115

إن «الأوديسة» بلا ريب معنية للغاية بالعلاقات بين الجنسين وبالقوة التي يهيمن بها كل جنس على الآخر. في سيمفونية الأنماط الأنثوية في «الأوديسة»، نجد أن سيرس في المغامرة الطويلة في المجموعة الثانية هي الغاوية الأبرز. فنجدها موجودة مباشرة قبل هبوطه إلى العالم السفلي، ثم تستقبله من العالم السفلي عندما يرجع. فهي تمثل الموت من ناحية كونها امرأة وغاوية، ثم تصبح الحياة والتنبؤ والأمل بناء على الغموض الغريب للإناث في «الأوديسة».

كذلك فإن نكهة هذه القصة تذكر معلقين كثيرين بالحكايات الشعبية من بلدان الشمال. ففي البداية يذبح أوديسيوس أيلا، وهي موتيفة في الحكاية الشعبية تسبق مواجهة ساحر أو ساحرة. تعيش سيرس في منتصف غابة مظلمة موغلة، وأعمدة الدخان تتصاعد إلى السماء. اتبع ذلك الدخان، وسوف تجد الساحرة. من ناحية أخرى، تنتمي سيرس إلى الشرق؛ كونها ابنة هيليوس (إله الشمس) وأخت آيتيس، ملك مملكة كولخيس الواقعة على الطرف الشرقي للبحر الأسود؛ حيث سافر جيسون ليجلب الصوف الذهبي، واعتقد البعض أن الحدث معدل من ملحمة خيالية أسطورية (ساجا) شفاهية عن رحلة سفينة الأرجو. ومع ذلك فمنذ زمن بعيد جدا حدد موقع جزيرة سيرس، تخمينا، في مكان ما في خليج نابولي (لا يزال يوجد جبل يسمى مونت سيرسيو بالقرب من مدينة سورينتو). يقول هوميروس إنك لا يمكنك أن ترى موضع شروق الشمس أو غروبها، أي إن الجزيرة تقع في مكان ما هناك، في العالم الآخر الموجود عبر المرآة، حيث لا شيء يبدو على حقيقته. ولكن عندما يغادرون، ويبدأ أوديسيوس المجموعة الثانية المكونة من ست قصص، تشرق الشمس على الجزيرة.

أن يعرف المرء سيرس يعني أن يصبح خنزيرا. فشأنها شأن آكلي اللوتس، تضيف إلى طعامها عقاقير تمنع عودتك إلى الديار. وهي جميلة، إنها تلك القوة الأنثوية التي تدني من شأن الذكر وتحوله إلى حيوان مقزز له خوار، مولع بأكل الروث، وهي حالة هزلية ما زال معمولا بها في مجال التسلية والترفيه في وقتنا الحاضر. إنها تهدف إلى إلحاق الأذى بأوديسيوس؛ فإن كانت لا تستطيع تحويله إلى حيوان، فسوف تجرده من رجولته، حسب نبوءة هيرميس الذي يظهر للبطل في الغابة المظلمة ويعطيه عشبة اسمها مولي، هي بمثابة طلسم للفحولة. وهذه هي المرة الوحيدة في المغامرات التي يظهر فيه إله لأوديسيوس مباشرة، ومجددا لم يكن من ظهر هو أثينا، التي تختص براعتها بالعالم العلوي، وإنما هيرميس الساحر، الذي يربط هذا العالم بالعالم الآخر.

يلقن هيرميس أوديسيوس كيفية التصرف. يجب عليه أن يروض هذه المرأة (التي تمثل الموت). لا بد أن يضعها تحت سيطرته بأن يضع سلاحا على رقبتها ويجبرها على التعهد بنبذ الإيذاء. وبعد ذلك ستكون له.

بعد أن يتغلب أوديسيوس على سيرس، تتعرف على هويته. وتقول سيرس إن هيرميس، الذي أنقذ أوديسيوس، تنبأ قبل ذلك بوقت طويل أن أوديسيوس سوف يتغلب عليها. وما إن أقسمت بأنها لن تلحق به أذى، وذهبا إلى الفراش، حتى تحولت سيرس إلى المضيفة المثالية. ومثل سدوري «سيدة الحانة الإلهية» التي تلتقي بجلجامش عند حد البحار عند حافة العالم، تبعث سيرس أوديسيوس في أخطر أعماله؛ رحلة إلى أرض الموتى. عندما تعود من هناك، فأنت دون شك تولد من جديد. (11) «أرض الموتى» (الكتاب 11)

