بين يدي الكتاب
شعاع على التاريخ
عصره وحياته
الحلاج وأدب السلوك الصوفي
الزعيم الثائر
محاكمات الحلاج
سر المأساة!
مغوثات الحلاج بين السحر والكرامة
الحلاج والحب الإلهي
مقام الفناء الصوفي وشبهات الاتحاد والحلول
الحلاج والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان
عقيدته التوحيدية
الحلاج بين أنصاره وخصومه
الروح الخالد
بين يدي الكتاب
شعاع على التاريخ
عصره وحياته
الحلاج وأدب السلوك الصوفي
الزعيم الثائر
محاكمات الحلاج
سر المأساة!
مغوثات الحلاج بين السحر والكرامة
الحلاج والحب الإلهي
مقام الفناء الصوفي وشبهات الاتحاد والحلول
الحلاج والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان
عقيدته التوحيدية
الحلاج بين أنصاره وخصومه
الروح الخالد
الحسين بن منصور الحلاج
الحسين بن منصور الحلاج
شهيد التصوف الإسلامي (244-309ه)
تأليف
طه عبد الباقي سرور
بين يدي الكتاب
كان الحلاج، نبأ عظيما، في أفق التصوف الإسلامي، ولا يزال الناس يتساءلون عن النبأ العظيم، الذين هم فيه مختلفون.
هبط به خصومه إلى هاوية السحر والشطح الآثم المتطلع إلى فناء وخلود عن طريق الاتحاد والحلول!
وارتفع به محبوه، إلى أفق البهاء المقدس، وإلى معارج البطولة الخارقة للناموس!
فالحلاج عند شعراء ما وراء النهر، بطل ملحمة الخلود الكبرى، ورائد الحب الإلهي، الذي صعد على معارج الشوق والوجد، إلى سدرة النور السني، حيث يغشى هناك القلب ما يغشى من أذواق وهبات، ومعرفة وتجليات.
والحلاج في أقلام رجال الاستشراق، يربطه خط نفسي مضيء بالمسيح عليه السلام، إنه الشهيد الولي الرباني، الذي تطلع إلى ميلاد كلمات الله المباركة في قلبه.
أما رواة التاريخ الصوفي، فقد دندنوا طويلا، حول كراماته وآياته، وتحدثوا فأطالوا الحديث، عن عجائب مصرعه، وما اقترن به من خوارق، ثم ذهب ببعضهم الخيال، فنسجوا قصة روحية فاتنة، تدور حول جثته التي أحرقت بعد صلبها، ثم ألقي في دجلة برمادها، فأصبحت كل جرعة، من ماء هذا الرماد المبارك، تنجب شيخا من شيوخ الصوفية في بغداد، وتصوغ قطبا من أقطاب المعرفة في العراق!
لقد أسرف خصوم الحلاج في بغضه وتجريحه، وأسرفت الخلافة العباسية في اضطهاده وتعذيبه، وأسرفت إسرافا جنونيا وحشيا فيما أعدت من عذاب غليظ عنيف ليوم مصرعه، وفيما أقامت من ستار حديدي لحجب سيرته عن الحياة، وفيما اصطنعت لتشويه تراثه في التاريخ.
فأسرف أنصاره أيضا في حبه وتقديسه، وفي الحديث عن أسراره ونفحاته وعلومه وعجائبه؟!
ومن ثم انطلق الخيال الأسطوري التاريخي، يوشي هذه الصورة العجيبة المتناقضة، ويريق عليها مزيدا من الجمال، ومزيدا من الغموض!
ثم أخذ ينسج حولها مشاهد ملونة متنافرة، تتعاقب وتتواكب، حافلة بأروع ما في الدنيا من عظمة الروح والإيمان حينا، وبأقسى ما في قاموس الضلال من إلحاد ومروق أحيانا.
وبعد مرور قرابة ألف عام على المأساة الحلاجية، لا يزال النبأ العظيم يتساءل فيه الناس وهم مختلفون!
ولقد فتنت بسيرة الحلاج كما فتن بها غيري، وصاحبته طويلا في تقلباته ومعارجه، وناجيته وذهبت معه في انطلاقاته، وتحسست ما في عواطفه وقلبه، وحاولت أن أدنو من شوقه ووجده، وثورته وتفكيره، وأن أجد الخط الروحي الخفي، الذي يربط ما بين المتناقضات التي تزخر بها حياة رجل يذيبه ويحرقه الوجد الملح العنيف، فينطلق في الفلوات والمقابر والآفاق، مذهولا مأخوذا، حتى يتذوق في نشوة رياضاته مقاما من مقامات القرب، ويرى نورا من أنوار الأنس والقدس، ويغرق في بهاء القرب، وأنوار الأنس، ويسبح ويسبح في معارج حبه، حتى يذهل عن نفسه، وعن وجوده، وعن كل ما يحيط به، فلا يرى في الكون الفسيح، إلا وجه الله القريب الحبيب، الذي يذوب أمام سبحات أنواره، كل شيء، فلا يبقى إلا هو، ذو الجلال والإكرام، الأول والآخر، والظاهر والباطن.
وهو مع هذا الوجد المحرق، وبعد هذا الفناء المذهل، يطيل التأمل والتفكر، في واقع الأمة الإسلامية، فيرى انحرافها عن رسالتها، وابتعادها عن عبادتها، فيطلق صيحة الثورة على الخلافة المنحرفة، وينشر الدعوة، ويعد العدة، لإقامة حكومة الأقطاب الروحانيين، التي يسوس أمرها الأولياء والأبدال، والتي تحيل الكون إلى محاريب للصلاة والتأمل، وذكر الله.
ولقد عانيت من قبل تجربة الدراسات الصوفية، وأعلم ما تحتاجه من جهد، وما يصاحبها من إرهاق، فهي لا تزال بكرا لم تمهد سبلها، ولم تعبد طرقها.
وأشهد أننى لم أجد رهقا ونصبا، في دراسة صوفية، كما وجدت في دراسة الحلاج، فقد تمزق تاريخه، وتبعثرت آثاره!
وأشهد أيضا أنني لم أجد متاعا للقلب، وأنسا للنفس، وزادا للتفكير، كما وجدت في هذه الدراسة.
وللحلاج سحر في كلماته، وسحر في حياته، إنه من الشخصيات التي تملك قوة الإيحاء، وقدرة الاستهواء؛ ولهذا فسواء كنت معه، أو كنت عليه، فلا تملك نفسك، من أن تحبه وتهواه.
ولقد حاولت جاهدا، أن لا تتأثر هذه الدراسة بهذا السحر، وأن تنطلق إلى هدفها، مجردة من كل عاطفة، إلا عاطفة البحث عن الحقيقة، الحقيقة المجردة لذاتها.
وبعد: فهذا هو الكتاب الأول الذي يصدر عن الحلاج في لغة الضاد، نقدم فيه للعالم الإسلامي، صورة حية، من صور الحياة الروحية، في أزهى عصورها، ونصور فيه حياة رجل من أئمة هذه الحياة الروحية، بل لعله نسيج وحده في هذه الحياة الغنية برجالها وأقطابها.
فإن أوفى الكتاب بعهده، فقدم الوجه الصحيح، للرجل الذي تساءل الناس عن نبئه واختلفوا في أمره، فنسجد لله شكرا، على ما هدى وألهم.
وإن عجز الكتاب عن الوفاء بعهده، فحسبه أنه محاولة أخلصت وجهها لله.
طه عبد الباقي سرور
القاهرة، 1380ه / 1961م
شعاع على التاريخ
... بأية حماسة وحمية وجدانية قامر هذا العاشق الجسور برأسه كيما يظفر بجوهرة الجمال الإلهي!
فريد الدين العطار
منذ أكثر من ألف عام، تركز سمع الدنيا وبصرها، على الخاتمة الفاجعة، لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر، وتاريخ الحياة الروحية في الإسلام.
وتساءل الناس عن النبأ العظيم، وهم في غمرة ذاهلة من هول ما يترامى إليهم من همسات وأحداث، لقد غامرت الخلافة العباسية وقامرت بوجودها ومكانتها فألقت من أعلى مآذن بغداد برماد جثة رجل ... عذب، وصلب، وحرق، في مشاهد مسرحية وحشية، لا تمت إلى الإنسانية، أو الآدمية، بسبب أو نسب.
وحملت أجنحة الهواء ذرات الرماد الشهيد إلى الآفاق، ومن ثم بدأ تاريخ عجيب رائع، ونبتت حياة سامقة شامخة، فقد تحولت كل ذرة من ذرات هذا الرماد، إلى مئذنة ومنبر، يتلى عليهما في مسمع الدنيا ووجدانها وضميرها قصة هذا الشهيد، وحياة هذا المصلوب!
ويا لها من قصة! ويا لها من حياة، أراق عليها الخلود فتنته وبريقه، وأكسبها الاستشهاد سحره ونوره، وأضفى عليها الحب الإلهي جلاله وعطره، ومنحها مقام الفناء، بقاء يعجز كل فناء!
ومنذ أكثر من ألف عام، وقصة هذا الشهيد، تعيش متلألئة مشرقة متجددة في قلوب الناس وعواطفهم، وتحيا مقنعة مبهمة ملهمة، في عقول المفكرين وأقلامهم! أشبه ما تكون باللحن الذي اهتزت أنغامه وتشابكت أوتاره، ولكنه مع هذا، نغم فاتن شجي، غني ثري بالإلهام والخيال والأحلام.
وتحولت القضية والمأساة إلى أسطورة مجنحة، ترتاد الآفاق المتناقضة، وتمشي مع الخيال الأسطوري إلى القمم العالية السامقة، المجللة بالضباب والسحاب، فتزداد إبهاما وغموضا، كما تزداد سحرا وبريقا.
يقول المؤرخ الفرنسي مويزو: «إن التاريخ هو ذاكرة البشرية، ولكنها ذاكرة قد تضعف حينا، وقد تصطنع الضعف أحيانا.»
ولقد كانت تلك الذاكرة، أضعف ما تكون، أو فرض عليها أن تكون أضعف ما تكون، وهي تقدم للناس عبر القرون، تاريخ الحلاج، ورسالة الحلاج.
لقد زيفت ذاكرة التاريخ عن عمد خبيث، وعن تدبير هادف، واصطنعت صورا خادعة مضللة زائفة، لأعظم حقبة في تاريخ المعرفة الصوفية، ولأخطر رجل في تاريخ الحياة الروحية.
ولقد عرفت جميع اللغات، حياة الحلاج ومأساته، وامتلأت حقائب التاريخ العالمي، بألوان من الأساطير، حول فلسفته الروحية، وتعددت في التراث الإنساني، صور حبه ومجاهداته القلبية، وسبحاته الوجدية، ولكنها صور وشاها الخيال، واعتنى فيها المصورون بالتلوين والظلال، عناية طمست الحقائق، وغيرت وجهها، وشوهت لونها، وانحرفت بها، عن جوهرها ورسالتها.
ولقد تحاشى مؤرخو الحياة الروحية في الإسلام هذه المأساة وسرها وما يدور حولها، تحاشاها القدامى تحت ظلال صيحات الرعب والهول التي أطلقها العباسيون، مدمدمة حول الحلاج وتاريخه، وحول من يلوذ به، أو يترنم بلحونه وأهدافه، حتى إن السراج الطوسي - وهو معاصر للحلاج أو يكاد، وهو أكبر المؤرخين للحياة الروحية، وسير أعلامها ورجالها - أهملها وتجاهلها، مع جلالها ومكانتها.
وحتى إنه ليستشهد في كتابه العظيم «اللمع» في أكثر من خمسين موضعا بكلمات الحلاج في المعرفة والتصوف، دون أن يذكر اسمه، بل يصطنع تعبيرا عجيبا، فيقول: قال بعضهم! أو قال القائل!
وكذلك صنع المؤرخ الصوفي، العلامة الكلاباذي في كتابه «التعرف» فهو يروي كلمات الحلاج التي ترسم آفاق التصوف، وتحدد مناهجه، دون أن يذكر اسمه، بل يصوغ تعبيرا بديعا هادفا بقوله «قال أحد الكبراء!»
وجاءت كتب الطبقات الصوفية، فتحدثت في إسهاب، وفي إسراف عن كل ما يتعلق بالتصوف ورجاله، وقادته وأعلامه، ثم مرت سريعة خفيفة، بسيرة الحلاج، أو حومت حولها، في حذر مصطنع، وتجاهل متعمد.
ثم جاء المحدثون من أصحاب الأقلام، فوقفوا حيارى ذاهلين أمام المأساة الحلاجية، أو العقدة الحلاجية، فقد زيفت تلك المأساة تزييفا فنيا رائعا، فتقنعت أحداثها بالغموض، واشتبكت صورها بالأهواء، وتضاربت فيها الأقوال، وامتلأت آفاقها بالأساطير والخيال.
فقد اشترك الجهاز العباسي العالمي بكل قواه، وبكل عملائه، من علماء وفقهاء وشعراء وكتاب، في هذا التزييف الذي لم يعرف له التاريخ مثيلا.
