Nolosha Bariga
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
Noocyada
ويرى فريق آخر أن السبب فيما وقع للدولة العثمانية هو تحزب أعدائها عليها وتمالؤهم على اضطهادها، ومع تكوينها من عناصر متباينة تفتأ تتنافر ميلا إلى الانفكاك، وكلما شغبت تلك العناصر ساعدها الأعداء ومدوا لها أيدي المعونة والمناصرة، بحيث لو كانت تركيا في مكان بريطانيا العظمى ما جلدت على احتمال ما تحتمله ولا صبرت لمعاناة ما تعانيه.
وقال فريق ثالث إن سبب سقوط الدولة العثمانية هو سيادة الفرد الذي يكون بشخصه ضعيفا لأنه فرد، ولكنه يتسلط على الملايين من النفوس فيجور ويظلم ويسلب ويهتك وهم ذاهلون لا يقدرون على الملايين، وإذا تكرر مثال هذا الحكم كان ذلك سببا في امتصاص دماء الدولة فلا تقدر على اليقظة من رقدتها وهذا الذي حدث في تركيا، وعندما آن الأوان لإنهاضها كان معين قوتها قد نضب وجاءت الحرب العظمى على البقية الباقية.
وإن الناظر في تاريخ الدولة أثناء تلك الحقبة ليسألن نفسه «أين القادة الذين فتحوا الممالك بمفاتيح السيوف ووضعوا على أعدائهم أقفال الصغار والهوان؟ وأين الساسة الذين ضبطوا تلك الممالك بحكمتهم ودهائهم؟»
كيف انفصلت رومانيا واستقل الصرب وزال الجبل الأسود وذهب الرومللي الشرقي وانفصمت بلغاريا وضاعت قبرص وبانت تونس وطرابلس وانسلخت بوسنة وهرسك وانقطعت باطوم وخرجت قارص وأردهان وانحلت تساليا وولت مصر وضاعت تركية أوروبا وجزائر البحر وخطفت العراق والموصل وطارت بلاد العرب وانسلت سورية وفلسطين ووقعت زيلع وطاحت مصوع وهجر السودان؟ دع عنك مقدونيا وكريت وأرمنيا وساموس وعشرات أخرى من أجزاء الدولة التي تناثرت في مدى أربعين عاما كما تتناثر أوراق الشجر لدى حلول فصل الخريف!
فأول ما نراه في حياة عبد الحميد انفراده بالملك واستبداده بالأمر وسجنه أخاه مراد ثلاثين عاما في قصر أوسراي جراغان وانتشار الدعوى بأنه مجنون مع أن أمراض العقل لا تصل بأصحابها إلى سن الكهولة أو الشيخوخة وقد اعتقل مراد في سنة 1876 وتوفي في سنة 1904 إلى رحمة الله. وقد أحاط عبد الحميد نفسه بفريق من المملقين والجواسيس والخصيان ومشايخ الطرق، وجعل نفسه نهبا لتزاحمهم على الحظوة لديه، بل جعل من قصره ميدانا لحروبهم في سبيل الحصول على المال والنياشين والمناصب، فصارت هذه الطغمة مصنعا للتجسس والتضليل والاختلاق، فطاف حول عرش عبد الحميد زمرة مختلفة الأجناس والأنواع من نزاع الآفاق، وقد تمكنوا بحيلتهم ودهائهم من كسب ثقة السلطان فصار يركن إليهم فشغلوه بالخوف على حياته، وأبعدوا عن عرشه كل مخلص أمين وكل شهم صادق، وصار كل واحد منهم يتجسس على غيره حتى تجسس الولد على أبيه والوالد على ابنه، وأخذوا يقلبون الحقائق للسلطان ويحسنون له القبيح ويقبحون له الحسن، وقد صاغوا له أكثر من عشرين لقبا من ألقاب العظمة والأبهة والمجد حتى ما يكاد يشعر بمشاركته للقدرة الربانية، أعظمها «ظل الله على الأرض» وأقلها «غياث الأمم وغيوث الديم»!
سفير يوناني يمثل تركيا
كانت الدولة العثمانية في سنة 1876 من أجل الدول قدرا وأعزها شأنا وأبعدها صيتا وأرفعها صوتا، وكانت أساطيلها في الدرجة التالية للدولة الفرنسوية في ترتيب قوى الدول البحرية، وكان سكان الدولة يزيدون على سكان بريطانيا العظمى في وقتنا الحاضر (42 مليونا)، فكان من رعاياها في أوروبا 10 ملايين وفي آسيا 14,5 مليونا وفي أفريقيا 11,5 مليونا، وكانت لها رومانيا والصرب، وعدد سكانهما 6 ملايين. وقد ضاع من سكان الدولة العثمانية أكثر من اثنين وثلاثين مليونا، ولا يتجاوز عدد الأتراك الآن أكثر من تسعة أو عشرة ملايين.
