وحدق في وجهها بعينيه الصغيرتين النهمتين وتمتم: وهنا من يحبك أكثر من نور عينيه.
51
لا دائم إلا الحركة، هي الألم والسرور. عندما تخضر من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة؛ تمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء.
52
كل ما يحدث مألوف لا ينكره عرف ولا دين. والقشرة الصلبة تنطوي على سائل الرحمة العذب مثل جوزة الهند. هكذا انتقل رمانة وقرة ووحيد من بولاق إلى دار خضر الناجي. لم يدرك الغلمان ما يراد بهم. أجهشوا في البكاء فبكت محاسن بحرارة. بررت قرارها بزعم أن آل الناجي هددوها بالالتجاء إلى القضاء. اعتذرت عن سلوكها ولكنها حزنت بصدق ومن الأعماق. نبض قلبها بالعواطف المتناقضة مثل مشمشة حلوة النسيج مرة النواة. ثمة إيثار الأبناء بالنعمة والتضحية بهم في آن. ثمة صراع بين الوفاء لسماحة ومحاسبته الدائمة على خداعها، ثم تركها وحيدة، وثمة صراع أعنف بين الصبر والحرمان من ناحية، وبين الاستسلام لتيار الحياة المتدفق من ناحية أخرى. بين الزلل والفتنة، وبين الحق الشرعي لغريزة نهمة. أقنعت نفسها بأنها امرأة ضعيفة وأن عليها أن تتصرف من منطلق الضعف والمحافظة على السلوك السوي. وأيدها في تفكيرها شيخ الزاوية وشيخ الحارة وكثرة من الجيران. - لا خير في الوفاء لقاتل. - ولا خير في بقاء شابة جميلة بلا زوج.
وهل يمكن أن تنسى ما التصق بالمرحومة أمها من سوء السمعة؟ إلى ذلك كله فإن زواج امرأة من مخبر أمر مرغوب فيه من غالبية أهل الحارة.
هكذا سلمت محاسن أبناءها إلى أهل سماحة، وهكذا حصلت على الطلاق من سماحة القاتل الهارب.
53
وتم زواجها من المخبر حلمي عبد الباسط في جو من الترحيب والمرح. جددت جهازها ولكنها لبثت في شقتها، وظلت تعمل في دكانها لتحافظ على استقلالها وكرامتها كثالث زوجة في حياة الرجل. ووجدت عناء في الانتقال من معاشرة سماحة إلى معاشرة عبد الباسط، ولكن الجديد يطمس القديم عادة ويغطي على ذكرياته، وبخاصة إذا تمتع بجدارة ذات شأن؛ لذلك ألفته مع الأيام، وأحبته، وأنجبته له. ودأبت على زيارة رمانة وقرة ووحيد في دار خضر. تستقبل بالترحاب والاحترام من أهل الدار، وبالحب الشديد من الأولاد. ووجدت أنهم يتأقلمون بسرعة، ويتبدون في صورة مختلفة، ولكنهم لا ينسون أمهم ولا ملاعبهم ولا أقرانهم، ولا حتى أباهم الذي طال غيابه. ولكن بمرور الأيام وكثرة الإنجاب تباعدت الفترة بين الزيارة والزيارة، وطالت أكثر مما يتوقع حتى ندرت، وذهب الأولاد لزيارة أمهم في الدوكار ولكن عبد الباسط استقبلهم استقبالا جافا جعلهم لا يفكرون مرة أخرى في تكرير الزيارة. وأخذت العلاقات تفتر حتى أنذرت بالقطيعة، حتى حصون القلوب يغزوها الزمن بانسيابه بين النعومة والصرامة.
54
Bog aan la aqoon