأويل الصحيح لها») أن يكشف طبيعتها الداخلية:
ترمز إيريس [من
eiro
أي «يقول»]، رسولة زيوس ومبعوثته، إلى اللغة «التي تتكلم»، مثلما أن هيرميس [من
hermeneuo «يؤول»] يرمز إلى اللغة «التي تؤول». كلاهما رسول من الآلهة، واسماهما لا يعنيان إلا ملكة التعبير عن الأفكار عن طريق الكلام. (هرقليطس، 28، 2، القرن الثاني الميلادي)
من المؤكد أن وسائل التأويل هذه تطمس المعنى الحرفي، مما يمكننا من القضاء على أي أثر للانحراف الأخلاقي من القصائد، حتى يتسنى لنا في كلا العملين أن نسمع صوتا يتكلم بسلطة أخلاقية.
ولكن التفسير الرواقي الذي غالبا ما يكون تخيليا لم يتصد حقا للاعتراضات الأفلاطونية على القصائد الهوميرية؛ لأن أفلاطون لم يرغب في أن يدخل هذه الحكايات الباطلة/التخيلية عن الآلهة إلى منهجه التعليمي «سواء أكانت مجازية أم لا» (كتاب «الجمهورية» 378د). (2) هوميروس والشعراء
لا يمكننا أن نتتبع تفصيلا التفاعل بين هوميروس وبين شعراء التفعيلة السداسية والشعراء الغنائيين الذي اتبعوه في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. أولا، إن آثار هؤلاء الشعراء هي عبارة عن شذرات ضئيلة طفيفة، ولكنها غالبا ما تكون طيبة. ثانيا لسنا متيقنين على الإطلاق مما تعنيه الإشارة إلى «قصائد هوميروس» في هذا الوقت؛ لأنه إلى جانب «الإلياذة» و«الأوديسة» نسبت قصائد عديدة إلى هوميروس، مثال ذلك بعض من «التراتيل الهوميرية» (مؤلفوها الحقيقيون مجهولون) وبعض القصائد الملحمية الأخرى.
نعلم أن زينوفانيس الأقدم (الذي كان يكتب نظما) أخذ هوميروس بجريرة فكره اللاهوتي العبثي، كما رأينا، وأن أقدم (أو شبه أقدم) كاتب نثري يوناني وهو هيرودوت (حوالي 484-424 قبل الميلاد) كان يحاول بالفعل أن يفصل الحقيقة عن الخيال في الأعمال التراثية المتعلقة بهوميروس. فهو ينكر تأليف هوميروس للقصيدة المنتمية إلى دائرة الملاحم التي يطلق عليها على نحو غامض «السبريا (الملحمة القبرصية)»، و«قصيدة أفروديت» (؟) اللتين تتناولان الأحداث التي أدت إلى ظهور «الإلياذة» (كتاب «التاريخ» لهيرودوت، 2، 117). وعلى أي حال تنسب مصادر أخرى «السبريا» إلى ستاسينوس القبرصي (أوائل القرن السابع قبل الميلاد؟) نفى هيرودوت أيضا تأليف هوميروس لقصيدة عن دمار طيبة تدعى «إبيجوني» (وتعني «التابعين»، ويطلق عليهم هذا الاسم لأنهم كانوا ينتمون إلى الجيل التالي لأولئك الذين قاتلوا في معركة السبعة الكارثية ضد طيبة: 4، 117). ولا أقل من أن ينسب أرسطو لهوميروس قصيدة هزلية ساخرة مفقودة نظمت على وزن سداسي ممزوج بأبيات إيامبية (الإيامبية هي تفعيلة ذات مقطعين أولهما قصير والثاني طويل وهكذا) وتلك القصيدة تسمى «مرجيتس» (وتعني «الأبله») نسبة إلى بطلها الأحمق (كتاب «فن الشعر» لأرسطو، القسم 1448ب). ينشأ مثل هذا الانتحال وتلك الإسنادات الباطلة مباشرة من دور هوميروس المحوري في التعليم اليوناني، ومن الجائز أن يكون ذلك منذ لحظة اختراع الأبجدية، حينما شكلت نصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، أو مقتطفات منها، على ما يبدو، أساس الدراسة. ولما كانت «الإلياذة» و«الأوديسة » أول نصوص أبجدية، وكانتا ذاتي وزن سداسي، نسبت نصوص أخرى منظومة على وزن سداسي إلى «هوميروس» بطبيعة الحال، ولكن بالقطع ليست كلها. ففي أغلب الأحيان نسبت قصائد دائرة الملاحم الست إلى آخرين: فنسبت «السبريا» إلى ستاسينوس، في حين نظم أركتينوس من ميليتس قصيدة «إثيوبيس» (قصة البطل ممنون) و«خراب طروادة» (حوالي 650 قبل الميلاد؟) ونظم لسكيس (أو: لسشيس) «الإلياذة الصغرى» (حوالي 675 قبل الميلاد؟) التي يبدو أنها تحوي قصصا مستفيضة عن نهاية المدينة، ونظم أجياس من ترويزينيا (في شبه جزيرة بيلوبونيز) «العودة للوطن» («النوستوي»، حوالي 600 قبل الميلاد؟) وتشتمل على قصة مقتل أجاممنون، ونظم يوجامون السيريني «التليجونيا»، التي تتابع من حيث تتوقف «الأوديسة» (حوالي 560 قبل الميلاد؟).
لا نعرف الكثير بشأن قصائد دائرة الملاحم؛ فقد كتب البقاء لملخصات في كتابات فيلسوف من القرن الخامس الميلادي من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة (برقلس، 412-485)، أما بخلاف ذلك فلا يصل إلينا إلا أبيات متناثرة. والأهم من كل ذلك أننا لا نعرف موقف هذه القصائد إزاء «نصوص» القصائد الهوميرية؛ فرغم ما يبدو من أنها تملأ فجوات خلفتها «الإلياذة» و«الأوديسة» في سرد الملحمة الكاملة لطروادة، ورغم أن اليونانيين أنفسهم فهموا قصائد دائرة الملاحم على هذا النحو، فمن المحتمل أن يكون بعض هذه القصائد أو كلها قد دون بمعزل عن أي معرفة بنصوص قصائد هوميروس. قد تكون قصيدة واحدة، وهي التي تعرف باسم «الإلياذة الصغرى»، قد كررت أحداثا في ملحمة «الإلياذة» الطويلة التي لا تزال باقية، ومن الممكن أن نكون متأكدين من وجود تداخلات مع قصائد أخرى من دائرة الملاحم. إننا نملك معلومات ضئيلة مما لا يسمح لنا بالتوصل إلى استنتاجات موثوقة عن العلاقة بين نصوص «الإلياذة» و«الأوديسة»، التي كتب لها البقاء، ونصوص قصائد دائرة الملاحم، التي لم يكتب لها القدر أن تصل إلى زمننا هذا.
إننا نحصل على أفضل المعلومات لدينا عن منزلة هوميروس في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد من بندار (حوالي 522-443 قبل الميلاد)، الذي بقي من مجموعة كتاباته التي كانت غزيرة فيما مضى مجموعة من القصائد ما زالت تحتفظ بأهميتها، والتي نظمت لرقص الجوقة احتفالا بالفائزين من الرياضيين. إن بندار يفصله ثلاثمائة سنة عن اختراع الأبجدية اليونانية، وفي جيله، أو في فترة قريبة منه، اختفى آخر المنشدين الملحميين. كان الشعر في زمن بندار قد صار لفترة طويلة يصاغ كتابة على ألواح من الشمع وعلى البردي. وكان يعاد إنتاج النسخة المكتوبة على البردي إلى نسخ متعددة كان أعضاء الجوقة، الذين قد يصل عددهم إلى خمسين، يحفظون منها الأغنية. ولكن تعليم بندار، شأنه شأن تعليم أي يوناني، كان يقوم على قراءة «شعر هوميروس».
يشير بندار إلى هوميروس ثلاث مرات بالاسم بينما يشير مرة واحدة إلى الهوميروسيين، سليلي هوميروس، وهي المرة الأولى التي نسمع فيها عنهم. للأسف لا نعرف أي شيء آخر عن الهوميروسيين ولا يمكننا أن نستنتج من الاسم إن كانوا ينحدرون من نسل هوميروس، أم إنهم فقط سموا بهذا الاسم تيمنا به. يتصور الغالبية أنهم كانوا يملكون نسخا قديمة من النصوص الكاملة «للإلياذة» و«الأوديسة». ربما يكون بيسيستراتوس قد اقتنى نسخا منهما في أواسط القرن السادس قبل الميلاد لمهرجانه المسمى بمهرجان عموم أثينا، الذي كانت القصائد تلقى فيه.
