قال ابن المبارك أخبرنا المسعودى عن عون ابن عبدالله الذاكر فى الغافلين كالمقاتل خلف الفارين. { واشكروا لى } ما أنعمت به عليكم بأن تعبدونى ولا تخالفونى، وروى الحاكم فى المستدرك عن جابر بن عبدالله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" وما أنعم الله على عبد من نعمة فقال الحمد لله إلا قد أدى شكرها وإن قالها الثانية جدد له ثوابها فإن قالها الثالثة غفر الله ذنوبه "
{ ولا تكفرون } لا تقابلوا نعمى بالمعصية، فإن الإنسان إذا عصى صار كأنه لا نعمة عليه من الله، لأنه إنما يستحق المعصية عقلا من لم ينعم عليك، فإذا عصيت من أنعم عليك فقد جحدت نعمته وسترتها، إذ صرت كأنه لم ينعم عليك حيث فعلت فى حقه ما تفعل مع من لم ينعم عليك، فمعنى الكفر اللغوى ملاحظ هنا وهو الستر، والآية نص فى أن فاعل الكبيرة يسمى كافرا، ولو كانت دون الشرك، لأن المراد هنا دون ما دون الشرك من الكبائر، أو الشرك وما دونه لا الشرك وحده.
[2.153]
{ يأيها الذين آمنوا استعينوا } على دخول الجنة والنجاة من النار، أو على محو الذنوب، أو على العبادات فإن الصبر والصلاة معونة على سائر العبادات مجملة لها وحفظ عن تضييعها. { بالصبر } عن المعاصى واللذات المباحات، وعلى العبادات والمصائب فالصبر حبس النفس على حال يشق عليها. { والصلاة } الفريضة بأن تبالغوا جهدكم فى تصحيحها وتصحيح وظائفها وخشوعها، والإتيان بها على وجه أكمل، ككونها أول الوقت، والنافلة بأن ترغبوا فيها، فإن الصلاة أم العبادات، ومعراج المؤمنين، ومنجاة رب العالمين، وقوام الدين، فإنما خصها بالذكر من سائر العبادات لذلك ولتكررها، وقيل الصبر هنا الصوم لأنه مقرون بالصلاة، وحمله بعضهم على الجهاد، والتحقيق ما فسرته به ووجه الاستعانة بالصلاة أنها تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له. { إن الله مع الصابرين } بالنصر على الأعداء والشياطين والنفس والهوى، وبإجابة الدعاء والعون، وهذا عندى دليل على أن رتبة الصبر فوق رتبة الصلاة، إذ ذكرهما معا، وأفرد الصبر هنا، وقال { إن الله مع الصابرين } ولم يقل إن الله مع المصلين، وذلك لأن الصبر يدخل فى العبادات كلها الصلاة وغيرها.
[2.154]
{ ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله } أى لا تقولوا فى شأن من يقتل فى سبيل الله، فاللام بمعنى فى أول للتعليل لا للتبليغ، لأنهم لم يخاطبوا من قتل فى سبيل الله بقولهم أنتم أموات، بل كانوا يقولون إنهم ماتوا وزالت عنهم نعم الدنيا، فكان هذا خطأ من رتبة الشهداء، وإهانة لأمر الجهاد، وترغيبا عنه ونظيريه للحياة الدنيا، واختيارا لها على الآخرة، فنزل { ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله }. { أمواتا } أى هم أموات إلى قوله { ولكن لا تشعرون } ، وقيل إن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد من المؤمنين مات فلان مات فلان، فكره الله سبحانه أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم، فنزلت الآية، ويحتمل أن تكون نزلت لذلك ولتسلية المؤمنين بتعظيم درجة الشهداء والإخباء عن حالهم، لأنهم قد صعب عنهم فراق إخوانهم وقرابتهم بالموت. ولما نزلت الآية صار الشهداء مغبوطين لا محزونا عليهم. روى البخارى عن أنس
" أنه أصيب حارثة يوم بدر، أصابه سهم غرب وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالت يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منى، فإن يك فى الجنة أصبر وأحتسب، وإن يك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال " ويحك أو قال وهبلت أو جنة واحدة، إنما هى أجنة كثيرة، وأنه فى الفردوس الأعلى "
