الجزء الأول
في صناعة الشعر وأنواعه
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم قال أبو علي، محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي رحمه الله تعالى، ورضي عنه، بمنه وكرمه وفضله في صناعة الشعر وأنواعه
المقدمة
١- أما بعد حمد الله ﷿، والصلاة على رسوله وآله، فإن أشرف الكلام ما سهل سبيله، وقرب مأخذه، وبعد مرامه، واعتدلت أقسامه، ورقت حواشيه، وأرهفت هواديه وتواليه، وفتق المشكل، وطبق المفصل، واستعبد الأسماع، وأصاب الغرض، وانتظم المقصد، وانتهزت فيه الفرصة، وأخذ بأقطار البلاغة، واكتفى بالوحي والإشارة، واسترجعت به القلوب النافرة بعد النفار، وثنيت إليه أعنة الأسماع والأبصار، وكنت بأوائله مكتفيًا، وبأواخره مستغنيًا، فإذا كان اللفظ فصيحًا، والمعنى صريحًا، واللسان بالبيان مطردًا، والصواب مجيدًا، والآلة مسعدة، والبديهة مسعفة، والألفاظ متناسجة، غير مفتقرة إلى تأويل، والمعاني والحجج عند الحاجة ماثلة، والأسماع قابلة، والقلوب نحو الكلام منعطفة، والأفهام للمخاطب على قدر فهمه واقعًا، والذهن مجتمعًا، والبصيرة قادحة، والقائل موجزًا في موضع الإيجاز، مطيلًا إذا حسنت الإطالة، وافقا عند الكفاية، وكان اللبس مأمونًا، وشمائل القول حلوة، والقدرة على التصرف عاضدة والطبع الذي هو دعامة المنطق متدفقًا، والفصول ملتحمة، والفضول مجذوذة، والفصول مقسومة، وموارد الكلام عذبة، ومصادره رحبة، خارجة عن الشركة، سليمة من تكلف الصنعة، فتلك هي البلاغة، وهناك انتظام شمل الإبانة، وقد قال بعضهم: "إن زهيرًا وضع فضول الكلام" بقوله طويل:
وما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه أباء أبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلى وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل"
٢- قال أبو علي: وقد تصفحت صحف البلاغة، واستقريت أساليب البيان والفصاحة، فوجدت العرب أرباب الكلام، وملاك رق المعاني والألفاظ، إيجازًا في حال الحاجة إلى الإيجاز، وإطالة وتوسعًا عند الحاجة إلى الإطالة والإسهاب واتساعًا لما انفردت به لغتهم دون اللغات من أصناف البديع، كالتجنيس، والتطبيق، والاستعارة، والإشارة، وكالوحي، والتشبيه، والاستثناء، والمظافرة، والتبليغ، والترديد، والتصدير، والتسهيم، والتقسيم، والتتميم، والتسميط، والتبيين، والترصيع، والتلميح، والتلويح، والتوشيح، والموازنة، والمقابلة، والاستطراد والمماثلة، والتكافؤ، والمبالغة والالتفات، والمساواة، والإيهام، وأبدع حشو، والإغراق، وأحسن ابتداء، وألطف بيت، والقوافي المتمكنة، وأحكم بيت على ثلاثة أمثال، وأحكم بيت على مثلين، وأبدع أمثال الإعجاز، وشوارد الأمثال، وغير ذلك من أفانين البديع، التي كشفت مطلوبها، وأشرت إلى محاسن الصنعة فيها، في كتابي الموسوم "بالحالي والعاطل- في صنعة الشعر" وهو مما يستشف هناك جواهره، فتشف أساريرها، وترعى تلاعه، فترق أزاهيرها.
وأشير في كتابي هذا إلى بعض إشارة يقضيها هذا التصنيف بحول الله وقوته.
٣- ووجدت البلاغة منقسمة قسمين: منظومًا، ومنثورًا، وأولى هذين القسمين بالمزية -والقدم للمتقدم- المنظوم، فإنه أبدع مطالع، وأنصع مقاطع، وأطول عنانًا، وأفصح لسانًا، وأنور أنجمًا، وأنفذ أسهمًا، وأشرد مثلًا، وأسير لفظًا ومعنى، ألا ترى إلى قول المسيب بن علس كامل:
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
وقول الأعشى طويل:
وإن عتاق العيس سوف يزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق
به تنقض الأحلاس في كل منزل ... وتعقد أطراف الحبال وتطلق
يقول: إذا رحلوا وحطوا تمثلوا بهذه القصيدة.
٤- قال أبو علي: والمنظوم أرشق في الأسماع، وأعلق بالطباع، وأبقى مياسم، وأذكى مناسم، وأخلد عمرًا، وأجمع لأفانين البديع التي قدمت ذكرها شملًا، ألا ترى إلى قول الخنساء متقارب:
وقافية مثل حد السنا ... ن تبقى، ويذهب من قالها
نطقت ابن عمرو فسهلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها
وكما قال بشار طويل:
ومثلك قد سيرته بقصيدة ... فسار، ولم يبرح عراص المنازل
1 / 1
رميت بها وغربًا فأصبحت به ... الأرض ملأى من مقيم وراحل
وقال ابن حازم وافر:
فأبعثهن أربعة وخمسًا ... بألفاظ مثقفة عذاب
وكن إذا وسمت بهن قومًا ... كأطواق الحمائم في الرقاب
وهن وإن أقمت مسافرات ... تهادها الرواة مع الركاب
٥- قال أبو علي: والمنظوم أهز لعطف الكريم، وأجمع لشتات محاسنه، كما أنه أفل لغرب اللئيم، وأبدى بصفحة مطاعته، وكذلك قال تأبط شرًا طويل:
وإني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
أهز به في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوراك
هذا إذا كان لفظه حر الطينة، ومعناه سليمًا من اللبس والشركة، وكان كما قال موسى بن جابر الحنفي طويل:
من الواضحات الغر يخرج وحده ... ويلوي عليه رأسه كل شاعر
وكما قال جرير طويل:
وعاو عوى من غير شيء رميته ... بقافية أنفاذها تقطر الدما
خروج بأفواه الرواة كأنها ... قرى هندواني إذا هز صمًا
وكما قال عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الأصم-وهو الذي كان يهاجي الفرزدق بسيط:
ألق قذى الشعر عنه حين أقرضه ... فما بشعري من عيب ولا ذام
كأنما اصطفى شعري وأغرفه ... من لج بحر غزير زاخر طام
منه غرائب أمثال مشهرة ... ملمومة زانها وصفي وإحكامي
٦- قال أبو علي: فإذا كان غير معتدل النظم، ولا متناسب القسمة، ولا مقبول العبارة، وكانت معانيه بعيدة، وألفاظه شريدة، كما قال الشاعر طويل:
وبعض قريض القوم أولاد علة ... يكد لسان الناطق المتحفظ
فسيلم المنثور-وإن عطل من حلي البيان، وتعرى من حلل الإحسان أعذب شربًا، وأكرم عرفًا، ألا ترى إلى قول عروة بن أذينة كامل:
فاسق العدو بكأسه واعلم له ... بالغيب إن كان قبل سقاكها
واجز الكرامة من ترى أن لونه ... يومًا بذلت كرامة لجزاكها
فهذا من التركيب الوحشي المضطرب، والنسخ المختلف، وقوله في البيت "واعلم له بالغيب" مستهجن، مشترك الصنعة، متباين البنية، و"له" رديئة الموقع، بشعة المستمع، والبيت الثاني، تقديره أن يقول: فاجر الكرامة من ترى أن لو بذلت يومًا كرامة، لجزاكها، وانظر إلى قول الآخر خفيف:
لم يضرها والحمد لله شيء ... وانثنت نحو عرف نفس ذهول
فتأمل هذا المصراع الأخير من هذا البيت، فإنك تجد بعض ألفاظه تتبرأ من بعض، فالسبب الذي: ثقل معه هذا البيت على اللسان، تقارب حروف الحلق في قوله: "وانثنت نحو عرف نفس ذهول" لأنهم لا يكادون يجمعونها إلا بحواجز لتنافرها، وقد اتفق ذلك لجماعة من حذاق الشعراء، وصناع الكلام، فانظر إلى تفاوت ما بين هذا النظم، وبين قول أبي حية النميري الطويل:
رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية أرام الناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم أن لا يزال يهيم
فلو كنت أسطيع الرماء رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم
٧- قال أبو علي: وهذا كلام، ليس فيه فضل عن معناه، والمنثور مطلق من عقال القوافي، فإذا صفا جوهره، وطاب عنصره، ولطفت استعارته ورشقت عبارته، كاد يساوي المنظوم، لولا ما انفرد به المنظوم من فضيلة الوزن والقافية، وغيرهما مما عينت وأعين عليه، فمن بديع الاستعارة في المنثور، قول بعض الأعراب: "خرجت في ليلة حندس قد ألفت على الأرض أكارها فمحت صور الأبدان، فما كدنا نتعارف إلا بالأذان فهذا بارع من الاستعارة في وصف ظلمة الليل، إلا أنك إذا ماثلته بالمنظوم في معناه، وجدت التفاوت بين الإحسان والإساءة، والزيادة والنقيصة، فيما سأقرأ، ظاهرًا.
٨- قال أبو علي: أنشدنا محمد بن عبد الواحد عن أحمد بن يحيى عن أبي نصر عن الأصمعي لأبي محكان العدوي طويل:
وليل يقول الناس عن ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها
كأن لنا منه بيوتًا حصينة ... مسوح أعاليها وساج كسورها
الساج: الطيلسان، والكسور: جمع كسر، وهو جانب البيت.
وقول الحماني العلوي ألطف في معناه، وأليق في مسراه حيث يقول بسيط:
كأنما الطرف يرمي في جوانبه ... عن العمى وكأن النجم قنديل
1 / 2
على أنه ربما اتفق -في النادر الذي لا يقع يمثله حكم -للبليغ في صناعة النثر، معنى انتظمه الشعر، فتكون لمنثوره لوطة بالقلب، وتعلق بالنفس، ليس لمنظومه، كما قال بعض المتقدمين في وصف جارية: "كاد الغزال يكونها، لولا الشذى، ونشوز قرنه" فنثر هذا، بعض البلغاء فقال: "كاد الغزالي يكونها، لولا ما تم منها ونقص منه" ولعمري إن هذه، ألفاظ رطبة عذبة، لكن القضية تقع على ما يوجه الأكثر، وبالمنظوم سبقت العرب إلى وصف الطلول والآثار، والبكاء على معالم الديار، وتأبين ما تعفى من مراسمها بالرياح، والأمطار، ووصف ما محته الأيام من محاسن صورها، وطوته بالبلى من أردية مغانيها، وأحالته من أعيان معانيها، وما اختلقته العهاد من جديد معاهدها، وأبقته الأنواء من أواريها وأوتادها، ولعبت به الحوادث من ملاعبها، وأبدعته من وصف بالي من آياتها بالبهجة والنضرة والتضوع بنسيم الأحبة، واستضحاك رسومها بعد خلوها من ساكنها كما قال الأخطل: الطويل:
لا سماء محتل بناظرة البشر ... قديم ولما يعفه سالف الدهر
يكاد من العرفان يضحك رسمه ... فكم من ليال للديار ومن شهر
وقال آخر منسرح:
شطت بهم عنك لية قذف ... غادرت الشعب غير ملتئم
واستودعت نشرها الديار فما ... تزداد إلا طيبًا على القدم
٩- قال أبو علي: وأحسب أن أول من أشار إلى هذا المعنى، أبو صخر الهذلي في قوله الطويل:
لليلي بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بدار البين آياتها سطر
كأنهما م الآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر
فأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال وأحسن طويل:
لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أذوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهن حتى كأنما ... لبسن على القواء ثوب نعيم
إلى غير ذلك مما تصرفت فيه، من مذاهب الكلام، في ذم الشيب، ومدح الشباب، وتشوق الأحباب، وتقييد المآثر والأنساب، والحنين إلى الأوطان، والتفجع على الجيران، ونعيق الغربان، والتشوف بالنيران، وضرب الأمثال، والفخر بمعالي الأفعال، ومقارعة الأبطال، وذكر الوقائع والحروب والأيام، والتمدح بقرى الضيفان، ومنازلة الفرسان، وطعن الكماة واقتناص الأقران، وبذل المال، وحماية الجار، والتخرق في العطاء، والإيثار بالبلغ، والجود بالنفس عند اللقاء، ووصف الإبل في فري الغلاة، وهتك جلابيب الظلماء، وامتطاء مطا البيداء، ونعتها بالضمور، والنحول، وغئور العيون، وجزع المجاهل، وطيء المناهل، ونعت الخيل في خلقها بالعتق الكرم، وفي خلقها بمعرفة الوحي والإشارة، وتشبيهها بالسباع في سعة جلودها ووثبها، وبالنعام بطول قوائمها، وسعة فرها، وبالحمار في تلاحك خلقه، وشدة خلقته، وبالظباء في أطر عراقيبها، وبالعقبان والطير في انقضاضها، وتمثيل سرعتها بوشك الفراق، وجري السيل، وتضرم الحريق، وإنبات الدلو، وتدهدي الحجر، وغليان المرجل، وهزيز الريح، وذكر المياه العذبة، والآجنة، وممادح الملوك وأهاجيها، وتأبين الأموات ومرائيها، ومدح الجود والتحلي به، وذم البخل والإشفاء منه، والتشبيب والغزل، ومحادثة النساء، وذكر الوفاء لهن، والإقامة على عهودهن، ووصف خلقهن وأخلاقهن، وآبائهن وانقيادهن، وذكر الوفاء بهن، وحسن الوصف، ودقة المعنى، وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب وترجيع الشك في موضع اليقين، وطلاوة الاعتذار.
