193

ولقد حرك منظر الجيش يتقدمه عشرة آلاف فارس ومنظر النسوة مأخوذات بجلاله وقوته بعض نفوس لم تحركها دعوة الرسول فتقاعست ولم تتبعه. رجع أبو خيثمة بعد أن رأى هذا المنظر، فوجد امرأتين له قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأ له فيه طعاما. فلما رأى الرجل ما صنعتا قال: رسول الله في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! هيئا لي زادا حتى ألحق به. فهيأتا له زاده ولحق بالجيش. ولعل جماعة من الخوالف قد فعلوا فعل أبي خيثمة، بعد أن رأوا ما في التقاعس والخوف من شنار ومذلة.

وسار الجيش حتى بلغ الحجر، وبها أطلال لمنازل ثمود منقورة في الصخر. هنالك أمر رسول الله بالنزول، فاستقى الناس من بئرها. فلما راحوا قال لهم: لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ذلك أن المكان لم يكن أحد يمر به، وكان تعصف فيه أحيانا عواصف الرمل تطمر الناس والإبل. ولقد خرج رجلان على خلاف أمر الرسول، فاحتملت أحدهما الريح وطمت الآخر الرمال. فلما أصبح الناس ألفوا هذه الرمال قد طمرت البئر فلم يبق بها ماء، ففزعوا خيفة الظمأ، وقدروا هول ما بقي من طول الطريق. وإنهم لكذلك إذ مرت بهم سحابة أمطرتهم، فارتووا وأصابوا من الماء ما شاءوا وزايلهم الفزع، وطار أكثرهم سرورا، وأقبل بعض منهم على بعض يقولون إنها معجزة. أما آخرون فقالوا: إنما هي سحابة مارة.

وانطلق الجيش بعد ذلك قاصدا تبوك، وكانت الروم قد بلغها أمر هذا الجيش وقوته، فآثرت الانسحاب بجيشها الذي كانت وجهت إلى حدودها ليحتمي داخل بلاد الشام في حصونها. فلما انتهى المسلمون إلى تبوك وعرف محمد أمر انسحاب الروم ونمى إليه ما أصابهم من خوف، لم ير محلا لتتبعهم داخل بلادهم.

وأقام عند الحدود يناجز من شاء أو ينازله أو يقاومه، ويعمل لكفالة هذه الحدود حتى لا يتخطى من بعد ذلك إليه أحد. وكان يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة أحد الأمراء المقيمين على الحدود. ولقد وجه إليه النبي رسالة أن يذعن أو يغزوه فأقبل يوحنا وعلى صدره صليب من ذهب، وقدم الهدايا والطاعة، وصالح محمدا وأعطاه الجزية، كما صالحه أهل الجرباء

3

وأذرح

4

وأعطوه الجزية.

وكتب رسول الله لهم كتب أمن، هذا نص أحدها - وهو ما كتب ليوحنا: «بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمحمد أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.» وإيذانا بالموافقة على هذا العهد أهدى محمد إلى يوحنا رداء من نسج اليمن وأحاطه بكل صنوف الرعاية، بعد أن اتفق على أن تدفع أيلة جزية قدرها ثلاثمائة دينار في كل عام.

لم يبق محمد في حاجة إلى القتال بعد انسحاب الروم، وبعد معاهدة البلاد الواقعة على الحدود معه، وبعد أن أمنه عودة الجيوش البزنطية من هذه الناحية لولا خيفة انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني أمير دومة،

Bog aan la aqoon