وذكروا أنها نزلت فى من قتل ببدر من المسلمين وهم أربعة عشر، ستة من المهاجرين وهم عبيدة ابن الحارث بن عبدالمطلب، وعمير بن أبى وقاص بن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة الزهرى أخو سعد بن أبى وقاص، وذو الشمالين واسمه عمير بن عمر ابن تفنة بن عمر بن خزانة، وعاقل بن البكير من بنى سعيد بن ليث بن كنانة، ومهجع مولى لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، وصفوان بن بيضاء من بنى الحارث بن فهر. وثمانية من الأنصار سعد بن خثيمة، ومبشر بن عبدالمنذر، ويزيد بن الحارث بن فحم بن قيس، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، وعوذ ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة ابن سوداء وهما ابنا عفراء وهى أمهما. قلت الذى حفظت أن ابنى عفراء هما قتلا أبا جهل وحييا بعد ذلك، وطلبهما مع غيرهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البينة على قتله، إلا أن يقال جرى ذلك كله قبل انقطاع القتال، ثم قتلا. وكان الناس يقولون مات فلان مات فلان، وذهب عنهم نعيم الدنيا ولذاتها، فأنزل الله هذه الآية، وقيل إن الكفار والمنافقين قالوا إن الناس يقتلون أنفسهم ظلما لمرضات محمد صلى الله عليه وسلم من غير فائدة، فنزلت هذه الآية.
{ بل أحياء } أى بل هم أحياء، وهذا إضراب انتقالى عن النهى أن يقولوا هم أموات، وقال إنهم أحياء فى نعيم دائم، أحبوا ليصلهم الثواب، وهذا كلام مستأنف منقطع عن النهى وعن المحكى بالقول، نقض الله عز وجل قولهم أموات وليس أحياء معطوف على أموات، ولا هو بتقدير المبتدأ معطوفا على هم أموات، لأن المعنى حينئذ لا تقولوا أموات بل أحياء، وليس ذلك صحيحا، نعم يجوز تقدير القول أمرا، أى بل قالوا هم أحياء. { ولكن لا تشعرون } لا تعلمون كيف حياتهم، لأنكم ترونهم لا يتحركون ولا يتنفسون ولا يتكلمون، فهى حياة لا تدرك بالعقل ولا بالمشاهدة، بل علمها عند الله وتدرك بالوحى، وقيل إن الحياة حلت أجسادهم ولو لم تتبين بالحس والمشاهدة، إلى أن يبعثوا وسائر الأموات تحيا أجسادهم بعد الموت برجوع الروح إليها، وتمكث فيها ما شاء الله، ثم تخرج وقد تعود، وليس ذلك تكرير موت، بل كنوم ولا مشقة فى خروجها حينئذ، وقيل حياتهم بالروح لا فى الأجساد، فامتيازهم عن سائر الأموات بأكل الأرواح من الجنة أو فيها، أو التنعيم فيها أو منها، وبتصييرها بصور طير بيض وخضر أو فى أجواف طير بيض أو صفر، هذا ما ظهر لى فى الرد على من خالف الجمهور فى قولهم إن حياتهم بالروح لا فى الجسد، وقال إنها الجسد، وإنها لو كانت بالروح فقط، لاستتوا بجميع الأموات. الذين ليسوا شهداء، ولم تكن لهم مزية، ويجوز أن يكون المعنى ولكن لا تشعرون ما هم فيه من النعيم، وعن الحسن أن الشهداء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أروحهم، ويصل إليهم الروح والريحان والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا، فيصلهم الألم والوجع، ويدل ذلك على ثبوت عذاب القبر وتنعيمه، وأن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد الموت مدرك كما هو قول جمهور الصحابة والتابعين، وعليه تدل الآيات والسنن، وروى مسلم أن أرواح الشهداء عند الله فى حواصل طير خضر تسرح فى أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش. وعن مجاهد يرزقون تمر الجنة، ويجدون ريحها وليسوا فيها. وهو كلام يحتمل ظاهره وهو الأكل منها فى قبورهم، ويحتمل أنهم يأكلون منها بأرواحهم وليسوا فيها بأجسادهم. قال الزمخشرى وقالوا يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم، وإن كانت فى حجم الذرة، وعنه صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon