وقد ركبنا صندلا يسير في ذلك المجرى معدا لتنظيف المجرى وقذف ما به من المواد التي تعطل جري الماء، وذلك أنه مصنوع بقدر المجرى، وبه جرافة من أمامه ودولاب، فإذا أرادوا تسييره يديرون الدولاب فينحط الصندل نحو القاع بقدر ما يريدون، فيرتفع الماء خلفه زيادة عن الأمام مع الانحدار الأصلي للمجرى، فيندفع الصندل مسرعا في السير، فيطرد أمامه كل ما لاقاه، وجميع هذه المواد تتدفق في نهر السين المار في المدينة في محل بعيد جدا عن المساكن، فيا لهذا العمل من عمل نافع؛ تخلصت به المدينة من مياه الأمطار الغزيرة في زمن الشتاء، مع التخلص من القاذورات والروائح الكريهة التي لا تخلو منها الأمصار، لا سيما المدن الكبيرة.
ثم بعد قليل من عودتي أحسن إلي في سنة خمس وثمانين برتبة ميرميران، وأحيلت على عهدتي إدارة (السكك الحديدية المصرية)، وإدارة (ديوان المدارس)، وإدارة (ديوان الأشغال العمومية).
وفي شهر شوال من تلك السنة انضم إلى ذلك (نظارة عموم الأوقاف) كل ذلك مع بقاء نظارة القناطر الخيرية، والتحاقي برجال المعية، فبذلت جهدي، وشمرت عن ساعد جدي في مباشرة تلك المصالح، فقمت بواجباتها، ولسبب اتساع ديوان السكة الحديدية، وكثرة أشغاله، كنت أذهب إليه من بعد الظهر إلى الغروب للنظر فيما يتعلق به، وقد أجريت في تنظيم السكة ومحطاتها ما ذكرت بعضه في الكلام على الإسكندرية فانظره، وجعلت من الصبح إلى الظهر لباقي المصالح.
وكنت قد حصلت على الإذن بنقل المدارس من العباسية إلى القاهرة رفقا بالتلامذة وأهليهم، لما كان يلحقهم في الذهاب إلى العباسية من المشاق والنفقة الزائدة، فأحسن إلى المدارس بسراي درب الجماميز، التي كانت قد اشتريت من المرحوم مصطفى باشا فاضل، فنقلت إليها التلامذة وأجريت فيها إصلاحا لازما للمصالح، وجعل السلاملك للديوان، ووضعت كل مدرسة في جهة من السراي، وجعل بها أيضا ديوان الأوقاف، وديوان الأشغال، فسهل علي القيام بها.
وكانت كثرة أشغالي لا تشغلني عن الالتفات إلى ما يتعلق بأحوال التلامذة والمعلمين، فكنت كل يوم أدخل عندهم بكرة وعشيا عند غدوي من البيت ورواحي.
وأعملت فكري فيما يحصل به نشر المعارف وحسن التربية ، وكانت المكاتب الأهلية في المدن والأرياف جارية على العادة القديمة ليس فيها - على قلة أهلها - إلا تعليم القرآن الشريف، وأقل من القليل من يتممه منهم، ويجيد حفظه، ويجوده ويحسن قراءته، مع رداءة الخط في عامة المكاتب المذكورة، فاستحسنت إجراءها على نسق المدارس المنتظمة، فحررت لائحة بتنظيمها وترتيبها على الوجه الذي هي عليه، ودعوت إلى النظر في هذا الترتيب جماعة من أعلام العلماء والأعيان النبهاء فنظروا فيه، واستحسنوه ووضعوا خطوطهم عليه، وصدر الأمر الخديوي بالجري على مقتضاه، ورتب مفتشون لرعاية العمل بموجبه.
وأنشأت مدارس مركزية في بعض مدن القطر كأسيوط والمنيا وبني سويف وبنها، وانتخب لكل منها المعلمون والضباط، وعين لها سائر الخدمة، ورتبت بها أدوات التعليم، ورغب الناس في تعليم أولادهم بها، وكثرت فيها الأطفال، وأنشأت في القاهرة والإسكندرية بعض مكاتب على هذا الأسلوب، مثل مكتبي القربية أحدهما للبنات، والآخر للأطفال الذكور، ومكتب الجمالية، ومكتب باب الشعرية، ومكتب البنات بالسيوفية، ولأجل استفادة الأوقاف، وتكثير إيرادها مع تخفيف المصرف على الحكومة، كان بناء هذه المكاتب في عقارات الأوقاف، وعلى طرفها، وربط لها على المكاتب إيجار يدخل خزينة الأوقاف، وأجريت الإصلاحات اللازمة في المكاتب القديمة، فغيرت بعض مبانيها وأوضاعها الأصلية إلى حالة تصلح لما صارت إليه المكاتب من النظام، وأقيمت لها النظار والمعلمون، وأدوات التعليم ونحو ذلك.
وجعلت المصاريف اللازمة للمدارس والمكاتب جارية على وجه يستوجب انتظامها، مع خفة المصرف على الديوان، فجعل على أهالي التلامذة المقتدرين شيء من النقود يؤخذ منهم برغبتهم كل شهر، على حسب اقتدارهم من غير تثقيل عليهم، استمالة لقلوبهم، واستدعاء لرغبتهم، وجعل لذلك استمارة حفظت في المدارس، وفي كل مكتب، وباقي المصروف يصرف من حاصلات الأوقاف الخيرية الموقوفة على المكاتب، وغيرها من وجوه الخيرات، والمبرات وأطيان الوادي بمديرية الشرقية، وكان قد أحسن على المكاتب الأهلية بهذه الأطيان، وبعض أملاك آلت إلى بيت المال من بعض التركات، فكان من هذه الموارد يصرف كل ما يلزم لهذه المكاتب بعد النفقات الجزئية المتحصلة من ذوي الاقتدار من أهل التلامذة.
وكان القصد تعويد الناس للصرف على أولادهم بالتدريج، شيئا فشيئا، حتى لا يبقى مع توالي الأزمان على الحكومة إلا ما يختص بالمدارس الخصوصية، كالمهندسخانة والطب والإدارة، ونحوها.
وأما باقي المدارس، فيكون الصرف عليها من الأهالي والأوقاف والأملاك المذكورة، إذ بذلك تدوم الرغبة، وتتسع دائرة التعليم.
Bog aan la aqoon