وجاء رجال التاريخ الإسلامي، وجلهم من الحنابلة المتزمتين فألقوا بكل ما في صدورهم، من موجدة، ومن حقد على التصوف الإسلامي، على رأس الحلاج وتاريخه ورسالته.
وعجزت كل هذه الخصومات، وكل هذه الأباطيل والأساطير، عن أن تطفئ شعاع هذا الروح الكبير، وظل شعاعه الروحي يومض في أفق الحياة ومضات تترك آثارها ولمساتها في القلوب والعقول، وفي الضمير الإنساني، والوجدان البشري.
والتاريخ كما يقول العلامة سبنسر: «لا يموت»، فإن حقائقه وإن توارت في زحام الأغراض، وصيحات الأقزام، تستعصي أبدا على الفناء.
ومن هذه الحقائق المتناثرة، التي أثقلت كواهلها أكداس هائلة من التزييف والتلفيق، نحاول أن نقيم حياة، وأن نعرض هذه الحياة، بكل ما أبدعت وابتكرت على الناس، وأن نجعلها على جبين الشمس واضحة سافرة.
والحلاج شخصية غنية خصبة ملهمة، شخصية تفتح أبوابا للتفكير، ومسرحا للخيال، ومجالا للعاطفة، شخصية تعددت جوانبها، واتسعت آفاقها، واحتشدت فيها جميع الانفعالات النفسية والوجدانية، والإلهامات الروحية والقلبية، والرياضات العقلية والجسدية.
كما تمثلت في وقائعها كافة العناصر التي تصنع بطولات التاريخ ومعجزاته، بكل ما في البطولة من عزة وسموق وعظمة واستشهاد ونضال وفداء وقوة.
وفي إطار هذه الشخصية الشامخة، نعاصر حقبة حاسمة في التاريخ الإسلامي، الفكري والحضاري، فنرى الصراع المشبوب الأوار، بين المعتزلة والحنابلة، والشيعة والقرامطة، والفقهاء والصوفية.
ونشهد حياة القصور العالية، وما فيها من إسراف وترف، وشهوات وغوايات ومؤامرات، وكيف تتشابك العواطف بالأحداث، لتجعل من خلفاء العباسيين الذين دانت لهم الأرض، ألعوبة في أيدي العبيد والنساء، وأشباه العبيد والنساء.
ونرى العالم الإسلامي، وهو يتمزق بعد وحدة، وتنتابه انتفاضات فكرية وثورية، واقتصادية وثقافية.
ونطالع الحياة الروحية، في أزهى عصورها، وأنبل صورها، عصر النجوم المتلألئة، عصر المدارس الصوفية الكبرى، التي دفعت بمناهجها في المعرفة والسلوك، إلى ساحات الفكر الإسلامي، وأطلقت في جو عاصفة الجدل والحوار، والخصومات المذهبية الجامحة، أطلقت كلمات جذابة حلوة، لها إغراء ورنين وبريق، كلمات الحب، والوجد، والشوق، والأنس في الحضرة الربانية، والساحة القدسية.
وما تلهم هذه الكلمات النورانية، من أدب النفس، وسمو الحس، وطهارة القلب، ونبل الخلق، وتصعيد الأعمال كافة إلى الله سبحانه، وإفاضة المعنى الروحي على كل شيء في الوجود، وما يترقرق حول هذه المعاني، من أشواق ورياضات، وأذواق وإلهامات.
وفي قلب هذا الخضم، بانفعالاته المتوترة الحية، وبأفكاره المتدفقة المحلقة، وبأحداثه الثائرة المضطربة، وبترفه وشهواته الجامحة، برزت شخصية الحلاج لتحدث في الدنيا دويا، وتحدث في الجماهير سحرا، وتلقي على كل شيء مسته حياة وحرارة وانفعالا.
كان الحلاج عبقرية من تلك العبقريات الاستهوائية، التي يعرفها التاريخ في لحظاته الحاسمة.
وبلغ من عظمة هذه الشخصية؛ أنها غدت النبأ العظيم في آفاق التصوف والمعرفة، كما كانت النبأ العظيم في آفاق الإصلاح والثورة.
كان الحلاج يملك قوة روحية عالية، من تلك القوى التي يفيضها الله على من يشاء من عباده، وكانت تلك القوى الروحية تمنحه فيما تمنح، القدرة الموحية المؤثرة الصانعة في عواطف الناس وقلوبهم وأحاسيسهم، وتضفي عليه طاقة تلهم الآمال الكبار، لكل من يلوذ به، أو يدنو منه، بل لقد شهد أمناء أتقياء، بأنه كان يؤثر بروحانيته العجيبة، في الجماد والنبات والحيوان.
ومن هنا توهم أعداؤه فيه السحر والشعوذة، وتوهم أحبابه فيه القدرة الخارقة على صنع المعجزات ، حتى لقد نسبوا إليه، إحياء الموتى، وبعث من في القبور!
ويحدثنا شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي في الباب الثالث والستين وأربعمائة من كتابه «الفتوحات المكية»: «إن الحلاج كان يدخل بيتا عنده يسميه بيت العظمة، فكان إذا دخله ملأه كله بذاته بأعين الناظرين، حتى إن بعض الناس ممن لا يعرف تطورات أحوال هذا المقام، نسبه إلى علم السيميا، لجهله بأحوال الفقراء في تطوراتهم.
ولما دخلوا عليه ليأخذوه للصلب، كان في ذلك البيت، فما قدر أحد أن يخرجه من ذلك البيت؛ لأن الباب يضيق عنه فجاء الجنيد، وقال له: سلم لله تعالى، واخرج لما اقتضاه وقدره، فرجع إلى حالته المعهودة. فخرج فصلبوه.»
ويقول صاحب «الفهرست»:
1 «حرك الحلاج يده يوما فانتثر على قوم مسك، وحرك مرة أخرى يده، فنثر دراهم.»
ويقول العلامة البغدادي:
2 «ووقع له عند الناس قبول عظيم، حتى حسده جميع من في وقته.»
ويهتف خلصاؤه وتلاميذه يوم صلبه: «لم يمت الحلاج بل ارتفع إلى السماء، وسيعود!»
لقد عجز الموت في أبشع صوره، وأقسى ألوانه، أن ينتزع الهالة الكبرى، التي تحيط بتلك الشخصية الضخمة الرائعة.
ويمشي سحر الحلاج وجلاله، وتأثيره القوي الغلاب، إلى رجال الاستشراق، فيتحدثون عنه كبطل أسطوري، من رجال الغنوص الشرقي
3
وكشخصية مكررة من شخصية المسيح عليه السلام جاء ليعيد مأساة جبل الجلجلة
4
وليكرر فكرة الفداء، فداء البشرية من الخطيئة الأولى.
ولكن هل حشدت الخلافة العباسية كل قواها لقتال الحلاج، وأعدت كل ما تملك من وسائل الجبروت الوحشي، والعنف البربري في عذابه ومحاكمته وصلبه، من أجل مواجيده وألحانه في الحب الإلهي، ومن أجل إلهاماته وفتوحاته، في مقامات الغناء الصوفي، وعجائبه وقدرته على الإيحاء والإلهام، وصنع الكرامات والمعجزات؟!
يقول المؤرخ الكبير صاحب «الفهرست»: «لقد كان الحلاج جسورا على السلاطين، يروم انقلاب الدول.»
5
ويروي لنا إمام الحرمين الجويني: «إن الحلاج كان يريد قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة.»
ويقول المستشرق نيكلسون في كتابه «الصوفية في الإسلام»: «إن قتل الحلاج أملته دوافع سياسية لا تعرف الرحمة.»
ويقول العلامة جولدزيهر في كتابه «محاضرات عن الإسلام»: «لقد أثرت صيحة الحلاج الصوفية - معرفة الله - تأثيرا عميق الأثر، في الحياة العلمية الإسلامية.»
ثم يقول: «لقد أخذ الحلاج يتدخل في حياة المجتمع الإسلامي تدخلا شديد الوطأة.»
ويقول العلامة المستشرق ماسنيون:
6 «كان الحلاج يحرك الجماهير، وينادي بالإصلاح، ويبشر بفكرة الحكومة المثالية التي تقيم الشريعة على نغمات المحبة والعبادة الخالصة لله.»
وإذن فصيحة الحلاج الصوفية الإصلاحية، ودعوته إلى إقامة حكومة ربانية مثالية، هي سر المأساة الكبرى، أو إحدى أسرار تلك المأساة الكبرى.
ومأساة الحلاج، كونتها عناصر تاريخية ونفسية وخلقية، وفي طليعة تلك العناصر، الرهبة التي استشعرها العباسيون من القوى الصوفية النامية، التي أخذت تهيمن على العراق في القرن الثالث الهجري.
يقول العلامة ابن الأثير بعد أن شرح الموقف في الإمبراطورية العباسية والصراع الناشب بين الفرق والطوائف:
7 «ولكن فرقة واحدة بقيت بعيدة عن التعصب، ألا وهي فرقة الصوفية، فقد كانوا يمتازون بسلامة الفكر والعفة والأخلاق الحميدة، كما كان أفق تفكيرهم أوسع بكثير من غيرهم فأكسبهم هذا حب كثير من الناس، وأخذ نفوذهم يزداد ويقوى، وهرع كثير من الناس إلى حظيرتهم بعد أن رأوا جور الزمان وقسوته، وكثرت مجالس الصوفية وأقبل الناس عليها.»
تلك هي مكانة التصوف في العراق خلال تلك الحقبة من التاريخ، لقد غدا أتباعه، القوة الحية النامية في المحيط الممزق المضطرب.
وكان في بغداد، عمالقة من الأئمة الروحانيين، وزعماء من القادة الصوفيين ... كان هناك أبو القاسم الجنيد، والشبلي، وسهل التستري، وعمر المكي، والسري السقطي، وغيرهم من الأقطاب الكبار.
ولكن الحلاج، كان أقواهم شخصية، وأوسعهم نفوذا، وألصقهم بالجماهير، وأكثرهم قدرة على حمل راية الكفاح والنضال.
كان الحلاج يحمل روح ثائر، وقلب قطب، وعقل زعيم، وروح محب عابد، وكان يؤمن بالتصوف القرآني الإيجابي؛ الذي يسهم في الأحداث ويوجهها، ويترك طابعه عليها.
وكان يبشر عن عقيدة ثابتة لا تتزلزل، بحكومة الأقطاب الروحانيين، كما كان يؤمن بأثر الصلاة والعبادة ومحبة الله، في إصلاح المجتمع، والارتفاع بالجماهير إلى أفق أنبل وأعلى.
ومن هنا كان الحلاج في نظر الخلافة العباسية، هو الزعيم الصوفي الذي يهدد سلطانها ونفوذها ، ويؤلب الجماهير ضد مظاهر الترف والإسراف والشهوات العالية الصوت في محافلها وقصورها.
يقول الإصطخري: «إن كثيرا من علية القوم في بغداد رأوا في الحلاج، أنه هو الرئيس القطب المنقذ.
وفي طليعة من آمن به من الوزراء: علي بن عيسى، وحمد القنائي، والدولابي، ونعمان، ومحمد بن عبد الحميد.
ومن الأمراء: الحسين بن حمدان، ونصر القشوري. ومن ولاة الأمصار: أبو بكر الماذرائي، ونجح الطولوني. ومن دهاقين فارس وأشراف الهاشميين: أبو بكر الربعي، وأحمد بن عباس الزينبي.»
ثم يقول: «وكانت له معهم مراسلات مما هيأ لهم الهداية، وهيأ له الخوض في السياسة، وواجبات الوزراء.»
وتلك الصورة التي رسمها لنا الإصطخري تدل دلالة كبرى على مدى الأثر الكبير، والنفوذ الواسع، الذي ظفر به الحلاج، في الدوائر العليا للخلافة العباسية.
يقول ماسنيون: «لقد طالب الحلاج بإصلاح الإدارة الحكومية في جرأة غير مسبوقة، ونادى بإقامة حكومة إسلامية حقا، ووزارة كما يقول: تحكم بالحق والعدل بين الناس، وهاجم عمال الخراج، وطالب كما يقول: بخلافة تشعر بمسئوليتها أمام الله جل جلاله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صلاة وحج وصيام.»
تلك بعض الومضات التي تومئ إلى بعض جوانب الرسالة التي نهض بها الحلاج، والتي سنعرض لها بالتفصيل والبيان.
ولن يضير الحلاج، أن النجاح لم يكتب لرسالته، وأنه قدم حياته فداء لتلك الرسالة، فقد يكون الاستشهاد في سبيل الفكرة والعقيدة أسمى ألوان النجاح، وأعلى ضروب النصر.
أو كما يقول ابن أبي الخير في ملحمته الحلاجية: «إن الموت على مصلب الحلاج ميزة الأبطال.»
ويقول حافظ الشيرازي، شاعر التصوف الإسلامي، في إحدى قصائده: «إن تصلبني الليلة، فإن دمي يخط على الأرض - أنا الحق. مثل منصور الحلاج.»