(١) مثال ذلك:
وقلت أشمس أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
وعطف المساءة على العذال:
لا تلمن وأنت زينتها لي ... أنت مثل الشيطان للإنسان
وتبخيل المنازل واختصار الخبر:
ألم تسأل الأطلال والمتربعا ... ببطن حليات دوارس بلقعا
يبخلن أو يخبرن بالعلم بعدما ... فكأن فؤادًا كان قدمًا مفجعًا
وأيسر النوم:
نام صبحي وبات نومي أسيرًا
1 / 3
وإغذاذ السير، وتحير ماء الشباب، وإعلان الحب وإمراره، وإنكاح النوم وإغلاق الرهن، وإهدار القتل، وإدراك الثأر، ومعاتبة الآلاف، ووميض البروق وشيم ضيائها، واعتلاج الفكر، وهيج الذكر، ووصف الخصب، والجدب، والسحاب والغيث، والروض والكلأ، ونعوت الوحش والقفر، وذكر الغنى والفقر، والهداية والقيافة والعيافة، والعي والبلاغة، وما لهوا به من الطرد والقنص، والمأكل والمشرب، ووصفهما، وتشبيهات الخمر لونًا، وطعمًا، ونشرًا والتمدح بالسبق إلى شربها وإباء قبول العذل فيها وغير ذلك مما لو ذهبت إلى تعديد مذاهبه، وإيضاح مآربه، ونهج معالمه، وإضحاك مباسمة، والأخبار عن توسعها فيه، وتناولها البعيد من غاياته في القريب من أوجهها وإشاراتها إليه، لجريت طلق الجموح في مضمار لا ينتهي إلى غاية إلا مع الكد والإطالة، واستخدام طول المدة.
١٠قال أبو علي: وقد رأيت أن أفترع كتابًا أشرع فيه لمحاسن الشعر شريعة ترد القرائح مائها، وترود مساقط أندائها، وتشيم بروق أنوائها، وتستهدي بنجوم سمائها، واقصره على فقره النادرة، وغرر معانيه المتنافرة، ولمعه البارعة، وكواكبه الصادعة، وأقسامه المختارة، وهي ثلاثة: مثل شرود، وتشبيه رائع، واستعارة واقعة، وأودعه من ذلك ما وقع إجماع نقاد الكلام، والعلماء بسرائر الشعر، على أنه أشعر ما قيل في معناه من كل نوع، تتناوله المحاضرة، وتتهادى جواهره المذاكرة، وتتعاط بلاغته الألسنة، ويكون لعطل اللفظ حليًا، وللاختيار رونقًا، وللأسماع علقًا ولشمل الاختصار جامعًا، وافتتح القول فيه ببندٍ من فنون البديع، ولمع من الاستعارات اللطفية، والمجازات التي توسعت العرب فيها، إذ كان من عادتها الاختصار والحذف والإيجاز والإيماء والاكتفاء باللمحة الدالة، والإشارة إلى المقصد، والاستغناء بالقليل عن الكثير إذا كانوا محتاجين إلى ذلك، لارتجال الخطيب في الحروب، والكلام عند البديهة في المقامات، لإطفاء جمرة الحرب، وإصلاح ذات البين، فجعلوا موضع كلامهم على التوسع والمجاز، ومعنى المجاز، طريق القول ومأخذه، والمجاز: مصدر جزت مجازًا، كما تقول: قمت مقامًا قال الأصمعي: "كلام العرب إنما هو مثال شبيه بالوحي، لا سيما الشعر، لأنه موضع اضطرار، إذ كان على روي واحد، ووزن لابد من إقامته، وكانت حروف بعضه أقل من حروف بعض عددًا وأثقل وزنًا، فإذا لم يستقم للشاعر أن يضع الحرف موضعه لاختلاف الوزن، وضع مكانه ما يدل عليه، مما يسلم به بناؤه الذي ذهب إليه كقول مزرد طويل:
فما رقد الولدان حتى رأيته ... على البكر يمريه بساق وحافر
فجعل للإنسان حافرًا، ولا حافر له".
١١ قال أبو علي، فهذه مخيلة من القول، إن استطار بارقها، اقتبس سناه، أو صدق قولها غمر ضياه فأثرى بقلوب الأدباء ثراه وكان خليقًا أن يغادر بكل قرارة غديرًا، ويخلف بكل ربوة روضًا منيرًا.
ومن الله ﷿ استمد معونته وتوفيقه.
الفصل الأول
من محاسن الشعر
أحسن ما ورد من بديع الاستعارة
١٢قال أبو علي الحاتمي: أخبرني أبو جعفر محمد بن عبد الله بن حمدون، قال: حدثني أبو الفضل العباس بن محمد بن حمدون قال: حدثني أبو الحسن علي بن يحيى المنجم عن إسحاق الموصلي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: كانت يدي في يد الفرزدق وأنشدته قول ذي الرمة طويل:
أقامت به حتى ذوي العود في الثرى ... وساق الثريا في ملاءته الفجر
قال: فقال لي: أأرشدك، أم أدعك؟ قلت: بل أرشدني! فقال: "إن العود لا يذوي أو يجف الثرى وإنما الشعر "حتى ذوي العود والثرى" قال أبو عمرو: ولا أعلم قولًا أحسن من قوله "وساق الثريا في ملاءته الفجر، فصير للفجر ملاءة، ولا ملاءة له وإنما استعار هذه اللفظة، وهو من عجيب الاستعارات.
١٣أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: اجتمعت أنا، وجماعة من فرسان الشعر عند ابن المعتز، وكان يتحقق بعلم البديع تحققًا ينصر دعواه في لسان مذاكرته، فلم يبق مسلك من مسالك الشعر، إلا وسلكنا من شعبنا من شعابه، وأوردنا أحسن ما قيل في معناه، إلى أن قال أبو العباس:
ما أحسن استعارة للعرب اشتمل عليها بيت من الشعر؟ قال الأسدي: قول السيد كامل:
وغداة ريح قد وزعت وقرة ... إذا أصبحت بيد الشمال زمامها
1 / 4
فجعل للشمال يدًا وزمامًا، قال أبو العباس: هذا حسن، وغير أحسن منه وقد أخذه من قوله ثعلبة بن صعير المازني كامل:
فتذكرا ثقلًا رثيدًا بعدما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
قال: وقول ذي الرمة أعجب إليّ منه وإن تأخر زمانه طويل:
ألا طرقت ميي هيومًا بذكرها ... وأيدي الثريا جنح للمغارب
فقال بعضهم: بل قول لبيد كامل:
ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
فقال أبو العباس: هذا حسن ولكن يعدل عنه إلى قول لبيد فقال آخر: قول الهذلي كامل:
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها
قال أبو العباس: هذا بديع، وأبدع منه في استعارة لطيفة، لفظ (الاستيداع) في قول الحصين بن الحمام المري لأنه جمع الاستعارة والمقابلة في قوله الطويل:
نطاردهم نستودع البيض هامهم ... ويستودعونا السمهري المقوما
فقال بعضنا: بل قول ذي الرمة الطويل:
أقامت به حتى ذوى العود في الثرى ... ولف الثريا في ملاءته الفجر
فقال أبو العباس: هذا لعمري نهاية الخيرة، وذو الرمة أبدع الناس استعارة، إلا أن الصواب، "حتى ذوي العود والثرى "بواو النسق، لأن العود لا يذوي ما دام في الثرى قال محمد بن يحيى الصولي: فكأنه نبهني على ذي الرمة، فقلت: بل قوله الطويل:
ولما رأيت الليلَ، والشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشة نازع
فقال أبو العباس: اقتدحت زندك يا أبا بكر فأورى! هذا بارع جدًا. ولكن سبقه إلى هذه الاستعارة جرير، وبيته أحسن بقوله بسيط:
تحيي الروامس ربعها فتجده ... بعد البلى، وتميته الأمطار
قال أبو العباس: هذا بيت جمع الاستعارة، والمطابقة، لأنه جاء فيه بالإحياء والإماتة، والبلى والجدة، ولكن ذو الرمة قد استوفى ذكر الإحياء والإماتة في موضع آخر وأحسن في قوله الطويل:
ونشوان من طول النعاس كأنه ... بحبلين من مشطونة يترجح
إذا مات فوق الرجل أحييت روحه ... بذكراك، والعيس المراسيل جنح
قال أبو بكر: فما أحد انصرف من ذلك المجلس، إلا وقد غمره من بحر أبي العباس، في علم الشعر، وحسن تصرفه فيه، والكلام عليه، ما غاض معينه، ولم ينهض إلا بعد ما زودنا من بره، وملاطفته، نهاية ما اتسعت به حاله.
أحسن ما ورد في الوحي والإشارة
١٤أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: كان ابن الأعرابي يتعجب من قول ارطأة بن سهية الطويل:
فقلت لها يا أم بيضاء إنه ... هريق شبابي واستشن أديمي
قال أبو علي: ولا أعلم استعارة أبدع من هذه.
١٥ قال أحمد بن يحيى: وأنا أقول: إنه من بارع الاستعارة قول الآخر يصف ناقته كامل:
فوضعت رحلي فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرجل
١٦ قال أبو علي: وأبدع بيت قيل في الاستعارة، قول الآخر يصف سحائب طويل:
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم
لأنه جمع لطيف الاستعارة، وحسن الطباق في قريب من العبارة.
١٧ أخبرنا أبو علي، قال: أخبرني علي بن هرون، قال: أخبرني أبي هارن بن علي عن حماد بن إسحاق، وتشير إلى أنها من محاسنة، فما هي: قال: قول الشاعر بسيط:
أوردته وصدور العيس مسنفة ... والليل بالكوكب الدري منحور
وقول الآخر وافر:
جعلنا السيف بين بين الجيد منه ... وبين سواد لحييه عذار
ثم قال: ألا ترى إلى قوله "أوردته وصدور العيس مسنفة" وقد أشار إلى الفجر إشارة ظريفة بغير لفظه!؟ قال: ثم قال لي: هذا هو الوحي.
