يبدو أن العلماء/الشعراء/المحررين الإسكندريين بخاصة هم الذين عكسوا عملية إضافات النساخ على النص بحذف الأبيات الدخيلة لوضع النص الشائع. ومع ذلك فما نعرفه بالفعل عن جهدهم لا يجعل من الميسور فهم الكيفية التي وقع بها هذا التوحيد القياسي. من التعليقات على هوامش النصوص نعرف أن العلماء الإسكندريين ابتكروا العديد من الرموز التي ما زالت تستخدم إلى يومنا هذا، ومن ضمنها رمز «أوبيلوس»، وهو عبارة عن علامة مرجعية على شكل خط في الهامش الجانبي (− أو ÷) للتدليل على أن الأبيات المشار إليها مشكوك فيها لسبب ما. ومع ذلك لم تكن الأبيات المشار إليها برمز أوبيلوس تحذف فعليا من أي نص بعينه، بقدر ما نستطيع أن نستنتج من التعليقات المدونة على هوامش النص. ومع ذلك، غالبا ما يطلق العلماء على النص الشائع تسمية «نص أرسطرخس». بحلول القرن الأول الميلادي كانت «الأبيات الدخيلة» قد اختفت من شذرات البردي، كما لو أن حجية طبعة أنتجها الموزيون قد حلت محل النسخ العشوائية السابقة. ولعل استبدال الكتاب اعتمد على عمل أو صنيع ملكي؛ إذ صنع الموزيون النسخة الرسمية (تحت إشراف من أرسطرخس أو آخرين) وسرعان ما سادت حجية هذه النسخة. وفيما بين عامي 150 قبل الميلاد و700 ميلاديا لدينا حوالي 900 شذرة بردية هوميرية يظهر فيها تفاوت طفيف.
في حين أن لدينا قدرا وافرا من شذرات البردي من مصر، لا يبقى إلا القليل مما يمكن الاستدلال به على الشكل الذي ربما كان عليه النص في السابق. يعتقد البعض أن النص الأقدم كان يشبه النص الشائع، أو بعبارة أخرى أن المحررين في الإسكندرية قد أبلوا بلاء حسنا فيما يتعلق باستبعاد إضافات النساخ والمآخذ البسيطة من نص قياسي أقدم. إن كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن يكون النص الشائع الذي يرجع إلى حقبة ما قبل الإسكندريين قد أتى من أثينا، حيث أديت أجزاء من كلتا الملحمتين في مهرجان عموم أثينا الضخم. ونحن نعرف أن الإسكندريين قد حصلوا من أثينا على مجموعة قياسية من الأعمال التراجيدية اليونانية، وأن أثينا كانت مركز الحياة الأدبية اليونانية. يشير المعلقون القدماء إلى فئة من نسخ لملحمتي هوميروس باسم «نسخ المدن»، التي أتت من سبعة أماكن في النطاق ما بين مارسيليا وقبرص، ولكن ما يبعث على الفضول أنها لم تأت من أثينا. ويشير المعلقون القدماء إلى فئة أخرى من النصوص يطلقون عليها اسم
koinê ، وتعني «شائع»؛ قد تكون هذه النصوص «الشائعة» هي النصوص الأثينية، أو النص الشائع (الفولجاتا) السابق على حقبة الإسكندريين.