ولما أراد جلال الدين الرومي، عبقري الشعر الفارسي الصوفي، أن يصعد بفريد الدين العطار، في معارج الحب الإلهي. وفي مجالات البطولة الخالدة قال: «إن روح الحلاج تجلت في العطار.»
ثم عقب بقوله: «لقد بلغ الحلاج قمة الكمال والبطولة، كالنسر في طرفة عين.»
لقد كانت تضحية الحلاج هي سر خلوده، فقد صعد الحلاج بتلك البطولة الفدائية إلى قمة الكمال كالنسر الجبار الجناح، وغدا في قلوب المتصوفة وعقولهم، محجة ومنارة ترشد إلى المثل الأعلى في إشراقاته وإلهاماته.
وأصبح الحلاج بهذا الاستشهاد الأسطوري الملهم الأكبر لمواجيد الشعراء وألحانهم وأغانيهم في الأفق الصوفي.
فهو في الشعر التركي، الولي الأكبر، وهو لدى الهنود: شهيد الحق. وهو الملهم الأول لعباقرة الشعراء الفارسيين العالميين، حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار.
وامتد إلهامه عبر القرون، فنشأت الفرق الصوفية الكبرى، على وقع نغماته ودعواته، وهدى تفكيره وآدابه، حتى إن البكتاشية التي هيمنت على تركيا وألبانيا، قرونا عديدة، ترجع في أصولها إلى الحلاجية.
يقول الدكتور عبد الوهاب عزام:
8 «فكان عند الصوفية ولا سيما صوفية العجم والهند، كالمسيح عند النصارى، واتخذوا كلماته شعارا ودثارا، وأشادوا بذكره، وجعلوه مثلا للصوفي الفاني في الله.»
ويقول المستشرق ماسنيون:
9 «إن أقوال الحلاج ترسم له حياة بعد موته، ذات طابع حضاري عميق، وأكثر صدقا من الناحية الاجتماعية، من الشهرة الأدبية التي نالتها نماذج، مثل الإسكندر أو قيصر لدينا في الغرب.»
ثم يقول: «كان الحلاج، نموذج الولي الذي مجده الشعب التركي المجاهد الذي أقبل على الإسلام في أعقاب مصرع الحلاج.»
ويتحدث فريد الدين العطار عن مدن العشق السبع، ثم يقول: «الحلاج ذلك الشهيد العالمي، الذي قدم للدنيا صورة الولاية الكبرى، وقد بلغت أوجها في تضحية حربية، مليئة بالرجولة، مليئة بالإلهام.»
ويستعرض ماسنيون الامتداد الروحي للحلاج. فيقول: إن دم الحلاج يعتبر بذرة روحية تضمن استمرار الإلهام لمحبيه. ثم يقول: «والحلاج يدعى في الدعوات الشخصية، خصوصا في بلاد الترك لوقف بكاء الأطفال الصغار، ولا يزال قبره التذكاري الخالي من رفاته الذي أقيم له في بغداد كعبة الزائرين.
والمزمار الرئيسي في الحفلات الموسيقية الروحية عند المولوية يدعى باسمه - نادي منصور.»
لقد كان الحلاج دائما يقول في دعواته: «يا معين الفناء علي أعني على الفناء.»
وسواء كان يقصد فناء الحب، أو فناء الامتداد الروحي، فقد استجاب الله الدعاء، فاستعصى الحلاج على الفناء، وحلق خالدا في آفاق الشهداء ، وستبقى قطرات دمه بذرة روحية، تضيف في كل يوم إلى التصوف الإسلامي قوة ونماء.
وذلك خلود من ظفر بجوهرة الحب الإلهي، واستشهد في سبيلها.
عصره وحياته
الفرس والتصوف
يقول عبقري الفكر الإسلامي، العلامة الفيلسوف البيروني: «العلم شجرة أصلها بمكة، وثمرها بفارس، وهي كلمة من الكلمات التي تلقي بالأضواء على التاريخ.»
لقد كان فجر البعث القرآني بأم القرى، وعلى قيثارة الوحي، تفتحت مشاعر العرب للهدى، فحملوا كلمات الله إلى آفاق الدنيا، يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ويهدون الإنسانية صراطا مستقيما.
وتسلم الفرس من العرب تراث الوحي غضا مشرقا، بكل ما فيه من نور وقوة، وإلهام وحياة.
وتفجرت فارس عيونا، وتفتحت آفاقا، وربت فيها الثقافة الإسلامية وتلألأت، وأينع ثمرها، وآتت أكلها، وانبعثت قواها، مبدعة وصانعة، لأكبر نهضة ثقافية عرفها التاريخ، حتى رأينا عجبا، وشهدنا إعجازا، ففي كل قرية، عباقرة كبار، وفي كل أفق، نجوم وأقمار، وفي كل مكان أئمة عمالقة، يبدعون ويبتكرون وينشئون، ومن هنا جاء الخبر المأثور: «لو كان العلم بالثريا، لناله رجل من فارس.»
وأبناء فارس - كما يقول ابن النديم - مشبوبو القلب والعاطفة والخيال، فيهم استجابة فطرية، للمعارف الروحية، والأذواق الوجدانية. ومن ثم وجد التصوف الإسلامي، في أرض فارس أفقه ومجالاته، والينابيع التي تمده بالزكاء والنماء، والقلوب التي تتفتح له وتقتات به ... وكما يقول المستشرق ماسنيون:
1 «أصبحت فارس الملهمة، المركز الأكبر للتصوف الإسلامي، الذي يوافق فطرتها وملكاتها.»
ويحدثنا الدكتور عبد الوهاب عزام عن أثر شعراء فارس في تشكيل الحياة الروحية وتعميقها في الإسلام
2
فيقول: «وبلغ شعراء فارس في هذه السبيل غاية لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية، والجليلة والدقيقة، في صور شتى معجبة مطربة، وقد فتح عليهم في هذا فتح عظيم، فكان شعرهم فيضا تضيق به الأبيات والقوافي والصحف والكتب، حتى ليقف القارئ حائرا، كيف تجلت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشققوا المعنى الواحد إلى معان شتى، ثم يخرجوا كل واحد منها، في صور شتى عجيبة، كأنها أزهار المرج ونباته تزدحم في العين ألوانها وأشكالها ، وماؤها واحد، وترابها واحد.» ثم يقول: «... لقد تحول الشعر الفارسي كله، إلى شعر صوفي، فلا يخلو شاعر فارسي من نزعة صوفية تظهر في شعره، لشد ما سيطر شعراء الصوفية على الشعر الفارسي.»
وبقيام الدولة العباسية، انتقل النفوذ السياسي، والثقل المادي، وترف الحضارة ونعيمها وجلالها إلى فارس، فغدت محور الحياة الإسلامية السياسية والعلمية، بل غدت فارس أفقا عالميا تتشابك فيه وتتصارع التيارات الفكرية والقلبية، وتلتقي فيها وجها لوجه ثقافات الأمم شرقية وغربية.
ويصف لنا المؤرخ الكبير ياقوت المكتبات العلمية العامة بمدينة مرو، إحدى مدن فارس التي لا تبلغ مرتبة العواصم، فيقول:
3 «يوجد بها عشر خزائن للكتب لم أر في الدنيا مثلها، منها خزانتان في الجامع. إحداهما يقال لها العزيزية، وفيها اثنا عشر ألف مجلد للناس كافة، وكانت سهلة التناول لمن يريد. ولا يفارق منزلي مائتا مجلد، وأكثرها بدون رهن. ثم يقول: وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الصحب والولد، وأكثر فوائد كتبي من تلك الخزائن.»
ويصف الإمام الجويني أرض فارس فيقول: «مطلع السعادة والمبرات، وموضع المراد والخيرات، ومنبع العلماء، ومجتمع الفضلاء، ومرتع العظماء.»
أما ابن خلكان، فيحدثنا في كتابه «وفيات الأعيان» عن فارس حديثا يحلق على أجنحة حبها وتقديرها، حتى يصفها بأنها الجنة التي وعد بها المتقون، فيها متاع الأعين والعقول، أو كما يقول: «إنها أنموذج الجنة بلا مين، فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وتزكو به القلوب والعقول.»
وفي جو تلك الحضارة العلمية الشامخة، وفي عنفوان هذا الترف الثقافي والحضاري، كان قلب فارس، يخفق بالتصوف سلوكا ومعرفة، وكان أبناء فارس ينظرون إلى التصوف نظرة الإجلال والإكبار والتقديس، ويجدون في مناهجه القلبية والروحية، صدى لما يضطرب في أعماقهم من أشواق وأذواق، وما يتلألأ في معارفهم من إشراقات وإلهامات. بل يرون في التصوف وجه القرآن وعلومه وأنواره، وأسرار هذه العلوم والأنوار، ويرون فيه فوق هذا وذاك، مجالا ومسرحا للقلوب المتعلقة بعرش ربها، القلوب التي تقتات بذكره وحبه، وتتلقى من إلهامه وفيضه.
فجر التصوف وضحاه
ومع مكانة التصوف الكبرى في الفكر الإسلامي، وما قدمه للحياة الإسلامية في شتى مراحلها، من مناهج في المعرفة والأخلاق، والسلوك الاجتماعي، وما أفاض على الثقافة الإسلامية من معان مشرقة عالية، في كل ما يتصل بالروح والقلب، وصلة الإنسان بخالقه، وسيره إلى محبته ورضوانه، وما أبدع في هذا السير من أحوال ومقامات وأذواق ومشاهدات وإلهامات، أسهمت في تعميق المعاني القرآنية واتساعها وشمولها، كما أسهمت في تكوين تلك الحياة الروحية التي أصبحت من أكبر العناوين المتلألئة في جبين الدعوة الإسلامية، وفي أفق رسالتها العالمية.
مع هذه المكانة الضخمة. لا تزال الأقلام قلقة مضطربة، وهي تتناول نشأة التصوف وتدرجه وأثره في التاريخ الإسلامي.
وسر هذا الاضطراب أن كتب الطبقات الصوفية، لم تضع منهجا علميا لتاريخ الحياة الروحية في الإسلام؛ فقد اعتبرت أئمة الصحابة جميعا من رجال الطبقات الصوفية، ومن ثم، اعتبرت بداية الإسلام، هي بداية التصوف!
وجاء رجال التاريخ الإسلامي، وجلهم من الحنابلة الذين خاصموا منهج التصوف في المعرفة والسلوك، فلم تتجه أقلامهم إلى تدوين تلك الحياة الخصبة المثمرة، بل ألقوا عليها ستارا، ولم يرجوا لها وقارا!
ثم جاء رجال الاستشراق في عصرنا، فبذلوا جهودا ضخمة في دراسة التصوف الإسلامي، ورجاله وتراثه.
ولكن هذه الجهود الضخمة، شابها وشوه من جلالها، عقدة نفسية، تحملها أقلامهم، وتستقر في أعماق قلوبهم، وتدفعهم دفعا إلى تصوير التصوف الإسلامي، في أثواب مستعارة من الملل والنحل الروحية، شرقية وغربية، وتدفعهم دفعا إلى تحميل الكلمات والآراء أكبر مما تطيق، وأوسع مما تحتمل، ليضفوا على التصوف الإسلامي، صورا غنوصية غامضة، من صور الغنوص الشرقي، الذي يستهوي رجال الاستشراق، وشعوب رجال الاستشراق.
وتابعهم وجرى في ساحتهم فريق كبير من كتابنا، بحكم التلمذة لهم حينا، وبحكم التشدق بآراء مفكرين أوروبيين أحيانا، وبحكم جهلهم بالإسلام والتصوف أولا وقبل كل شيء.
ولسنا هنا بصدد التأريخ لهذه الحياة، وإنما نحاول أن نرسم خطوطا لها في نموها وتطورها، تعيننا على تفهم منهج الحلاج الروحي، وصلة هذا المنهج الحلاجي، بالإسلام والتصوف، أو مجانبته لهما.
لقد وجد الروح الصوفي مع الإسلام منذ يومه الأول، وليس معنى هذا ، أن الأذواق والمواجيد ، القلبية والروحية، والمناهج الصوفية سلوكا ومعرفة، كانت واضحة جلية، في أيام الإسلام الأولى، وفي حياة أئمة الصحابة رضوان الله عليهم، ففي هذا الزعم إسراف ومجانبة للحقائق.
ولكننا لو تأملنا في آيات القرآن المحكمة، وفي حياة الرسول الطاهرة، وسير صحابته المشرقة، نجد البذور الأولى، للسلوك الصوفي، وللمعرفة الروحية، مبينة متلألئة.
وليس التصوف بدعا في هذا، فكل منهج من مناهج المعرفة في الإسلام انبثق كما انبثق التصوف من روح القرآن، وجوهر رسالته، وبدأ كما بدأ التصوف مع الإسلام، ثم نما وتطور ومشى مع خطو الحياة، وسنة الله.
فإننا مثلا نستطيع أن نقول مع الفقهاء: إن الفقه نشأ مع الإسلام، وليس معنى هذا القول أن التفريعات الفقهية، والاستنباطات والمصطلحات الفنية، كانت في صدر الإسلام، وفي الكتاب والسنة، وإنما كانت هناك البذور الأولى، والمادة الأولى، التي نمت وتطورت ومشت مع الحياة.
