93

Nolosha Masiixa: Taariikhda iyo Daahfurka Casriga ah

حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث

Noocyada

قال إنجيل متى بعد ذلك: ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم لهيرود انصرف إلى الجليل، وترك الناصرة وسكن في كفر ناحوم، وابتدأ رسالته داعيا إلى التوبة؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات.

كان لقاء يوحنا المعمدان مفرق الطريق في السيرة المسيحية كما أسلفنا، فكانت سيرة الفتى المؤمن قبل ذلك اللقاء تأهبا واستعدادا وأملا، وكانت سيرته بعد اللقاء رياضة وامتحانا وعزيمة، وردته كلمات النبي النذير إلى طويته يسبر أغوارها، ويمتحن صبرها، ويسائلها، ويسائل الغيب؛ ليهديه إلى كنه رسالته، ومصدر بعثته، وتوسوس له التجربة أن يطلب الآية، ويلمس الدليل، وكل تجربة من هذه التجارب التي مثلتها بساطة الرواية الإنجليزية تدور على سر الرسالة المسيحية وما أحاط بها في كتب القدامى من البشائر والمواعيد؛ ألم يكن رجاء الناس من المسيح الذي ينتظرونه أن يعم الخير، ويبطل العناء في طلب الأرزاق، ويصبح الخبز لقي لمن يطلبه كحجارة الطريق؟ ألم يكن من مواعيد المسيح أن يقبل على السحاب محمولا على أجنحة الملائكة؟ ألم يكن من مواعيده ملك العالم بالتاج والصولجان؟ كل تجربة من هذه التجارب كانت هي التجربة التي تساور ضميرا مشغولا بالرسالات المسيحية، واقفا على قمة الإيمان وشفا الهاوية. وفي لحظة واحدة، تغريه من هنا رسالة جسد، وسلطان ومساومة على البراهين والآيات، وتعصمه من هنا رسالة روح، وقداسة ويقين لا يساوم على البرهان.

أتكون كلمات يوحنا للمسيح أول وحي نبوي بالرسالة المسيحية؟

واضح غاية الوضوح أن هذه الكلمات الحية لم تطرق مسامعه إلا وقد فتحت في نفسه الصافية بابا للتأمل والتساؤل، وأن فترة الخلوة في البرية على أثر ذلك كانت فترة اعتكاف لاستخلاص الحقيقة من أعماق الضمير، والاستعانة بالصيام والتهجد على مناجاة الغيب، والاستقرار على عزيمة خالصة للإقدام على خطوة حاسمة يريدها الله، ويبطل فيها الإبهام والإحجام.

وعندنا أن أنفس خبر يعين على التعريف بمنهاج الإيمان في نفس الرسول العظيم هو هذا الخبر عن تجربة الوحدة في البرية، فهو يفسر لنا مواقف السيد المسيح جميعا قبل الإقدام على خطواته الحاسمة، أو يفسر لنا منهاج الإيمان بدواعي العمل في ضميره السليم.

إنه إذا أقدم على أمر من الأمور الحاسمة أطال التفكير فيه، ولم يزل يطيل التفكير فيه، ويقلب وجوه الروية والمراجعة حتى يخطر له أن العمل مرهون بانتظار آية يستوثق بها من إرادة الله، وعندئذ يبادر إلى نبذ هذا الخاطر بغير هوادة؛ لأن العامل الذي يتوقف عمله على انتظار آية ضعيف الإيمان، ومن كان قوام نفسه أن مثقال حبة خردل من الإيمان ينقل الجبل من مكانه، ويخلع الشجر من منبته، فلن يكون إيمانه معتمدا على آية يراها قبل أن يعمل عمله ويتجرد لمقصده، وبخاصة حين يبدو للنفس أن الآية منتظرة لاتقاء الخطر، وضمان الأمان. فالخطر إذن أحب من الشك، وكل شيء إذن أسلم من الأمان الذي لا يأتي بضمان من البرهان.

وكلما بلغ السيد المسيح من تفكيره ورويته هذا الحد الفاصل، فمنهاجه الجدير به هو استخارة الحوادث، واستلهام الغيب من هذا الطريق، ليفعل ما يتوقاه، ولا يشترط شرطا للوقاية، وليفعل الله ما يشاء، فما يجري بعد ذلك كله هو إرادة الله.

خرج السيد المسيح من العزلة إلى الرسالة، ولم يقل لأحد إنها رسالة مسيح، بل سكت عن ذلك حتى تسامع الناس بدعوته، وأصبح له أكثر من ثمانين تلميذا يبشرون برسالته، ويستمدون الهداية من وحيه.

واصطبغت رسالته الأولى في الجليل بصبغة مميزة وهي صبغة الرسالة القومية إلى إسرائيل، وحرص - عليه السلام - أشد الحرص ألا يثير الناس على السلطان الحاكم، ولا يثير السلطان الحاكم عليه، فكان يؤثر المباعدة والتقية ما استطاع، حتى بلغ الكتاب أجله، وآن أن يمضي في خطوة أخرى بعد الخطوة الأولى التي انتقل بها من العزلة إلى الدعوة بين بني إسرائيل، فهذه الخطوة التالية هي الدعوة الإنسانية العامة، وهي استخارة للحوادث واستلهام للغيب في ميدان أوسع وأبقى، وعلى الصفة التي ثبتت له في طوية ضميره، وهداه إليها وحي الله، ولم يبق إلا أن تؤيدها حوادث القدر كيف شاء.

أما الصفة التي تثبت له - عليه السلام - في طوية ضميره، فقد تكررت في كلامه عن نفسه على صور شتى، فهو نور العالم وخبز الحياة، والكرامة الحقيقية، وهو ابن الله وابن الإنسان.

Bog aan la aqoon