202

والآيات التي نزلت في سورة براءة وتحدثت عن أهل الكتاب لم تتحدث عنهم في إيمانهم بالمسيح ابن مريم، وإنما تحدثت عنهم وعن شركهم بالله وفي أكلهم أموال الناس بالباطل وفي كنزهم الذهب والفضة. والإسلام يرى ذلك خروجا من أهل الكتاب على دين عيسى، يجعلهم يحلون ما حرم الله ويصنعون صنيع من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وهو مع ذلك يجعل من إيمانهم بالله، على الرغم من ذلك كله، شفيعا لهم لا تجوز معه مساواتهم بالوثنيين، ويكفي معه، إن هم أصروا على أن يجعلوا الله ثالث ثلاثة وعلى أن يحلوا ما حرم الله، أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

كانت هذه الدعوة التي أذن علي بها، يوم حج أبي بكر بالناس، آية إسلام الناس من أهل الجنوب في شبه الجزيرة ودخولهم في دين الله أفواجا. فقد توالت الوفود تترى على المدينة كما قدمنا من قبل، ومن بينها وفود من المشركين ووفود من أهل الكتاب. وكان النبي يكرم كل وافد عليه ويرد الأمراء مكرمين إلى إماراتهم. من ذلك ما سبق لنا ذكره في الفصل الماضي، ومنه أن الأشعث بن قيس قدم في وفد كندة في ثمانين راكبا، دخلوا المسجد على النبي وقد رجلوا لممهم وتكحلوا ولبسوا جبب الحبر بطنوها بالحرير، فلما رآهم النبي قال: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى. قال: فما هذا الحرير في أعناقكم؟! فشقوه. وقال له الأشعث: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار فتبسم النبي ونسب ذلك إلى العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث. وقدم وائل بن حجر الكندي مع الأشعث وكان أمير بلاد الشاطئ من حضرموت فأسلم، فأقره النبي على إمارته على أن يجمع العشر من أهل بلاده ليرده إلى جباة الرسول. وكلف النبي معاوية بن أبي سفيان أن يصحب وائلا إلى بلاده. وأبى وائل أن يردفه أو أن يعطيه نعليه يتقي بهما حمارة الغيظ مكتفيا بأن يدعه يسير في ظل بعيره. وقبل معاوية ذلك على مخالفته لما جاء به الإسلام من التسوية بين المسلمين ومن جعل المؤمنين إخوة، حرصا على إسلام وائل وقومه.

ولما انتشر الإسلام في ربوع اليمن، أوفد النبي معاذا إلى أهله يعلمهم ويفقههم وأوصاه قائلا: «يسر ولا تعسر. وبشر ولا تنفر. وإنك ستقوم على قوم من أهل الكتاب يسألونك: ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.» وذهب معاذ ومعه طائفة من المسلمين الأولين ومن الجباة يعلمون الناس ويقضون بينهم بقضاء الله ورسوله. وبانتشار الإسلام في ربوع شبه الجزيرة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، أصبحت أمة واحدة يظلها لواء واحد هو لواء محمد رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وتدين كلها بدين واحد هو الإسلام، وتتجه قلوبها جميعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ هذا بعد أن كانت إلى قبل عشرين سنة قبائل متنافرة، تشن إحداها الغارة على غيرها كلما وجدت في ذلك مغنما. وبانضوائها تحت لواء الإسلام طهرت من رجس الوثنية واستراحت إلى حكم الواحد القهار. وبذلك هدأت الخصومات بين أهلها؛ فلم يبق لغزو أو خصومة موضع، ولم يبق لأحد أن يستل سيفه من قرابه إلا أن يدافع عن وطنه أو يدفع المعتدي على دين الله.

على أن جماعة من نصارى نجران احتفظوا بدينهم، مخالفين في ذلك الأكثرين من قومهم بني الحارث الذين أسلموا من قبل. إلى هؤلاء وجه النبي خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام كي يسلموا من مهاجمته ولم يلبثوا حين نادى فيهم خالد أن أسلموا؛ فبعث خالد وفدا منهم إلى المدينة لقيه النبي فيها بالترحيب والمودة. ثم إن جماعة من أهل اليمن عز عليهم أن يخضعوا للواء الإسلام، لأن الإسلام ظهر بالحجاز، ولأن اليمن اعتادت أن تغزو الحجاز فلم يغزها الحجاز من قبل قط. إلى هؤلاء أرسل النبي علي بن أبي طالب يدعوهم إلى الإسلام. وقد استكبروا أول الأمر وقابلوا دعوة علي بمهاجمته؛ فلم يلبث علي أن شتتهم على صغر سنه وإن لم يكن معه إلا ثلاثمائة فارس . وارتد المنهزمون ينظمون من جديد صفوفهم. بيد أن عليا أحاط بهم وأوقع في صفوفهم الرعب ، فلم يجدوا من التسليم بدا، وسلموا وأسلموا وحسن إسلامهم، وأنصتوا إلى تعاليم معاذ وأصحابه، وكان وفدهم آخر وفد استقبله النبي بالمدينة قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى.

