وكان الحسن بن سهل عمل قصيدة استحسنها الناس وكتبوها ، وكتمها الحسن محمدا مخافة أن يعيب منها شيئا ، وكان محمد ناقدا للشعر حسن المعرفة به ، فالتقيا في الجامع ، فقال له محمد : إن لم تكتبني قصيدتك هذه الغراء فأنشدنيها مرة واحدة ، فأنشده إياها ، فقال له محمد : وفقت والله ( . . . . . . ) من ألقى ورقة بخط دقيق ، وكان مع ذلك يحفظ من اللغة ما لم يحفظه أحد في زمانه ولا يعده إلى وقتنا هذا ، وهذا جميع كتبه في اللغة : الجمهرة والاشتقاق وغيرهما ، من حفظه وما رأى أحد معه كتابا قط ، وله من الشعر ما ليس لعالم قبله ، وكان مع ذلك يستحضر علمه ويحضر نفسه . وذكر لي بعض غلمانه - ابن بسطام أو غيره - تطاول على رجل فزجره ، وقال : ما الذي يعجبك من نفسك أو يعجبك مني إن جميع ما يحفظه وأكثر منه يحفظه راع من رعاة العرب .
وورد عسكر مكرم فقاد إليه جعفر بن محمد العسكري فرسا بمائة دينار ، وقرأ عليه ، فلما أراد الرحيل إلى مدينة السلام ، حمل إليه مائة دينار وأنشده : ( وهون جدي إن الفراق بيننا
فراق حياة لا فراق ممات ) فقال له أبو بكر : يا أبا الفضل ، اجتهد واطلب واسهر ولا تدع أحدا يسبقك في علمك ولو تشق نفسك ، فإن الرفيع من كان ذا سلطان أو ذا علم ، فمن لم يكن له أحدهما تركه الناس ، ورأى أعقابهم .
ونحن نقول : إن صاحب السلطان إذا نظر حق النظر ، لم يمنح سلطانه عوضا عن العلم ، فإن عز صاحب السلطان إنما يدوم له ما دام في سلطانه ، فإذا زال عنه ذل ، وعز العالم يدوم له في حياته وبعد وفاته ، ولهذا كان فضلاء السلاطين يجتهدون في طلب العلم مع كثرة أشغالهم ولانغماسهم في الدنيا .
Bogga 89