في إحدى القصائد («القصيدة النيمية» 7، 20-30) يستأنف بندار تقليد النقد الهوميري بتصحيحه للرواية الهوميرية صراحة؛ إذ يرى أن أوديسيوس يحوز شهرة أكثر مما يستحق «بفضل هوميروس وكلماته العذبة»، ولولا قدرة «البراعة» (Sophia)
على تضليل «القلب الأعمى» للبشر، لكانت دروع آخيل قد ذهبت إلى أياس، الذي كان يستحقها، وليس إلى أوديسيوس. يشير بندار إلى حادثة رويت في «الإلياذة الصغرى» وذكرت في مشهد العالم السفلي في الكتاب الحادي عشر من «الأوديسة»؛ إذ إن فصاحة أوديسيوس جعلته يفوز بدروع آخيل متغلبا على أياس الأقوى. وقوة الشعر، التي تشير إليها كلمة «البراعة»، وقدرته على التعتيم على الحقيقة مصرح بها بالفعل في قصيدة هيسيود «ثيوجونيا» (26-28)، حينما تدعي الميوزات امتلاكهن لنفس هذه المقدرة. ووجهة نظر بندار أن المهارة الرياضية، التي يثني عليها، ينبغي أن تسبق البراعة بالكلمات، التي يستخدمها في الثناء على المهارة الرياضية!
كانت قصائد دائرة الملاحم الأقصر، التي دونت إملاء من المنشدين الملحميين في القرنين السابع والسادس وربما حتى القرن الخامس قبل الميلاد، التي تضم موضوعات طروادية أو قصائد تدور حول خراب مدينة طيبة ذات البوابات السبع، معروفة لدى يونانيي الحقبة القديمة على نحو أفضل من «الإلياذة» أو «الأوديسة» وكانت مصدر إلهام للكثير من المشاهد المعتادة على الآنية الفخارية اليونانية ذات الرسوم. عندما قال إسخيلوس (حوالي 525-456 قبل الميلاد) إن مسرحياته كانت «شرائح من وليمة هوميروس» (أثينايوس 8، 347ه)، كان يقصد أنه كان يسرق حبكات من هذه القصائد، وليس من «الإلياذة» و«الأوديسة»، اللتين كان اهتمام إسخيلوس بهما ضئيلا. في إحدى الثلاثيات (مجموعة من ثلاث مسرحيات)، قدم إسخيلوس بالفعل للجمهور قصة نزاع آخيل، ومنحه لدروعه المرسلة من السماء، وافتداء هيكتور، ولكن لم تعتمد أي مسرحية أخرى من مسرحياته الثمانين على «الإلياذة» أو «الأوديسة». سوفوكليس ويوربيديس أيضا أخذا حبكاتهما من قصائد دائرة الملاحم ودائرة ملاحم طيبة، وليس من «الإلياذة» و«الأوديسة». ولعل أحد الأسباب وراء ذلك أن الملاحم الطويلة كان لها بالفعل مكانتها الخاصة في مهرجان عموم أثينا، والسبب الآخر أن هذه القصائد الطويلة احتوت على عدد قليل من القصص الملائمة لوضعها في قالب درامي، وهو ما لوحظ لأول مرة من قبل أرسطو (كتاب «فن الشعر» لأرسطو، القسم 1451أ).
إن المحاكاة هي إحدى مكتسبات تقليد يعرف القراءة والكتابة معرفة تامة، و«الإلياذة» و«الأوديسة» شاسعتان وهائلتا الحجم على نحو لا يشجع على المحاكاة المباشرة. ولماذا تفعل ذلك؟ لوقت طويل، لم يفعل أحد ذلك. عندما يحاكي المرء في الأدب، يكون الهدف أن يفهم القارئ أن ذلك هو ما تفعله. ثمة كلمة منمقة للدلالة على المحاكاة الهادفة هي «التناص»، التي تعني أنك عندما تقرأ كتابا، تفكر بآخر. لا يوجد «تناص» في التقليد الشفاهي؛ لأنه ليس ثمة نصوص. وأول ما نجد التناص نجده في أثينا في القرن الخامس ، حيث كان الترفيه شفاهيا ولكنه يقوم على نصوص كانت متداولة في المدارس، حيث كانت تدرس تلك النصوص وتحفظ. ولذلك كان في مقدور أرسطوفانيس، عملاق الكوميديا الأثينية القديمة، أن يضع محاكاة ساخرة لبيت شعري ليوربيديس يقال في مسرحية أديت مرة واحدة فقط قبل أعوام ويظل يتوقع أن ينتزع ضحكات جمهوره.
في القرن الثالث قبل الميلاد عاش أبولونيوس الرودسي - مؤلف ملحمة «أرجونوتيكا»، التي تتناول قصة جيسون - في عالم بالغ الصعوبة في مدينة الإسكندرية، بمصر. أحاطت الأسوار المصنوعة من الطوب اللبن بساحات البلاط الأرستقراطي حيث كان هوميروس يعزف على قيثارته وينظم إنشاده بالاستعانة بأسلوب الصياغة الشفاهية. لم يعزف الرابسوديون على أي آلة موسيقية، ولكنهم كانوا يلقون أشعارهم في المهرجانات العامة ممسكين في أيديهم عصا، أو
rhabdos
باللغة اليونانية (انظر شكل
1-7 ). كان أبولونيوس ينظم في عزلة على ألواح شمعية أو باستخدام مرقم وحبر، ثم، حسبما نظن، كان يتلو قصيدته الملحمية من بردية مدونة عليها على دوائر صغيرة من الصفوة الأثرياء، بالغي النفوذ، ممن حظوا بمستوى راق من التعليم. وكان، بقدر ما نعلم، أول رجل على مدى خمسمائة عام يشرع في محاكاة قصائد هوميروس بطريقة واعية.
في زمن أبولونيوس كانت ظروف الحياة في منطقة البحر المتوسط قد تغيرت تغيرا تاما منذ زمن هوميروس. ففيما بعد فتوحات الإسكندر (356-323 قبل الميلاد)، عاش القادة الفكريون للتراث الهيليني في أرض غريبة. كان المنشدون الملحميون قد رحلوا إلى الأبد، وكذلك الطبقات الأرستقراطية القروية التي كانوا يخدمونها. كانت الإسكندرية عاصمة واحدة من أقوى الممالك في التاريخ، وكانت غارقة في الثروة ويدفعها طموح ثقافي. وقعت قوة هائلة لا تنضب في أيدي رجال منفردين، وكان بطالمة مصر سعداء بإنفاقها على التحسين الثقافي. وفي غضون مائة عام من تأسيسها في حوالي 334 قبل الميلاد كانت الإسكندرية قد أصبحت أكبر المدن وأكثرها ثراء وثقافة في العالم. لذلك انتقل شعراء الحقبة الهلينستية العظام إلى هناك وتولوا مناصب في الموزيون، «معبد الميوزات (إلهات الإلهام)».
بالطبع تعلم أبولونيوس الرودسي، الذي كان يشغل وظيفة أمين مكتبة في الموزيون على الأرجح فيما بين عامي 270 و245 قبل الميلاد، شعره من الكتب ولم يعرف شيئا البتة عن الأصول الشفاهية لقصائد هوميروس. وتعامل مع النصوص المنقولة باعتبارها كلاسيكيات أدبية تستحق دراسة جادة ، واهتماما وثيقا، ومحاكاة قائمة على الإعجاب. ابتكر أمناء المكتبات الهلينستيون من أمثال معلم أبولونيوس، العلامة والشاعر العظيم كاليماخوس (حوالي 305-240 قبل الميلاد)، في هذا الوقت تصنيفات معاصرة للنوع الأدبي: «التراجيديا»، و«الكوميديا»، و«الملحمة»، و«الشعر الغنائي»، و«الجوقة»، و«التقليد الساخر»، إلى غير ذلك. وما زلنا نميز معظم هذه الأنواع الأدبية. احتاج أمناء المكتبات بالإسكندرية إلى أن ينسقوا على رفوفهم لفائف بردي مليئة بنصوص أدبية متنوعة جاءتهم من كل أنحاء العالم الناطقة باليونانية، اقتنيت بعطاء من الملك؛ لذا احتاجوا إلى تصنيفات يكون باستطاعتهم تجميع هذه النصوص فيها.
كانت القصائد الهوميرية عند أبولونيوس هي مصدر تعريف الملحمة كنوع أدبي؛ فهي قصيدة طويلة عن المغامرة والحرب تتدخل فيها الآلهة ويحمل فيها الأبطال نعوتا دباجية في بيت من اثنتي عشرة فاصلة مصاغ من التفعيلات الدكتيلية والتفعيلات السبوندية. تنقسم ملحمة «أرجونوتيكا» من نظم أبولونيوس، التي يبلغ طولها حوالي 6000 بيت، إلى أربعة كتب. تروي القصيدة قصة رحلة جيسون إلى مملكة كولخيس في أقصى شرق البحر الأسود لاستعادة الصوف الذهبي، وعلاقته الغرامية مع الساحرة ميديا، ومشكلاته في العودة للوطن. لا نعرف ما الذي قد جعل أبولونيوس يكتب قصيدة كتلك، ولا الكيفية التي انتشرت بها تحديدا، ولكن لا بد وأن الفكرة الرئيسة الأسطورية التي تدور حول جولات جيسون في بلاد غريبة، على غرار «أوديسة» هوميروس، اتخذت معنى جديدا لدى اليونانيين الذين يعيشون حاليا في أرض مصر الغريبة، حيث كانوا عرضة للخطر والغواية.