بينما كان علي يتأهب للعودة إلى مكة كان النبي يتجهز للحج ويأمر الناس بالتجهز له؛ ذلك أن أشهر السنة استدارت وأقبل ذو القعدة وأوشك أن يولي، ولم يكن النبي قد حج الحج الأكبر وإن يكن قد اعتمر فأدى الحج الأصغر قبل ذلك مرتين. وللحج مناسك يجب أن يكون عليه السلام قدوة المسلمين فيها. وما كاد الناس يعرفون ما صح عليه عزم النبي ودعوته إياهم للحج معه حتى انتشرت الدعوة في كل ناحية من شبه الجزيرة، وحتى أقبل الناس على المدينة ألوفا ألوفا من كل فج وحدب: من المدائن والبوادي، من الجبال والصحاري، من كل بقعة في هذه البلاد العربية المترامية الأطراف، التي استنارت كلها بنور الله ونور نبيه الكريم. وحول المدينة ضربت الخيام لمائة ألف أو يزيدون جاءوا تلبية لدعوة نبيهم رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. جاءوا إخوة متعارفين تجمع بينهم المودة الصادقة والأخوة الإسلامية، وكانوا إلى سنوات قبل ذلك أعداء متنافرين. وجعلت هذه الألوف المؤلفة تجوس خلال المدينة، وكل باسم الثغر، وضاح الطلعة، مشرق الجبين، يصف اجتماعهم انتصار الحق وانتشار نور الله انتشارا ربط بينهم وجعلهم جميعا كالبنيان المرصوص.

وفي الخامس والعشرين من ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة سار النبي وأخذ نساءه جميعا معه، كل في محفتها. سار وتبعه هذا الجمع الزاخر، يذكر طائفة من المؤرخين أنه كان تسعين ألفا، ويذكر آخرون أنه كان أربعة ومائة ألف. ساروا يحدوهم الإيمان وتملأ قلوبهم الغبطة الصادقة لسيرهم إلى بيت الله الحرام يؤدون عنده فريضة الحج الأكبر. فلما بلغوا ذا الحليفة نزلوا وأقاموا ليلتهم بها. فلما أصبحوا أحرم النبي وأحرم المسلمون معه، فلبس كل منهم إزاره ورداءه وصاروا ينتظمهم جميعا زي واحد هو أبسط ما يكون زيا ، وقد حققوا بذلك المساواة بأسمى معانيها وأبلغها. وتوجه محمد بكل قلبه إلى ربه ونادى ملبيا والمسلمون من ورائه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. الحمد والنعمة والشكر لك لبيك. لبيك، لا شريك لك لبيك.» وتجاوبت الأودية والصحاري بهذا النداء تلبي كلها وتنادي بارئها مؤمنة عابدة. وانطلق الركب بألوفه وعشرات ألوفه يقطع الطريق بين مدينة الرسول ومدينة المسجد الحرام، وهو ينزل عند كل مسجد يؤدي فيه فرضه، وهو يرفع الصوت بالتلبية طاعة لله وشكرا لنعمته، وهو ينتظر يوم الحج الأكبر نافد الصبر مشوق القلب ممتلئ الفؤاد لبيت الله هوى ومحبة، وصحاري شبه الجزيرة وجبالها وأوديتها وزروعها النضرة في دهش مما تسمع وتتجاوب به أصداؤها مما لم تعرف قط قبل أن يباركها هذا النبي الأمي عبد الله ورسوله.

فلما بلغ القوم سرفا، وهي محلة في الطريق بين مكة والمدينة، قال محمد لأصحابه: من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا.

وبلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، فأسرع النبي والمسلمون من بعده إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود فقبله، وطاف بالبيت سبعا هرول في الثلاث الأولى منها على نحو ما فعل في عمرة القضاء. وبعد أن صلى عند مقام إبراهيم عاد فقبل الحجر الأسود كرة أخرى، ثم خرج من المسجد إلى ربوة الصفا، ثم سعى بين الصفا والمروة. ثم نادى محمد في الناس أن لا يبق على إحرامه من لا هدي معه ينحره. وتردد بعضهم، فغضب النبي لهذا التردد أشد الغضب وقال: ما آمركم به فافعلوا. ودخل قبته مغضبا. فسألته عائشة: ما أغضبك؟ فقال: وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا يتبع؟! ودخل أحد أصحابه وما يزال غضبان، فقال: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار. فكان جواب الرسول: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟! ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه، ثم أحل كما حلوا. كذلك روى مسلم. فلما بلغ المسلمين غضب رسول الله حلل الألوف من الناس إحرامهم على أسف منهم، وحل نساء النبي وحلت ابنته فاطمة مع الناس، ولم يبق على إحرامه إلا من ساق الهدي معه.

وبينما المسلمون في حجهم أقبل علي عائدا من غزوته باليمن وقد أحرم للحج لما علم أن رسول الله حج بالناس. ودخل على فاطمة فوجدها قد حلت إحرامها. فسألها فذكرت له أن النبي أمرهم أن يحلوا بعمرة. فذهب إلى النبي فقص عليه أخبار سفرته باليمن. فلما أتم حديثه، قال له النبي: انطلق فطف بالبيت وحل كما حل أصحابك. قال علي: يا رسول الله، إني أهللت كما أهللت. قال النبي: ارجع فاحلل كما حل أصحابك. قال علي: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد. فسأله النبي: أمعه هدي؟ فلما نفى علي أشركه محمد في هديه، وثبت علي على إحرامه وأدى مناسك الحج الأكبر.

Bog aan la aqoon