كان التصوف موجودا في صدر الإسلام بروحه وهديه، وآدابه وخلقه، وترفعه وزهده، وعباداته وطاعاته، وذكره ومناجاته، كان موجودا بجوهره لا بمصطلحاته، وقائما بكلياته لا بجزئياته.
كان التصوف في صدر الإسلام هو هذا الروح الديني المهيمن المسيطر على حياة المسلمين كافة، الموجه لحركاتهم وسكناتهم، الصاعد بأعمالهم ونواياهم، إلى خالقهم ومولاهم.
كان هذه الرقابة الحية اليقظة التي أقامها كل مسلم في أعماقه، ليراقب ما توسوس به نفسه، وما يصطرع في قلبه، وما يتواثب في نفسه، وما يخفي صدره، وما تطرف به عينه.
كان هذا الترفع الشامخ عن شهوات الدنيا وزخرفها، والإعراض عن بريقها وفتنتها، والزهد في ترفها ومظاهرها، والتسامي بكل ما فيها إلى وجه الله، حتى يظفر بحبه ورضاه، وقربه وهداه؛ لأن الدنيا لا تزن عنده جناح بعوضة، ولأن الآخرة خير وأبقى.
ثم مشت الحياة بالمسلمين، وفتحت عليهم الدنيا، وابتعدت مسامعهم عن نغمات الوحي، وتفرقت قلوبهم عن الميثاق والعهد، وانحلت العزائم، وفترت الهمم، وتسارع الناس إلى المال والجاه، ولهو الحياة، ونشأت الفتن، واختصموا على الملك، وتصارعوا وتباغضوا، وتشعبت بهم السبل.
ونشأت تبعا لذلك، حركات مضادة، ورسالات مجاهدة، صمدت في وجه العاصفة. ويحدثنا تاريخ النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، عن وعاظ ومرشدين، وقفوا على أسوار القرآن، ومعالم السنة، ينذرون الناس ويدعونهم إلى ربهم ودينهم، تميزهم شجاعة نفسية عالية، أعانتهم على مواجهة الجبروت والاستبداد الذي بدأت طلائعه في أفق الحياة الإسلامية.
وبجوارهم رأينا طائفة من الزهاد، الذين وقفوا في وجه فتنة الترف والإسراف، وأخذوا يديرون لحونهم وأحاديثهم، حول فضائل النفس، وآداب الحس، وتزكية الجوارح، والزهد في الدنيا، وهوان أمرها، وزوال نعيمها، وضلال شهواتها.
ثم رأينا العباد المتبتلين، الذين انقطعوا إلى طاعة الله، وعبادته وذكره، وأحالوا الكون إلى محاريب للصلاة والمناجاة، ومنابر للتحدث عن نعم الله، وعن عظمته وجلاله، والأنوار التي يفيضها على الساجدين المتطهرين.
ومن هؤلاء وهؤلاء، تكون الرعيل الأول، من الصفوة الربانيين، الذين عرفوا في التاريخ باسم الصوفية، أو كما يقول ابن خلدون: «اختص المقبلون بأنفاسهم على الله باسم الصوفية.»
ثم ابتدأت تتكون لهذه الطائفة ثقافة إيمانية، لها لونها وطابعها وخصائصها الفنية.
ثقافة تدور حول ذكر الله وإلهاماته، ومجاهدة النفس، وما ينبثق من هذه المجاهدة، من آداب السلوك، ومقامات السير، ويتوج كل هذا الصلة بالله سبحانه، وما يترقرق حول هذه الصلة، من أذواق ولحون، ومواجيد وأشواق، ثم ثمرة هذا كله، وهو المعرفة الباطنية، وما تفيض هذه المعرفة من علوم وأنوار.
ومن ثم بدأت الحياة الروحية، تنفصل عن الحياة العامة، وتستقل بمناهجها ومعارفها، وابتدأ الصوفية يصطنعون، كلمات تحدد أذواقهم، وتعبر عن شعورهم، وأخذ أفق هذه الكلمات يتسع لمعان متعددة، وكانت كل كلمة تضاف إلى التصوف، تفتح أفقا جديدا، وتكون نبعا متدفقا، وتتناولها ألسنة الصوفية، فتفتقها وتبتدع لها صورا وألوانا وأذواقا.
ثم أخذوا يكونون لهم فلسفة في الأخلاق، وفي السلوك، وفي العبادة، وأخذوا يجردون الأسباب من قوتها، ويرجعون كل شيء إلى الله سبحانه، فأكسبهم ذلك عزة خلقية، وسعادة روحية، قوامها الرضا بقضاء الله وقدره، واليقين بأن لا سلطان لقوة من قوى الأرض على مصائرهم وحياتهم، أو كما يقول إبراهيم بن أدهم: «نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيف.»
كما أفاضت عليهم الثقة بالله والتوكل عليه ، شجاعة نفسية، وقوة إيمانية، لا تسامقها قوة ولا شجاعة، يقول إسحاق بن إبراهيم السرخسي: «سمعت ذا النون المصري، وفي يده الغل، وفي رجليه القيد، وهو يساق إلى المطبق، والناس في بغداد يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى، ومن عطاياه، وكل فعله عذب حسن طيب.»
تلك الشجاعة الصوفية الشامخة التي ستبلغ ذروتها في البطل الشهيد الحلاج، حينما صمد للمأساة صمودا لا يطاوله في التاريخ صمود.
هذه خلاصة سريعة للمعارف الصوفية، في القرن الثاني للهجرة، ثم جاء القرن الثالث، فبدأ معه العصر الذهبي للتصوف، أو عصر النضوج العلمي للحياة الروحية.
تطور المعارف الصوفية في القرن الثالث الهجري
وفي مطلع هذا العصر، أخذت معاني الحب الإلهي، الذي سمعنا جرسه لأول مرة في ألحان رابعة العدوية ومواجيدها، أخذت معاني هذا الحب تتسع، وتتلون بها المقامات والأحوال، وأخذت كلمات الأنس والبسط، والرجاء والخوف، واليقين والمشاهدة، تشيع وتؤتي ثمارها، وتدرجت على أجنحة الحب ومعارجه حتى وصلت بالصوفية إلى مقام الفناء، وهو أخطر مقامات التصوف وأبعدها أثرا في تاريخه.
والفناء هو غاية الصوفية، ففيه يشربون رحيق الحب الأعلى، وينعمون فيه بمتع ولذائذ روحية تنسيهم دنياهم وأخراهم ووجودهم، وكل شيء سوى المحبوب.
والحب أساس الأحوال الصوفية، وقد اعتبر - كما يقول السهروردي - أساسا للأحوال، كالتوبة بالنسبة إلى المقامات، فمن صحت توبته على الكمال، تحقق بسائر المقامات، من الزهد والرضا والتوكل، ومن صحت محبته، تحقق بسائر الأحوال، من الفناء والبقاء والصحو والمحو.
4
ومن الحب تنشأ المعرفة والمشاهدة، ولذة المعرفة والمشاهدة، وفي الحب يتمتع المحب بالجمال المقدس، ويا له من جلال وجمال! ونشوة الحب الكبرى، تسمى سكرا، والسكر علامة الصدق في الحب، وهو نشوة روحية لا يمكن تصورها إلا بالتجربة، كما يقول الإمام الغزالي؛ ولذلك قالوا: «من ذاق عرف.»
5
وهذا السكر الروحي، حدقة يرى بها الصوفي، حقيقة الكون، وسر الخلق، يقول معروف الكرخي: «إذا انفتحت عين بصيرة العارف نامت عين بصره، فلا يرى إلا الله.»
ونهاية السكر هو الفناء، وفيه يغني المحب عن الموجودات، ويتجه بكليته لمطالعة وجه المحبوب.
والفاني كما يقول الصوفية: لا يحس بما حوله، ولا يحس بنفسه، فقد فنى عما سوى الله، ومن هنا جاء كلام الصوفية الذي لا يفهمه ولا يتذوقه سواهم، حينما يقولون، في نشوة الفناء، ووقدة الحب: «ليس في الوجود إلا الله.»
إنها تجربة عليا، تجربة ذاتية في عالم الروح والسر، تجربة كان أقوى وأجرأ من تحدث عنها الحلاج حينما بلغ الذروة العليا لمقام الفناء، أو مقام الاتحاد، وحينما ابتدع الحلاج من هذا المقام معارف صوفية، تتحدث عن وحدة الأديان، والنور المحمدي، ووحدة المحب والمحبوب.
ويأتي بعد مقام الفناء، مقام البقاء، ويأتي بعد الوحدة، مقام الجمع، وبعد الجمع، مقام التفرقة.
ومقام الجمع، هو رؤية الحق بلا خلق، وهي حالة وجدانية، أو حالة دهشة وغيبة، مع فقدان الإحساس بالأشياء وبالنفس.
والمحب هنا يعزل نفسه عن صفاتها، بأن ينظر، وكأنه بمثابة النظر لا الناظر، ويسمع ويعي وكأنه بمثابة السمع والوعي، لا السامع والواعي، ويتكلم وكأنه بمثابة الكلام لا المتكلم.
إنه مقام إشارة، إلى حق بلا خلق ... وحالة الجمع هذه هي الحالة التي قال فيها الصوفية، الكلمات الجريئة التي عرفت باسم «الشطح» التي هوجم التصوف والصوفية من أجلها، وتضرب الأمثال بكلمة أبي يزيد البسطامي «سبحاني» وبقول الحلاج: «أنا الحق.»
وقد قيل لشيخ الطائفة الجنيد: إن أبا يزيد يسرف في الكلام، فقال: وما بلغكم من إسرافه في كلامه؟ قالوا: سمعناه يقول: سبحاني، سبحاني، أنا ربي الأعلى!
فقال الجنيد: إن الرجل مستهلك في شهود الإجلال، فنطق بما استهلكه لذهوله عن رؤيته إياه، فلم يشهد إلا الحق تعالى، فنعته فنطق به.
6
ويعتبر كبار الصوفية، مرحلة الجمع هذه، أدنى مما يجب أن يكون عليه الكمل من المحبين الذين يجب أن يتحققوا بما يسمونه «جمع الجمع» أو «صحو الجمع» أو «الفرق الثاني»!
وهي مرحلة تعقب مرحلة الجمع السابقة، ويجمع الصوفي فيها بين الجمع والفرق معا؛ لأنه لا بد للعبد منهما، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له.
وحالة جمع الجمع هذه، حالة وعي وصحو وإدراك، مع بقاء المعرفة الصوفية ، التي كانت في حالة السكر، فلا يزول عن صاحب المقام إدراك الوحدة، إذا نظر إلى الكثرة، أو إدراك الكثرة إذا نظر إلى الوحدة.
وهذه حالة فيها جمع من وجه، وتفرقة من وجه، فالجمع باعتبار الشعور بالوحدة، والفرق لإدراك الخلق، وصور الكون كما هي.
ومن المتحققين بهذا المقام أبو القاسم الجنيد، ويقول في هذا المعنى:
وتحققتك في السر
فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعان
وافترقنا لمعاني
إن يكن غيبك التع
ظيم عن لحظ عياني
فلقد صيرك الوج
د من الأحشاء داني
فالجنيد يجمع لمعان، ويفرق لمعان، وهذا هو جمع الجمع، وحال العارفين الكمل، المحلقين على أجنحة الوجد. •••
ومقامات التصوف ومعارفه ومناهجه، أفق يتلألأ جمالا وكمالا، أفق صاغه الإلهام، وفتق جوانبه الإيمان، وشيد سماواته الحب الإلهي، وما يفيض هذا الحب من مشاهدة يقينية، وعلوم فيضية، ومنح ربانية.
أفق مترامي الأبعاد، تعجز العقول المادية الأرضية عن ارتياده، واكتشاف أسراره، والاهتداء إلى أنواره.
إنه أفق لأصحاب العقول والأذواق، الذين صفت أرواحهم بالطاعة، ورقت بالمجاهدة، وشفت بالمحبة، وسمت بالاصطفاء، حتى شهدت بالاجتباء ما لا عين رأت، وسمعت ما لا أذن سمعت، ونعمت بما لم تنعم به القلوب التي لم تبرح نطاق الماء والطين.
والقرن الثالث للهجرة، يعتبره الصوفية أكبر وأخطر مرحلة في تاريخ الحياة الروحية.
إنه العصر الذي بلغ فيه التصوف ضحاه، واكتمل نموه، وشيد صرحه، وتدعمت مدارسه.
العصر الذي شهد الأعلام الأئمة الكبار الذين يدين لهم التصوف بخطوطه العريضة المضيئة ... العصر الذي عاش فيه الحارث المحاسبي (ت سنة 243ه) سيد المحدثين عن دقائق ورقائق المحاسبة والمراقبة، وذو النون المصري (ت 245ه) أكبر المتكلمين عن أسرار المقامات والأحوال، وأبو اليزيد البسطامي (ت 264ه) بتحليقاته وإلهاماته في مقامي الحب والفناء، وأبو سعيد الخراز (ت 277ه) أستاذ مدرسة السلوك القلبي، والخلق المثالي، وسهل بن عبد الله التستري (ت 283ه) مربي العارفين القانتين، وشيخ الطائفة وإمامها، أبو القاسم الجنيد (ت سنة 297) الحجة الذائق، الواصل في مقام التمكين.