ومثاله قول جاهلي.
جعلت يدي وشاحًا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق
قال: فقوله "جعلت يدي وشاحًا له" إشارة بديعة بغير لفظ الاعتناق، وهي دالة عليه.
١٨ قال أبو علي: وحكي عن عيسى بن عبد العزيز الطاهري، قال: جمعني وقدامة الكاتب مجلس، ولم أر أفرس منه في بيت شعر، فسألته عن الإشارة فقال: "هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، باللمحة الدالة" فقلت: أذكر أحسن ما يحضرك في ذلك؟ فقال: لم يأت أحد بمثل قول زهير وافر:
فإني لو لقيتك فاتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
قال وقول امرئ القيس طويل:
1 / 5
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا وان
قال: وقال لي قائل: ما اشتملت عليه، لفظة "أفانين" مما، لو عد لكان كثيرًا، وما اقترن بها من جميع أصناف الجودة طوعًا، عن غير طلب، ولا مسألة، ثم نفى عنه الكزازة والوني، وهما، أكبر معائب الخيل التي يرتبطها الفرسان للمنازل.
أبدع أبيات المطابقة
١٩ قال أبو علي: أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين القرشي، قال: قلت لأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش- وكان أعلم من شاهدته، بالشعر-: أجد قومًا يخالفون في الطباق، فطائفة تزعم - والأكثر-: بأنه ذكر الشيء وضده، فيجمعهما اللفظ فهمًا، لا المعنى، وطائفة تخالف ذلك فتقول: هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد كقول زياد الأعجم
أبدع أبيات المطابقة
١٩ قال أبو علي: أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين القرشي، قال: قلت لأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش- وكان أعلم من شاهدته، بالشعر-: أجد قومًا يخالفون في الطباق، فطائفة تزعم -والأكثر-: بأنه ذكر الشيء وضده، فيجمعهما اللفظ فهمًا، لا المعنى، وطائفة تخالف ذلك فتقول: هو اشتراك المعنيين في لفظ واحد كقول زياد الأعجم طويل:
ونبئهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام
فقوله "كاهل" للقبيلة، وقوله "كاهل" للعضو عندهم، هو المطابقة، قال فقال الأخفش: من هذا الذي يقول هذا؟ قلت: قدامة، وغيره، فأما قدامة فقد أنشد بسيط:
وأقطع الهوجل مستأنسًا ... بهوجل عيرانة عنتريس
-هوجل: واسعة السير- فقال: هذا يا بني هو التنجيس، ومن زعم أنه طباق، فقد ادعى خلافًا على الخليل والأصمعي فقيل: أفكانا يعرفان هذا! فقال: سبحان الله!! وهل غيرهما في علم الشعر، وتمييز خبيثه من طيبه!؟.
قلت: فأنشدني أحسن طباق للعرب، قال: قول عبد الله بن الزبير الأسدي وافرًا:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودًا
فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا
وقول طفيل الغنوي يصف فرسًا بسيط:
بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول
٢٠- قال أبو الفرج علي بن الحسين القرشي -وهو الناقل عن الأخفش-: وأنا أقول إن أحسن بيت في الطباق قول الشاعر بسيط:
للسود في السود آثار تركن بها ... لمعًا من البيض يثني أعين البيض
٢١- قال أبو علي: ومن بديع الطباق قول عمرو بن كلثوم وافر:
فإنا نورد الرايات بيضًا ... ونصدرهن حمرًا قد روينا
قال أبو علي: فطابق بين الإيراد والإصدار، والبياض الحمرة، ولو اتفق لعمرو بن كلثوم تقابل الري بالظماء، لكان أبرع بيت قالته العرب في الطباق.
٢٢- قال أبو علي: وقد أخذ هذا أبو الشيص فاستوفى المعنى فقال طويل:
فأوردها بيضًا ظماء صدورها ... واصدرها بالري ألوانها حمر
٢٣- قال أبو علي: وأخبرنا عبيد الله بن أحمد بن دريد، عن أبي حاتم، قال سألت الأصمعي عن صنعة الشعر، فذكر في بعض قوله: المطابقة، وقال: أصلها وضع الرجل موضع اليد، وأنشد متقارب:
وخيل يطابق بالدراعين ... طباق الكلاب يطأن الهراسا
قال: فقلت: أنشدني أحسن بيتٍ قالته العرب في الطباق، فقال قول زهير بن أبي سلمى بسيط:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقراه صدقا
وقول الفرزدق كامل:
يستيقظون إلى نهاق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار
لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار
وإنما أخذه من قول ثمامة بن المحير الذهلي بسيط:
قوم تنام عن الأوتار أعينهم ... ولا تنام نوكاهم عن السرق.
قال: فقال الأصمعي: لا أعرف طباقًا أحسن من هذين.
أحسن ما قيل في المجانسة
وهي اتفاق اللفظ واختلاف المعنى
٢٤ قال أبو علي: أخبرني علي بن هارون المنجم، قال: سألت أن أحسن ما ورد من ذلك للعرب، قول ذي الرمة طويل:
كأن البري والعاج عيجت متونها ... على عشر نهى به السيل أبطح
٢٥ قال الحاتمي: وأنا أقول: من بديع التجنيس قول جرير وافر:
كأنك لم تسر ببلاد نعم ... ولم تنظر بناظرة الخياما
وقول الآخر طويل:
وما زال معقولًا عقال عن الندى ... وما زال محبوسًا عن الخير حابس
1 / 6
ومن هذا أخذ أبو تمام قوله طويل:
وإن بين حيطانا عليه فإنما ... أولئك عقالاته معاقلة
وأحسن ما ورد لمحدث قول عبد الله بن طاهر طويل:
وإني للثغر المخيف لكالئي ... وللثغر يجري ظلمه لرشوف
وأحسن من هذا كله قول أبي تمام طويل:
عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور وعن سلسالها الخصب
........
أحسن ما قيل في التقسيم
٢٦ قال أبو علي: أخبرنا يحيى بن علي بن هارون
......
أحسن من قول نصيب طويل:
فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: ... نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري
ومثله قول بشار طويل:
بضرب يضوق الموت من ذاق طعمه ... ويدرك من نجي الفرار مثالبه
فراح فريق في الإسار، ومثله ... قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه
٢٧ قال أبو علي:........
٢٨ وقال علي بن هرون: وأنا أقول: إن أحسن ما قيل في ذلك قول عنترة كامل:
إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... اشدد وإن يلفوا بضنك انزل
٢٩ وقال أبو علي: وأنا أقول، لا أعرف أحسن تقسيمًا من قول الأسعر الجعفي في وصف فرس بسيط:
أما إذا استقبلته فكأنه ... باز يكفكف أن يطير وقد رأى
أما إذا استدبرته فتسوقه ... ساق قموص الوقع عارية النسا
أما إذا استعرضته متمطرًا ... فتقول هذا مثل سرحان الغضا
إني رأيت الخيل عزًا ظاهرًا ... تنجي من الغُمى ويكشفن الدجى
٣٠وشبيه هذا، قول امرئ القيس متقارب:
واركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
أن أقبلت قلت: دباءة ... من الخضر مغموسة في الغدر
وإن أدبرت قلت أثفية ... ملمة ليس فيها أثر
وإن أعرضت قلت: سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسيطر
٣١وقد اقتفى هذا التقسيم رجل من عبد القيس وأحسن لأنه استوعب الأقسام في صفة الفيل، في إقباله وإدباره، واستعراضه، وزاد قسمًا رابعًا في حال وصفه فقال كامل:
وعلى قدام حملت شكة حازم ... في الروع ليس فؤاده بمثقل
أما إذا ما أقبلت فمطارة ... كالجذع شذبة نفي المنجل
أما إذا ما أدبرت فنعامة ... تنفي سنابكها ملاب الجندل
أما إذا ما استعرضت فقبيلة ... ضخم مكان حزامها والمركل
وإذا وضعت وضعت جوز دؤاده ... وإذا ملكت علاءها لم تفثل
وكأن خيرني المزاد مؤكدًا ... يعلى به كفل شديد الموصل
فاعتامها بصري لعلمي أنها ... عدوى ثقيل في الرعيل الأول
٣٢ وقال عبيد بن الأبرص سالكًا هذا المذهب في التقسيم كامل:
أما إذا استقبلتها فكأنها ... ذبلت من الهندي غير ينوس
أما إذا ما أدبرت فكأنها ... قارورة صفراء ذات ملوس
وإذا اقتنصنا لا يجب خضابها ... وكأن بركتها مداك عروس
٣٣ وقد سلك أنيف بن جبلة الضبي سبيل هؤلاء في التقسم، واصفًا الفرس في ثلاث حالاته، فقال وأحسن كامل:
ولقد شهدت الخيل يحمي شكتي ... عند كسرحان القصية قرهب
أما إذا استقبلته فكأنه ... في العين جذع من أراك مشذب
وإذا اعترضت به استوت أفناؤه ... فكأنه مستديرًا متصوب
٣٤ قال أبو علي: أخبرني محمد بن يحيى عن أبي العيناء قال: "أجمع العلماء بالشعر أن أحسن تقسيم قيل قول عمر بن أبي ربيعة طويل:
نهيم إلى نعم، فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا الحب مقصر
ولا قرب نعم ... إن دنت
لك نافع
ولا نأيها يسلي، ولا أنت صابر
٣٥ قلت إن أحدًا بعده سرق هذا التقسيم منه، إلا الحاكي، حيث يقول طويل:
وكذبت طرفي عنك والطرف صادق ... وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع
ولم أسكن الأرض التي تسكنينها ... لئلا يقولوا: صابر ليس يجزع
فلا كمدي يفنى ولا لك رقة ... ولا عنك إقصارًا، ولا فيك مطمع
لقيت أمورًا فيك لم ألق مثلها ... وأعظم منها، منك ما أتوقع
٣٦ قال أبو علي: وأخبرني عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد، قال: لم أسمع أحسن من تقسيم بشر بن اردريج طويل:
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون واظهر
1 / 7
لقد كان فيها للأمانة موضع ... وللقلب مرتاد وللعين ممنظر
وللحاتم الصديان ريُّ بريقها ... وللمرح الذيال طيب ومسكر
أحسن ما ورد في المقابلة
٣٧ قال أبو علي: أخبرني علي بن الحسين القرشي قال: سألت قدامة في المقابلة فقال: "هو أن يضع الشاعر المعاني، يعتمد التوفيق بين بعضها وبعض، والمخالفة، فيأتي مع المخالف بما يخالف، وفي الموافق بما يوافق، على الصحة، ويشترط شرطًا، ويعدد أحوالًا في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه، وفيما يخالفه بأضداد ذلك.
قال: فقلت: أنشدني أحسن ما قيل في ذلك، فقال: "لا أعرف أحسن من قول الشاعر طويل:
فيا عجبًا كيف اتفقنا فناصح ... وفي، ومطوي على الغل غادر
فجعل بإزاء "ناصح"، "مطوي" على الغل، وبإزاء "وفي" "غادر".
قال: وقول الطرماح بن حكيم الطائي وافر:
أسرناهم، وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم الترابا
فما صبروا لبأس بعد حرب ... ولا أدوا لحسن يد ثوابًا
فجعل بإزاء: أن سقوا دماءهم التراب، وقاتلوهم، أن يصبروا، وإزاء: أن أنعموا عليهم، أن يثيبوا، قال: فهذه المقابلة.
٣٨ قال أبو علي: سألت علي بن هرون عن المقابلة، فقال: كان يحيى بن علي بن نجم يقول: "وأحسن ما قيل في المقابلة، قول عمرو بن كلثوم وافر:
ورثنا المجد عن آباء صدق ... ونورثها
إذا متنا
بنينا
وقول النابغة الجعدي طويل:
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
أحسن ما قيل في التسهيم
٣٩ قال أبو علي: قلت لعلي بن هرون المنجم: ما رأيت أعلم بصناعة الشعر منك في التسهيم فقال: وهذا لقب اخترعناه نحن.