حسب أبولونيوس نفسه يكتب بأسلوب هوميري، وشعره، عندما يتلوه، يبدو «هوميريا»، ولكن نعوته ليست إلا نعوتا مدبجة منمقة وبالطبع لا تعكس صياغة شفاهية. إنها أدوات أسلوبية الغرض منها استحضار الطريقة الهوميرية في استعمال النعوت وإعلاء مستوى التعبير الشعري، في استدعاء للخبرة المكتسبة. كل شيء في شعر أبولونيوس مدروس ومختلق. فهو يستخدم لغة هوميروس القديمة، ثم يستحدث أساليب قديمة من عنده. ها هو مثال لملحمة أبولونيوس المستحدثة، ذات الوعي الذاتي، الحديثة، التناصية، من المشهد الذي يجابه فيه جيسون التنين العظيم الذي يحرس الصوف الذهبي:
ولكن أمامهم مباشرة كان الأفعوان بعينيه الثاقبتين اليقظتين يراهم قادمين ومد رقبته الطويلة وفح فحيحا مرعبا، وتردد الصوت على امتداد ضفاف النهر العالية وعبر الغابة اللامتناهية. سمعه أولئك الذين كانوا يعيشون في أرض كولخيس بعيدا جدا عن أرض تيتانيان أيا [حيث كان يوجد الصوف]، التي توجد بالقرب من نهر ليكوس المتدفق، النهر الذي يتشعب من عند نهر أراكسيس ذي الهدير الصاخب ويمزج مجراه المقدس بنهر فاسيس، ويتدفق كلاهما معا كنهر واحد ويصبان مياههما في البحر القوقازي. وبدافع الخوف استيقظت الأمهات الشابات، ومددن أيديهن في ذعر كأنما يدفعنه بعيدا عن أطفالهن حديثي الولادة، النائمين بين أذرعهن، وارتعدت أطرافهن من الفحيح. (أرجونوتيكا، 4، 128-138)
لعله كان مقصودا في هذا الوصف أن نتذكر عندما صاح آخيل من السور بصوت عال حتى إن اثني عشر رجلا سقطوا صرعى (الإلياذة، 18، 230)، ولكن هوميروس لم يكن ليسمح بوجود تنين في قصائده، وحتى العناصر الخيالية لرحلة أوديسيوس تروى بشكل منفصل عن صوت المؤلف، ولا نجد مطلقا مثل هذه التأثيرات المبالغ فيها. كان هوميروس يحب القوائم، التي من شأن الأسماء التي تشتمل عليها أن تكون غامضة على القارئ المعاصر في الإسكندرية؛ لذا يدرج أبولونيوس ثلاثة أنهار وبحرا واحدا غامضين وبعيدين، مستدعيا معرفة نخبوية عن جغرافيا لا يعرف بشأنها إلا قليلون. لا يدعو أبولونيوس البحر الأسود باسم البنطس، وإنما باسم أكثر «شاعرية» وهو البحر القوقازي؛ لأن جبال القوقاز تقف منتصبة عند الحافة الشرقية للبحر الأسود، كما سوف يدرك جمهور أبولونيوس المثقف. وهذا التحول المفاجئ من وصف الأنهار البعيدة، حيث كان يسمع صوت فحيح التنين، إلى رعب أمهات يحمين أطفالهن يذكرنا بأندروماك وأستياناكس، ولكن هذه الفقرة النمطية غير هوميرية إلى حد كبير في تناولها لشعور وجداني عميق، ولتأثيرها المبالغ فيه.
كذلك قدم أبولونيوس موضوعات سردية عصرية في تصويره لضعف جيسون غير البطولي وقوة ميديا غير الأنثوية. وفي حين يصف هوميروس في إسهاب شهير الدرع التي يتلقاها آخيل من السماء حتى يتمكن من قتل هيكتور، يسهب أبولونيوس في وصف عباءة جيسون (أرجونوتيكا، 1، 721-767)، التي سوف يستخدمها ليغطي نفسه وملكة ليمنوس وهما يتطارحان الغرام! (3) هوميروس في إيطاليا
يبدو أن قصائد هوميروس كانت معروفة بالفعل في إيطاليا في القرن الثامن قبل الميلاد، في غضون عقود أو حتى سنوات من إملائها على ناسخ، على الأرجح في جزيرة عوبية في اليونان. على الفور حمل العوبيون غربا الأبجدية الجديدة، التي كانت اختراعهم، ونقلوها إلى الإيطاليين الأصليين. بهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نفهم أن النقش اليوناني الأقدم للغاية، الذي يرجع إلى حوالي عام 775 قبل الميلاد (الذي هو عبارة عن بضعة حروف)، اكتشف في لاتيوم بإيطاليا (هل كانت جزءا من اسم؟) وأن النقوش الإتروسكانية الأقدم المكتوبة بالأبجدية اليونانية من شمال لاتيوم ترجع إلى سنة 700 قبل الميلاد. من منصة التنقيب العوبية على جزيرة بيثيكوساي (إسكيا الحالية) يأتي نقش «كأس نيستور»، الذي يرجع إلى حوالي 740 قبل الميلاد، وهو، كما طالعنا، ليس فقط أقدم نقش يوناني ممتد بعض الشيء (بالإضافة إلى نقش مزهرية دبيلون؛ انظر شكل
1-9 )، وإنما أول إشارة أدبية في العالم الغربي وأول شاهد على التناص. إن معنى النقش لا يكمن فيما يقوله فحسب، وإنما في علاقته الواضحة ب «نص» أسبق في الوجود قد يكون من المتوقع معرفة الجمهور له.
شكل 7-1: رسم جداري للستريجونيين وهم يقذفون جلاميد صخر وجذوع أشجار على رجال أوديسيوس، المحاصرين في الخليج. الصورة معتمة ولكن يمكنك أن تتبين خمسة قوارب من يسار مركز الرسم إلى أعلى منتصف المركز وقاربا سادسا مقلوبا في جهة اليمين من الصورة. صورت سلسلة من رسوم مماثلة مشاهد من «الأوديسة»، من منزل على هضبة إسكيلين في روما، في حوالي القرن الأول قبل الميلاد. لاحظ السفينة ثلاثية المجاديف الكبيرة في مركز الرسم. متاحف الفاتيكان. حقوق النشر محفوظة، 1990. الصورة من سكالا، فلورنسا.
بنيت المقابر الإتروسكانية التي تنتمي إلى الحقبة العتيقة (القرنين السادس إلى الرابع قبل الميلاد) لتماثل قاعات الطعام الحقيقية، وفي بعض الأحيان تحتوي بداخلها على رسوم من مشاهد هوميرية عبر أرجاء الجدران. وقد عثر علماء الآثار على رسوم تماما كهذه في منازل رومانية راقية ترجع إلى زمن أغسطس، وقد يكون ثمة استمرارية مباشرة منذ التمثيلات العتيقة (شكل
7-1 ). لا بد وأن الرسوم الإتروسكانية تعكس قصصا رويت في قاعة الندوة، ولكن لا نعرف إن كان ذلك باللغة اليونانية أو بالإتروسكية. وقد أظهر ما يكاد يكون ثورة في الدراسات الرومانية في الجيل الأخير أن الرومان أيضا كانوا منذ البداية متأثرين تأثرا شديدا بالثقافة الأدبية اليونانية، وهو ما يعني، في هذه الحالة، «الإلياذة» و«الأوديسة»، وقصائد دائرة الملاحم ودائرة ملاحم طيبة. لم يحدث قط أن اكتشف الرومان اليونانيين فجأة في مرحلة ما وتغير كل شيء، وهو ما ظل لزمن طويل رأيا تقليديا شائعا.