وأخيرا الشهيد، الحسين بن منصور الحلاج، الذي بلغ به التصوف كما يقول ماسنيون أقصى درجاته الفنية، وتحقق فيه الرمز الأعلى للصوفي المحب الفاني.
والحياة الصوفية في القرن الثالث الهجري، بكل ما فيها من عظمة وإشراق، وأسرار في المقامات والأحوال، وبكل ما اشتملت عليه، من محبة وفناء ومشاهدة، وفرق وجمع وفتح، وجهاد في سبيل الكمال، واستشراف للمثل الأعلى.
كل هذا نشاهده مبينا واضحا مصورا في حياة الحلاج، ونضاله، وصراعه واستشهاده.
بل إن الحلاج، ليعرض علينا، آفاقا قلبية، ومعارج روحية، وألوانا من الحب الإلهي وإلهاماته، وما فيه من شوق ووجد، وعذاب وحرقة، وتقلب في ملكوت المشاهد والأنوار، لا نراها عند غيره.
لقد انبثق الحب الأعلى، الحب الأعظم، في قلبه ووجدانه، وحسه ودمه وكيانه، فأذهله وحيره، وأفناه عمن سواه، حتى لنراه، في أسواق بغداد بقامته الفارعة، ولونه الأسمر الجميل، وسمته المهيب، ومنطقه الساحر، وهو يهيم على وجهه، وقد صرعه حبه، وهو يصيح: «يا أهل الإسلام. أغيثوني! فليس - أي الله - يتركني لنفسي فأتهنى بها! وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه ...»
7
مولده
في بقعة من بقاع فارس الجميلة العريقة، الغنية بخيرات أرضها، وثمار عقول أبنائها، وفي ضحى العصر الذهبي للتصوف، في مطلع عام 244ه/858م ولد الحسين بن منصور الحلاج، في بلدة تور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء.
8
وتقدم لنا دائرة المعارف الإسلامية، روايتين متناقضتين عن نسبه، فالرواية الأولى تصعد به إلى أبي أيوب الأنصاري الصحابي الجليل، وبذلك تجعله عربيا خالصا. وتقول الرواية الثانية: إنه حفيد مجوسي من أبناء فارس.
9
والرواية التي تنسبه إلى الأنصار لم تثبت تاريخيا، ولم يقل بها مؤرخ عربي، فإجماع رجال التاريخ، على أنه فارسي الأصل، كما هو فارسي المولد.
يقول ابن كثير:
10 «هو الحسين بن منصور بن محمي الحلاج أبو مغيث، ويقال أبو عبد الله، كان جده مجوسيا، اسمه محمي، من أهل فارس من بلدة يقال لها البيضاء. ونشأ بواسط، ويقال بتستر.»
ويقول المستشرق ماسنيون: إن البقعة التي ولد فيها كانت من أعظم مناطق النسيج في الإمبراطورية الإسلامية. وإن والده كان من عمال النسيج؛ ولهذا سمي حلاجا، وهو استنتاج فكري من ماسنيون لم يقم عليه من التاريخ شاهدا أو دليلا.
أما الرواية التاريخية التي أوردها ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، فتروي عن ضمرة بن حنظلة السماك، قال: «دخل الحلاج واسط
11
وكان له شغل، فأول حانوت استقبله كان لقطان، فكلفه الحلاج السعي في إصلاح شغله، وكان للرجل بيت مملوء قطنا، فقال له الحسين: اذهب في إصلاح شغلي، فإني أعينك على عملك، فذهب الرجل، فلما رجع رأى كل قطنه محلوجا، وكان أربعة وعشرين ألف رطل، فسمي من ذلك اليوم حلاجا ولازمته هذه الكنية طوال حياته.»
وقد أورد ابن كثير
12
أيضا هذه الرواية، وأضاف إليها رواية أخرى تقول: إن أهل الأهواز أطلقوا عليه هذه التسمية؛ لأنه كان يكاشفهم بما في قلوبهم فسموه، حلاج الأسرار.
وبعد مولد الحلاج بقليل، اضطربت أحوال والده المالية، فرحل من بلدة تور إلى مدينة واسط ينشد العمل في ميادينها الاقتصادية الكبيرة.
وكانت واسط، مركزا من مراكز الإشعاع الفكري والروحي في فارس، أسس بها الأشاعرة مدرستهم الكبرى، وأوجد فيها العلامة أبو علي الجبائي، نشاطا ثقافيا، وتيارا علميا حرا، يخضع كل شيء لمنطقه وطرائفه.
كما أقام بها الحنابلة مدرسة للقراء، ومعهدا للحديث، واتخذوا من مساجدها مقاعد للبحث والدرس، والجدل والحوار.
وفي هذا الجو العلمي الحر الحي، نشأ الحلاج، ولفت إليه الأنظار منذ طفولته، بذكائه المتوثب اللماح، وشفا فيه روحه، وتفتح قلبه، وحبه وإقباله على ينابيع العلم والمعرفة، حتى ليحدثنا تاريخه، أنه قرأ القرآن الكريم على أعلام القراء في عصره، وحفظه وجوده، وهو في العاشرة من عمره، وتعمق في فهم معانيه، تعمقا ليس من طبيعة الطفولة الغضة.
كما اشتهر بالإرادة القوية الموجهة، والرياضات والمجاهدات الروحية الشاقة، والزهد فيما يقبل عليه لداته من شئون الحياة، ولهو الطفولة، والاستفراق الكامل في الصلاة والتأمل والتعلق بالدراسات التي تتناول المعرفة الروحية، وما تحتوي عليه هذه المعرفة من أنوار وأسرار.
وأقبل الحلاج بكل ما في قلبه من أشواق، وما في روحه من إشراق على علوم عصره من فقه وتوحيد وتفسير وحديث وحكمة وتصوف. ولكنه كما يقول ماسنيون: «سرعان ما راح يبحث عن المعنى الرمزي الذي يرفع دعاء الروح إلى الله.» كان الحلاج يحس في أعماقه دائما تلهفا واشتياقا إلى معرفة أرق وأدق مما يقرأه في صفحات الكتب، ومما يستمع إليه في دروس العلم والعلماء.
معرفة تدنيه وتقربه من الله، وتمنحه المعراج الذي تصعد عليه روحه إلى هداه.
كان يحس أن لروحه عند الصفاء والنقاء، سبحات ملهمات، تترقرق فيها معان مشرقات، وأن قلبه عندما يأخذه الوجد الإلهي، والحب الرباني، تتفتح فيه منافذ يطل منها على ملكوت رائع الجلال والبهاء، تلتمع في آفاقه حقائق أعلى وأسمى مما يتجادل فيه الناس ويتخاصمون.
وإذن فليعمل الحلاج على أن ترتفع روحه بالحب ارتفاعا يجعلها أهلا لهذه الحقائق التي يهبها الله لمن ارتضى من عباده، واصطفى من خلقه.
وانقطع الحلاج عن دروسه، وأقبل على ملكوت السماء والأرض يقلب وجهه في آفاقهما، ويتأمل أسرارهما، ويقرأ بين سطورهما الخفية أسرارا وأسرارا.
وعكف على روحه وقلبه، بالتصفية والمجاهدة، حتى أعطيا كنوزهما، وتفجرا معرفة ونورا.
ونذر نفسه لربه سبحانه، وأقبل عليه بكل ذاته، وقد اشتعلت أحاسيسه بالوجد، والتهبت عواطفه بالحب، إنه يستهدف ارتباط قلبه بالله، وقرب روحه منه، قربا يفنى فيه عن كل شيء، ليبقى له بعد ذلك كل شيء.
إنه فناء الخالدين بربهم، وهو فناء وخلود، لا يعرفه إلا الأفق الصوفي.
وأخذ الحلاج نفسه بهذا المنهج أخذا عنيفا قاسيا، وألزم نفسه به طوال حياته، حتى غدا طابعه الذي تشكل به وجوده المادي والروحي.
ولقد سئل عن المريد الصادق. فقال: «هو الرامي بقصده إلى الله عز وجل، فلا يعرج حتى يصل.»
وهي كلمة تصور لنا منهج الحلاج وهدفه الذي عاش له وبه، لقد رمى بقصده إلى الله سبحانه، وسخر كل ملكاته العقلية والروحية لتحقيق هذا الهدف، بل اتجه بكل أذواقه ومعارفه إلى آفاق هذا المعنى.
فكلمة التوحيد، وهي السطر الأول في كتاب الإسلام، لا تكون صدقا وحقا كما يقول الحلاج، إلا إذا عشناها وتذوقناها، وفنينا في معناها، حتى كأننا حين ننطقها نسمعها من الله جل جلاله، وحينئذ تنبثق في شغاف القلب، وعين الوجدان، ويموج كل شيء بالجلال والنور والمعرفة.
والقرآن الكريم كلام الله فيجب على المؤمن أن يتذوق حقائقه تذوقا روحيا، وأن تتمثل فيه هذه الحقائق تمثلا عمليا وإيجابيا.
ألم تقل السيدة عائشة - رضوان الله عليها - وهي تصف رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه: «كان خلقه القرآن.»
ويمشي الحلاج بهذا الفهم خطوات حتى يقول: «إن المؤمن الصادق يصل به الأمر حتى تكون «باسم الله» منه بمنزلة «كن» من الله سبحانه.»
أي إن «باسم الله» إن نطق بها من تحقق بحقائق القرآن، وتذوقها وعاش بها تكون «باسم الله» منه؛ لها من القوة والأثر ما لكلمة «كن» من الله سبحانه.
ومن كلمات شبابه التي تصور لنا منهجه قوله: «حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك والاتصاف بأوصافه.»
إنها البذرة التي ستخرج منها فلسفة الحلاج في مقام الفناء! ويقول الحلاج: «من لاحظ الأعمال حجب من المعمول له - الله - ومن لاحظ المعمول له حجب عن رؤية الأعمال.»
وهذه الصورة المثالية السامية التي تصورها لنا تلك الكلمة، سنجدها بصور أكمل وأسمى في جهاد الحلاج وتضحياته.
تلك بعض خواطر الحلاج القلبية والروحية، وهو في مطلع شبابه قبل أن يسلك المنهج الصوفي على شيوخه، وقبل أن ينتظم في المدرسة الروحية العالمية، مدرسة التصوف، التي كانت تهيمن على العراق وفارس خلال القرن الثالث الهجري.
شيوخه في الطريق
ولما بلغ الحلاج الثامنة عشرة من عمره، اتصل بالإمام الصوفي سهل بن عبد الله التستري، وتلقى على يديه آداب الطريق ومنهجه.
وأعجب الحلاج بشخصية سهل، وبادله شيخه الإعجاب والتقدير، وتلازما ليل نهار، حتى بلغ الحلاج العشرين من عمره، فاعتزم أن يخرج من مدينة واسط الصغيرة إلى العالم الفسيح، فرحل إلى البصرة بعد أن ودع شيخه، وترك كما يقول جانبا من قلبه معه.
وفي البصرة تتلمذ على يد شيخ من شيوخ التصوف، هو عمر المكي الذي سوف يكون له أبعد الأثر في حياته، وفي نكبته، ومن يده تلقى الحلاج خرقة الصوفية وعاش حياتهم.
ثم تزوج الحلاج في البصرة، بأم الحسين بنت أبي يعقوب الأفطع من زعماء البصرة وأهل الصدارة فيها.
واتسم هذا الزواج بالحب والإخلاص وصاحبه التوفيق حتى النهاية، فقد وفت له زوجه في مجده وفي محنته وثبتت إلى جواره، ورزق منها بثلاثة أبناء.
وكان شيخه المكي في خصومة ملتهبة مع صهره، امتدت آثارها إلى الحلاج، فانقطع ما بينهما من مودة، وقامت مكانها خصومة حادة، حتى ضاق صدر الحلاج بالبصرة فارتحل إلى مدينة بغداد.
الحلاج في بغداد
يقول صاحب «العبر»: «تصوف الحلاج، وصحب سهل بن عبد الله، ثم قدم بغداد فصحب الجنيد، والثوري وتعبد وبالغ في العبادة.»
وفي بغداد تتلمذ على أبي القاسم الجنيد، سيد الطائفة، وشيخها الكبير، وتوثقت صلتهما، واشتكى إليه من شيخه المكي فأمره الجنيد بالصبر ومراعاة حق شيخه ... ثم أخذ ما بين الجنيد والحلاج يفتر، فلكل منهما شخصيته ومنهجه، وباعدت بينهما أحداث سنعرض لها في الفصول القادمة إن شاء الله.
ويروى عن الجنيد قوله: «إنني أرى كثيرا من فضول الكلام فيما يقوله الحسين بن منصور.»