ما زال يوجد نحو 480 بيتا من ملحمتي هوميروس تعود إلى ما قبل الحقبة الإسكندرية، واقتبست في أعمال مؤلفين آخرين؛ أي فيما قبل حوالي 300 قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن الاستشهادات من قبل كتاب القرن الرابع الميلادي، مثل أفلاطون (209 أبيات) وأرسطو (98 بيتا)، أحيانا ما تختلف عن النص الشائع (الفولجاتا) الإسكندري، فإن هؤلاء الكتاب على ما يبدو كانوا يقتبسون من الذاكرة بطريقة خرقاء، وقدر التفاوت ليس كبيرا بأي حال. ولا يوجد لدينا من حقبة ما قبل عام 400 قبل الميلاد إلا بضعة استشهادات. فيستشهد هيرودوت بأحد عشر بيتا، يتطابق كل واحد منها مع النص الشائع (الفولجاتا) الإسكندري، بيتا ببيت، وكلمة بكلمة، وحرفا بحرف. وينطبق الشيء نفسه على البيت الوحيد الذي استشهد به ثوكيديديس من «الإلياذة»، والأبيات الأربعة الكاملة عند أرسطوفانيس، والاثني عشر بيتا الكاملة عند المؤرخ كسينوفون (427-355 قبل الميلاد). (4) لوح بيليرفونتيس: حجج فريدريش أوجست وولف
ترتبط المسألة الهوميرية ارتباطا وثيقا للغاية بتاريخ الكتابة؛ وذلك لأن ملحمتي هوميروس عند علماء فقه اللغة يمثلهما نص ملحمتي هوميروس، ولأن النص يتألف من علامات رمزية على جسم مادي. منذ وقت مبكر في القرن الأول الميلادي لاحظ يوسف بن ماتيتياهو، أو يوسيفوس - وهو قائد عسكري يهودي مهم ومؤلف كتاب «تاريخ الحرب اليهودية» (حوالي 37-101) - صلة الكتابة بالمسألة الهوميرية. في مقالة «ضد أبيون» هاجم يوسيفوس يونانيا يدعى أبيون كان قد شكك في قدم وعراقة اليهود. ولكن اليونانيون أنفسهم، حسبما يحتج يوسيفوس، هم مجرد شعب حديث العهد، لم يكن حتى قد عرف الكتابة حتى وقت متأخر للغاية:
يقال إن حتى هوميروس لم يخلف قصائده مدونة، بل تناقلها الرواة اعتمادا على الذاكرة وجمعت معا أخذا من الأناشيد، ولذلك تحتوي على كثير من التناقضات. (مقالة «ضد أبيون» الجزء 1، الفصل 2، الفقرة 12)
ويمضي يوسيفوس ليقول إنه نظرا لأن الإغريق كانوا حديثي عهد بالكتابة، فإن من المستبعد أن تكون أناشيد هوميروس بالغة الطول قد رأت النور بنفس الصورة التي بين أيدينا. لا بد وأنها صيغت من قصائد محفوظة أقصر، ودونت فيما بعد، ثم جمعت في «الإلياذة» و«الأوديسة».
لم يأت يوسيفوس بأدلة على آرائه ولم يكن يملك أي دليل؛ إذ إن وحدها الأبحاث الأكاديمية الحديثة هي التي جعلت التحديد الدقيق لوقت اختراع الأبجدية الإغريقية ممكنا؛ ومن ثم التحديد الدقيق «للزمن الذي بعده» الذي يمكن أن تكون القصائد الهوميرية قد خرجت فيه للوجود. ولم يمتلك الباحثون الأوروبيون في القرن الثامن عشر أي دليل مقبول يمكنهم من تحديد زمن نشأة الأبجدية اليونانية، إلا أن باحثا ألمانيا (يكتب باللغة اللاتينية) يدعى فريدريش أوجست وولف (1759-1824) ادعى نفس زعم يوسيفوس بعزم وألمعية أثرا في كل الدراسات الأكاديمية اللاحقة المتعلقة بهوميروس. في عام 1795 نشر وولف نظرية معقدة عن منشأ القصائد الهوميرية في كتاب باللغة اللاتينية يسمى «مقدمات نقدية إلى هوميروس»، مرتكزا في نموذجه التحليلي على نظريات معاصرة عن نشأة الكتاب المقدس العبري من خلال التنقيح التحريري لمخطوطات موجودة من قبل. كان الغرض من «المقدمات النقدية» أن تسبق طبعة نقدية محققة لنص ملحمتي هوميروس، لكن الطبعة لم تصدر أبدا. استهل وولف تفسيره للمعضلة بالقول إنه في حين أن قصائد هوميروس توجد مكتوبة، إلا أنه لا يبدو أن الصفات المرتبطة بالكتابة تظهر في قصائده:
لا وجود لكلمة «كتاب»، ولا وجود لكلمة «كتابة»، ولا وجود لكلمة «قراءة»، ولا وجود لكلمة «حروف»، لا وجود لأي تهيئة للقراءة في آلاف مؤلفة من الأبيات، كل شيء مهيأ للاستماع؛ لا وجود لأي مواثيق أو معاهدات إلا وجها لوجه؛ ولا يوجد أي مصدر للإخبار عن الأزمنة القديمة إلا عن طريق الذاكرة والشائعات وآثار تخلو من الكتابة؛ ومن ذلك تأتي، في «الإلياذة»، التضرعات الدءوبة الحثيثة والمتكررة بجهد شديد الموجهة للميوزات، ربات الذاكرة؛ وليس ثمة أي نقش على الأعمدة والمقابر التي يرد أحيانا ذكرها؛ ولا أي نقش آخر من أي نوع؛ وليس هناك عملة نقدية أو مال مصنوع؛ ولا يوجد أي استخدام للكتابة في الشئون الداخلية أو التجارة؛ وليس هناك خرائط؛ وأخيرا ليس هناك حاملو رسائل ولا رسائل.
2
Bog aan la aqoon