194

5

ومعاونته جيوش الروم إذا جاءت من ناحيته. ولذلك بعث النبي إليه خالد بن الوليد في خمسمائة فارس وانقلب بجيشه راجعا إلى المدينة. وأسرع خالد بالانتقاض على دومة في غفلة من مليكها الذي خرج في ليلة مقمرة ومعه أخ له يسمى حسان يطاردان بقر الوحش. ولم يلق خالد مقاومة تذكر، فقتل حسان وأخذ أكيدر أسيرا وهدده بالقتل إن لم تفتح دومة أبوابها . وفتحت المدينة الأبواب فداء لأميرها، وساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من بر وأربعمائة درع، وذهب بها ومعه أكيدر حتى لحق بالنبي في عاصمته. وعرض محمد الإسلام على أكيدر فأسلم وأصبح له حليفا.

لم يكن عود محمد على رأس هذه الألوف من جيش العسرة من حدود الشام إلى المدينة بالأمر الهين. فلم يدرك كثيرون من هؤلاء مغزى الاتفاق الذي عقد مع أمير أيلة والبلاد المجاورة له، ولم يقيموا كبير وزن لما حققه محمد بهذه الاتفاقات من تأمين حدود شبه الجزيرة، وإقامة هذه البلاد معاقل بينه وبين الروم، بل كان كل الذي نظروا إليه أنهم قطعوا هذه الشقة الطويلة وتحملوا في قطعها ما تحملوا من الأذى، ثم عادوا لم يغنموا ولم يأسروا، بل لم يقاتلوا: وكل الذي فعلوا أن أقاموا بتبوك قرابة عشرين يوما. فهل لهذا قطعوا الصحراء في شدة القيظ في حين كانت ثمار المدينة قد طابت وآن أن يستمتع الناس بها؟! وجعل جماعة منهم يستهزئون بما فعل محمد؛ ونقل من ملأ الإيمان قلوبهم نبأهم إليه. فأخذ المستهزئين بالشدة حينا وباللين حينا، والجيش يسير قافلا إلى المدينة ومحمد يحفظ النظام في صفوفه. حتى إذا انتهى إليها لم يلبث ابن الوليد أن لحقه بها؛ لحقه ومعه أكيدر، وما حمل من دومة من إبل وشاة وبر ودروع، وعلى أكيدر حلة من ديباج موشى بالذهب بهت أهل المدينة لمرآها.

هنالك اضطرب الذين تخلفوا عن اتباعه اضطرابا رد المستهزئين إلى صوابهم. جاء المتخلفون يعتذرون وأكثرهم يشوب معاذيره الكذب. وأعرض محمد عما صنعوا تاركا لله حسابهم. لكن ثلاثة صدقوا الله ورسوله فاعترفوا بتخلفهم واعترفوا بذنبهم. هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وهؤلاء الثلاثة أمر محمد فأعرض المسلمون عنهم خمسين يوما لا يكلمهم أحد ولا تصل بينهم وبين مسلم تجارة. ثم تاب الله على هؤلاء الثلاثة وعفا عنهم ونزل فيهم قوله تعالى :

لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .

6

من يومئذ بدأ محمد يشتد في معاملة المنافقين شدة لم يألفوها من قبل؛ ذلك أن عدد المسلمين زاد زيادة تجعل عبث المنافقين بهم خطرا يخشى منه ويجب تلافيه وعلاجه. ولم يقم بنفس محمد ريب، بعد أن وعده ربه لينصرن دينه وليعلين كلمته في أنهم سيزدادون من بعد أضعاف زيادتهم اليوم، وعند ذلك يصبح المنافقون خطرا عظيما. ولقد كان له من قبل. حين كان الإسلام محصورا بالمدينة وما حولها أن يشرف بنفسه على ما يجري بين المسلمين. أما وقد انتشر الدين في أنحاء بلاد العرب جميعا، وها هو ذا يشارف الانتقال منها فكل تهاون مع المنافقين شر تخشى مغبته، وخطر ما أسرع ما يستشري إذا لم تجتث جرثومته. بنى جماعة مسجدا بذي أوان، بينه وبين المدينة نحو ساعة؛ وإلى هذا المسجد كان يأوي جماعة من المنافقين يحاولون أن يحرفوا كلام الله عن مواضعه، وأن يفرقوا بذلك بين المؤمنين ضرارا وكفرا. وطلبت هذه الجماعة إلى النبي أن يفتتح المسجد بالصلاة فيه. وكان طلبهم هذا قبل تبوك، فاستمهلهم حتى يعود. فلما عاد وعرف أمر المسجد وحقيقة ما قصد إليه من إقامته أمر بإحراقه، فضرب بذلك مثلا ارتعدت له فرائص المنافقين فخافوا وانزووا، ولم يبق لهم من يحميهم إلا عبد الله بن أبي شيخهم وقائدهم.

على أن عبد الله لم يعمر بعد تبوك غير شهرين مرض إثرهما ومات. ومع أن الحقد على المسلمين قد كان يأكل قلبه منذ نزل النبي المدينة؛ فقد آثر محمد ألا ينال المسلمون ابن أبي بسوء. ولم يلبث النبي حين دعي للصلاة عليه لما مات أن صلى وقام على قبره إلى أن دفن وفرغ منه. وبموته انهار ركن المنافقين، وآثر من بقي منهم أن يخلص لله توبته .

بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه الجزيرة كلها، وأمن محمد كل عادية عليها، وأقبل سائر أهلها وفودا عليه يقدمون الطاعة ويعلنون لله الإسلام. ولقد كانت هذه الغزوة خاتمة غزوات النبي - عليه السلام - ومن بعدها أقام محمد بالمدينة مغتبطا بما أفاء الله عليه.

وكان ابنه إبراهيم قرة عينه له ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا، فكان إذا فرغ من استقباله الوفود، ومن القيام بأمر المسلمين، ومن أداء حق الله ورسالته وحق أهله جميعا لهم، اطمأنت نفسه برؤية هذا الطفل الذي ظل يترعرع وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحا مما يزيد أباه له حبا وبه تعلقا. وخلال هذه الأشهر جميعا كانت حاضنته أم سيف ترضعه وتسقيه لبن الماعز التي أهداها النبي إليها.

Bog aan la aqoon