ومع ذلك تورد مصادرنا أنه في القرن الثالث قبل الميلاد ترجم الروماني ليفيوس أندرونيكوس (حوالي 284-204 قبل الميلاد) - الذي كان على الأرجح يونانيا من جنوب إيطاليا استعبده روماني يدعى ليفيوس بعد الاستيلاء على مدينة تارينتوم في سنة 272 قبل الميلاد - «الأوديسة» إلى اللغة اللاتينية لأول مرة. لا بد وأنها كانت نسخة مختصرة إلى حد كبير؛ كوننا نعرف أن حجمها كان مناسبا لتكتب على لفيفة منفردة. استخدم أندرونيكوس وزنا شعريا لاتينيا مرسلا يسمى الوزن الزحلي، الذي يرجح أنه سمي بهذا الاسم لأنه كان قديما قدم زحل. لسنا متأكدين بشأن منشأ الشعر الزحلي بل من كيفية عمله. فلم تكتب النجاة إلا لعدد قليل من الأبيات، ولكن ترجمة ليفيوس أندرونيكوس لملحمة «الأوديسة» هي أول قصيدة باللغة اللاتينية، على حد علمنا، على الرغم من أن أندرونيكوس كان يونانيا والقصيدة مستمدة من أصل يوناني. ليس في وسعنا إلا التكهن بشأن السبب الذي دفع أندرونيكوس لفعل شيء من هذا القبيل، ولكن من المؤكد أن أسطورة أوديسيوس كانت على صلة وثيقة بأساطير عن إيطاليا في الأزمنة الأولى، حيث كانت تدور مغامراته حسبما يعتقد. وثمة أماكن عدة في جنوب إيطاليا يزعم أنها مسماة بأسماء رجال أوديسيوس. بل إن إحدى الأساطير اليونانية كانت تحكي أن إنياس كان قد أبحر مع أوديسيوس.
لم يتمكن الباحثون من إعادة بناء مقدمات الأدب الروماني - أو بعبارة أخرى ما حدث قبل ليفيوس أندرونيكوس - ولكن لا بد أن الرومان كانوا يقرءون الشعر اليوناني ذا الوزن السداسي، استنادا إلى الرسوم الإتروسكانية وعناصر «هوميرية» أخرى في سجل الفن الروماني. إذا سلمنا بأن الطبقة الأرستقراطية اللاتينية والإتروسكانية القديمة كانت تفهم اللغة اليونانية، وهو الأمر المرجح استنادا لأسباب أخرى، يمكننا أن نعلل معرفتهم القديمة لمواد من هذا القبيل. في الواقع يبدو أن الطبقة الأرستقراطية الرومانية كانت تفهم دوما اللغة اليونانية، ومن شأن أساس التعليم باللغة اليونانية لديهم أن يكون نفس أساس التعليم في اليونان ذاتها، وهو دراسة الشاعر هوميروس، الذي تعتبر نصوصه هي الأقدم في العالم الغربي. من كان «هوميروس الروماني»؟ يتضح أن هوميروس الروماني كان هو هوميروس نفسه، على حد تعبير أحد النقاد.
على الجانب اللاتيني من الصورة في مجتمع الطبقة الحاكمة الرومانية الأرستقراطي ثنائي اللغة، الذين تعلموا لغتهم اليونانية من هوميروس والذين تكلموا اللغة اليونانية واقتبسوا عبارات هوميروس كلما سنحت الفرصة في خطبهم وكتاباتهم، وقف الشاعر العظيم فيرجيل (70-19 قبل الميلاد)، الذي كان من شأنه، على مدى ألفي عام، أن يجسد الإنجاز في النوع الأدبي الملحمي في الغرب اللاتيني البسيط ضيق الأفق، الذي ضاعت فيه المعرفة المباشرة بهوميروس في نهاية المطاف. ولكن أبولونيوس كان يماثل هوميروس في كونه نموذج فيرجيل لملحمة «الإنياذة» اللاتينية، التي تحكي قصة رحلة إنياس إلى إيطاليا بعد خراب طروادة وتأسيسه للعرق الروماني هناك. مارست التراكيب الشعرية، الراقية، المتمكنة، الرمزية، التأملية، الفلسفية، التي أحيانا ما تكون غامضة، لأمناء المكتبات/الباحثين بالإسكندرية في القرنين الثالث والثاني الميلاديين، تأثيرا قويا على الشعر الروماني على المستويات كافة عن طريق المعلمين اليونانيين الذين تدربوا في الإسكندرية، الذين قدموا إلى روما لتعليم الصفوة الرومانية. وتستحضر علاقة الروماني إنياس الغرامية مع ملكة قرطاج الفينيقية ديدو إلى الذهن علاقة جيسون مع ميديا في ملحمة أبولونيوس «أرجونوتيكا»، وهي مصاغة على غرارها. يحاكي فيرجيل أبولونيوس كذلك في ولعه بالطلاوة الأسلوبية، والتعبير الراقي، والحاجات الشعورية المتعلقة بتعليم جمهوره المثقف. إن أول كلمات «الإنياذة» هي:
arma virumque cano ...، «للسلاح وللرجل أغني»، وهي تستحضر عن قصد «الإلياذة»، التي تدور حول الحرب، و «الأوديسة»، التي أولى كلماتها باللغة اليونانية هي «رجل». يتوقع فيرجيل من جمهوره أن يلاحظ تلميحات كتلك، وهي الأولى من آلاف التلميحات في القصيدة، التي يثري الأدب الكلاسيكي المكتوب بأسره معناها التناصي؛ إذ يدعمها باعتباره إطارا وأداة توجيه لقصة رحلة إنياس عبر الماء (وهو ما يكافئ «الأوديسة») وغزو إيطاليا (وهو ما يكافئ «الإلياذة»). على السطح، وفي الترجمة الإنجليزية، تبدو «الإنياذة» وقصائد هوميروس إلى حد ما متشابهتين، وتعتمد إحداهما على الأخرى؛ فكلتاهما قصائد طويلة تدور حول موضوعات بطولية. ولكن «الإنياذة» الإسكندرية المتعمقة مختلفة اختلافا تاما بشأن ما تعنيه، والكيفية التي تعنيه بها.
لم تلهم منزلة هوميروس الكثير من الملاحم اللاتينية الأخرى مثلما فعلت منزلة فيرجيل التي كانت إلهاما لملاحم مثل «فارساليا» للشاعر لوكانوس (39-65 ميلاديا)، عن الحرب الأهلية الرومانية، وملحمة «ثيبيد» للشاعر ستاتشيوس (45-96 ميلاديا)، عن أسطورة السبعة ضد طيبة. أثناء عصر النهضة كان نموذج فيرجيل القوي مصدر إلهام لملاحم إيطالية وأكسبه حق إرشاد دانتي إلى العالم السفلي وفي الصعود إلى جبل المطهر. في إنجلترا، تحاكي أعمال من قبيل «الفردوس المفقود» لميلتون (1667) فيرجيل في الأسلوب والتقليد المتبع.
الملحمة قالب أدبي يندر وجوده في العصر الحديث، مع أننا قد نتحدث عن فيلم «ملحمي»، مثل «حرب النجوم» لجورج لوكاس، أو عن رواية «ملحمية»، مثل «الحرب والسلام» لليو تولستوي. ولكن ذلك مجاز فحسب. ومع ذلك فإن رواية «سيد الخواتم» والمؤلفات الأخرى للكاتب الرائع جيه آر آر تولكين قد تنتمي إلى هذا النوع الأدبي (رغم عدم وجود آلهة والهوبيت البطل لا يمت عن عمد للبطولة بصلة). من المدهش كيف أن أعمال كل محاكي هوميروس الواضحين، فيما عدا فيرجيل، لا تقرأ أبدا للمتعة، أو حتى تقرأ على الإطلاق إلا من قبل حفنة من الباحثين في نخبة الجامعات. في المقابل، نجد أن القصائد الهوميرية تطالع بنهم ولم يكن ذلك يحدث من قبل على نطاق أوسع من الوقت الحاضر، رغم انتزاعها من جذورها الشفاهية، ولغتها، وبيئتها. لا شك أن عظمة القصائد الهوميرية لغز، لكنه لغز نمتن له.
قراءات إضافية
إن قائمة المراجع المتعلقة بهوميروس هائلة ولا أحد يقرؤها جميعها، وكثير منها تقني أو ممل؛ لذا سأسلط الضوء فيما يلي على كتب ومصادر باللغة الإنجليزية، يسهل نسبيا العثور عليها، وسوف تعين الطالب المبتدئ على استكشاف متاهة الدراسات الهوميرية اللانهائية: أولا دراسات ذات اهتمام عام، ثم دراسات متعلقة بالقصيدتين. (1) ترجمات ونصوص
قلة هم من يقرءون كل أو حتى أجزاء كبيرة من القصائد الهوميرية باللغة اليونانية في الوقت الحاضر. ولحسن الحظ، أن اتجاها جديدا في الترجمة، بدئ في أواسط القرن العشرين في جامعة شيكاجو، أنتج عددا وافرا من الترجمات المتقنة. وتظل ترجمة ريتشموند لاتيمور التي تعود إلى عام 1951 (الإلياذة) وعام 1965 (الأوديسة) هي الأكثر هوميرية وأفضل الترجمات التي تعطي الإحساس بلغة هوميروس اليونانية المصاغة. كذلك ترجمات روبرت فيتزجيرالد أكثر حيوية وتحررا وترجمته «للأوديسة» (1961) ممتعة على وجه الخصوص. واجتذبت ترجمات روبرت فاجلس لكلتا القصيدتين («الإلياذة» 1990، «الأوديسة» 1999) الكثير من المعجبين. وثمة ترجمات جيدة أخرى لكلتا القصيدتين منها ترجمات ستانلي لومباردو («الإلياذة»: إنديانابوليس، 1997؛ «الأوديسة»: إنديانابوليس، 2000) بأسلوب أمريكي عصري مفعم بالحيوية.
