وقد تأسس هذا المشروع وثبت، وسرت فيه إلى أن انفصلت عن المدارس، وحصلت منه نتائج حسنة، وخرج من التلامذة الذين تربوا بالمدارس في مدتنا جم غفير، توظفوا بالوظائف الميرية الشريفة: ملكية وحربية، وانتفعوا وانتفع بهم.
ثم لأجل تسهيل التعليم على المعلمين والمتعلمين وصون ما تعلموه عن الذهاب، جعل بالمدارس مطبعة حروف، ومطبعة حجر، لطبع كل ما يلزم من الكتب، وأمشق الخط الرسم، وغير ذلك.
وحيث كان من أهم ما يلزم للمدارس الحصول على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم، أمعنت النظر في هذا الأمر المهم، واستحدثت مدرسة دار العلوم بعد استصدار الأمر بها، وجعلتها خاصة لعدد كاف من الطلبة، يؤخذون من الجامع الأزهر، ممن تلقوا فيه بعض الكتب العربية والفقه بعد حفظ القرآن الشريف، ليتعلموا بهذه المدرسة بعض العلوم المفقودة من الأزهر، مثل الحساب والهندسة والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والخط، مع فنون الأزهر من عربية وتفسير وحديث وفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان، وجعل لهم مرتب شهري يستعينون به على الكسوة وغيرها من النفقات، ورتب لهم طعام في النهار للغداء، وجعل الصرف عليهم من طرف الأوقاف، ورتب لهم من لزم من المعلمين من المشايخ العلماء، وغيرهم ليقوموا بأمر تعليمهم وتدريبهم، حتى يتمكنوا من هذه الفنون، فينتفعوا وينفعوا، ويجعل منهم معلمون في المكاتب الأهلية بالقاهرة وغيرها، لتعليم العربية والخط ونحو ذلك.
فلما أشيع هذا الأمر وأعلن، حضر كثير من نجباء طلبة العلم بالأزهر يطلبون الانتظام في هذا السلك، فاختير منهم بالامتحان جماعة على قدر المطلوب، وساروا في التحصيل، فحصلوا، وأثمر ذلك المسعى، وخرج منهم معلمون في القاهرة وغيرها، وحصل النفع بهم ولهم.
وأما المعلمون في غير العربية كالهندسة والحساب واللغات ونحو ذلك، فتقرر أن يكونوا من نجباء التلامذة المتقدمين، الذين أتموا دروس المدارس العالية، كالمهندسخانة والمحاسبة والإدارة، بأن يجعلوا أولا معيدين لدروس المعلمين زمنا، ثم يكونوا معلمين استقلالا بالمدارس والمكاتب، كل على حسب استعداده، سوى من يؤخذ إلى غير المدارس من مصالح الحكومة، وقرر ذلك، وعلم بينهم، فرغبت التلامذة في التعلم، واجتهدوا وحرصوا على التقدم، وحصلوا على مهمات الفنون، وتمكنت الحكومة من توسعة دائرة التعليم بلا كبير مصرف.
ولما لم يكن بمصر دار كتب جامعة عامة يرجع إليها المعلمون للاستعانة على التعليم كما في مدارس البلاد الأجنبية، أنشئ محل بجوار المدارس من داخل سراي درب الجماميز المذكورة لهذا الغرض، وصرف عليه من مربوط المدارس، فجاء محلا متسعا يزيد عن لوازم المدارس من الكتب وأدوات التعليم، وقد كان الخديوي إسماعيل يرغب في إنشاء كتبخانة عمومية تجمع الكتب المتفرقة في الجهات الأميرية، وجهات الأوقاف في المساجد ونحوها، وأمرني بالنظر في ذلك، فوصفت له المحل الذي أنشئ، فعين لمعاينته جماعة من الأمراء والعلماء، فاستحسنوه ووجدوه فوق المرام، فصدر الأمر بأن تجمع فيه الكتب المتفرقة، فجمعت من كل جهة، وجعل لها ناظر وخدمة، وخصص لها مغير من علماء الأزهر لمباشرة الكتب العربية، وآخر لمباشرة الكتب التركية، ونظمت لها لائحة، ثم نشرت تؤذن بإباحة الانتفاع بها للطالبين؛ وسهولة التناول للراغبين مع الصيانة لها، وعدم التفريط فيها، فجاءت بحمد الله من أنفع الإنشاءات، وأثنى عليها الخاص والعام من الأهلين والأغراب، إذ تخلصت بها الكتب من أيدي الضياع، وتطرق الأطماع، فإنها كانت تحت تصرف نظار أكثرهم يجهلون قيمتها، ولا يحسنون التصرف فيها، ولا يقومون بواجباتها، بل أهملوها وتركوها، فسطت عليها عوارض متنوعة، أتلفت كثيرا منها حتى صار السالم من الضياع مخرما بعضه بأكل الأرض وبعضه بأكل الأرضة، وزاد أن تصرفوا في أجودها بالبيع للأغراب بثمن بخس، وحرموا الأهلين من الانتفاع بها، وبعضها يحجر عليه، فلا يتمكن أحد من النظر إليه فتخلصت من ذلك، فضلا عن صونها من هذه العوارض، ونظافتها ونظافة أماكنها، وحسن ترتيبها: كل فن على حدته.
وجعل بها محل للاطلاع على الكتب والمطالعة والمراجعة فيها، والنسخ والنقل منها، ورتب فيه ما يلزم للكتابة من الأدوات بحيث يتيسر بهذا الموضع لكل من شاء غرضه من ذلك متى شاء، وأمكن الاطلاع على خطوط الملوك والمؤلفين والعلماء والمتقدمين ومشاهير الخطاطين كابن مقلة وغيره، مما كان يسمع به الإنسان ولا يراه، أو لا يسمع به.
وأخذت بعد إنشائها وافتتاحها في تكميل الناقص من الكتب، وتجديد شراء كل ما يستحسن، وأمكن تحصيله مما ليس موجودا بها من الكتب، ومشى على هذه الطريقة كل من رضيها، ورأى إتمام الفائدة بها ممن تولوا على نظارة المدارس والأوقاف بين مكثر ومقل.
ولأجل إتمام الفائدة ألحقت بهذا المحل محلا للآلات الطبيعية وغيرها من آلات العلوم الرياضية اللازمة للمدارس، وصرف لمشتري تلك الآلات نحو أربعة آلاف جنيه، وتجميع ذلك سهل على التلامذة والمعلمين السير في طرق التقدم، وتقيدت لديهم شوارد الفنون، وتمكنوا منها بالمعاينة والتمرن على استعمال تلك الآلات، واجتلاء المعقول في صورة المحسوس، فتعاضد الفكر والنظر والعلم والعمل.
ثم إنه قد حصل من انضمام الأوقاف للمدارس مساعدة كل منهما للآخر مساعدة كلية، إذ صار أمر التعليم في المكاتب ملحوظا بعين المدارس، فكان سيرهما في التعليمات والتنبيهات والامتحانات السنوية وغيرها سواء، وتيسر لمن أكملوا دروسهم الابتدائية في مكاتب الأوقاف والمكاتب الأهلية المنتظمة دخول المدرسة التجهيزية، والتدرج منها إلى المدارس العالية، وبذلك صار يؤخذ منهم بالرغبة والأهلية كل سنة عدد عديد، كما يؤخذ من تلامذة المدارس الابتدائية الأميرية؛ وأحيت المدارس كثيرا من عقارات الأوقاف المندرسة وانتفعت بها كما مرت الإشارة إلى ذلك.
Bog aan la aqoon