كانت فتنة البلغار فقامت دول أوروبا تطلب الإصلاح فوعدت الدولة بتعميم الإصلاح في أنحاء البلاد، وصدر فرمان السلطان بتشكيل البرلمان العثماني الأول، وأراد مدحت باشا تنفيذ هذا الوعد فعمل لذلك بكل قوته. وقد اجتمع مجلس المبعوثان العثماني الأول في 19 مارس سنة 1877، وعين أحمد رفيق باشا رئيسا له وكان سفيرا بفرنسا في بلاط نابوليون الثالث، وكان متعلما ولكنه كان متغطرسا مستبدا، وقد شهد دكتور واشبورن مدير كلية روبرت الأمريكية أنه حضر إحدى الجلسات حيث نهض أحد الأعضاء وكان معمما وأخذ يتكلم في موضوع يهمه فقاطعه الرئيس أحمد وفيق قائلا: «سوس أشيك» أي «اخرس يا حمار!» فسقط الرجل على مقعده كأنه مصعوق (ص51 «تاريخ عبد الحميد» تأليف سير إدوين بيرس، طبع لندن سنة 1917). ونفي مدحت باشا لأنه صاحب فكرة الدستور، وخسرت الدولة حرب روسيا لأن السلطان كان يدبرها من السراي، وقد فعل ذلك أيضا في حرب تركيا واليونان 1897، ولكن اليونان لا تعدل روسيا في القوة والسلاح والشجاعة. ويقال إن كثيرا من الحركات العسكرية التي كانت تصدر الأوامر بها من يلديز إلى ساحة القتال في حرب الروس كان مبنيا على التنجيم وضرب الرمل والأحلام، وقد قاست الجنود العثمانية ما يفتت الأكباد ويذيب القلوب لعدم الاستعداد في مأكلها وملبسها وعلاج جرحاها ودفن قتلاها. وفي هذا الوقت والعساكر الذين يدافعون عن الإسلام والدولة على ما وصفنا من الشقاء والجوع والضنك كان السلطان يأكل في آنية من الذهب ويغسل يديه في طست من الذهب الأبريز. ولما عقد مؤتمر الصلح أرسلت الدولة العثمانية لتمثيلها في المؤتمر رجلا يونانيا مثل صاحب السعادة فينزيلوس ومن وطنه اسمه إسكندر باشا قره تيودوري، وقد كان نصيب اليونان من أسلاب الدولة تساليا وأيبير مع أنه لم يكن لها عضو في المؤتمر ولم تكن لها يد في الحرب، ولكن الدول كافأت وطن إسكندر تيودوري على تساهله في حقوق تركيا. وقد عقد هذا المؤتمر في باريس، واشترطت فرنسا للاشتراك فيه أن لا يبحث فيه مصير مصر وسوريا وبيت المقدس (مما دل الإنجليز أن الفرنسويين كانوا يبيتون لتلك الجهات، كما أن إيطاليا كانت تضمر السوء لطرابلس)، فبادرت إنجلترا بوضع يدها على مصر كما هو معلوم، وانتهى المؤتمر على استقلال الممالك التي كانت تحت الدولة وانفصال بلادها عنها، وعاد نائب السلطنة الرومي بنصفها وترك النصف الآخر على المائدة الخضراء ... يا خسارة!
وقد تنبه عبد الحميد بعد هذه الصدمة التي أصابته في بداية ملكه فاختار أن ينتخب للدولة وزيرا من الخارج، فوقع اختياره على خير الدين باشا التونسي وأصله شركسي. ولد في أوائل القرن التاسع عشر وجاء تونس صغيرا وتقرب من الباي أحمد فعلمه وتقلب في مناصب عدة وسافر لفرنسا، وتقلد وزارة البحرية في 1855 وتقلد الوزارة الكبرى بعد أن ألف كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». فلما استقدمه السلطان عبد الحميد في سنة 1878 بعد حرب الروس أقبل على الأستانة، وكان الباي قد عزله وغضب عليه ومنعه الاختلاط بالناس، فلما قابله السلطان عبد الحميد استحلفه على القرآن والحديث أن لا يدخل في مؤامرة على ذات السلطان، وحلف له جلالته أنه لا يعزله. وتولى الصدارة العظمى والدولة في غاية الاضطراب فوضع التقارير للإصلاح فلم يتفق عمله مع رجال «المابين» وهم رجال البلاط الملكي العثماني، وهم من وصفناهم من الجواسيس والدساسين والمنافقين ومشايخ الطرق والخصيان والمخنثين والقواد الذين يكونون أسودا في الحرب ونعاما في السراي. لم يتفق طبعا خير الدين مع هؤلاء الخطافين ولم يطل عهده أكثر من عام فاستقال في سنة 1879، ولكنه أقام في الأستانة ولم يبارحها وعينه السلطان في مجلس الأعيان وأكرمه إلى أن مات في سنة 1890 وهو في الثمانين من عمره. وهنا يروي المرحوم إبراهيم بك المويلحي قصة لا أعلم مكانها من الحقيقة ولكن أذكرها، قال في ص113 من كتاب «ما هنالك»: «كان أول آمال خير الدين باشا الانتقام من الصادق باي والي تونس، فساعد (خير الدين) على عزل إسماعيل باشا خديو مصر، وبعد إلى سيده الباي يهدده بأن ستكون له تلك العاقبة قريبا، فأسرع الصادق باي بالالتجاء إلى الحكومة الفرنسوية ليأمن على نفسه شر مملوكه الذي صار مالكا، ووجدت فرنسا فرصة لإسكات الدولة عن تونس بتسليم مدحت باشا لها حين التجأ إلى قنصلها في أزمير، واشتغلت الدولة بمحاكمة مدحت وأصحابه واشتغلت فرنسا بإدخال تونس تحت حمايتها فنجح الفريقان.» وقد كرر المويلحي هذه الرواية في ص51 حيث قال:
أرادت الدولة أن تقبض على مدحت باشا وهو وال على أزمير، فهرب إلى قنصل فرنسا فطلبته الدولة فتوقفت فرنسا في تسليمه، وانتهت المسألة بين الدولتين بعد المخابرات على أن فرنسا تسلمه بالشمال وتستلم تونس باليمين وتم الأمر واشترت الدولة رجلا بمملكة، ولما قرب الفرنسويون من تونس صاح الباي وبعث بالرسائل والرسل يستنجد الدولة، فما أصغى إليه مصغ. ا.ه. كلام المرحوم إبراهيم المويلحي.
Bog aan la aqoon