فقال الرجل وهو يهز رأسه كأنه يقول له بل أكثر وأكثر:
الأطفال نائمين هادئين، فاستولت علي الدهشة كيف نزلت عليهم السكينة؛ هل تعودوا الجوع فما عاد يقرصهم؟! .. وكانت زوجي وأمي نائمتين أيضا، فأيقظت أكبر الأطفال وأدنيته مني، وما إن أفاق من ذهول النوم حتى اندفع يقول لي فرحا: «أكلنا عيشا ساخنا.» فسألته: «من أتى به؟» فقال: «عم سليمان الفران.» فنفذ الاسم إلى صدري المتهالك كالرصاصة، وشددت قبضة يدي على ساعده، وسألته وقد طالعت في وجهه أثر ما لاح في وجهي من التغيير: «وهل الرجل دعا أمك إلى الفرن أم أتى بنفسه إلى هنا؟» فقال: «أرسلها مع غلامه.» فلم أرتح إلى جوابه على الرغم أنه لم يحقق شكوكي، ودفعته ساخطا غاضبا، واستقر بصري على وجه زوجي وقد تملكني الحنق وتخايلت لعيني أشباح مخيفة. لقد امتلأت عيناها بالنوم بعد أن امتلأ بطنها .. بعد أن ملأها الوغد الذي خطب ودها فيما مضى وراجعه هواه فسعي يحذق إلى استغلال ما تعاني من الشقاء والجوع. إني أدرك كل شيء، وأدركه بمشاعري التي نشأت عليها ولم يظفر الجوع بإماتتها بعد .. إنها ما تزال حية في صدري تبعث في نفسي الغيرة وفي قلبي الغضب .. وتشبعت أفكاري بروح الجريمة والعدوان .. هل أنقض على المرأة النائمة فأكتم أنفاسها؟ كانت رغبتي في الفتك عظيمة جبارة، ولكن لاحت مني التفاتة إلى الأطفال فترددت. من لهم بعد أمهم وأبيهم؟ وتخاذلت وتداعت إرادتي .. ونفست عن غضبي فركلتها بعنف وغادرت الفناء وصراخها الفزع يلاحقني، ثم همت على وجهي في الطرق التي أتسول فيها .. وجعلت أتخبط على غير هدى .. وعاودتني أفكار العدوان .. هل أرجع إلى الفرن وأثب على عم سليمان وثبة الهلاك، أم أرصد عبد القوي بك وأطعنه طعنة قاتلة؟ .. ولكن ما أعجزني .. فقدت يمناي ودب الإعياء في جسمي وأطرافي وتضعضعت حواسي، ثم بلغت بي قدماي هذا المكان ورأيت النهر الجاري في وحشة الليل فانجابت عني الوساوس، وأدركت للحال كيف ينبغي أن أنهي الحياة، وخلت أن النيل ضالتي المنشودة، وكأن قضاء إلهيا هداني إليه ليدلني على سبيل الخلاص والراحة، واستولت علي فكرة الموت واستبدت بي، وتفكرت في عجزي وضعفي وجوعي، وفي عذاب أطفالي وشقائهم، فحمدت الله على أني لم أطع غضبي وأقتل زوجي، وقلت لنفسي إنني إذا اختفيت من حياتها فلن يعييها إطعام الأطفال، ليكن معهم سليمان أو غيره، أما أنا فلا، وما علي إلا أن أوجه غضبي إلى نفسي فتكون الضحية .. وألقيت بناظري إلى النهر طويلا، واستسلمت لليأس، ثم توثبت لألقي بنفسي، ولكنك حلت بيني وبين ما أريد. هذا كل ما هنالك، فهل أدركت الآن أي شر فعلت؟
وكان الوجيه يصغي إلى الرجل مصطبرا ويعمل فكره، فسأله: هل إذا تركتك الآن تعود؟
قال الرجل بهدوء وتصميم: إن شاء الله.
فضحك الوجيه، وكان قد بت في المسألة برأي قاطع، وبحث في جيوبه عن نقود فضية فعثر بقطعة ذات عشرة قروش، فدسها في يد الرجل وقال: استعن بهذه على إصلاح أمرك، وإذا طلع عليك صباح الغد فتوجه من فورك إلى المصنع الذي كنت تعمل فيه، وستجدني هنالك في انتظارك، وهاك بطاقة تقدمها لمن يعترض سبيلك.
وأعطاه البطاقة، ودفعه عن السور وهو يقول: أجل عزمتك؛ فما يزال لديك متسع من الأمل، وسأجد لك عملا كبواب أو خادم أو ما شاكل ذلك .. تقدم وعد إلى رشدك .. ولكن خبرني قبل أن أنسى ما اسمك.
وجعل الرجل ينظر إليه بعينين ذاهلتين كأنه لا يصدق أذنيه. ولما سأله عن اسمه قال بصوت غريب: «إبراهيم حنفي.» فدفعه الشاب مرة أخرى: افعل ما أمرتك به يا إبراهيم .. سلام عليك.
وتحول عنه ومضى في طريقه متفكرا .. يعجب كيف أنه أتى في الوقت المناسب ليعفي أباه من وزر ثقيل. وكان ينطوي في قرارة نفسه على سذاجة، فأيقن أن ما ساقه إلى الرجل في الوقت المناسب شيء أكبر من المصادفة، فأثلج صدره وشعر بارتياح وطمأنينة.
ولكن فكرة خطرت له بباله فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجد في السير.
ولكن فكرة خطرت له بباله، فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجد في السير:
Bog aan la aqoon