ثمة كتابان جيدان يصاحبان الترجمات ويعدان الطلاب غير اليونانيين إعدادا حسنا فيما يتعلق بتعقيدات القصيدتين: كتاب جيه سي هوجان
A Guide to the Iliad, Based on the Translation by Robert Fitzgerald (نيويورك، 1979)، وكتاب آر هيكستر
A Guide to the Odyssey: A Commentary on the English Translation of Robert Fitzgerald (نيويورك، 1993).
عادة ما تقرأ النصوص اليونانية في إصدارات نصوص أكسفورد الكلاسيكية
Homeri opera (أعمال هوميروس) التي حررها تي دبليو ألين ولاحقا دي بي مونرو ونشرت في طبعات متعددة فيما بين عامي 1902 و1920. من عام 1998 إلى عام 2000 ظهر نص جديد متقن وضعه إم إل ويست، هو
Homerus Ilias (ميونخ/ليبزج)، ولسوء الحظ ليس من السهل اقتناؤه. (2) الدراسات العامة
يوجد بحثان عامان جيدان، قام بهما مجموعة من الخبراء؛ هما
A Companion to Homer
من تحرير إيه جيه بي واس، وإف إتش ستوبينجز (لندن، 1962) و
A New Companion to Homer
من تحريري أنا وآي موريس (لايدن، 1995). يعكس كتاب واس وستوبينجز بشدة ما اصطلح على تسميته علم الآثار الهوميري، وهو العلاقة بين الاكتشافات الأثرية من العصر البرونزي، الذي يعتبر عالم هوميروس، والقصائد. ونحن في الوقت الحالي نعتقد أن عالم هوميروس هو القرن الثامن قبل الميلاد. وبالرغم من ذلك فهذه الدراسات مثيرة للاهتمام، وتوجد مقالات ممتازة عن المسألة الهوميرية وشروح تقنية للغة الهوميرية. أما كتاب موريس وباول فهو كتاب عصري يحوي مقالة عن كل موضوع تقريبا، مع اهتمام أقل بالدراسات الأثرية واهتمام أكثر بالدراسات الأدبية والثقافية والتاريخية. ويعد الكتاب الحديث
Cambridge Companion to Homer (كامبريدج، المملكة المتحدة، 2004)، من تحرير روبرت فاولر، أقل تكلفة بكثير، ولكنه متفاوت الجودة ويشتمل على معلومات تاريخية أو أثرية قليلة؛ فالمحرر يضع هوميروس في عصر مغلوط، مما يعطي المشروع بأكمله منظورا خاطئا. توجد مقالات جيدة عن السمات الأدبية لدى هوميروس والمحاكين له في كتاب جيه إم فولي الحديث والمنقح
A Companion to Ancient Epic (أكسفورد، 2005)، الذي يتضمن استعراضات بارعة للتقليد الملحمي خارج اليونان، في الشرق الأدنى وروما. (أدين بفضل لمقالة لويل إدموندز في هذه المجموعة التي تحمل اسم «الملحمة والأسطورة»، في مناقشتي للحكاية الشعبية في القصائد الهوميرية.)
كتاب جي إس كيرك
The Songs of Homer (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1962)، الذي اختصر في كتاب
Homer and the Oral Tradition (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1976)، هو نظرة عامة للنقد الهوميري تتسم بشموليتها وإن كانت أحيانا ثقيلة ومليئة بالحشو كما أنها في الوقت الحاضر تعد قديمة نوعا ما. أما كتاب إتش فرانكل،
Early Greek Poetry and Philosophy ، الذي ترجمه إم هاداس وجيه ويليز (نيويورك، 1973) فيستعرض المنشدين وملاحمهم، ولغتهم، وشعرهم، وأسلوبهم، وآلهتهم، وموضوعات أخرى. وفي كتابه
Conventions of Form and Thought in Early Greek Poetry (بالتيمور، 1984) يدخل دبليو جي ثالمان هوميروس في سياقات أوسع فيما يتعلق بالشعر القديم.
تقدم دراسات عامة كثيرة تلخيصات للحبكة، ولكنها تتبع خطوطا متشابهة. يحدد كتاب سي ويتمان
Homer and the Heroic Tradition (كامبريدج، ماساتشوستس، 1958) أنماطا معقدة للنظم الدائري والتقديمات المتوازية للموضوعات الرئيسية داخل «الإلياذة»، ذاك الذي يضاهيه بالشعر الهندسي. يضفي سي آر بي، في كتابه
Ancient Epic
(إيثاكا، نيويورك، 1993)، حكمة وخبرة على دراسة التقليد الملحمي اليوناني الروماني. وثمة رؤية عامة موجزة لقصائد دائرة الملاحم في كتاب إم ديفيز،
The Epic Cycle (بريستول، 1989). يحسن بي توهي في كتاب
Reading Epic: An Introduction to the Ancient Narratives
تناول النوع الأدبي ويدرج فصلا عن ملحمة أبولونيوس أرجونوتيكا (لندن، 1992). كان كتاب جي ناجي
The Best of the Achaeans: Concepts of the Hero in Archaic Greek Poetry (بالتيمور، 1979) فيما مضى مقروءا على نطاق واسع، إلا أنه يوظف طريقة اشتقاق غير مناسبة ويسيء فهم النظرية الشفاهية. تعاني كتابات ناجي وأنصاره من قالب تنعدم فيه الدقة فيما يتعلق ببنية النصوص الهوميرية، مع رفضها المرجعية التاريخية وتفضيل «بلورة» ميكانيكية للقصائد بداع من «تقليد» مجرد. (3) التعليقات
توجد تعليقات حديثة العهد على كل بيت بالتتابع باللغة الإنجليزية لكلتا القصيدتين. فيما يتعلق ب «الإلياذة»، قام جي إس كيرك بدور محرر عام لتعليق ضخم من ستة كتب، وهو
The Iliad: A Commentary (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1985-1993) مع كتب من تأليف كيرك، وجيه بي هاينزورث، وآر جانكو، وإم إدواردز، وإن ريتشاردسون. يحتوي كل كتاب على مقالات تمهيدية جيدة، على الرغم من أن تصور كيرك عن وجود نص شفاهي «محفوظ عن ظهر قلب» محض خيال. أما فيما يتعلق ب «الأوديسة»، فيوجد كتاب
Commentary on Homer’s Odyssey (أكسفورد، 1988-1992) مع مساهمات من قبل إيه هويبيك، وإس ويست، وجيه بي هاينزورث، وإيه هويكسترا، وجيه روسو، وإم فرنانديز-جاليانو، وهو كتاب جيد رغم أنه أحيانا ما يستخدم على نحو يبعث على الاستغراب أسلوبا عفا عليه الزمن. أما تعليق دبليو بي ستانفورد، رغم قدمه، فدائما ما يكون مفيدا: «الأوديسة»، الطبعة الثانية (لندن، 1959)، من مجلدين. كتاب آي دي جونج
A Narratological Commentary on the Odyssey (كامبريدج، المملكة المتحدة، 2001) هو دراسة لكل بيت بالتتابع فيما يتعلق بالفن السردي، والشخصية، والحبكة، والمشهد النمطي. (4) تاريخ النص
يعرض إم هالسام تاريخا رائعا للنص الأول في مبحث
Homeric Papyri and the Transmission of the Text «البرديات الهوميرية وانتقال النص» في كتاب موريس/باول
A New Companion to Homer ، الصفحات 55-100. كتاب إم إل ويست
Studies in the Text and Transmission of the Iliad (ميونخ/ليبزج، 2001)، من تأليف أحد العلماء البارزين، هو دراسة شاملة عصرية. كتاب آر جانكو المؤثر
Homer, Hesiod and the Hymns: Diachronic Development in Epic Diction (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1982) يعين تاريخا حوالي 730 قبل الميلاد لملحمة «الإلياذة»، وتاريخا لاحقا قليلا لملحمة «الأوديسة» (كلا التاريخين من المرجح أن يكون متأخرا جدا). (5) المسألة الهوميرية، باري/لورد
تمثل لغة إف إيه وولف اللاتينية من القرن الثامن عشر تحديا، ولكن لحسن الحظ أنه توجد ترجمة إنجليزية حديثة هي
Homer ، التي ترجمها إيه جرافتون، جيه دبليو موست، وجيه إي جي زيتزل (برينستون، 1985)، مع مقدمة جيدة تبين ما يدين به وولف لعلماء الكتاب المقدس المعاصرين.
