Hilyat Muhadara
حلية المحاضرة
٨٦٠ وبعض العلماء لا يراهما عيبًا، ووجدت يونس بن حبيب وغيره من علماء الشعر يسمى البيت يأخذه الشاعر على طريق التمثيل فيدخله في شعره "اجتلابًا واستلحاقًا" فلا يرى ذلك عيبًا، وإذا كان الأمر كذلك، فلعمري إنه لا عيب فيما هذه سبيله.
٨٦١ فأما جرير فعير به الفرزدق في قصيدته التي هجاه فيها، وهجا الراعي وبني نمير- قال أبو عبيدة: وكان جرير يسميها "الدعامة"- فقال [وافر]:
ستعلم من يكون أبوه قينًا ... ومن كانت قصائده اجتلابًا
وما أراه أراد بالاجتلاب ها هنا إلا السرق والانتحال.
٨٦٢ أخبرنا محمد بن يحيى عن أبي العيناء عن الأصمعي قال: ربما اجتلب الشاعر البيت، ليس له، فاجتذبه من غيره، فيورده شعره على طريق التمثيل به، لا على طريق السرق له، كما قال النابغة الذبياني [طويل]:
وصهباء لا تخفي القذى وهي دونه ... تصفق في راووقها حين تقطب
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
فقال الفرزدق، واجتلب البيت الأخير [طويل]:
وإجانة ريا الشروب كأنها ... إذا اغتمست فيها الزجاجة كوكب
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنوا نعش دنوا فتصوبوا
[فلم يسلبه ولا حاول] هذا مغيرًا عليه -وإن كانت الغارة عادته- ولا أراه أورده إلا اجتلابًا واستلحاقًا، وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى ذلك سرقا.
٨٦٣ أخبرني أبو الحسن بن أبي غسان قال أخبرني أبو الفضل بن الصفة للخيل، وقد أحسن في قصيدته التي يقول فيها [بسيط]:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا
قلت: فالمذهب في هذا، فإن هذا البيت يدخل في شعر غيره؟ قال: لما قال هذا [رادًا] على القشيري: "ومنا الذي أسر حاجبًا، ومنا الذي سقى اللبن" قال النابغة: "تلك المكارم لا قعبان من لبن" البيت، وقال:
فإن يكن حاجب مما فخرت به ... فلم يكن حاجب عما ولا خالا
قال الأصمعي: ولو كانت هذه القصيدة للنابغة الأكبر، بلغت كل مبلغ، قال ابن سلام: وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي في سيف بن ذي يزن حين ظهر على الحبشة: "تلك المكارم لا قعبان من لبن" وذكر البيت.
وقال النابغة الجعدي في كلمة فخر بها ورد على القشيري:
ألا فخرت بيومي رحرحان وقد ... ظنت هوازن أن العز قد زالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا
قال: يرويه بنو عامر بن صعصعة للنابغ، والرواة مجمعون على أن الحباب قال حدثني ابن سلام قال [سألت يونس عن] هذا البيت [بسيط]:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الحامي
فقال: هو للنابغة في قصيدته التي أولها:
قالت بنو عامر قول بن أسد ... يا بؤس للحرب ضرارًا لأقوام
قال وأظن [الزبرقان استزاده]، في شعره كالمتمثل حين جاء موضعه صرفًا له في قصيدته التي أولها:
أبلغ سراة بني عوف مغلغلة.
وقد تفعل ذلك العرب، فلا يريدون السرق.
٨٦٤ وأخبرنا عبيد الله بن أحمد النحوي أن أبا الفتح قال أخبرنا ابن دريد عن أبي الحاتم عن الأصمعي قال [مات] النابغة الذبياني وهو ابن خمسين سنة، وإنما قال الشعر قليلًا، قال: والنابغة الجعدي فحل، وهو جيد أبا الصلت بن أبي ربيعة قاله وأحسب الجعدي جاء به متمثلًا، وقال يونس: هذا استلحاق وليس بانتحال، وغيره يسميه انتحالًا، ولكنه أحسن العبارة.
٨٦٥ وقد يجلب الشاعر البيت أو البيتين من شعر شاعر، أو المعنى والمعنيين إذا كان ذل الشاعر مخاطبًا له، وكان هو مجيبًا عن مخاطبته، وكذلك يلقى في شعر جرير والفرزدق، ولا نرى ذلك سرقًا -كقول الفرزدق في هذه القطعة [كامل]:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول
فقال جرير رادًا عليه:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... عزًا علاك فما له من منقل
ومثل هذا، قول الرجل للآخر: "أنا أعلى منك بيتًا وأسنى ذكرًا" فيقول الآخر: "بل أنا أعلى بيتًا وأسنى ذكرًا" ولو رأى جرير -مع معرفته بأساليب الشعر وأفانين الفخار- أنه عيب، وسرق، لتنكبه، لا سيما والفرزدق يقول له في هذه القصيدة:
إن استراقك يا جرير قصائدي ... مثل ادعاء سوى أبيك تنقل
1 / 98