تتبع «أنشودات» الأوديسة، بوجه عام، نمط الحكاية الشعبية المتعلق بالوصول/الصراع/التعرف/الحل، ولكن وحدة «أرض الموتى»، بدلا من ذلك، هي سلسلة من القوائم. لا بد أن هذه الوحدة تدين بلبناتها البنائية للنوع الأدبي الشفاهي المسمى شعر القوائم (الذي يلقي بتأثيره كثيرا على هيسيود المعاصر لهوميروس). يتبع أوديسيوس توجيهات سيرس، ويسافر عبر نهر أوقيانوس، الذي عادة ما يعتقد أنه ينساب عبر العالم في دائرة هائلة، إلى «أرض الكيميريين». كان الكيميريون شعبا تاريخيا عاش في شمال البحر الأسود، وحولوا هنا إلى سكان أسطوريين لعالم آخر.

للوهلة الأولى لا يبدو أن أوديسيوس في العالم السفلي، بيت هاديس؛ لأنه لكي يتواصل مع الموتى، يتصرف وكأنه نكرومانسر «مستحضر لأرواح الموتى»، أي ساحر ممارس للسحر الأسود. فيقتل كبشين أسودين فوق حفرة. وفي مشهد خارق للطبيعة تتجمع «نسمات الأرواح/أرواح الموتى» حول الدماء، التي فقدتها تلك الأرواح بموتها، حتى يتسنى لها لوهلة العودة إلى الوعي؛ لأن «حياة الجسد هي في الدم»، كما في العبارة التوراتية. ويردعهم أوديسيوس بسيفه الذي صار عصا ساحر يسيطر المتحكم فيها على المخلوقات غير المادية.

أول من يتكلم هو «روح إلبينور»، أحد رجال أوديسيوس، الذي مات قضاء وقدرا عندما سقط من فوق سقف قصر سيرس. لا يشرب الدم؛ لأن روحه لم «تطرح» بعد، أي لم تبعد حسب الطقوس من هذا العالم إلى العالم التالي؛ ومن ثم تظل بمثابة خطر على الآخرين وعذاب له (شكل

5-1 ). ويتوسل إليه أن يدفن دفنا لائقا. وبعده تأتي روح تيريسياس المتنبئ من ثيفا (طيبة) وتشرب. ينبئ تيريسياس أوديسيوس بالمتاعب التي ألمت بهم في الديار وبنصره المؤكد. يجب عليه يوما ما أن يمضي إلى الداخل إلى حيث لم يسمع الناس هناك بالبحر ويقدم القرابين إلى بوسيدون، إله البحر. والسبيل الوحيد الذي يمكن به استرضاء عدوه البحر، الذي هو الموت، والذي يقف حائلا بين أوديسيوس وبين عودته للديار، هو بتوسيع سلطان بوسيدون، الذي أعمى ابنه أوديسيوس. ويقول تيريسياس إنه في النهاية سوف يموت «ميتة وديعة على يد البحر» (الأوديسة، 11، 134-135). استخدمت النبوءة، على سبيل التسويغ، في التقليد اللاحق لتشير إلى رأس حربة صنعت من سمكة الرقيطة واستخدمها تيليجونوس، ابن أوديسيوس من سيرس، الذي يقتل أباه عن غير عمد (لا تبوح «الأوديسة» بأي شيء عن وجود ابن من سيرس). الموت هو الموت ولا أحد يهرب منه، ولكن ميتة أوديسيوس سوف تكون وديعة، بعكس ميتات هيكتور، وبريام، وآخيل، وباتروكلوس، وأجاممنون، وأياس. تلك هي مكافأة الرجل الداهية.

شكل 5-1: أوديسيوس وشبح إلبينور. «روح إلبينور» ترتفع من الأرض إلى اليسار وتبادر بالكلام إلى أوديسيوس الذي يرتدي قبعة مسافر ذات حافة عريضة ويمسك بالسيف واضعا إياه فوق حفرة الدماء. الشاتان المذبوحتان مكومتان عند قدميه . هيرميس، الذي يصل بين هذا العالم والعالم المتاخم له، يقف إلى اليمين، ممسكا بعصاه السحرية، ومرتديا حذاءه المجنح وقبعته المجنحة. جرة من طراز الرسوم الحمراء، ترجع إلى حوالي عام 430 قبل الميلاد. متحف الفنون الجميلة، بوسطن. صندوق تمويل ويليام أموري جاردنر، الصورة 34، 79، متحف الفنون الجميلة، بوسطن، حقوق النشر محفوظة، 2007.

Bog aan la aqoon