جمع آدم باري، ابن ميلمان باري، أوراق والده البحثية معا في كتاب إم باري (من تحرير إيه باري)،
The Making of Homeric Verse: The Collected Papers of Milman
(أكسفورد، 1971؛ أعيدت طباعته في نيويورك، 1980). تعد كتابات ميلمان باري تحليلا تقنيا بارعا للغة، ولكنك تحتاج إلى الإلمام باللغة اليونانية. ربما تكون مقدمة إيه باري لهذا المجلد هي أفضل مقدمة قصيرة لما كان ميلمان باري يحاول أن يقوله. المقدمة مدرجة في كتاب آدم باري
The Language of Achilles and Other Papers ، مع تقديم كتبه بي إتش جيه لويد جونز (أكسفورد، 1989)؛ يحتوي هذا الكتاب أيضا على مقالة إيه باري البحثية المهمة «هل لدينا «إلياذة» هوميروس؟» التي تبين أنه لا يمكن أن يكون ثمة وسيط بين كلمات الأنشودة كما أنشدها هوميروس وبين النص الذي بين أيدينا في الوقت الحاضر.
يعاد إصدار كتاب إيه بي لورد المبدع
The Singer of Tales (كامبريدج، ماساتشوستس، 1960) مع قرص مدمج رائع ثابت المحتوى يستعرض صورا متعددة للجوسلاري، بل مقطع فيلمي لعبدو مجيدوفيتش وهو ينشد (الطبعة الثانية، من تحرير إس ميتشيل وجي ناجي؛ كامبريدج، ماساتشوستس، 2000). توضح كتب عديدة من تأليف جيه إم فولي، تابع لورد، الوضع المعاصر للنظرية الشفاهية/الصياغية، على سبيل المثال كتاب
The Theory of Oral Composition: History and Methodology (بلومنجتون، 1988)، أو كتاب
Traditional Oral Epic: The Odyssey, Beowulf and the Serbo-Croatian Return Song (بيركلي، 1990)، أو كتاب
Homer’s Traditional Art (جامعة يونيفرستي ستيشن، بنسيلفانيا، 1999).
يدفع كتاب
Archery at the Dark of the Moon
من تأليف إن أوستن (بيركلي، 1975) بعدم مقبولية الانطباع القائل بأن الصيغ آلية ومن دون مضمون دلالي. ويحاول إم إن ناجلر التعامل مع معضلة الصيغة المتعذر تعريفها في كتاب
Spontaneity and Tradition: A Study in the Oral Art of Homer (بيركلي، 1974) بافتراضه أنها تستخدم «جشتالت» (شكلا أو نمطا) لا شعوريا، على نحو يشبه كثيرا اللغة العادية.
بعض مواد باري الميدانية منشورة في كتاب
Serbo-Croatian Heroic Songs (كامبريدج، ماساتشوستس وبلجراد، 1953) من تحرير إم باري، وإيه بي لورد، ودي إي باينوم، الذي يحتوي على الأنشودة الشعبية
The Wedding of Smailagić Meho ، لعبدو مجيدوفيتش، التي توازي في طولها «الأوديسة». تقدم أوصاف الجوسلاري وتدوينات لمحاورات معهم معارف لا تقدر بثمن. (6) الخلفية التقنية، الأبجدية
يحتوي كتاب آر باركنسون وإس كويرك،
(أوستن، 1995)، على معلومات تاريخية مباشرة عن البردي. وتتأكد أهمية الطين كركيزة في كتاب إي كييرا، الذي حرره جي كاميرون،
They Wrote on Clay: The Babylonian Tablets Speak Today (شيكاجو، 1956)، كإحدى أفضل المقدمات إلى موضوع الكتابة في بلاد ما بين النهرين.
ولعل الدراسة النموذجية للكتابة، التي لم تتفوق عليها دراسة أخرى قط، هي كتاب آي جيه جيلب
A Study of Writing (شيكاجو، 1963). أما كتاب إيه روبنسون،
The Story of Writing (نيويورك، 1999) فهو نظرة عامة جيدة حديثة. سوف يظهر التحديث الذي أضفته على هذه المادة العلمية في هيئة كتاب
Writing (أكسفورد، 2008). وأفضل كتاب عن النقوش السامية الغربية هو كتاب جيه نافيه
Early History of the Alphabet (أورشليم القدس ولايدن، 1982)، وهو أيضا نمطي في الالتباس القائم لديه حول علاقة الأبجدية اليونانية بالأنظمة المقطعية السامية الغربية الأقدم.
حدد آر كاربنتر وسيلة تحديد تاريخ اختراع الأبجدية اليونانية في مقال بارز هو «قدم الأبجدية اليونانية»، في دورية «أمريكان جورنال أوف أركيولوجي» العدد السابع والثلاثين (1933)، الصفحات 8-29. يعتقد كثيرون من علماء السامية (مثل نافيه)، الذين يطلقون على الكتابة السامية الغربية «أبجدية»، أن الانتقال يمكن أن يكون قد حدث في أي وقت تقريبا، وحتى في العصر البرونزي.
لقد كنت مهتما منذ وقت طويل بالعلاقة بين تاريخ الأبجدية اليونانية وتاريخ النصوص الهوميرية، الأمر الذي تجسد أفضل تجسيد في كتابي
Homer and the Origin of the Greek Alphabet (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1991)، الذي أدفع فيه بأن الأبجدية اليونانية وضعت لإنشاء هذه النصوص. وقد توصلت إلى هذه الأطروحة على نحو مستقل، ولكن توقعها جزئيا العالم البريطاني إتش تي ويد-جيري في كتاب
The Poet of the Iliad (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1952)، وهو كتاب قصير يشتمل على تأويلات مبتكرة. في كتابي
Writing and the Origins of Greek Literature (كامبريدج، المملكة المتحدة، 2002) أبحث في منزلة القصائد الهوميرية ضمن نظرية وتاريخ الكتابة. (7) هوميروس والتاريخ
من الكتب المهمة التي أيدت طرح «انتماء هوميروس للعصر البرونزي» كتاب إم بي نيلسون،
Homer and Mycenae (لندن، 1933)، وكتاب تي بي إل ويبستر،
From Mycenae to Homer (لندن، 1958). بذكاء يقارن كتاب جيه في لوسي،
Homer and the Heroic Age (لندن، 1975)، القصائد بالمعطيات الأثرية، برسوم توضيحية ممتازة. ويمزج كتاب دي إل بيج البارع (ولكن كثيرا ما يساء تأويله)
History and the Homeric Iliad (بيركلي، 1959) ما بين الأدلة الأثرية والوثائقية وبين الاستقصاء المبتكر فيما يتعلق بفقه اللغة. ولعل أفضل تلخيص للمشكلة هو الفصل الذي كتبه جيه بينيت بعنوان «هوميروس والعصر البرونزي»، في كتاب موريس/باول (1997، انظر أعلاه)، الصفحات 511-534. أخرج كتاب إم آي فينلي
The World of Odysseus
الطبعة الثانية (لندن، 1977)، عالم هوميروس من العصر البرونزي وأدخله في القرنين التاسع والعاشر. كما كتب آي موريس مقالا عظيم الأثر وضع عالم هوميروس في فترة لاحقة، وهي القرن الثامن قبل الميلاد، في مقال بعنوان «استخدام وإساءة استخدام هوميروس»، العدد السادس من دورية «كلاسيكال أنتكويتي» (1986) الصفحات 81-138، وهو استدلال مقبول لدى الغالبية العظمى. لخص جيه لاتاكز - وهو عالم بارز في فقه اللغة عمل مع مانفريد كورفمان، المنقب الراحل عن طروادة (توفي سنة 2005) - العلاقة بين الاكتشافات الأثرية والمسألة التاريخية المتعلقة بوقوع حرب طروادة من عدمه في كتاب
Troy and Homer: Towards a Solution of an Old Mystery (ترجمه كيه ويندل وآر أيرلند، أكسفورد، 2004؛ نشر أول مرة تحت اسم
Troia und Homer ، 2001).
كتاب
The Development of the Polis in Archaic Greece (لندن، 1996) هو مجموعة جيدة من المقالات البحثية عن تطور «الدولة المدينة» من تحرير إل ميتشل وبي جيه رودس، وبخاصة مقالة كيه رافلاوب «تطور «الدولة المدينة» اليونانية الأولى». وتوجد مقالة جيدة عن عصر التوسع الاستعماري كتبها جيه جراهام تحت اسم «التوسع الاستعماري لليونان»، من كتاب
Cambridge Ancient History ، المجلد الثالث، الطبعة الثانية (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1982)، الصفحات 83-162. أما كتاب جيه بوردمان
The Greeks Overseas ، الطبعة الثانية (لندن، 1980)، فهو استعراض عام جيد. يضع كتاب آي مالكين
The Returns of Odysseus (بيركلي، 1999) القصيدة في سياق الاستعمار الغربي ويسوق الحجج بأن أواخر القرن التاسع قبل الميلاد هو الزمن الذي تنتمي إليه قصائد هوميروس، وهو زمن أعتبره أنا أيضا محتملا.
