Hallaj
الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)
Noocyada
رجلا يتصدى لهداية الناس كافة، فيطرق أبواب العالم شرقا وغربا، مبشرا وداعيا إلى الله سبحانه، دعوة أساسها وروحها حب الله، حبا تذوب فيه شهوات الدنيا، وينطفئ لهيبها، وتتضاءل فيه أهواؤها وسحرها، فإذ بكل ما فيها قبض الريح، وإذ تاجها ونعيمها وفوزها الأكبر في الاتصال بواجب الوجود ومبدعه، اتصالا ينير الروح، ويشعل القلب، ويوقظ الحس، فإذا بالإنسان في تجل عظيم مشرق! قوة ربانية تملك أسرار الكون، كما تملك معارج الصعود، إلى حياة النور والخلود، وتملك فوق هذا وذاك القدرة على تحقيق رسالة الإنسان الكامل، خليفة الله الذي اصطفى منه كليمه، وخليله، وحبيبه.
وفي خلال هذه الدعوة الروحية الربانية لا يفنى الحلاج عن دنياه كما فنى غيره من الصوفية، ولم تذهله الإشراقات والمعارج والمحبة الربانية عن حقيقة الحياة الأرضية، بل هو يقرع سمع الدنيا بدعوته الإصلاحية ضد المفسدين في الأرض من الملوك والأمراء، ومن يمشي في مواكبهم من محترفي الدين والدنيا، فيطالب بخلافة مؤمنة، مهتدية تحمل الناس على الصراط المستقيم، وحكومة قرآنية، تشعر بواجبها حيال الله، شعورها بواجبها حيال الإنسان. وضد المفسدين في الروح والفكر والقلب من علماء الكلام والمنطق والتوحيد، ومحترفي الجدل الديني، والحوار اللفظي، الذين مزقوا دينهم شيعا، وأحالوه عوجا، بعد أن كان شرعة محكمة، لا تعرف جدلا ولا حوارا، وإنما تعرف عملا وإيمانا.
وتمتزج شخصية الحلاج بجوهر رسالته، فيؤثر كلاهما في الآخر، تأثيرا هو سر ما يضطرب فيه الناس من أمره، وما يتجادلون حيال سيرته وحقيقة دعوته.
كان الحلاج متوهج النفس، مشتعل الحس، جياش القلب، ثائر الوجدان، رهيف العاطفة، يملك قوى خارقة، من المغناطيسية الروحية التي تؤثر في كل شيء يتصل به، أو يدنو منه.
وكان فوق هذا واسع الخيال، ساحر البيان، رائع التصوير، صادق الشعور، أخلاه الزهد، وحلاه النسك، وجلاه الحب، أكسبته طاعاته ومجاهداته روحا مشرقا مشعا متوددا عطوفا تتدفق منه تيارات ساحرة محببة، تدنيه من كل قلب، وتمزجه بكل عاطفة.
يقول المستشرق نيكلسون: امتاز الحلاج بأنه عاش في صوفيته تماما، عاش في كل لفظ قاله، وفي كل خاطر مر به، حتى لقب بمسيح الإسلام ... ويقول العلامة الفرنسي ماسنيون إنه حي ما قال، وقال ما حي، وعندما قارن بين محيي الدين والحلاج قال: «أنا أعتقد أن ابن عربي معرفته أكبر من روحه، وأن روح الحلاج أكبر من معرفته.»
كان الحلاج روحا عظيما، بل لعله كان أكبر روح في عالم التصوف. يقول علي بن أنجب الساعي: «لقد بلغ من صفاء روحه أنه كان يستشف الغيب من ستر رقيق، ولقد عزيت إليه نبوءات صادقة، استرعت أنظار الدنيا.»
وتلك الصفات التي اتسم بها الحلاج وطبعت تاريخه وصاغت دعوته، صفات فيها إغراء، وفيها استهواء، حتى لقد فتن بسحر الحلاج الروحي قوم ملئوا الدنيا حوله بالأساطير الملونة المبدعة، ودقوا طبول الدعوة العالية لخوارقه المذهلة، حتى جعلوه عليما بالغيب، قادرا على إحياء الموتى، مسخرا لعناصر الطبيعة وجواهرها ... وهي صفات أيضا تترك حولها حقدا غليظا، وحسدا مسموما، وجحيما مشتعلا بالبغضاء، فتصدى للحلاج قوم جمعوا كل ما في الدنيا من فجور وفسوق وإلحاد ومروق، وقذفوا به وجهه، وسودوا تاريخه، إرضاء لشهوات صدورهم، وبغضاء نفوسهم.
وبتلك الهالة، وعلى قرع تلك الطبول دخل الحلاج بغداد، وكانت بغداد في عصره هي الدنيا كما يقول رجال التاريخ! كان يحمل إليها خراج الأرض، فتنبض جنباتها بالترف، وما يدفع إليه الترف من شهوات وفجور! وكان يلتقي فيها تراث الفكر العالمي بمواريث الحضارة الإسلامية، فتموج آفاقها بكل لون من ألوان الفكر والمعرفة.
كان فيها الماديون على اختلاف مناهجهم ومللهم، من الفلاسفة العقليين، إلى المتمردين الملحدين، وكان فيها الروحانيون على اختلاف أذواقهم من العباد المتصوفين، إلى المنجمين والمتألهين، والمتصلين بالأرواح والشياطين.
Bog aan la aqoon