قلت: وما كيفته؟ فأجابني بجواب لم يبرزه في عبارة يحكيها عن غيره: "إن صفة الشعر المسهم، أن يسبق المستمع إلى قوافيه، قبل أن ينتهي إليها راويه، منذ الشطر الأول قبل أن يخرج إلى الشطر الأخير، ومن قبل أن يسمعه، "قال: "وأحسن ما قيل في ذلك قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثي أخاها عمرًا متقارب:
وأقسمت يا عمرو لو نبهاك ... إذ نبها منك داء عضالًا
إذن نبها ليث عريسة ... مفتيًا مفيدًا نفوسًا ومالًا
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكي الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
٤٠ قال أبو علي: فالنظر إلى ديباجة هذا الكلام ما أصفاها، وإلى تقسيماته ما أوفاها وانظر إلى قولها "مفيدًا" ووصفها إياه بالشمس في النهار، والهلال في الليل، تجد المطمع الممتنع، القريب البعيد.
أحسن ما قيل في التتميم
٤١ قال أبو علي: وهو أن يذكر الشاعر معنىً، فلا يغادر شيئًا يتم به، ويتكامل الاشتقاق معه، فيه، إلا أتى به، فأحسن ما قيل في ذلك قول طرفة بسيط:
فسقى ديارك ... غير مفسدها
صوب الربيع، وديمة تهمي
فقد تم الإحسان في المعنى الذي ذهب إليه، بقوله "غير مفسدها".
ولا أعلم أحدًا تقدمه في الاحتراس لدار عند استسقائه لها، من إفسادها وتعفيتها، ألا ترى أنهم على ذي الرمة قوله طويل:
ألا يا سلمى يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلًا بجرعائك القطر
فالغيب لاحق به في ذلك، من أجل أن في دعائه للدار بانهلال القطر عليها، تعفية لرسومها، ومحوًا لآياتها.
٤٢ ومما يتلو هذا البيت في الإحسان، قول نافع بن خليفة الغنوي طويل:
رجال إذا لم يضمن الحق منهم ... ويعطوه عاثوا بالسيوف القواضب
فإن المعنى، تم بقوله ويعطوه، وإلا كان ناقصًا.
أحسن ما قيل في الترديد
٤٣ هو تعليق الشاعر لفظة في البيت، متعلقة بمعنى، ثم يرددها فيه بعينها، ويعلقها بمعنى آخر في البيت نفسه ويرد هذا للمحدثين، لكنني سأورد أحسن ما في معناه لمتقدم.
٤٤ قال أبو علي: وجدت أن أبا حية النميري، سبق إلى الإحسان جميع من تقدمه من الشعراء في قوله طويل:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
1 / 8
صر بالمصراع الأول، فأحسن الابتداء، وردَّد في المصراع الثاني، فأحسن الترديد، وكذلك قوله "إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة" ومثله:
٤٥أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، قال أخبرني علي بن مهدي الكسوري عن حبيب: لا أعلم أحدًا أحسن في صناعة الترديد من زهير في قوله بسيط:
من يلق يومًا على علاته هرمًا ... يلق السماحة منه والندى خلقًا
٤٦ قال أبو علي: وقد أحسن الخليع الباهلي في ترديده بقوله طويل:
لقد ملأت عيني بغر محاسن ... ملأن فؤادي لوعة وهمومًا
وأحسن أبو نواس في قوله بسيط:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
ولعلي بن جبلة -على تأخر زمانه- في قوله يصف فرسًا كامل:
مضطرب يرتج من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب
إذًا تظنينا به صدقنا ... وإن تظني فوته العير كذب
لا يبلغ الجهد به راكبه ... وتبلغ الريح به حيث أحب
أبدع ما قيل في التتبيع
٤٧-قال أبو علي: هو أن يريد الشاعر معنى، فلا يأتي باللفظ الدال عليه، بل بلفظ تابع له، فإذا دل التابع، أبان عن المتبوع، وأحسن ما قيل في ذلك، وأبدعه، قول عمر بن أبي ربيعة طويل:
بعيدة مهوى القرطي، إمالنوفل ... أبوها، وإما عبد شمس وهاشم
إنما ذهب إلى وصف طول الجيد، فلم يذكره بلفظه الخاص به، بل أتى بمعنى بدل على طول الجيد، وهو قوله: "بعيدة مهوى القرطي".
٤٨ قال أبو علي: وأبدع من هذا في التتبيع قول امرئ القيس طويل:
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنطلق عن تفضل
قال أبو علي: إنما أراد أن يذكر ترفه هذه المرأة، وأن لها من يكفيها. فأتى باللفظ التابع لذلك.
أبدع ما قيل في التبليغ
٩- وقد سماه قوم: الإيغال
٤٩ قال أبو علي: هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تمامًا، قبل انتهائه إلى القافية، ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها، فتزيد البيت نصاعة، والمعنى بلغًا إلى الغاية القصوى في الجودة، وأبدع ما قيل في ذلك قول امرئ القيس طويل:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأوحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقد تم الوصف قبل القافيه، وذلك أن "عيون الوحش" إذا ماتت وتغيرت هيئتها، أشبهت الجذع، ثم أتى بالقافية، ثم أكد المعنى البعيد في التأكيد، لأن تشبيه عيون الوحش بالجذع الذي لم يثقب، أوقع في التشبيه، وزعم الأصمعي، أنه إذا كان كذلك، كان أصفى له وأحسن.
وقول امرئ القيس أيضًا طويل:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثاب
فقد تم الوصف بالتشبيه قبل القافية، فلما أتى بها، زاد المعنىبراعة، ونصاعة، وذلك لأن "الأثأب" شجر يكون للريح في أغصانه حفيف شديد.
٥٠قال أبو علي: أخبرنا عبد الله بن جعفر عن المبرد عن التوزي قال: قلت للأصمعي من أشعر الناس؟ قال: "من يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه حسنًا، ويأتي إلى المعنى الكبير فيجعله بلفظه خسيسًا.
أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها، أفاد بها معنى "قال: قلت: نحو من؟ قال نحو الأعشى إذ يقول- بسيط:
كناطح صخرة يومًا ليفلقها ... فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل
فقد تم المعنى بقوله "وأوهى قرنه" فلما احتاج إلى القافية، قال: "الوعل".
قال: قلت: وكيف صار الوعل مفضلًا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قنة الجبل على قرنه، فلا يضيره، قال، قلت: ثم نحو من؟ أيضًا؟ قال: نحو قول ذي الرمة، حيث يقول طويل"
قف الفيس في أطلال فاسأل ... ربوعًا كأخلاق الرداء ...
فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فزاد شيئًا فقال: "المسلسل" وقوله طويل.
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعًا كتبديد الجمان ...
فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فزاد شيئًا أيضًا فقال: "المفصل".
أبدع ما قيل في الالتفات
وقد سماه قوم الاعتراض
٥١ قال أبو علي: هو أن يكون الشاعر أخذ في معنى فيعدل عنه إلى غيره، قبل أن يتم الأول، ثم يعود إلي فيتمه، فيكون فيما عدل إليه مبالغة في الأول، وزيادة في حسنه.
٥٢ واختلفوا في أحسن ما قيل في هذا النوع، فقال: قوم: قول النابغة وافر:
1 / 9
ألا زعمت بنو سعد بأني ...
ألا كذبت
كبير السن فاني
فقوله "ألا كذبت" اعتراض بين أول الكلام وآخره، وفيه مبالغة فيما أراده.
وقالوا بل قول كثير وافر:
لو أن الباخلين ... وأنت منهم
رأوك تعلموا منك المطالا
فقوله "وأنت منهم" اعتراض في الكلام، وزيادة حسنة فيه، قبل أن يتم ما ابتدأ به وأحسن من ذلك قول جرير طويل:
فظلوا بيوم ... دع أخاك بمثله
على مشرع يروى ولما يصرد
٥٣ قال أبو علي: وهذا مثل قول الأخطل:
فإني إن أفتك يفتك مني ... فلا تسبق به علق نفيس
فقول فلا تسبق اعتراض لطيف مرض.
٥٤أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه، عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي،: قال لي الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: وما هي؟ فأنشدني وافر:
أنس، إذ تودعني سليمى ... بفرع بشامة سقي البشام
ألا تراه مقبلًا شعره، ثم التفت إلى البشام، فدعا له!؟
أحسن ما قيل في التصدير
٥٥ قال أبو علي: هو أن يبدأ الشاعر بكلمة في البيت: في أوله أو في عجزه، أو في النصف منه، ثم يردها في النصف الأخير فإذا نظم الشعر على هذه الصنعة تهيأ استخراج قوافيه، قبل أن يطرق أسماع مستمعيه، وقال: هو الشعر الجيد، وأحسن ما قيل في ذلك قول عامر بن الطفيل طويل:
وكنت سنامًا في فزارة تامكًا ... وفي كل حين ذروة وسنام
٥٦ وقال آخرون: بل قول جرير طويل:
سقى الرمل جون مستهل ربابه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
٥٧ وقال آخرون: بل قول الآخر طويل:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعي الندى بسريع
٥٨ وقال أبو علي: وأنا أقول: بل قول ابن أحمر طويل:
تغمرت منها بعدما بعد الصبا ... ولم يرو من ذي حاجة من تغمرا
حسن ما قيل في الاستثناء
٥٩ قال أبو علي: وأحسب أن أول من بدأ به، النابغة. فأحسن كل الإحسان في قوله طويل:
ولا غيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فان هذا تأكيد للمدح بما يشبه الذم، فمن أحسن ما ورد في هذا النوع الربيع بن ضبيع الفزاري طويل:
فنيت ولا يفنى صنيعي ومنطقي ... وكل امرئ
إلا أحاديثه
فان
٦٠ وقال الآخرون: بل قول الآخر طويل:
فلا تبعدن إلا من السوء إنني ... إليك وإن شطت بك الدار نازع
٦١ وقيل بل قول العكلي كامل:
في كفه معطية منوع ... موثقة صابرة جزوع
٦٢ وقال آخرون بل قول الآخر في وصف مروق السهم:
"حتى نجا من جوفه وما جا"وفي معناه لآخر "غادر داء ومجا صحيحًا".
٦٣ وقال أبو علي: وأنا أستحسن قول أبي هفان طويل:
فإن تسألني عنا فإنا حلى العلا ... بني عامر، والأرض ذات المناكب
ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضربنا، والبأس من كل جانب
وأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب
أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أبًا واحدًا أغناهم بالمناقب
وتروي لغيره ... أنه أحسن استثناء في هذا الباب، وتعمد التقدم على الذبياني وهو قول النابغة الجعدي طويل:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فقوله "غير أنه جواد" في البيت الأول، وقوله في الثاني "على أن فيه ما يسوء الأعاديا" أبرع الاستثناء وألطفه.
أبدع ما قيل في الاستطراد
٦٤ قال أبو علي: هذا باب أعجب به المحدثون جدًا، وتخيلوا أنهم لم يسبقوا إليه، وليس الأمر كذلك.
٦٥ أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني علي بن محمد الأنباري، قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام قطعة يهجو عثمان بن إدريس السامي بسيط:
وسابح هطل التعداء هتان ... على الجراء أمين غير خوان
أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه ... فخل عينيك في ظمآن ريان
فلو تراه مشيحًا والحصى زيم ... بين السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت ... إن لم تثبت
أن حافره
من صخر تدمر أو من وجه عثمان
1 / 10
قال، ثم قال: ما هذا الشعر؟ فقلت: لا أدري! فقال: هذا هو المستطرد، -أو قال الاستطراد- قال: قلت: فما معنى ذلك؟ قال يريد وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان.
٦٦ قال محمد بن يحيى: فاحتذى هذا البحتري، فقال في قصيدة يمدح بها محمد بن علي القمي، ويصف فيها الفرس كامل:
وأغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجل
كالهيكل الجني، إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يومًا خلائق حمدويه الأحول
٦٧ قال أبو علي: حمدويه هذا، كان عدوًا للمدوح
فاستطرد به في شعره، وهو من أصحاب البحتري، وقيل له إنه مستعاب بهذا البيت، قال: ولم!؟ قالوا: "لأنك سرقته من أبي تمام"، فقال: "أعاب على أخذي من أبي تمام؟! والله ما قلت شعرًا قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري" قال: "فأسقط البيت من بعد فليس يكاد يوجد في أكثر النسخ".
٦٨ قال أبو علي: وأبو تمام إنما أخذ هذا الاستطراد من قول الفرزدق طويل:
كأن.. الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرفت أفواه بكر بن وائل
فقد تعاور هذا المعنى طائفة من الشعراء قديمًا، وحديثًا، وأول من ذكره السموأل وكل آخر تبع له، في قوله طويل:
وإنا أناس ما نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
٦٩ ومن بديع هذا الباب قول الآخر طويل:
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره، إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
٧٠ وأتى جرير بهذا فحثا في وجوه السابقين إلى هذا المعنى، فضلًا عمن تلاهم، فإنه استطرد باثنين في بيت واحد، وهجا فيه واحدًا فقال بسيط:
لما وضعت على الفرزدق ميسمى ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
٧١ قال أبو علي: ويعترض في هذا خبر أنا ذاكره:
حكى أصحابنا: أن حماد عجرد لما هجا بشارا فقال طويل:
نسبت لبرد وأنت لغيره ... فهبك لبرد.. أمك من برد
وذكر راوية بشار، إنه لما سمع هذا البيت، بكى، وقال ماله لعنه الله! كنت أحوم حول هذا المعنى لأفخر به فلا يطردني، إلى أن سبقني إليه. وليس له، وإنما أراد قول جرير: "لما وضعت على الفرزدق ميسمى" وذكر البيت.
٧٢ قال أبو علي: هذا عندي خبره، فيستحيل مثله عن بشار، إذ لا يشبه من بيت جرير شيئًا البته، وإنما أخذه من قول الأول:
أساير.. بنكر.. حقًا بيننا ... ولا عن.....
٧٣ قال أبو علي وقد يقع من هذا الاستطراد ما يخرج به من ثم إلى مدح كقول زهير بسيط:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم
٧٤ أو يستطرد من مدح إلى ذم كقول بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق طويل:
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت: قم فجئني بكوكب
فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يشتهي من لحم عنقاء مغرب
سلي كل أمر يستقيم طلابه ... ولا تذهبي يا بدر بي كل مذهب
فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته ما نال ذلك مطلبي
فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب
أحسن ما قيل في التشبيه
٧٥ قال أبو علي: أجمع أهل العلم بالشعر كأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، وغيرهما، بأن أحسن التشبيه ما يقابل به مشبهان بمشبهين، فإن أحدًا لم يقل في ذلك أحسن من قول امرئ القيس طويل:
كان قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
شبه القلوب رطبة، بالعناب، ويابسة، بالحشف البالي، وإنما خص القلوب لأنها أطيبها، فإذا صادت الطير جاءت بقلوبها إلى أفراخها، قال الأصمعي: "إذا كانت الطير تزق منها، فهو أسرع لطيرانها"، وزعم بعض أصحابنا: أن الجارح لا يأكل شيئًا من قلوب الطير، وإنما خص القلوب لبقائها في وكر العقاب، تلك التي ذكرها.
1 / 11
٧٦ قال أبو علي: وأخبرني الصولي عن أبي العيناء قال: قال بشار: "مازلت منذ سمعت قول امرئ القيس (كأن قلوب الطير رطبًا) وأنا أراود نفسي أن أقابل مشبهين بمشبهين فلا أستطيع ذلك، إلى أن قلت طويل:
كأن مثال النفع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فشبهت النقع بالليل، والسيوف بالكواكب قال بشار: ولا بأس أيضًا بشيء قلته في هذا المعنى، فأوردته في أقرب لفظ، بسيط:
من كل مشتهر في كف مشتهر ... كأن غرته والسيف نجمان
قال: "فشبهت غرة الفضل والسيف بنجمين".
٧٧ فقال أبو علي: فانبعث مسلم فقال لهم بسيط:
في جحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالليل أنجمه القضبان والأسل
فأخذه منصور الثمري فقال بسيط:
ليل من النقع لا شمس ولا قمر ... إلا جبينك والمذروبة الشرع
فقال العتابي بسيط:
تهمي سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفًا كواكبه البيض المباتير
٧٨ قال أبو علي: وقد استكثر الشعراء من التشبيه ومهروا فيه وفي أفانينه، ولم يخل شاعر قديم منه.
٧٩ والآن، أذكر لمعًا من محاسنه التي وقع الإجماع على أنها أبدع ما قيل فيه، تتعلق بالحفظ، وتتصل بالمحاضرة بإذن الله ومشيئته.
٨٠ قال أبو علي: أخبرني أبو عبد الله الحكيمي قال: أخبرني أحمد ابن يحيى قال: حدثنا الزبير عن الأصمعي، قال:
استدعاني الرشيد في بعض الليالي وقد تصرمت قطعة من الليل. فراعني رسله، ولم أفتأ أن مثلت بحضرته، فإذا في المجلس يحيى بن خالد، وجعفر، والفضل، فلما لحظني الرشيد استدعاني، فدنوت، فتبين ما بنفسي من الوجل فقال لي "ليفرخ روعك فما أردناك إلا لما يراد له مثلك" فمكثت هينئة إلى أن أبت إلى نفسي، بعد أن كادت تطير شعاعًا، فقال: "إني نازعت هؤلاء القوم- وأشار إلى يحيى، وجعفر، والفضل -في أشعر بيت قالته العرب في التشبيه، ولم يقع إجماعنا على بيت نركن إليه دون غيره. فأردناك لفصل هذه القضية، واجتناء ثمرة الصواب فيها "فقلت: "يا أمير المؤمنين، إن التعيين على بيت واحدٍ، في نوعٍ، قد توسعت العرب فيه، والقصر عليه صعب ولكن أحسن الناس تشبيهًا امرؤ القيس، قال في ماذا؟ قلت: في قوله طويل:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
"وقوله" طويل:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
"وقوله" متقارب:
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
"وقوله" طويل:
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالًا على حال
قال: فالتفت إلى يحيى، فقال: "هذه واحدة -وقد نص على أن أمرأ القيس أبرع الناس تشبيهًا -قال يحيى: "هني لك يا أمير المؤمنين.
"قال: ثم قال لي الرشيد: فما أبرع تشبيهاته عندك؟ قلت: قوله يصف فرسًا" متقارب:
كأن تشوفه بالضحى ... تشوف أزرق ذي مخلب
إذا بز عنه جلال له ... يقول سليب ولم يسلب
قال: فقال الرشيد: "هذا أحسن، وأحسن منه قوله طويل:
فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طورًا وترتقي
٨١ قال: فقال جعفر: "يا أمير المؤمنين! ما هذا هو الحكيم
"قال: فقال الرشيد: "وكيف!؟ " قال: "يذكر أمير المؤمنين، ما كان اختياره وقع عليه، ونذكر ما اخترناه، ويكون الحكم واقعًا من بعد، "قال: فقال الرشيد: "أفرض! "، "قال الأصمعي" فاستحسنتها منه، يقال افرض الرؤوس: إذا قارب الصواب، "قال: ثم قال الرشيد: "بل تبدأ يا يحيى، "فقال يحيى: "أشعر الناس تشبيهًا للنابغة في قوله كامل:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود
وفي قوله طويل:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتآى عنك واسع
وفي قوله بسيط:
من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوى المصير كسيف الصيقل الرد
٨٢ قال الأصمعي: "قلت أما تشبيهه مرض الطرف فحسن إلا أنه قد هجنه بذكر العلة، وتشبيهه المحب بالعليل، والأحسن قول عدي بن الرقاع العاملي كامل:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
1 / 12
وأما تشبيهه الإدراك بالليل، فقد ساوى الليل والنهار فيما يدركانه، وإنما كان سبيله أن يأتي بما ليس له قسيم، حتى يأتي بمعنى ينفرد به، ولو شاء قائل أن يقول إن قول البحتري في هذا أحسن، لوجد مساغًا إلى ذلك، حين يقول طويل:
فلو كنت بالعنقاء أو بأسومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني
أما قوله "طاوي المصير، كسيف الصيقل الفرد" فالطرماح أحق بهذا المعنى لأنه أخذه فجرده وزاد عليه وقال كامل:
يبدو، وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
فقد جمع في هذا البيت استعارة لطيفة بقوله "وتضمره" وتشبيه اثنين باثنين، بقوله: "يبدو ويخفى، ويسل ويغمد" جمع حسن التقسيم، وصحة المقابلة".
٨٣ قال الأصمعي: "فاستبشر الرشيد، وبرقت أسارير وجهه، حتى خلت برقًا يومض منها، وقال يحيني: فضلناك ورب الكعبة -واستقبح يحيى، فكأن الرماد ذر على وجهه- فقال الفضل: لا تعجل يا أمير المؤمنين حتى أمر ما قلته أيضًا على سمعه، فقال: "قل! ".
٨٤ فقال الفضل: "أحسن الناس تشبيهًا طرفة في قوله طويل:
يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم التراب المقابل باليد
وفي قوله طويل:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه في اليد
وفي قوله طويل:
ووجه كأن الشمس ألقت قناعها ... عليه، نقي اللون لم يتخدد
٨٥ قال: "فقلت هذا حسن، وغيره أحسن منه وقد شاركه في هذا المعنى جماعة من الشعراء قبل وبعد، فطرفة صاحب واحدة لا يقطع بقوله في سواها وإنما يعد من أصحاب الواحدة".
٨٦ قال: "ومن أصحاب الواحدة؟ "قلت: "الحارث بن حلزة في قوله خفيف:
اذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
والأسعر الجعفي في قصيدته التي أولها:
خل دار قلبك من سليمى ما ... شفى ولقد عيب عليها فيما مضى
والأفوه الأودي في قوله رمل:
إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواتي خلة فيها دوار
وعلقمة بن عبدة في قوله طويل:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حين مشيب
وسويد بن أبي كاهل في قوله رمل:
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع
وعمرو بن كلثوم في قوله وافر:
أمن ريحانة السميع ... يورقني وأصحابي هجوع
فاستخف الرشيد الأريحية وقال: "ادنه، فإنك جحيش وحدك" فزاد في عيني نبلًا.
٨٧ فقال جعفر متمثلًا: "ليت قليلًا يلحق الهيجا حمل" يعرض بأنه قد يجوز أن يدرك هو، بما يحاوله، فقال الرشيد: "فاتتك والله السوابق، وجئت سكيتًا ذا روائد أربعًا" -قال- "ورأيت الحمية في وجهه" فقال جعفر: "على شريطة حلمك يا أمير المؤمنين" قال: "أتراه يسع غيرك، ويضيق عنك!؟ "فقال جعفر: "لست أنص على شاعر واحد أنه صاحب أحسن بيت واحد تشبيهًا، ولكن قول امرئ القيس طويل:
كأن غلامي إذا علا ظهر متنه ... على ظهر باز في السماء محلق
وقول عدي بن الرقاع كامل:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة، هما نسجاها
تطوي إذا وردا مكانًا جاسيًا ... وإذا السنابك أسهلت نشراها
وقول النابغة طويل:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
٨٨ قال الأصمعي: "هذا كله حسن بارع، وغيره أحسن منه
وإنما يجب أن يقال التعيين على ما يفترعه" قائله، فلم يتعرض له، أو تعرض له شاعر بعده، فوقع دونه، فأما قول امرئ القيس "على ظهر باز في السماء محلق" فمن قول أبي دؤاد.
متقارب:
إذا شاء راكبه ضمه ... كما ضم باز إليه الجناحا
وأما قول عدي بن الرقاع "يتعاوران من الغبار ملاءة" فمن قول الخنساء كامل:
جاري أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الخضر
وأول من أطلق هذا المعنى، شاعر جاهلي قديم من بني عقيل، فقال طويل:
ألا يا ديار الحي بالبردان ... عفت حجج بعدي لهن ثمان
فلم يبق منها غير نوي مهدم ... وغير أثاف كالركي رهان
وأثار هلب أزرق اللون دابر ... عفته الريح والأنواء كل مكان
قفار مرورات يحاربها القطا ... ويضحي بها الجأيان يعتركان
يثيران من نسج الغبار عليهما ... فميصين: أسمالًا ويرتديان
1 / 13
وقد شارك عديًا أبو النجم، وأورده في أخصر لفظ، فقال يصف عيرًا وأتانا وما أثاراه من الغبار بعدوهما رجز:
ألقى تحيت القاع من غبارها ... سرباله، وانتاع في سربالها
وأما قول النابغة: "فإنك شمس إلخ" فقد تقدمه فيه شاعر قديم من شعراء كنده، يمدح عمرو بن عند، وهو أحق به من النابغة، إذ كان أبا عذرها، فقال طويل:
تكاد تميد الأرض بالناس أن رأوا ... لعمرو بن عند غضبة وهو عاتب
هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... على كل ضوء والملوك كواكب
٨٩ قال الأصمعي: فكأني والله ألقمت جعفرًا حجرًا، فاهتز الرشيد فوق سريره سرورًا، وكان يطير عنه عجبًا وطربًا، وقال: "لله درك يا أصمعي! اسمع الآن ما كان وقع اختياري عليه "فقلت: ليقل أمير المؤمنين، أحسن الله توفيقه" فقال: "عينت على ثلاثة أشعار، أقسم بالله أني أملك قصب السبق بأحدها، "فقال يحيى: "بعض على همتك، فأبى الله إلا أن يكون الفضل كله لك" ثم قال الرشيد: "أتعرف يا أصمعي تشبيهًا أفخم وأعظم، في أحقر مشبه وأصغره، وأندر شيء في أحسن معرض، من قول عنترة، الذي لم يسبقه إليه سابق، ولا نازعه منازع، ولا طمع في مجاراته فيه طامع، حين شبه ذباب الروض العازب في قوله كامل:
وخلا الذباب بها يغني وحده ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم
ثم يا أصمعي، هذا من التشبيهات العقم التي لا تنتج، وشبهت بالريح العقيم التي لا تنتج ثمرة، ولا تلقح شجرة فقلت: "كذلك هو يا أمير المؤمنين! وعزك آليت ما سمعت أحدًا قط وصف شعرًا أحسن من هذه الصفة، ولا استطاع بلوغ هذه الغاية" فقال: "مهلًا لا تعجل، أترعف أحسن من قول الحطيئة يصف بغام ناقته؟ أو تعلم أحدًا قبله، أو بعده، شبه تشبيهه فيه حيث يقول طويل:
ترى بين لحييها إذا ما ترغمت ... لعابًا كبيت العنكبوت المودح"
فقلت: "لا، والله! ما علمت أحدًا تقدمه، ولا أشار إلى هذا التشبيه قبله، أو بعده" قال: "أتعرف أوقع أو أبدع من تشبيه الشماخبنعامة سقط ريشها وبقي أثره؟ بسيط:
كأنما منثنى أقماع ما مرطت ... من العفاء بليتيها الثآليل
فقلت: "لا، والله"
٩٠ فالتفت إلى يحيى، فقال: "أوجب؟ " قال: "وجب! " قال: "أفنزيدك؟ "قال: "وأي، هو خيركم فزدني منه، يا أمير المؤمنين قال: "وقول النابغة الجعدي طويل:
رمى ضرع ناب فاستهل بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
ثم التفت إلى الفضل، فقال: "أوجب؟ " قال: وجب! " قال: "أزيدك؟ " قال: "ذاك إلى أمير المؤمنين" قال: "قول الأعرابي طويل:
بها ضرب أذناب العطايا كأنها ... ملاعب ولدان تحط وتمصع
ثم التفت إلى جعفر فقال: "أوجب" قال: "وجب" قال: "أزيدك!؟ قال: "لأمير المؤمنين علو الرأي" قال: "قول عدي بن الرقاع كامل:
تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
٩١ فقلت: "يا أمير المؤمنين، هذا بيت حسد عليه عديًا، جرير! "فقال: "وكيف ذاك! " قلت: "زعم أبو عمرو بن العلاء: أن جريرًا قال: لما ابتدأ عدي نشد: كامل:
عرف الديار توهمًا فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها
"قلت في نفسي، قد ركب والله مركبًا صعبًا، سيبدع فيه "فما زال يتخلص من حسن إلى أحسن إلى أن قال: تزجى أغن كأن إبرة روقه "قال فرحمته، وظننت أن عادته تقصر به، فلما قال: "قلم أصاب من الدواة مدادها" حالت الرحمة حسدًا".
٩٢ قال: "لله درك يا أصمعي، "ثم أطرق، ورفع رأسه، وقال: "أتراك تغنيني عن عقلي بانحطاطك في شعبي؟! "فقلت: "كلا، يا أمير المؤمنين، إنك لتجل عن الحرش! " فقال: "انظر حسنًا" قلت: "قد نظرت، قال: "فالسبق عنه؟ " قلت: "لأمير المؤمنين" قال: "فقد أسهمت لك فيه العشر، والعشر كثير! ثم رمى بطرفه إلى يحيى، فقال: "المال الساعة، وأوكى لك" قال: "فما كان ساعة، حتى نضدت البدر بين يديه، إلى أن كادت تحول بيني وبينه، ورأيت ضوء الصبح قد غلب على ضوء الشمع، فأشار إلى خادم على رأسه (كم؟) فقال: (ثلاث آلاف درهم)، فقال: (دونك فاحتمل ثلاثين بدرة وانصرف بها إلى منزلك) ونهض عن مجلسه، وأمر الخدم بمعاونتي على تعجل حملها، فحمل كل خادم بدرة، لا يكاد يستقل بحملها.
1 / 14
وكانت أسعد ليلة ابتسم فيها الصباح عن أحد بالغنى.
٩٣ قال أبو علي: وأخبرنا محمد بن عبد الواحد، عن أحمد بن يحيى، عن أبي نصر، عن الأصمعي قال: اجمع أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، ويونس -وهؤلاء أهل العلم بالشعر- أن التشبيهات العقم، التي انفرد بها أصحابها، ولم يشركهم فيها غيرهم ممن تقدم، ولا ممن تأخر أبيات معدوات:
أحدها-قول عنترة في تشبيه حنك الغراب بالجلمين كامل:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع
حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
ثانيها- وقول عدي بن الرقاع في تشبيه قرن الظبي كامل:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
ثالثها- وقول الراعي يصف ناقصًا، جعد الرأس، دنس الثياب كامل:
فكأن فروة رأسه من شعره ... رعيت فأنبت جانباها فلفلًا
رابعًا وقول بشر بن أبي خازم بن عمرو الأسدي إذ حفر أصله الثور بأظلافه بالأعنة طويل:
يثير ويبدى عن عروق كأنها ... أعنة خراز تخط وتبشر
شبه عروق الأرطي بحمرة الأعنة، أي كأنها أعنة خراز بين جديد وبالٍ.
خامسها وقول الطرماح في وصف النعام بسيط:
مجتاب شملة برجد لسراته ... قدرًا، وأسلم ما سواه البرجد
سادسها وقول ذي الرمة في تشبيه الليل، ولم يقل أحد قبله، ولا بعده، في هذا المعنى مثله إلا إنهم قد شبهوا الليل بالطيلسان في خضرته وأمواج البحر وغير ذلك -طويل:
وليل كجلباب العروس أدرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
أحم علافي، وأبيض صارم ... وأعيس مهري، وأروع ما جد
سابعها وقول مضرس بن ربعي في صفه نعامة بسيط:
صفراء عارية الأكارع، رأسها ... مثل المدق، وأنفها كالمبرد
٩٤ قال الأصمعي: ومن هذه التشبيهات التي سبق إليها قائلوها، وقصر عنها طالبوها، بل لم يتعرض لها متعرض من الشعراء، قول النابغة في تشبيه النسور طويل:
تراهن خلف القوم خزرًا عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرئب
ولقد أحسنت أخت ذي الكلب في قولها بسيط:
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال: وقول عبد الله بن الزبير الأسدي في تشبيه رأس القطاة بالجوزة طويل:
تقلب للإصغاء رأسًا كأنها ... يتيمة جوز اعترتها المكاسر.
قال أبو علي: الزبير: البئر المطوية بالحجارة، والزبير الداهية، والزبير: الكتاب المكتوب، أخذ من المزبر وهو القلم وقوله أيضًا طويل:
جرى.. الحيات فيها كأنها ... مصانع.. لأن ارحل
مرت نطفة بين البراتي كأنها ... سقط من الجوانح.. مقبل
لأصهب صيفي مشته خطيم ... إذا حضرت تسديه حبة فلفل
تقلب رأسًا كال ... وو أنا ... نورد قطاة غلست ورد منهل
٩٥ قال أبو العباس، وأنا أقول: قول ذي الرمة في تشبيه الرمل بأوراك العذارى -وهذا من احتيال الشعراء-طويل:
ورمل كأوراك العذاراى قطعته ... إذا لبسته المظلمات الحنادس
وقول رجل من باهلة يشبه بغي رجل ذكره وافر:
وبغيك يا ابن جزء في تماد ... كسيل الأكم يبتدر الوهادا
وقول امرئ القيس طويل:
كأن عروسًا يوم جلوة أهلها ... عليها شنوف الدر هضبة أسلاف
وأخذه أبو ذؤيب فقال في صفة عقبة بسيط:
كأنها كاعب حسناء زينها ... حلي وأترفها طعم وإصلاح
٩٦ وقال أبو علي: أخبرني محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرني ابن ابي حية عن الجاحظ قال: "لا نعلم في الأرض شاعرًا تقدم في تشبيه مصيب تام، في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في معنى بديع مخترع، إلا وكل من جاء من الشعراء بعده، أو معه، إن هو لم يغر على لفظه فيسرق بعضه، أو يدعيه بأسره، فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكًا له فيه، أو كالمعنى الذي يتنازعه الشعراء بينهم، فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، ولعله أن يجحد أن يكون سمع بذلك المعنى قط، وقال خطر على بالي من غير سماع، كما خطر على بال الأول، هذا، إذا قر بما به، إلا ما كان من قول عنترة في وصف الذباب، فإنه وصف فأجاد.
1 / 15
فتحامى معناه جميع الشعراء، فلم يعرض له أحد منهم، ولقد عرض له بعض المحدثين، ممن كان يحسن القول، فبلغ من استكراهه لذلك المعنى، ومن اضطراره فيه إلى أن صار فيه دليلًا على سوء طبعه، مهجنًا ما تقدم من إحسانه" قال: "وذلك قول عنترة كامل:
وخلا الذبا ببها يغني وحده ... غردا كفعل الشارب المترنم
وذكر البيتين.
