لقد كانت الآونة في مصر آونة نادرة، لم تمتحن فيها العقول بعد بمحنة المحن في العصر الحديث: محنة تكوين الرأي جماعات جماعات، فلا ينطوي الشاب في جماعة صاخبة حتى يحرم القدرة على نقدها ونقد سواها، فهو مع جماعته التي انطوى فيها يقبل خطأها كما يقبل صوابها، وهو مع الجماعات الأخرى يرفض صوابها كما يرفض خطأها، وإنه لخاسر مضلل في كلتا الحالتين ...
وكانت البلدة التي نشأت فيها بلدتي أسوان بأقصى الصعيد، يكاد الناشئ في مثل سني أن يأوي بها إلى صومعة من صوامع الفكر يقلب فيها وجوه النظر في كل ما يسمع أو يبصر من الشئون العامة، بغير تضليل أو تهويل ... وتهب الزوبعة القومية، فلا تفاجئنا في وسط غبارها فتعمى البصائر عما فيها، ولكنها تقترب منا رويدا رويدا فلا تصل إلينا حتى تنكشف على جلاء ...
وهل في ذلك عبرة؟
نعم ... عبر قريبة فيما نرى، فخير ما يصنعه الشاب في فترة تكوين الرأي أن يروض نفسه سنوات على النظر إلى ما حوله مستقلا عن طغيان الجماعات، فإذا دخل في جماعة منها بعد ذلك عرفها بمحاسنها وعيوبها معرفة تمييز وتقدير، ولم يعمل فيها آلة من الآلات ...
قلم يشق طريقه
صحيفة مطبوعة بعد المخطوطة
أصدرت صحيفتي المخطوطة - التلميذ - وأنا تلميذ في الثانية عشرة، لم أبرح المدرسة، ولم أملك في يدي مبلغا من المال يكفي للتفكير في طبع ورقة إن وجدت المطبعة، حيث كنت في الصعيد الأقصى ... وهي غير موجودة! ...
لكنني الآن موظف حكومة، تخرجت من المدرسة الابتدائية، واشتغلت بالقسم المالي في مديرية الشرقية، وعرفت لي مبلغا من المال أقبضه في أول كل شهر: خمسة جنيهات!
ومن هذه الجنيهات الخمسة أستطيع أن أدخر جنيها في كل شهر، وأن أجمع من هذه الجنيهات المدخرة مبلغا يكفي للإنفاق على العددين الأولين من صحيفة مطبوعة، ثم لا حاجة بعد ذلك إلى المال؛ لأن الصحيفة تباع وتأتي بتكاليفها عددا بعد عدد، أو عددين بعد عددين ...
وكنت قد عرفت شيئا عن تكاليف الطباعة في مدينة الزقازيق عاصمة الشرقية؛ لأنني اشتقت إلى بلدتي بعد أن فارقتها يافعا لأول مرة، فنظمت قصيدة على وزن قصيدة «المعري» التي يقول في مطلعها:
Bog aan la aqoon