ثم اتصل الحلاج برجال مدرسة رسالة القشيري، والتقى بصديق عمره الشبلي كما اتصل بمدارس التصوف وأعلامه اتصالا لم يطل أجله ... فقد أخذ الحلاج يكون لنفسه منهجا ومدرسة وزعامة، ذات أهداف دينية ودنيوية معا ... وكانت بغداد عاصمة الدنيا حضارة وثقافة، وكانت تقدم للحلاج الكثير من المعرفة، ومن الروحية، ومن دوافع الحركة والنشاط والجهاد ... وفي بغداد تلاقت الثقافات العالمية، كما تلاقت المذاهب والملل والنحل المختلفة، وتصارعت كل هذه الألوان الفكرية وتلاحقت وصبغت الحياة الإسلامية بصبغتها وطابعها ... ورأى الحلاج في بغداد الصراع الفكري المشبوب، ورأى في بغداد العصبيات القلبية بين الفرس والترك والعرب، وبين القبائل العربية المختلفة ومثيلاتها. كما رأى ترفا ماجنا هلوكا، ونظاما فاسدا ظالما، وخلافة متكبرة متألهة.
وآمن الحلاج بأن التصوف هو الذي يستطيع أن يهيمن على هذه المذاهب الفكرية المتعارضة، ويوحدها في منهجه الإيماني، كما يملك القدرة على محو هذه العصبيات الجامحة بروحانيته العالية وما تشع من أخوة، وما تلهم من محبة! وفوق هذا وذاك: إن التصوف يستطيع بطبيعته النقية المترفعة أن يحارب الترف والفساد والتأله الذي فرضته الخلافة العباسية على المجتمع الإسلامي.
الحلاج والأخوة الروحية
ومن ثم أخذ الحلاج يفكر في إيجاد كتلة شعبية تدعو إلى أخوة روحية في الله، وتستهدف وحدة العالم الإسلامي، والنهوض به خلقيا وتعبديا حتى يعود إلى منهج الصدر الأول وقوته، وروحانيته وإيمانه.
أخوة روحية تنبثق منها الوحدة الكاملة في الشعور والمثل، والمناهج والغايات.
فالمسلمون قرآنهم واحد، ورسولهم واحد، وعباداتهم قامت على النظام والوحدة، فالصلاة موقوتة بوقت محدد، وكمالها في جماعة منتظمة في صفوف متراصة، تتجه إلى قبلة واحدة، وتفنى أحاسيسهم في استغراق تعبدي مشترك.
والصيام يبدأ بأذان الفجر، وينتهي بأذان الغروب، كأنه نفير عام يحشد الجنود، جنود الروحانية الإسلامية؛ ليدربهم على النظام والقوة، والوحدة الكاملة.
والحج مؤتمر المسلمين الأكبر، تضمهم بقاع مقدسة محددة، وشعائر مفروضة مشتركة، ويرمون عن يد واحدة جمرات موجهة إلى رمز عدوهم المشترك.
ومع هذا فقد اختلفوا وتمزقوا، وأعرضوا عن رسالتهم الخلقية، وعباداتهم الربانية.
وأخذت هذه الخواطر تراود الحلاج، فتؤرق جفونه، وتوقظ أحاسيسه، وتحرك قواه، فأخذ يلقي بنفسه في تيار الحياة، ويتصل بالجماهير، ويوثق صلاته بطوائف من الجند والقادة والأمراء والزعماء، اتصالا، لم يرض عنه المتزمتون من شيوخ التصوف، ولم ترض عنه الخلافة، ولم ترض عنه القوى المختلفة التي تحرك بغداد، وتحكم العراق، وتهيمن بالتالي على العالم الإسلامي.
مجاهداته الروحية
ولكن هذه الصورة التي تمثل لنا الحلاج في إهاب رجل الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، لم تكن كل حياة الحلاج، ولا كل جهاده، ولا يمكن لهذه الصورة أن تمثله تمثيلا كاملا.
فالحلاج كان يتقلب في حياتين، ويعمل في حقلين، وكان يملك القدرة على المزج بينهما، كما يملك الطاقة على النهوض بهما معا.
كان الحلاج خلال معركته الإصلاحية، ودعوته الشعبية، يسلك طريقه الصوفي، ويسلكه في عنف وقوة.
لقد انفصم ما بينه وبين شيوخه في الطريق الصوفي، فلم يتم تدريبه، ولم يكتمل إعداده، ولم تمهد له الأيدي المدربة المبصرة، أيدي المربين الروحانيين طريق الكمال الروحي.
والطريق الصوفي كما يقول المتصوفة ، طريق وعر شائك، تمتزج فيه البروق الخادعة، بالأنوار الهادية، والخواطر المضللة بالإلهامات المشرقة وفيه الاستدراج الخفي، والامتحان الرباني، وفيه العوائق النفسية، والتيه القلبي، والخداع الذوقي؛ ولهذا اشترط الصوفية جميعا واتفقوا على أن الشيخ ضرورة في الطريق لا غنى عنه للسالك المريد، إنه كالطبيب للمريض، يعرف المزاج والمرض والدواء، كالمهندس للبناء، إنه النور الذي يرشد، والمربي الذي يوجه، والدليل المبصر الذي يفرق ويميز بين الخواطر والإلهامات، ويملك القدرة على اختصار الطريق، كما يملك التجربة الواعية التي ترسم لكل سالك ومريد ما يلائمه، وما يتفق مع ذوقه واستعداده وطبيعته.
والشرط الأول في الطريق أن يستسلم المريد لشيخه استسلاما كاملا، بلا اعتراض أو توقف، وهي دكتاتورية لا تتفق مع طبيعة الحلاج الثائرة، فتمرد عليها واختصم بشأنها مع شيخه عمر المكي، وتجادل فيها مع شيخه الجنيد، ولم يرض الشيوخ عن هذه الروح الثائرة!
واستقل الحلاج بنفسه، وأخذ يسلك الطريق وحده، وأخذ يجاهد نفسه ويدربها ويكلفها أشق ما في التصوف من تكاليف، ويفرض عليها أقسى ما في المنهج الروحي من وسائل التجرد والزهد والعبادة والرياضة.
وابتدع لنفسه طريقا حلاجيا استهدف به الكمال القلبي والخلقي، واتصال روحه بربه اتصال حب وشوق وفناء، اتصالا سيعرف في التاريخ باسم «معراج الحلاج» وهو معراج يتفرد في تاريخ الحياة الروحية، بخصائص وسمات لم تعرف لسواه.
وكان الحلاج في جهاده الروحي، وفي نضاله الشعبي، سريع التقلب والحركة، إن في روحه ثورة، وفي قلبه أهواء متعددة، وفي وجدانه وأحلامه استشراف وتطلع لآفاق يحسها ويدركها ببصيرته واضحة حينا، غامضة أحيانا!
إن روحه لم تظفر بعد بأفقها المستقر المبين، وإن قلبه لم يصل بعد إلى مقام الثبات والتمكين، ومن هنا جاء التلون في السلوك الذي اتسمت به حياة الحلاج في دورها الأول.
يقول ابن كثير:
13 ... وقد كان الحلاج يتلون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس زرية، وتارة يلبس لباس الأجناد، ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك والقواد، وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة، وبيده ركوة وعكاز وهو سائح، فقال له: ما هذه الحالة يا حلاج؟ فأنشأ يقول:
لئن أمسيت في ثوبي عديم
لقد بليا على حر كريم
فلا يغررك أن أبصرت حالا
مغيرة عن الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى
لعمرك بي إلى أمر جسيم
كان الحلاج يتلمس طريقه إلى أمر عظيم جسيم، طريقه بشقيه الصوفي والإصلاحي، وقد اعتزم في إصرار حاسم، أن يبلغه أو يهلك دونه.
الحلاج يستعرض المنهج والرسالة
آمن الحلاج - وهو يشق طريقه إلى الله على أجنحة من رياضاته العنيفة الشاقة، وأشواقه القلبية المتقدة - أن هناك صلات لا تنفصم بين الكمال الروحي الذي ينشده، والإصلاح الإيماني الذي يستهدفه.
إنه ليحس بأن في أعماقه قوى ضخمة، تفور وتتصارع، وتتهيأ للحركة والوثوب ... ويشعر بأن هناك في أبعد عمق من نفسه وقلبه ووجدانه تتفجر ينابيع، وتتدفق تيارات وثورات، يرى بعين خياله وبصيرة أحلامه أنها ستغير وجه الحياة - حياته، وحياة الناس كافة!
لقد آن للعالم الإسلامي أن يبعث من جديد، على نور من كتاب الله وحبه، وشعاع من حياة الرسول وهديه، وما أروع وأجمل أن تتحقق أحلام الحلاج! فتشهد الدنيا أمة قرآنية تقوم بعين الله ورعايته، يحكمها ويوجهها أقطاب عباد أتقياء أصفياء، يحبون الله ويحبهم، ويملئون الكون بمواجيدهم وضراعاتهم، وأنوار إلهاماتهم، ويحملون الناس على الجادة والطريق الذي اصطفاه الله وارتضاه، فلا تفترق السياسة عن الصلاة، ولا الحكم عن الحب، ولا العمل عن العبادة، فتتحول الدنيا من غاية للشهوات والصراع ولهو الشياطين إلى مساجد للحب والسلام ونجوى الساجدين العابدين.
إنها أحلام الحلاج التي تملأ عليه آفاقه، والتي تعيش في أعماقه، وتبعث الحركة والاضطراب في حياته، ترى هل هو أهل لها بعد؟ وهل يستطيع النهوض بها، فتتحول الأحلام والأماني إلى حقائق حية، تسعى وتعيش وتخلد؟
وهل تستطيع الصوفية، وهل يستطيع المنهج الصوفي أن يقدم له القاعدة الصلبة التي يرتكز عليها، حتى يثب من فوقها؟ لقد جاهد الصوفية أنفسهم في سبيل التصفية والتحلية والتطهر جهادا خالدا لم تعرف صحف الجهاد النفسي مثيلا له من قبل، وفرضوا على أنفسهم مناهج في السلوك، وآدابا في الطريق ، وواجبات في العبادات، وأخلاقا في الحياة، هي أسمى تصورات الكمال التي عرفها هذا الوجود ... وامتلأت أيديهم بثورة ضخمة من التجارب العلمية الكاملة التي قاموا بها وحدهم وهم يصعدون معارج الوصول إلى أفق الحب الإلهي، وسموات الإلهام والنجوى ... وتركوا للإنسانية زادا صالحا من معارفهم وإلهاماتهم وعطرا زكيا من أورادهم وعباداتهم، وسيرا وصحفا لهم تشع هدى، وترسل نورا، وتهدي طريقا.
ثم عاش الصوفية بعد ذلك حياتهم داخل أنفسهم أو داخل حلقات دروسهم، وساحات مريديهم، ولم يمدوا أعينهم إلى ساحة الحياة الكبرى، وإلى ميادين جهادها الأخرى.
ولقد آمن الحلاج بأن المنهج الصوفي بكمالاته في الأخلاق والعبادات والجهاد الروحي، وبمواجيده وأذواقه، ومعارفه في الحب الإلهي، إنما يمثل وجها واحدا من الدعوة الإسلامية، ووجها واحدا من حياة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه، إنه يمثل مرحلة الإعداد فحسب! ثم تأتي في أعقابها مرحلة الكمال، مرحلة الجهاد العام لتبليغ لدعوة، وحمل الناس عليها، والدفاع عنها، فلو اكتفى الأنبياء والأولياء والصالحون المصلحون والزعماء بأنفسهم ولم يحملوا ما تلقوا وما تعلموه وآمنوا به إلى الناس، ولم يجاهدوا في سبيله حتى تعلو كلمات الله، وتسود تعاليمه ورسالاته لفسدت الأرض، وامتطاها شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف الأرض غرورا ...
ولقد فسد عصر الحلاج فسادا كبيرا، وتنابذ الناس واختلفوا، وتفرقت بهم السبل، وأغرقوا في الشهوات والملذات والترف الهلوك ... وكانت قمة الفساد قصور الخلفاء والأمراء، فقد غدت مسرحا لعبث الجواري والإماء، ومرتعا للمرتشين والمقامرين والملحدين!
ومع هذا، فها هي بغداد - عاصمة الخلافة - تموج بالنجوم الكبار من أعلام التصوف وأئمته: الجنيد - التستري - المكي - الشبلي - الثوري ... وها هو العراق - في كل سهل وجبل وقرية - فيه صوفية عباد أتقياء أصفياء، لهم مكانتهم وأقدارهم ...!
إن سهل بن عبد الله التستري ليقول: إنه دخل البصرة فوجد بها أربعة آلاف من العارفين! البصرة وحدها يعيش بها هذا العدد الضخم من العارفين الواصلين، فكم منهم في بغداد؟ وفي كل مدينة من مدن العراق؟ ومع هذا، فبغداد والعراق قد أصبحتا علما عالميا على التدهور الخلقي، والانحلال الديني، والفساد الاجتماعي . ماذا فعل الصوفية حيال كل هذا؟! ولهم المكانة ولهم الجاه ، ولهم الحب والتقدير عند الخاصة، والسلطان الشامخ على العامة.