٩٧ قال أبو علي: أخبرني أبي، قال أخبرني أبو عمرو بن سعيد الكاتب، قال أخبرني أحمد بن يحيى عن السيري عن ابن عائشة قال: "لا أعلم أحدًا شبه رجلًا بريح عادٍ، إلا السيد الحميري، فإنه ابتدع من هذا المعنى ما لم يتقدمه أحد إليه، ولا تعرض له بعده معترض، فقال في علي بن أبي طالب ﵁ بسيط:
لكن أبو حسن والله أيده ... قد كان عند اللقا للطعن معتادًا
إذا رأى معشرًا حربًا أنامهم ... إنامة الريح في أبياتهم عادًا.
٩٨ قال أبو علي، وأنا أقول: إن من أحسن التشبيهات قول حميد بن ثور الهلالي طويل:
أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبًا فيها يهب ويهجع
دجا الليل واستن استنانًا رفيفه ... كما استن في الغاب الحريق المشعشع
سرى كاحتساء الطير والليل ضارب ... بأرواقه والصبح قد كان يسطع
وقول الشماخ وافر:
لليلى بالعنيزة ضوء نار ... تلوح كأنها الشعرى العبور
إذا ما قلت أخمدها زهاها ... سواد الليل والريح الدبور
وقول امرئ القيس طويل:
جمعت ردينيًا كأن سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان
الفصل الثاني
أبدع حشو انتظمه بيت أورد لإقامة وزنه
٩٩- قال أبو علي: وهذا باب لطيف جدًا، لا يتيقظ له إلا من كان متوقد القريحة متباصر الآلة؛ طبًا بمجاري الكلام؛ عارفًا بأسرار الشعر؛ متصرفًا في معرفة أفانينه، ولا أعلم أحد أحسن فيه إحسان طرفة في قوله بسيط:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صواب الربيع وديمة تهمي
لأنه احترس للدار من تعفية آثارها؛ ومحو رسومها؛ بقوله "غير مفسدها" وسلم من التعلق على بيت ذي الرمة طويل:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلًا بجرعائك القطر
فإن جماعة من أصحابنا؛ تتبعوا قوله "لا زال منهلًا بجرعائك" قالوا وإذا كان الأمر كذلك؛ طمس معالمها؛ وعفى رسومها، ولعمري إن في ذلك بعض التعلق؛ ولكنه -الباين- قد احترس من هذا الاعتراض؛ احتراسًا قدمه في صدر البيت في قوله "اسلمي على البلى" فدعا لها بالسلامة على تعاقب الأحوال؛ وتصرفها؛ التي توجب بلى الدار؛ واندرس الآثار؛ ثم استسقى لها بأن قال "ولا زال منهلًا بجرعائك القطر" فتعلق المعنى الثاني بالأول؛ ودخل تحت الدعاء لها بالسلامة، وإنما ذهب في الدعاء لها بقوله: "ولا زال منهلًا بجرعائك القطر" إلى قول القائل "ما زلت آتيك" يريد أكثر من إتيانك؛ لا أنه أراد أن إتيانه لا ينقطع عنه، إلا أنه لا يقع تعاقب فيه، ألا ترى إلى قول كثير وافر:
وما زالت رقاك تسل ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي
ويحويني لك الحاوون حتى ... أجابت حية تحت اللضاب
فقوله "وما زالت رقاك" غير دال على أنها دائمة الاتصال، غير منقطعة الانفصال، وإنما يذهب بهذه الكلمة مثل هذا الموضع وإضرابه إلى ما ذكر آنفًا دون غيره، من الملازمة، والمخالفة التي لا ينقطع بها انقطاع.
١٠٠-ومثل هذا في براعة الحشو، قول الأخطل بسيط: وأقسم المجد -حقًا- لا يحالفهم حتى يحالف بطن الراحة الشعر فقوله "حقًاط حشو أفاد أحسن معنى، ووقع أحسن موقع.
١٠١- ومن بارع هذا المعنى قول امرئ القيس طويل:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فلو قال: كأن عيون الوحش الجزع الذي لم يثقب، واستقام الوزن بذلك، لكان التشبيه تامًا واقعًا، فلما لم يقم الوزن، أورد في المعنى زيادة بارعة، رائعة، لأن قوله "حول خبائنا وأرحلنا" إخبار عن كثرته، وتمدح منه بأنه مرزوق في صيده.
١٠٢- وقال الفرزدق طويل:
وقد خفت حتى لو أرى الموت مقبلًا ... ليأخذوني، والموت يكره زائره
لكان من الحجاج أهون روعة ... إذا هو أغفى وهو سام نواظره
1 / 16
فانظر إلى لطفه في قوله "إذا هو أغفى" ليكون أشد مبالغة في الوصف، إذ شبهة عند إغفائه، فما ظنك به ناظرًا، أو متأملًا؟! ثم نزهة عن الإغضاء.
فقال: "وهو سام نواظره" وهذه مواضع لطيفة، لا يطالعها إلا من شف جوهره، وساعدته قريحته.
١٠٣- قال أبو علي: ومن بديع هذا الباب قول عبد الله بن المعتز -على تأخر زمانه- طويل:
وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذبل
صبينا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فانظر إلى قوله "ظالمين" ما أعجبها، وأحسن موقعها، لأن قوله "ظالمين" ناف عنها هجنة الإبطاء، وفخر بأن ضربها كان من غير إحواج منها إليه البتة.
وأحسبه نظر إلى قول أعرابي متقدم طويل:
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقي من معاهدها ذكر
وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر إن عادتك الصبر
١٠٤- فشتان بين هذا وبين قول أوس بن حجر طويل:
وهم لمقل المال أولاد علة ... وإن كان محضًا في العمومة مخولًا
فذكره للمال، مع قوله "مقل" حشو لا فائدة فيه.
١٠٥- وقد عيب على أبي العيال الهذلي قوله مجزوء الكامل:
ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب
فذكر الرأس، مع ذكر الصداع، فضل، لو طرحه لاستغنى عن إيراده.
١٠٦- وأقبح من هذين البيتينقول الأعشى كامل:
فرميت غفلة قلبه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
فتكرير ذكر القلب، لا فائدة فيه، وهجن البيت بقوله "وطالحها" أقبح تهجين، وقد احتج قوم "طحالها"، لأنه أراد: أصبت مقتلها، إذا كان الطحال مقتلًا.
١٠٧ ودون ذلك قول ديك الجن كامل:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... بالماء، واستلت سنا اللهب
كتنفس الريحان ما زجه ... من ورد جور ناضر الشعب
فقوله "بالماء" مع ذكره "مزجت" لا فائدة فيه، لأنه مستغن بقوله "مزجت" عن ذكر الماء، وإنما اعتمد فيه على قول أبي نواس كامل:
سلبوا قناع الطين عن رمق ... حيي الحياة مشارف الحتف
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
أبدع بيت قيل في الإغراق
وبعضهم يسميه الغلو
١٠٨ قال أبو علي: وجدت العلماء بالشعر يعيبون على أبيات الإغراق، ويختلفون في استهجانها واستحسانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرون أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضلة له، ويقولون: إن أحسن الشعر أكذبه، وإن العلو إنما يراد بله المبالغة، قالوا: وإذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج به عن الموجود، ويدخل في باب المعدوم، فإنما يراد به المثل، وبلوغ الغاية في النعت.
واحتجوا بقول النابغة -وقد سئل من أشعر الناس؟ فقال-: "من استجيد كذبه، وأضحك رديه" وقد طعن قوم على هذا المذهب، لمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة.
١٠٩ وأنا ذاكر من أعيان أبيات الإغراق، وما يتعلق بالمذاكرة، إذ كان كتابي هذا مقصورًا على ما جانبها، وناسبها.
١١٠ فمن الأبيات المشار إليها في الإغراق، قول قيس بن الخطيميصف طعنة طويل:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفى فانهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
-أنهرت: وسعت-
١١١قال أبو علي: وقول عنترة في مثل ذلك من وصف طعنة كامل:
برحبة الفرعين يهدي جرسها ... بالليل معتس السباع الضرم
١١٢ ومن الإغراق، قول النمر بن تولبيصف سيفًا بسيط:
ابقى الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف قديم أثرد باد
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
١١٣ وفي قول النابغة في هذا المعنى إغراق، إلا أنه أسفر مطلعًا وأسهل مشرعًا طويل:
نقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب
١١٤ قال آخر في وصف ضربة، وأغرق سريع)
ضربته في الملتقى ضربة ... فبان عن منكبه الكاهل
فصار ما بينهما رهوة ... يمشي بها الرامح والنابل
قال أبو علي: النبال: الذي يعمل النبل، والنابل: الذي يحمل النبل، وكذلك سياف وسايف، ورماح ورامح، وما جرى مجراه.
1 / 17
١١٥ ومن الإغراق قول النابعة يصف حوم الطير حول العسكر توقعًا للقتل طويل:
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
فجعل الطير توقن بأنه غالب.
١١٦ وقد تقدمه الأفوه الأودي إلى هذا المعنى بقوله رمل:
وترى الطير على آثارنا ... رأي عين ثقة أن ستمار
١١٧ قال أبو علي: ولكن من أين للأفوه الأودي، ابتداء النابغة: بما يحسن عند السامع، عما ينقاد له القول، قبل استمامه؟ هو طويل:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
فقدَّم في هذا البيت معنى ما تحلق الطير من أجله، ثم أوضحه بقوله طويل:
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاربات بالدماء الدوارب
تراهن خلف القوم خزرًا عيونها ... جلوس الشيوخ في مسوك الأرانب
لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا وضعوا الخطي فوق الكواثب
١١٨ فتبعه حميد بن ثور الهلالي فقال طويل:
إذا ما غزا يومًا رأيت غيابة ... من الطير يرقبن الذي هو صانع
فهم بأمر ثم أزمع غيره ... وإن ضاق أمر مرة فهو واسع
(١١٩) فتلاهم أبو نواس فقال وأحسن مديد:
تتأيا الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره
قال أبو علي: وحكى عمر الوراق، قال: "رأيت أبا نواس ينشد:
وإذا مج القنا علقا ... وتراءى الموت في صوره
راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمي شبا ظفره
تتأيا الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره
فقلت له ما تركت للنابغة شيئًا؟ فقال: "اسكت؟ فلئن كان سبق إليه، لما انصاعت الأتباع له".
١٢٠ قال أبو علي: وأحمد من هذا مذهبًا، وأسلم تركيبًا، قول أبي تمام -على تأخر زمانه- طويل:
تسربل سربالًا من الصبر وارتدى ... عليه بعضب في الكريهة فاصل
وقد ظللت أعقاب رايته ضحى ... بعقبان طير في السماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها ... مع الجيش إلا أنها لم تقاتل
١٢١ومن هذا قول الراجز، يصف فرسًا له، وهو أول من نطق به راجز:
جاء كلمع البرق جاش ناظره ... يسبح أعلاه ويطفو آخره
فما تمس الأرض منه حافره
١٢٢ واعتمد خلف الأحمر على هذا المعنى فقال يصف ثورًا وحشيًا، إلا أنه أتى فكاد يخرج بها عن حبل المحال كامل:
فكأنما جهدت اليته ... ألا تمس الأرض أربعه
١٢٣ وقال أبو نواس رجز:
ما إن يقعن الأرض إلى فرطًا ... كأنما يعجلن شيئًا لقطًا
١٢٤ قال أبو علي: ومن بعيد الإغراق قول مهلهل وافر:
فلولا الريح اسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
إذ كان بين حجر وبين موضع الوقعة التي ذكرها مسافة بعيدة جدًا.