كان للعوبيين، المستعمرين الأوائل لليونان، دور خاص في تشكيل النصوص الهوميرية. فيما يتعلق بدفن المحارب في ليفكاندي، طالع مقالة إم آر بوفام، وإي تولوبا، وإل إتش ساكيت، «بطل ليفكاندي»، بالعدد 56 من دورية «أنتكويتي» (1982)، الصفحات 159-164. الأدلة على اللهجة العوبية في القصائد الهوميرية موجودة في مقالة إم إل ويست «نشأة الملحمة اليونانية»، بالعدد 108 من دورية «جورنال أوف هيلينيك ستاديز» (1988)، الصفحات 151-172. يوجز دي ريدجواي الأدلة على الاستكشاف العوبي في إيطاليا في القرن الثامن قبل الميلاد، الذي تدين له «الأوديسة» بالكثير، في كتاب
The First Western Greeks (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1992). ويعد كتاب أو موراي
Early Greece ، الطبعة الثانية (لندن، 1993)، ممتازا بوجه عام للحصول على خلفية اجتماعية وتاريخية ويؤكد على أهمية العوبيين كقادة ثقافيين يونانيين في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد. من المقالات ذات الأهمية أيضا مقالة جيه بي كريلارد البحثية
Homer, History, and Archaeology «هوميروس، التاريخ والآثار» في كتابه
Homeric Questions (أمستردام، 1995)، الصفحات 201-288، الذي يحتوي على مقالات بحثية ممتازة أخرى كتبها باحثون آخرون (ولكن باللغة الفرنسية).
لا يزال كتاب إتش إل لوريمر
Homer and the Monuments (لندن، 1950)، الذي يميل إلى انتماء هوميروس إلى العصر البرونزي، يعد دراسة مهمة تضاهي هوميروس بالثقافة الملموسة. ولديها فصل عن «الأسلحة والدروع» (الصفحات 132-335)، هو عبارة عن تحليل تفصيلي للأدلة حتى عام 1950 ونقطة انطلاق للكثير من النقاش اللاحق باللغة الإنجليزية. يتناول إيه إم سنودجراس أسلحة مرحلة ما بعد العصر البرونزي في كتابه
Early Greek Armour and Weapons: From the End of the Bronze Age to 600BC (إدنبرة، 1964)، ويشتمل على فصول منفصلة عن العناصر المختلفة للدروع الواقية ومناقشة للأدلة الأدبية. ومن الكتب الممتازة عن الحرب بوجه عام كتاب إتش فان وييس،
Status Warriors: War, Violence, and Society in Homer and History (أمستردام، 1992)، وكتاب
Greek Warfare: Myth and Realities (لندن، 2004)، رغم أنه يضع قصائد هوميروس في حقبة زمنية متأخرة. وفيما يتعلق بالمجتمع الهوميري، الذي درس من وجهات نظر مختلفة، من الأفضل الرجوع إلى كتاب دبليو دونلان،
The Aristocratic Ideal and Selected
(واكوندا، إلينوي، 1999). (8) هوميروس والفن
رسخ كتاب كيه فريز يوهانسن
The Iliad in Early Greek Art (كوبنهاجن، 1967) غلبة الموضوعات المأخوذة من شعراء دائرة الملاحم في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد على الموضوعات المأخوذة من «الإلياذة» و«الأوديسة». كتاب إيه إم سنودجراس
Homer and the Artists: Text and Picture in Early Greek Art (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1998) هو عبارة عن دراسة استقصائية وافية حديثة، لكنها مفرطة في الإحجام عن الربط بين الفن والنص. في كتابي
Writing and the Origins of Greek Literature (كامبريدج، المملكة المتحدة، 2002) أبين كيف ألهمت التصويرات الشرقية أساطير جديدة في اليونان، مما يجعل فهم العلاقة بين الأسطورة والفن أمرا غاية في التعقيد. كتاب
The Odyssey in Ancient Art: An Epic in Word and Image (أنانديل أون هدسون، نيويورك، 1992) من تحرير دي بويترون وبي كوهين، يجمع صورا قديمة متعلقة ب «الأوديسة»، مع مقالات قيمة. ويوجد كتابان تكميليان هما كتاب إم جيه أندرسون
The Fall of Troy in Early Greek Poetry and Art (أكسفورد، 1997)، الذي يعنى بالاستلهام الشعري من مصادر عدة، وكتاب إس وودفورد
The Trojan War in Ancient Art (إيثاكا، نيويورك، 1993)، الذي يوجز أدلة معقدة فيما يتعلق بهذا الموضوع الشائع. (9) الشرق الأدنى
مديونية اليونان لأدب الشرق الأدنى هو مبحث قديم، بيد أن كتاب دبليو بوركيرت
The Orientalizing Revolution: Near Eastern Influence on Greek Culture in the Early Archaic Age ، ترجمة إم إي بندر (هارفرد، 1992)، وكتاب إم إل ويست الجامع
The East Face of Helicon: West Asiatic Elements in Greek Poetry and Myth (أكسفورد، 1997)، أحد أهم الكتب في دراسات الأدب الإغريقي في الجيل الماضي، يمتلكان قدرة فريدة على الإقناع. ويعد كتاب إس دالي
Myths from Mesopotamia (أكسفورد، 1989) وكتاب بي آر فوستر
The Epic of Gilgamesh (نيويورك، 2001) مقدمتين وترجمتين فائقتين لملحمة «جلجامش». يمكن العثور على ترجمات للأساطير الأوغاريتية في كتاب
The Context of Scripture: Canonical Compositions from the Biblical World (لايدن، 1997) تحرير دبليو دبليو هالو وكيه لاوسون يانجر جونيور، وفي الطبعة الثالثة من المجموعة الكلاسيكية
Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament (برينستون، 1969) من تحرير جيه بي بريتشارد. ثمة كتب حديثة جيدة كثيرة عن الفينيقيين، من ضمنها كتاب إم إي أوبت
The Phoenicians and the West ، ترجمة إم تورتون (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1993). (10) الدين
الخلفية الأساسية للدين عند هوميروس يمكن أن نجدها في كتاب دبليو بوركيرت
Greek Religion ، ترجمة جيه رافان (كامبريدج، ماساتشوستس، 1985)، وثمة مادة علمية مهمة في كتاب بوركيرت
Structure and History of Greek Mythology and Ritual (بيركلي، 1979). يحوي كتاب جيه جريفن
Homer on Life and Death (أكسفورد، 1980) فصولا قوية عن الدين بالإضافة إلى مواد علمية تأويلية أخرى مثيرة للاهتمام. (11) القراء، الأسلوب، التشبيهات
يصف كتاب إتش كلارك
Homer’s Readers: A Historical Introduction to the Iliad and the Odyssey (نيوآرك، 1981) كيفية تلقي القصائد الهوميرية منذ القدم إلى زماننا الحاضر، وفي المقام الأول كيفية تلقي النقاد لها، وليس الفنانين المبدعين. معظم الكتب العامة التي تتناول هوميروس (انظر أعلاه) تناقش الأسلوب عند نقطة ما. ومن المقالات القصيرة المعروفة حول أسلوب هوميروس مقالة «ندبة أوديسيوس»، التي تشغل الفصل الأول من كتاب إي آورباخ المشهور
Mimesis (نيويورك، 1954)، الصفحات 1-19؛ حيث يذهب إلى أن الأسلوب الهوميري يتسم بالوصف الخارجي، وبالمعنى المتجلي مع وضع الإطار الزمني في مقدمة الصورة، وبانعدام وجود تطور للشخصيات، وبالاستعانة بالمصادر الأسطورية على حساب التاريخية، وبالمنظور الاجتماعي المنحصر في الطبقة الأرستقراطية. كتاب إس فايل
The Iliad or the Poem of Force
مقروء على نطاق واسع باعتباره دراسة في الصراع المدمر، ونشر باللغة الفرنسية في عام 1940 (ترجمة إم مكارثي، نيويورك، 1945). وإذ كتبت بينما كانت جيوش هتلر تزحف، فإن الدراسة عن شاعر أوروبا الحربي الأول تفوح منها رائحة حرب أوروبا العظمى.