لقد فكر الحلاج في كل هذا وأطال التفكير، فلم يرض عنه، ولم يطمئن إليه، وعبر عن سخطه بكلمات من لهيب وبرق ... إن الله سبحانه - كما يقول الحلاج - لم يقبل من الناس عبادتهم إذا اختلت سياستهم، وفسدت أخلاقهم، ثم استكانوا للبغي والفساد! وإن الله سبحانه - كما يقول الحلاج - لن يقبل من أصحاب الأردية والأكسية دندناتهم وكلماتهم ما لم ينهضوا للحق ويجهروا به، ويقدموا دماءهم في ساحة الاستشهاد والفداء.
وقد آن لرجل من رجال الله أن يرفع صوته، ويؤذن بالدعوة، وإن الحلاج ليهب نفسه ويرصدها لهذه الغاية الكبرى. وإن كان يمسك نفسه حينا، ويقلب وجوه الرأى أحيانا، فليس عن تردد أو ضعف، إنه يريد أن يستوثق من نفسه، وأن يطمئن إلى عدته، هل كملت رياضاته؟ وهل نضجت مجاهداته؟ وهل خلص له قلبه؟ إن قلبه لينازع عقله فيما يريد، وإن وجدانه ليصاول تفكيره فيما يحب ... لقد تعشق بقلبه ووجدانه وروحه المنهج الصوفي، ورصد كل قواه منذ صباه لحب الله وعبادته والجهاد في مرضاته، حتى يصل إلى فناء كامل، تفنى فيه إرادته في إرادة الله، ونوازع بشرية في كمالات عبادته، وأهواء نفسه في لذة أنسه وجلال قربه.
وإن هذا الجلال، وهذا الحب، وهذا الفناء ليكاد يسرقه عن نفسه، وعن رسالته حينا وحينا، يخيل إليه أنهما ارتبطا واتحدا، وأصبحا شيئا واحدا، إنها عاصفة من التفكير المزلزل، المتعدد الألوان والصور، خلص له منها أمر يقيني اطمأن إليه اطمئنانا لم يجده عند سواه.
إنه في حاجة إلى خلوة كاملة، يعيشها متحنثا متطهرا ذاكرا قانتا، خلوة تؤهله أو تدنيه من الكمال، وتزوده وتعده للجهاد العنيف الشاق الذي اعتزم القيام به في وجه جميع القوى.
ومن ثم اعتزم الحلاج أن يرحل إلى بيت الله المقدس، ليخلو بنفسه في أرض الوحي والإلهام، ليزداد قربا من ربه، وكمالا في نفسه، وهما عدته ومعراجه إلى هدفه.
الحلاج في بيت الله
وفارق الحلاج بغداد فجأة إلى مكة المكرمة، وبعد أن طاف بالبيت العتيق، وامتلأت عيناه بالمشاهد التي شهدت خطو الملائكة وجهاد خاتم النبيين، نذر البقاء عاما للعمرة في حرم البيت المبارك للتطهر والنسك، والتصفية القلبية والإعداد الروحي.
عاش الحلاج في مكة عاما كاملا في صمت مطلق، وتأمل متصل، وعبادة ونجوى، عاش في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفا. عن أبي يعقوب النهرجوري
14
قال: «دخل الحلاج مكة أول دخلة وجلس في صحن المسجد سنة لم يبرح من موضعه إلا للطهارة والطواف، ولم يحترز من الشمس ولا من المطر، وكان يحمل إليه في كل عشية كوز ماء، وقرص من أقراص مكة، وكان عند الصباح يرى القرص على رأس الكوز وقد عض منه ثلاث عضات أو أربعة فيحمل من عنده.»
عاش الحلاج حياته العجيبة القاسية الشاقة عاما كاملا، ما هي خواطره؟ وما هي تأملاته؟ وما هي القوة التي تزود بها في خلوته؟ لقد لزمت كتب التاريخ الصمت حيال هذه الفترة من حياته، إلا أن المستشرق ماسنيون يحاول كعادته أن يلقي الظلال والشبهات، وأن يفسر حياة الحلاج التفسير الذي يصل به إلى الفكرة التي استقرت عنده، وهي أن الحلاج كان يحاول أن ينهج نهجا مسيحيا في تنسكه ودعوته، وأنه كان يتشبه بمريم البتول حينا، وبالسيد المسيح أحيانا ... يقول ماسنيون: «إن الحلاج في مكة كان يتشبه بمريم ابنة عمران، وأنه كان يهيئ نفسه لميلاد كلمة الله فيه.»
إن تأملات الحلاج وأحلامه، وخواطره ورياضته بمكة، تصورها لنا أولى كلماته التي نطق بها بعد عام كامل من صمته، لقد خرج الحلاج من عزلته فتلقاه أتباعه يسألونه عن شأنه، فترجم عن أمره بتلك الجملة القصيرة، المعبرة المصورة لحالته حيث قال: «لو ألقى مما في قلبي ذرة على الجبال لذابت.»
إنه ثائر أو عابد من لون جديد، تلاقت في أثوابه خرقة الصوفية بكسوة الجندية، وامتزجت في قلبه أشواق الحب الإلهي بثورة الإصلاح السياسي، واجتمعت في روحه طهارة العابدين ورقتهم ببطولات المصلحين وصلابتهم، وكانت هذه الأمشاج من الصفات المتناقضة تعلوها صفة ثابتة تعطي الحلاج طابعه الدائم.
ذلك هو الوجد الصوفي - الذي كان يأخذه أخذا عنيفا ملحا، يفنى فيه عن نفسه حينا، وعن رسالته أحيانا، ويدفع به زمنا إلى الخلوة القاسية والهرب من الناس، أو يزج به قسرا إلى تيار الحياة ومعاركها ... ذلك الوجد الصوفي الذي سيبلغ قمته في سنواته الأخيرة، بل ذلك الوجد الذي سيترك بصماته على تاريخ الحلاج فيملؤه غموضا واضطرابا، ويضفي عليه فتنة وخيالا ساحرا.
تنقلات الحلاج في العالم الإسلامي
غادر الحلاج مكة إلى الأهواز، ومعركته الباطنية لا تزال مشتعلة، رغم السلام الظاهري الذي اكتسبه من رياضاته وخلوته.
لقد رسم في عزلته خطوطا، وتزود بقوى، واعتزم أن يدفع بنفسه إلى ساحة الكفاح ... خرج داعيا إلى الله، مبشرا برسالته، واتجه بدعوته إلى طبقة المثقفين من الكتاب ورجال الأعمال، وإلى الجنود والقواد، وجماهير الصوفية ... وقسم الحلاج منهجه إلى خطوط رئيسية: ناحية دينية صوفية، جوهرها عبادة الله وحبه، حبا أساسه الوجد والشوق، حتى يجد الإنسان ربه في أعماق نفسه، وبذلك يصل إلى الكمال الروحي والخلقي، وإصلاح الأداة الحكومية الغارقة في الترف والشهوات والانحراف، حتى يستقيم الميزان الموجه لحياة الناس، ووحدة الأمة الإسلامية التي مزقتها الفلسفات والعصبيات، حتى تستطيع أن تنهض برسالتها، وتتجمع لديها القوة اللازمة لحمايتها.
وكان الحلاج في دعوته يتجنب التسميات المميزة بين الفرق الدينية، حتى لا يظن به الجنوح إلى فرقة بذاتها - وهي العقبة الكبرى في وجه كل دعاة الإصلاح - وكانت صيحة الحلاج المدوية هي: أن يعود الناس للأساس الأول، إلى الإسلام كما جاء، محجة بيضاء، وكما طبق في عهد الرسول توحيدا صافيا وعملا لله خالصا، وأن يتخلى الناس عن هذه المذاهب التي حجبتهم عن الجواهر، فالمذاهب - كما يقول - إن هي إلا وسائط يجب اجتيازها إلى روح الإسلام ... يقول العلامة ابن كثير في البداية والنهاية: «كان الحلاج في عباراته حلو المنطق، فيه تعبد وتأله وسلوك.»
وغضب المتزمتون من رجال التصوف، لاندفاع الحلاج في التيار السياسي، وقابل الحلاج غضبتهم بأعنف منها، فنبذ خرقة التصوف، ريثما يتكلم بحرية مع أبناء الدنيا كما يقول .
وعظم أمر الحلاج في الأهواز، وفتنت به الجماهير، ونسبت إليه العجائب، وتلونت هذه العجائب بخيال العامة، حتى غدت ضربا خارقا لقدرة الإنسان!
وكان الحلاج - كما يقول الإصطخري - باهر الشخصية، ساحر الكلمة، رائع السمت، محببا إلى القلوب. أو كما يقول العلم الحديث: فيه استهواء روحي للجماهير ... ثم وسع الحلاج نطاق دعوته، فارتحل إلى خراسان، وفي صحبته عشرات من الحواريين، واستمر - كما يقول ماسنيون
15 - يدعو ويعظ الجاليات العربية في شرق إيران، ويبث دعوته في المدن، ويقيم على الحدود، ويرابط مع المرابطين في الثغور، وقضى في ذلك خمس سنوات. ثم يعود إلى الأهواز، بعد أن ترك دويا يتردد صداه في آفاق خراسان.
ثم يدعوه تلميذه العظيم، الواسع النفوذ حمد القنائي إلى الإقامة ببغداد، فيرحل إليها مع أهله وطائفة كبيرة من مريديه وأتباعه ... ويدخل الحلاج بغداد بعد أن سبقته شهرته وعجائبه، فيحدث في بغداد هزة، يتردد صداها في البيئات الصوفية والعلمية، ترددها في قصور بغداد العالية وأكواخها الساذجة.
ثم يذهب الحلاج إلى مكة للمرة الثانية مع أربعمائة من تلاميذه، ويعاود الاختلاء والرياضة، حتى يتهمه بعض خصومه بأنه يقوم بأعمال السحر وتحضير الجن، لاعتصامه بقمة جبل أبي قبيس وانقطاعه عن الناس. ومن مكة يخرج الحلاج في رحلته الكبرى في سبيل الدعوة، يخرج إلى التركستان والهند حيث يعتنق الإسلام على يديه خلق عظيم.
واتخذ البحر طريقا، وصعد في السند من ملتان إلى كشمير، ويمضي في طريقه صاعدا ناحية الشمال الشرقي حتى طرقان مع القبائل الأهوازية. لقد كان الحلاج - كما يقول ماسنيون - يفكر في هداية الإنسانية كلها عبر الأمة الإسلامية.
وعظم أمر الحلاج في بلاد ما وراء النهر والهند والصين فكانوا يكاتبونه
16
من الهند بلقب المغيث، ومن بلاد الترك بالمقيت، ومن خراسان بأبي عبد الله الزاهد، ومن حورستان بالشيخ حلاج الأسرار، وسماه أشياعه ببغداد بالمصطلم، وسموه في البصرة المحير، وذهبت الدنيا تردد أحاديثه وقواه السحرية الخارقة، أو كراماته الباهرة.
يقول صاحب «شذرات الذهب»:
17
وبلغ من شأنه أن كان يخرج الأطعمة في غير وقتها، والدراهم من الهواء ويسميها دراهم القدرة، وكان يعرف الكيمياء والطب ... ونشر الحلاج رسائله الكبرى عن السياسة، وواجبات الوزراء، مطالبا بإقامة حكومة إسلامية حقا. وزارة تحكم بالعدل بين الناس، وخلافة - كما يقول - شاعرة بمسئوليات وظيفتها أمام الله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم.
18
ومن وراء النهر عاد الحلاج إلى مكة، يدفعه وجد صوفي، وحنين غلاب إلى الخلوة، وإلى رياضاته العنيفة القاسية، في أرض النبوة والإلهام، وليتزود في عزلته الروحية بقوة إيمانية، قوة تؤهله لمواجهة الحياة في معركة بطولية حاسمة.
هناك في بغداد عاصمة الخلافة العباسية، حيث الصراع الفكري والديني مشتعل الأوار في البيئات العلمية، وحيث الترف والشهوات والفساد يخنق المجتمع الإسلامي. هنالك كانت معركة الحلاج الكبرى التي سوف يقدم روحه قربانا لها ... وإلى بغداد يعود الحلاج! ليشعل فيها كل شيء، وليحترق في أتونها.
الحلاج في عاصمة الخلافة
وخفق قلب بغداد للنبأ العظيم! لقد جاء الحلاج إليها تسبقه عواصف مرعدة مذهلة، من الدعاوي العريضة المتناقضة، جاء إليها بعد أن طوف بالأرض، فملأ آفاقها دويا، وأسمع آذانها عجبا.
فقد ترك الحلاج في كل بقعة رن فيها خطره ما يختلف فيه الناس، وما يتخاصمون في أمره، فما رأى الناس من قبل رجلا له سمته وشخصيته وقواه وروحانيته!