١٢٥ ومن بعيد الأغواق، قول الآخر في صفة الناقة:
ويمنعها من أن تطير زمامها
١٢٦ قال أبو علي: وأحمد منه، ما أنشدناه محمد بن عبد الواحد أحمد بن يحيى لأبي هفان رجز:
تسمع للريح إذا ما سارا ... بين سواريه رحًا دوارًا
لو أنه طار بعيرا طارا
١٢٧ وفي مثله قول معاوية بن مرداس، يصف فرسًا بسيط:
يكاد في شأوه لولا اسكته ... لو طار ذو حافر من سرعة طارا
١٢٨ ونحوه قول سلمة بن عوف في فرس عامر بن الطفيل طويل:
فلو أنها تجري على الأرض أدركت ... ولكنما يطلبن تمثال طائر
١٢٩ ويجري معه قول ابن مقبل طويل:
كأن يديه والغلام يجله ... جناحان من سواذق حين شمرا
-السواذنيق: الصقر، والشاهين، أيضًا، والأجدل: والصقر، والمضر: حي النسر.
١٣٠ وبيت امرئ القيس أحسن وأشبه وأحسبه أول من طرق هذا المعنى، بقوله طويل:
كأن غلامي إذا علا حال متنه ... على ظهر باز في السماء محلق
١٣١ ومثل ذلك قول سلمان بن ربيعة بن زبان متقارب:
وليلة أفنيت ريعانها ... بعجلزة جمزي المدخر
جموح لجري إذا عوفيت ... وإن نوزفت برزت بالخصر
سبوح إذا اعتزمت في العنا ... ن مروح معلمة كالحجر
فلو طار ذو حافر قبلها ... لطارت، ولكنه لم يطر
فما سوذنيق على مرفأ ... خفيف الفؤاد حديد النظر
رأى أن ينافسها بالعرا ... فبادر ولجات الخمر
1 / 18
بأسرع منها ولا مفزع=يقمصه رخصه بالوتر
-قال أبو علي: الريعان، أول كل شيء والعجلزة: الصلبة، تجمع على عجالز، وقوله: "نوزفت" من نزيف البئر، و"اعتزمت": أعطت أقصى ما عندها، والسوذنيق: الشاهين، وقالوا: الصقر والأجدل: الصقر.
والخمر: ما واراك من شجر أو غيره، وسميت الخمر خمرًا من ذلك، لأنها تواري العقل، والمفزع: السهم العريض.
١٣٢ ومن هذا النوع قول الراجز:
يا رب مهر مزعوق ... مقيل أو مغبوق
من لين الدهم الروق ... متى شتى كالذعلوق
أسرع من طرف الموق ... وطائر وذي فوق
وكل شيء مخلوق
-المزعوق: النشيط، والذعلوق: الغصن، مقيل: شرب القايلة، وهو نصف النهار.
١٣٣ وقد أحسن بعض المحدثين بقوله في صفة سرعة فرس رجز:
يكاد أن تسبقه أفياؤه ... كأنما قدامه وراؤه
١٣٤ ومن الإغراق في اللمس، قول أبي صخر الهذلي طويل:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضر
١٣٥ ومن التسليم لدخول "لو" فيه، قول زهير بسيط:
لو كان يقعد فوق النجم من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
فأخذه أبو دلامه فقال بسيط:
لو كان يقعد فوق النجم من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
١٣٦ قال أبو علي: ووجدتهم يستحسنون قول قيس بن الذريح طويل:
فلو أن ليلى العامرية سلمت ... عليّ ودوني تربة وصفائح
أسلمت تسليم البشاشة أو زفا ... إليها صدى من جانب القبر صادح
١٣٧ وهذان البيتان ينظران إلى قول الأعشى سريع:
لو اسندت ميتًا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبًا للميت الناشر
١٣٨ وقد صرح أبو النجم بسرقته فقال رجز:
لو أسندت ميتًا إليها لنشر ... أو مسحت عن عين أعمى لنظر
١٣٩ قال أبوعلي: أنشدني أبو عبد الله الحكيمي قال: أنشدني أحمد بن يحيى قال: ولا أعرف في الإغراق أبعد منها لجرير وافرًا:
فلو وضعت بني نمير=على خبث الحديد إذن لذابا -وصفهم بكثرة الفسق، يقول: يكادون يذيبون خبث الحديد من شدته وتلهبه.
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
١٤٠ وأخذ هذا المعنى -وهو معنى البيت الأخير- أبو نواس
ونقله من القبيل إلى رجل واحد، فقال وأحسن سريع:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
١٤١ ومن الإغراق البعيد قول أبي العجل القيني طويل:
أضاءت لهم أحسابهم وحلومهم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
١٤٢ وقو أبي وجزة السعدي وافر:
ألا عللاني فالتعلل أروح ... وينطق ما شاء اللسان المصرح
بإجانة لو كان يكرع بازل ... من البخت فيها ظل بالسيف يسبح
أَحْسَنُ اِبْتِدَاءٍ ابْتَدَأَ بِهِ شاعرٌ قصيدتَه
١٤٣ قال أبو علي: أخبرنا محمد بن عبد الواحد قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، عن أبي نصر، عن الأصمعي، قال: "لامرئ القيس بيت لم يسبقه إليه أحد، ولا ابتدأ بمثله شاعر، وقف فيه واستوقف، وبَكَى واستبكى، وذكر الأحبة والمنازل، وَوَصَفَ الدّمَنَ فقال: طويل:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... يسقط اللِّوى بيْن الدَّخول فحوملِ
١٤٤ أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، عن محمد بن يزيد قال أخبرنا أبو العالية عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: "الابتداءات البارعة التي تقدم أصحابُها فيها خمسة:
أولها: قول النابغة طويل:
كِلِيني لهمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصبٍ ... وليل أقاسيه بَطِيء الكواكبِ
وقوله أيضًا بسيط:
يا دار ميَّة بالعلياء فالسَّنَد ... أَقْوَتْ وطال علَيْها سالفُ ألأَبَدِ
ثانيها: وقول علقمة بن عبدة طويل:
طَحَا بِكَ قلْبٌ في الحِسانِ طَرُوبُ ... بُعَيْدَ الشباب عصْرَ حينَ مشيب
وقوله بسيط:
هَلْ ما عَلِمْتَ وما استُودعْتَ مكتومُ ... أم حَبْلُها إِذ نأتك اليَومَ مَصْرُومُ
ثالثها وقول امرئ القيس طويل:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... يسقط اللوى بين الدخول فحومل
ولم يَسْبِقْه أَحَدٌ إليه.
1 / 19
١٤٥ قال أبو علي: أخبرنا محمد بن عبد الواحد عن أحمد بن يحيى عن الأثرم عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ قال: "أَحْسَنُ ابتداء في الجاهلية قَوْلُ امريءِ القيس طويل:
أَلاَ عِمْ صَبَاحًا أَيُّها الطَّلَلُ البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وقوله "قفا نبك" إلىآخر البيت، لأنَّهُ وقف واستوقف، وبَكَى واسْتَبْكَى، وذكر الأحِبَّة والمنازل، وَوَصَفَ الدّمَنَ" "وفي الإسلام، القُطَامِيُّ في قوله بسيط:
إِنَّا مُحيُّوكَ فاسلَم أيُّها الطلل ... وإن بَلِيتَ وإن أعيابك الطِّيلُ"
"ومن المُحْدَثين، بشار في قوله طويل:
أَبَى طَلَلٌ بالجَزْع أن يتكلَّمَا ... وماذا عليه لَوْ أجاب مُتَيَّمًا
١٤٦ قال أبو علي: أخبرنا محمد بن عبد الواحد، عن محمد بن يزيد قال: أخبرنا سعيد بن هارون الأشنانداني، عن التَّوزِي، قال: سمعت الأصمعي يقول: "لم يبتدئ أحد من الشعراء بأحسن ما ابتدأ به أَوْسُ بن حَجَر منسرح:
أَيْتُها النفسُ اجْمِلِي جَزَعًَا ... إِنَّ الَّذِي تحذَرين قَدْ وَقَعَا
إِنَّ الَّذي جمع الشجاعة والنَّجْد ... ةَ والحزْمَ والنَّدَى جُمَعَا
الألمعي الذي يَظُنُّ بك الظَّنَّ ... كَأَنْ قَدْ رأى وَقَدْ سَمِعَا
لأنه افتتح المرثية بلفظٍ نطق به على المذهبِ الذي ذهبَ إليه منها في القصيدة، فأَشْعَرَكَ بِمُرادِه، في أوَّل بيتٍ، وهذا نهايةُ وصفِ الشِّعْر، والشاعر".
١٤٧ قال: "وقول أبي ذُؤَيْب، لأنه ابتدأ كَلامه في أوله، بما دلَّ عَلَى آخر غَرضهِ فَقال كامل:
أَمِنَ المَنُون وريبها تَتَوجَّعُ ... والدَّهرُ ليْس بِمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ
٢- وإنِّي لأعْجَبُ كيف لَمْ يَقُلْ الناسُ إنَّ أشعر بيت قالتهُ العربُ كامل:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتَها ... وإِذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ
١٤٨ قال أبو علي: أخبرني محمد بن عبد الواحد، عن أبي ذكروان عن التوزي قال: سمعتُ أبا عمرو بن العلاء يقول: "أحسن المراثي ابتداءً وتبعًا قول أوس" وذكر الثلاثة أبيات.
١٤٩ قال أبو علي: أخبرني أبو عبد اله الحكيمي قال أخبرني أحمد بن يحيى عن عبد الرحمن عن عمه قال: "اخبثُ النَّس أوائلَ شِعْرٍ، النابغةُ الذبياني، والفرذدق. وأجْوَدُهُم أوائلَ شعرٍ، قيسُ بن الخيطم وجريرُ وأنشد لقيس طويل:
أَتَعْرِفُ رسمًا كاطِّراد المذاهب ... لِعمرةَ وحْشًا غيرَ مَوْقِفِ رَاكِبِ
قال: "وقوله -ولا أعرف في الطَّيْفِ مثلَه كامل:
أَنَّي سَرَيتِ وكُنْتِ غَيْرَ سَروبِ ... وتُقَرَّبُ الأحلامُ غيرَ قَريب
مَا َتْمَنِعي يقْظَي فَقَدْ تُوُتِيْنَهُ ... في النوم غير مُصَرَّدٍ، مَحْسُوبِ
-قال أبو علي: قوله "ما تمني يقظي" مأخوذ من قول الأعشى، أو قول الأعشى مأخوذ منه كامل:
يَجْحَدْون ديني بالنهار واقتضى ... ديني إذا وَقَذَ النُّعاسُ الرُّقَّدا
والأعْشَى اعتمد فيه على قول عمرو بن قميئة متقارب:
نَأَتْكَ أمَامَةُ إلاَّ سؤالا ... وإِلا خيالًا يُوافِي خيالا
يوافي مع الليل ميعادها ... ويأتي مَعَ الصُّبْح إلا زيادلًا
١٥٠ قال الأصمعي: "وقد أحسن الأعشى في البتدائه طويل:
كَفَى بالذي تُولِيَنُه لو تَجَنَّبَا ... شفاءً لِسقْمٍ بعد ما عاد أشيبا"
١٥١ قال أبو علي: ومن بديع ابتداءات المحْدَثين قول أبي نواس منسرح:
أعطَتْك ريحانها العُقَارُ ... وحان من لَيْلنا انْسِفَارُ
وقوله طويل:
لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أذوت وحسن رسوم
تُجَافي البِلَى حتى كأنما ... لبِسْنَ على الاِقواء ثوْبَ نعيم
وقوله طويل:
أَلاَ لاَ أَرَى مِثْلي امتَرى اليَومُ في رسَمٍ ... تَوَّمُهُ عينِي ويلفظُهُ وَهْمِي
وقوله طويل:
أَتَتْ صُوَرُ الأشياءِ بيني وبَيْنَهُ ... فَظَنِّي كَلاَ ظَنِّي، وعِلمي كلا عِلْمِي
١٥٢ والسابقُ إلى هذا المعنى امْرُؤُ القيس بقوله متقارب:
لِمَنْ طَلَلٌ "داثِر" آيُهُ ... اضَرَّ بِهِ سَالِفُ الأَحْرُسِ
تنكره العينُ مِنْ جادث ... ويَعْرِفُه شغف الأنْفُسِ
1 / 20