يعد إي باكر من المعلقين المعاصرين المبدعين، بنهج لغوي، فيما يتعلق أسلوب هوميروس، رغم أن عمله يمكن أن يكون تقنيا. ويمكن الرجوع إلى مجموعته المنقحة التي اشترك معه فيها إيه كاهين،
Written Voices, Spoken Signs: Tradition, Performance, and the Epic Text (كامبريدج، ماساتشوستس، 1997)، التي تتضمن قائمة مراجع إضافية، أو إلى مقاله الممتاز في كتاب موريس/بأول سالف الذكر.
توجد دراسة جيدة عن التشبيه في كتاب سي مولتون،
Similes in the Homeric Poems (جوتنجن، 1977)، التي تذهب إلى أن التشبيهات أكثر من مجرد زخرف أو تلطيف، وإنما في واقع الأمر مزيد من السرد. كما يعد كتاب روث سكوديل
Listening to Homer: Tradition, Narrative, Audience (آن آربر، ميشيجان، 2002) جيدا فيما يتعلق بالكيفية التي يمكن أن تكون هذه القصائد قد أديت بها. (12) الإلياذة
استكشف العديد من الدراسات الممتازة الجوانب الأدبية للقصيدة. ويجمع كتاب
Homer’s The Iliad (نيويورك، 1987)، من تحرير إتش بلوم، دراسات قصيرة قام بها باحثون بارزون. كتاب إم إس سيلك
Homer: The Iliad (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1987) هو مقدمة موجزة ومعقولة. كتاب إي تي أوين
The Story of the Iliad (تورنتو، 1946) يصف تماما ما يحدث في السرد، وإن لم يكن دوما جليا. أما كتاب إم إدواردز
Homer: Poet of the Iliad (بالتيمور، 1988) فهو عبارة عن مقدمة متقنة مع شروحات لكل كتاب من كتب «الإلياذة» بالترتيب وقائمة مراجع شاملة.
يستكشف كتاب جي إيلس
Aristotle’s Poetics: The Argument (كامبريدج، ماساتشوستس، 1963) بتعمق ما كان أرسطو يعنيه بالحبكة. فيما يحذو كتاب جيه إم ريدفيلد
Nature and Culture in the Iliad: The Tragedy of Hector (شيكاجو، 1975) حذو أرسطو في التركيز على الحدث (الاحتمالية المنطقية أو ضرورة التطورات في الحبكة) وليس على الشخصية. وهو يعتقد أن فرضيات تأويل الحدث تعتمد على الطبيعة والثقافة والعلاقة المتبادلة فيما بينهما، وأن آخيل وهيكتور يكابدان مآسي تبين ضعف وقابلية البطل للتأثر على مستوى الحد الفاصل بين الطبيعة والثقافة.
كتاب إيه دبليو إتش آدكنز
Merit and Responsibility: A Study in Greek Values (شيكاجو، 1960) هو معالجة قوية للأخلاقيات الهوميرية وضعت أساسا للمزيد من النقاش. يمكن أن نجد استعراضا واسعا للموضوعات الرئيسة في «الإلياذة» في كتاب إس شاين
The Mortal Hero (بيركلي، 1984). تعبر مقالات قصيرة من تحرير جيه رايت تعبيرا جيدا عن النقد الأنجلو أمريكي، وهي بعنوان:
Essays on the Iliad (بلومنجتون، 1978). ويتضمن كتاب
Homeric Soundings: The Shaping of the Iliad
من تأليف أو تابلين العديد من الرؤى عن البنية والمعنى. أما كتاب آر مارتن
The Language of Heroes: Speech and Performance in the Iliad (إيثاكا، نيويورك، 1989)، فيشتمل على مناقشة للخطاب المستخدم كوسيلة للظفر بالنفوذ في المجتمع الهوميري. يقدم كتاب
The Rape of Troy ، من تأليف جيه جوتسشال (كامبريدج، المملكة المتحدة، 2007)، حجة دامغة تربط السلوك الهوميري بالأنماط البيولوجية.
أولئك الذين يستمتعون بصور إعادة الصياغة التخيلية للملحمة الطروادية سوف يجدون متعة في كتاب سي وولف
Cassandra ، الذي ترجمه من الألمانية جيه فان هيورك (نيويورك، 1984)، وهو إعادة صياغة لملحمة «الإلياذة» من منظور نسائي على يد المتنبئة المحتقرة؛ وأيضا في الملحمة الفكاهية الساخرة
The War at Troy: A True History (فيلادلفيا، 2006)، وهي من تأليفي. (13) الأوديسة
في العالم القديم كانت «الإلياذة» أكثر شهرة بكثير من «الأوديسة»؛ فشذرات البردي التي تتضمن «الإلياذة» التي عثر عليها في مصر تعادل ثلاثة أمثال نظيرتها التي تحتوي على «الأوديسة». لعل الذوق الحديث يفضل «الأوديسة» بسبب ما تشتمل عليه من فكرة قوية عن الصراع والتسوية بين الجنسين، ولابتعادها عن مشاهد القتال الممل الطويلة. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة كتب رائعة كثيرة عن «الأوديسة» ولا تزال مستمرة في الظهور. كتاب جيه جريفن
Homer: The Odyssey (كامبريدج، المملكة المتحدة، 1987)، بالتوازي مع كتاب إم سيلك عن «الإلياذة» (المذكور أعلاه)، يغطي جانب التمهيد. كتاب إس في ترايسي
The Story of the Odyssey (برينستون، 1990) مكتوب بالتوازي مع تلخيص إي تي أوين «للإلياذة» (المذكور أعلاه) وبالقدر ذاته من الجودة.
كتاب دبليو جيه وودهاوس
The Composition of Homer’s Odyssey (أكسفورد، 1930)، هو كتاب قديم ولكنه واحد من أفضل الكتب عن «الأوديسة»، وهو يركز على عناصر التراث الشعبي. كتاب دي إل بيج
The Homeric Odyssey (أكسفورد، 1955) وكتاب
Folktales in Homer’s Odyssey (كامبريدج، ماساتشوستس، 1973) يكشفان عن مادة رائعة، على الرغم من أن بيج؛ كونه محللا، لا يفهم المغزى تماما أبدا.
وتوجد كتب أخرى ذات اهتمام عام، منها كتاب إيه ثورنتون،
(لندن، 1970)، الذي يحوي العديد من الرؤى، وكتاب إس مورنجان،
Disguise and Recognition in the Odyssey (برينستون، 1987)، الذي يعد دراسة مفيدة لهذه الآلية المحورية للسرد. كتاب جيه إس كلاي
The Wrath of Athena: Gods and Men in the Odyssey (برينستون، 1983) هو كتاب يتسم بالقوة فيما يتعلق بالعلاقات بين ما هو إلهي وما هو فان في الأوديسة. ويربط سي دوجيرتي في كتاب
The Raft of Odysseus: The Ethnographic Imagination of Homer’s Odyssey (أكسفورد، 2001) «الأوديسة» بالحياة الاجتماعية والاقتصادية السريعة التغير للقرن الثامن قبل الميلاد. كتاب إس شاين
Reading the Odyssey. Selected Interpretive Essays (برينستون، 1995) يحتوي على مقالات قصيرة لنقاد مهمين، بعضها مترجم إلى الإنجليزية للمرة الأولى.
استلهمت دراسات جديرة بالاهتمام عن الأدوار والعلاقات الجنسية من موضوع الصراع الجنسي، على سبيل المثال كتاب
The Distaff Side: Representing the Female in Homer’s Odyssey (أكسفورد، 1995) من تحرير بي كوهين. ويمزج كتاب نانسي فيلسون روبن
Regarding Penelope: From Character to Poetics (برينستون، 1994) النقد الموجه نحو الجمهور بالتحليل السيكولوجي لدراسة شخصية بينيلوبي.
حددت «الأوديسة» الصورة الذاتية للغرب بأنه الباحث المستكشف للمجهول، وكانت مصدر إلهام لعدد لا يحصى من صور إعادة الصياغة الأدبية. ويعد كتاب دبليو بي ستانفورد
The Ulysses Theme: A Study in the Adaptability of a Traditional Hero (أكسفورد، 1963) بيانا جيدا. وللمزيد من المعالجات الحديثة، هناك كتاب إتش بلوم الأقصر كثيرا
Odysseus/Ulysses (نيويورك، 1992). (14) الملاحم بعد هوميروس
لعل أفضل طرح منفرد هو كتاب دي فيني
The Gods in Epic:
(أكسفورد، 1991). وفيما يتعلق بتلقي ملحمتي هوميروس، طالع مجموعة المقالات البحثية في كتاب
Homer’s Ancient Readers: The Hermeneutics of Greek Epic’s Earliest Exegetes (برينستون، 1992) من تحرير آر لامبرتون وجيه جيه كيني. وأدين بالكثير فيما يتعلق بمسألة التلقي لتفسيرات آر لامبرتون في هذا المؤلف ومؤلفات أخرى.
Bog aan la aqoon