أخسرها كل ليلة في النادي؟!»
بذلة الأسير
كان «جحشة» بائع السجائر أول السابقين إلى محطة الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار، وكان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضي على الإفريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين. ولعل «جحشة» لو سئل عن مهنته للعنها شر لعنة؛ لأنه كغالبية الناس برم بحياته، ساخط على حظه. ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأغنياء، فيرتدي لباس الأفندية ويأكل من طعام البك، ويرافقه إلى الأماكن المختارة في الصيف والشتاء مؤثرا من أعمال الكفاح في سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسلية والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه من يوم أن رأى «الغر» - سائق أحد الأعيان - يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور في الطريق ويغازلها بجسارة وثقة، بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يديه حبورا: «سآتي قريبا ومعي الخاتم.» ورأى الفتاة تبتسم في دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها. والحقيقة أنها أرادت أن تبدي عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت .. رأى ذلك فالتهب قلبه، وأحس الغيرة تنهشه نهشا موجعا. وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض، وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل في الذهاب والإياب، حتى إذا خلا بها في عطفة أعاد على أذنيها ما قال لها الغر: «سآتي قربيا ومعي الخاتم.» ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت باحتقار: «هات لك قبقاب أحسن.» فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفي جمل، وجلبابه القذر، وطاقيته المعفرة، وقال: «هذا سبب شقائي وأفول نجمي.» ونفس على «الغر» عمله وتمناه .. على أن آماله لم تقطعه عن مهنته، فثابر على كده قانعا من آلامه بالأحلام. وقصد في ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينظر القادم، ونظر إلى الأفق فرأى القطار قادما من بعد كأنه سحابة دخان، وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزاؤه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على إفريز المحطة، وهرع «جحشة» إلى العربات المتراصة، فرأى - لدهشته - على الأبواب حراسا مسلحين ووجوها غريبة تطل من النوافذ بأعين ذاهلة منكسرة. وتساءل الخلق، فقيل لهم بأن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين أيدي عدوهم بغير حساب، وأنهم يساقون الآن إلى المعتقلات.
فوقف «جحشة» متحيرا يقلب عينيه في الوجوه المغبرة، ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبة الغارقة في البؤس والفقر لن يكون في وسعها إشباع نهمها من سجائره .. ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة وجوع، فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار، وهم أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى، ولكنه سمع صوتا يصيح به بالعربية بلهجة إفرنجية قائلا: سجائر.
فحدجه بنظرة دهشة وريبة، ثم فرك سبابته بإبهامه: أي نقود. ففهم الجندي وأومأ برأسه، فاقترب محاذرا ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندي، فخلع الجندي جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها: هذه نقودي.
فتعجب «جحشة» وتفرس في الجاكتة الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع، ووجب قلبه، ولكنه لم يكن ساذجا أو مغفلا فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة جشع الإيطالي، وأبرز في هدوء ظاهري علبة سجائر، ومد يده ليأخذ الجاكتة، فقطب الجندي جبينه وصاح به: علبة واحدة بجاكتة؟ هات عشرا.
فذعر جحشة وتراجع إلى الوراء وقد غاض طمعه، وأوشك أن يأخذ في غير السبيل، فصاح به الجندي: أعطني عددا مناسبا .. تسعا .. أو ثماني.
فهز الشاب رأسه بعناد، فقال الجندي: إذن سبعا.
ولكنه هز رأسه كما فعل في الأولى، وتظاهر بأنه يعتزم المسير، فقنع الجندي بست ثم هبط إلى خمس، فلوح «جحشة» بيده متظاهرا باليأس، وتراجع إلى المقعد وجلس، فصاح به الجندي المجنون: تعال، رضيت بأربع.
فلم يلق إليه بالا. وليدله على عدم اكتراثه أشعل سيجارة ومضى يدخن في تلذذ وهدوء، فثارت ثائرة الجندي وأهاجه الغضب، وبدا وكأنه ليس له غاية في الوجود سوى الاستيلاء على سجائر، فهبط بطلبه إلى ثلاث ثم إلى اثنتين، ولبث «جحشة» جالسا يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طمعه. ولما نزل الجندي إلى اثنتين أبدى حركة بغير إرادة رآها الجندي، فقال له وهو يمد يده بالجاكتة: هات.
Bog aan la aqoon