رجلا يتصدى لهداية الناس كافة، فيطرق أبواب العالم شرقا وغربا، مبشرا وداعيا إلى الله سبحانه، دعوة أساسها وروحها حب الله، حبا تذوب فيه شهوات الدنيا، وينطفئ لهيبها، وتتضاءل فيه أهواؤها وسحرها، فإذ بكل ما فيها قبض الريح، وإذ تاجها ونعيمها وفوزها الأكبر في الاتصال بواجب الوجود ومبدعه، اتصالا ينير الروح، ويشعل القلب، ويوقظ الحس، فإذا بالإنسان في تجل عظيم مشرق! قوة ربانية تملك أسرار الكون، كما تملك معارج الصعود، إلى حياة النور والخلود، وتملك فوق هذا وذاك القدرة على تحقيق رسالة الإنسان الكامل، خليفة الله الذي اصطفى منه كليمه، وخليله، وحبيبه.
وفي خلال هذه الدعوة الروحية الربانية لا يفنى الحلاج عن دنياه كما فنى غيره من الصوفية، ولم تذهله الإشراقات والمعارج والمحبة الربانية عن حقيقة الحياة الأرضية، بل هو يقرع سمع الدنيا بدعوته الإصلاحية ضد المفسدين في الأرض من الملوك والأمراء، ومن يمشي في مواكبهم من محترفي الدين والدنيا، فيطالب بخلافة مؤمنة، مهتدية تحمل الناس على الصراط المستقيم، وحكومة قرآنية، تشعر بواجبها حيال الله، شعورها بواجبها حيال الإنسان. وضد المفسدين في الروح والفكر والقلب من علماء الكلام والمنطق والتوحيد، ومحترفي الجدل الديني، والحوار اللفظي، الذين مزقوا دينهم شيعا، وأحالوه عوجا، بعد أن كان شرعة محكمة، لا تعرف جدلا ولا حوارا، وإنما تعرف عملا وإيمانا.
وتمتزج شخصية الحلاج بجوهر رسالته، فيؤثر كلاهما في الآخر، تأثيرا هو سر ما يضطرب فيه الناس من أمره، وما يتجادلون حيال سيرته وحقيقة دعوته.
كان الحلاج متوهج النفس، مشتعل الحس، جياش القلب، ثائر الوجدان، رهيف العاطفة، يملك قوى خارقة، من المغناطيسية الروحية التي تؤثر في كل شيء يتصل به، أو يدنو منه.
وكان فوق هذا واسع الخيال، ساحر البيان، رائع التصوير، صادق الشعور، أخلاه الزهد، وحلاه النسك، وجلاه الحب، أكسبته طاعاته ومجاهداته روحا مشرقا مشعا متوددا عطوفا تتدفق منه تيارات ساحرة محببة، تدنيه من كل قلب، وتمزجه بكل عاطفة.
يقول المستشرق نيكلسون: امتاز الحلاج بأنه عاش في صوفيته تماما، عاش في كل لفظ قاله، وفي كل خاطر مر به، حتى لقب بمسيح الإسلام ... ويقول العلامة الفرنسي ماسنيون إنه حي ما قال، وقال ما حي، وعندما قارن بين محيي الدين والحلاج قال: «أنا أعتقد أن ابن عربي معرفته أكبر من روحه، وأن روح الحلاج أكبر من معرفته.»
كان الحلاج روحا عظيما، بل لعله كان أكبر روح في عالم التصوف. يقول علي بن أنجب الساعي: «لقد بلغ من صفاء روحه أنه كان يستشف الغيب من ستر رقيق، ولقد عزيت إليه نبوءات صادقة، استرعت أنظار الدنيا.»
وتلك الصفات التي اتسم بها الحلاج وطبعت تاريخه وصاغت دعوته، صفات فيها إغراء، وفيها استهواء، حتى لقد فتن بسحر الحلاج الروحي قوم ملئوا الدنيا حوله بالأساطير الملونة المبدعة، ودقوا طبول الدعوة العالية لخوارقه المذهلة، حتى جعلوه عليما بالغيب، قادرا على إحياء الموتى، مسخرا لعناصر الطبيعة وجواهرها ... وهي صفات أيضا تترك حولها حقدا غليظا، وحسدا مسموما، وجحيما مشتعلا بالبغضاء، فتصدى للحلاج قوم جمعوا كل ما في الدنيا من فجور وفسوق وإلحاد ومروق، وقذفوا به وجهه، وسودوا تاريخه، إرضاء لشهوات صدورهم، وبغضاء نفوسهم.
وبتلك الهالة، وعلى قرع تلك الطبول دخل الحلاج بغداد، وكانت بغداد في عصره هي الدنيا كما يقول رجال التاريخ! كان يحمل إليها خراج الأرض، فتنبض جنباتها بالترف، وما يدفع إليه الترف من شهوات وفجور! وكان يلتقي فيها تراث الفكر العالمي بمواريث الحضارة الإسلامية، فتموج آفاقها بكل لون من ألوان الفكر والمعرفة.
كان فيها الماديون على اختلاف مناهجهم ومللهم، من الفلاسفة العقليين، إلى المتمردين الملحدين، وكان فيها الروحانيون على اختلاف أذواقهم من العباد المتصوفين، إلى المنجمين والمتألهين، والمتصلين بالأرواح والشياطين.
وتحولت مساجد بغداد ومدارسها وندواتها إلى ساحات للحرب الفكرية، بين فرق وألوان ومذاهب لا حصر لها ... وإلى ساحة بغداد، بل إلى ساحات الصراع المشبوب الأوار دلف الحلاج، تحيط به حاشيته، وتسبقه دعوته! واهتزت عمائم العلماء في أروقتهم الفكرية، وتطلعت حلقات الصوفية وأرهفت سمعها، وترددت همسات في قصر الخلافة، وتخاطفت الجماهير الأحاديث الملونة عن الرجل المبارك، صانع المعجزة والكرامة!
ومن ثم رأينا التاريخ يحدثنا عن شيوخ كبار من البيئات الصوفية والفقهية، وعن أئمة من أساتذة الكلام والتوحيد والفلسفة، وهم يسعون إلى الحلاج ويلتمسون لقاءه والتحدث إليه! وفي شهواتهم جدل عنيف، وفي عقولهم تحد غليظ، وفي قلوبهم تلهف حار، يحاول أن يتعمق فهم رسالة الداعية الذي تحيط به الرعود والبروق.
وتعددت الاجتماعات، وتوالت الندوات، وطال الجدل والحوار، والتهبت الكلمات، واختصمت العقول وتفرقت القلوب، وأصبحت الخصومة سافرة؛ فقد جاء الحلاج إلى بغداد يحمل منهجا ورسالة، ويندفع إلى عنف في هدف وغاية.
ولم تكن البيئات العلمية في بغداد على استعداد عقلي لأن تسلم للحلاج بمنهجه الصوفي، بنسكه ومواجيده وأذواقه، ولم تكن المجتمعات الصوفية في بغداد على استعداد نفسي يؤهلها لأن تسهم مع الحلاج في دعوته الإصلاحية، وأهدافه الثورية.
المنهج الحلاجي
ومن ثم حفظ لنا تاريخ الحلاج - رغم غموضه وتمزقه - مناظرات وجدليات خاض الحلاج غمارها ضد مفكري عصره وعلمائه ومتصوفيه، كما حفظ لنا تراثا حلاجيا يشكل منهجا فكريا متكاملا متناسقا، له طابعه العلمي، وخصائصه الروحية!
وهذا المنهج الحلاجي الثقافي يتسم في كل جزئية من جزئياته بذلك الوجد الصوفي، والحب الإلهي، الذي استأثر بعقل الحلاج وقلبه وروحه، استئثارا ملحا عنيفا.
الحلاج وعلماء الكلام
وعلى ضوء هذا المنهج نستطيع أن نتفهم محاولات الحلاج مع علماء الكلام، في الأمر والإرادة والمشيئة الإلهية، وفي أفعال العباد وتعلقها بالقضاء والقدر.
فالحلاج يعتمد على التجربة الصوفية المباشرة، لحل مسألة الصلة بين اللطف الإلهي والقضاء والقدر ... تلك المشكلة التي ترجع إلى النزاع بين الخير الذي يأمر به الله - الأمر - وبين الشر الذي يتنبأ بوقوعه - الإرادة - ويرضى الحلاج بهذا النزاع بدلا من أن يخفيه، فهو يعلم ألا حيلة للعلم في الوصول إلى الماهية الإلهية، بل إن الحب هو الطريق إليها؛ إذ ليست المعرفة الفكرية للقضاء الإلهي هي التي تقربنا من الله، بل إنما هو خضوع القلب للأمر الإلهي في كل لحظة؛ لأن الأمر غير مخلوق، بينما الإرادة مخلوقة ...
وهكذا يضع الحلاج حدا لنقاش متكلمي عصره حول هاتين الكلمتين - الأمر عين الجمع، والإرادة عين العلم - فكل قلب إذن يشغله السعي وراء الجزاء عن حرمة الأمر، إن هو إلا مرتزق، وليس بخادم حق الله.
وقد تبنت السالمية هذه التفرقة ونمتها، مستشهدة على ذلك بموضوع طاسين الأزل للحلاج، فلقد كان أمر الله في دعوته إبليس لأن يسجد لآدم أمرا شكليا، ولم تكن تلك إرادته، وإلا لسجد إبليس! لأن كل ما يريده الله واقع لا محالة ... ذلك هو موضوع البلاء الذي لا مفر منه للإنسان كي يكون قديسا.
19
ولهذا يوصي الحلاج المريد بأن يكون مع الحق بحكم ما أوجب، ويقول: «من لم يؤمن بالقدر فقد كفر، ومن أحال المعاصي إلى الله فقد فجر.»
وأسماء الله سبحانه عند الحلاج من حيث الإدراك أسماء، ومن حيث الحق حقيقة، وكان يقول: «لا يجوز لمن يريد غير الله، أو يذكر غير الله ، أن يقول عرفت الله. ومن عبد الله لنفسه فإنما يعبد نفسه، ومن استصحب كل نسك في الدنيا والآخرة وهو جاهل لا يقرب من الله أبدا.»
والصلاة عند الحلاج هي المعراج الذي يصل النفس مباشرة بالله. وقراءة القرآن عنده إنما تكون بإحساس ومشاهدة، فكأن الله سبحانه يتلو على لسان القارئ، أو كأن القارئ يستمع إلى الله سبحانه.
ومن هنا نشأت حالات الوجد العظمى، التي عرف بها الحلاج عند السماع ... والكون عند الحلاج مادي وروحي كالإنسان. والعبادة تخلق وعيا كونيا.
والإيمان عنده: قول وتصديق وعمل. والولي هو الدليل الحي على الله ... وبذلك وضع الحلاج أول مذهب كلامي فلسفي للصوفية، مما سنعرض له عرضا شاملا في الفصول القادمة إن شاء الله ... وعن الحلاج تلقت المدرسة - السالمية - فلسفتها الكلامية التي تراها عالية الصوت في تفسير السلمي.
الحلاج وتفسير القرآن
والمنهج الحلاجي الذي ذكرناه يتجلى بصورة متلألئة في تفسيره للقرآن وتفهمه لآيه ... وللحلاج تفسيرات تناولت آيات الذكر الحكيم جملة وتفصيلا، وهي تفسيرات أصابها ما أصاب تاريخ الحلاج كله، من تمزيق وتبديد.
وبقيت من هذه التفسيرات لمع ترشد إلى المنهج، وتومئ للفكرة. وأبو عبد الرحمن السلمي يدور في تفسيره الصوفي حول نظرات الحلاج في التفسير. كما حفظ لنا العلامة روزبهان البقلي في تفسيره «عرائس البيان» شذرات من تفسير الحلاج نقتبس منها نماذج لهذا اللون من التفسير والتفكير.
يقول الحلاج في تفسيره لقوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم : «العبد مبتلى بالأمر والنهي، ولله في قلبه أسرار تخطر دائما، فكلما خطر خاطر عرضه على الكتاب فهو طاعة الله، فإن وجد له شفاء وإلا عرضه على السنة، وهي طاعة الرسول، فإن وجد له شفاء وإلا عرضه على سير السلف الصالحين، وهو طاعة أولي الأمر.»
ويقول في تفسير قوله تعالى:
ألست بربكم قالوا بلى
حينما سأل الأرواح في عالم الذر «... لا يعلم أحد من الملائكة المقربين لماذا أظهر الحق الخلق؟ وكيف الابتداء والانتهاء؟ إذ الألسن ما نطقت، والأعين ما أبصرت، والأذن ما سمعت. كيف أجاب من هو عن الحقائق غائب، وإليه آيب. في قوله «ألست بربكم» ...؟ فهو المخاطب والمجيب ... قالوا: بلى؟ القائل عنكم سواكم، والمجيب عنكم غيركم، فسقطتم أنتم، أو بقي من لا يزل، كما لم يزل.»
ويقول في تفسير قوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم : «نفوس المؤمنين غالية، لا تباع ولا تشترى، ولا تذل، فلا يملكها سواه.»
ويقول في تفسير قوله تعالى:
فذلكم الله ربكم الحق : «الحق: هو المقصود بالعبادات، المصعود إليه بالطاعات، لا يشهد بغيره، ولا يدرك بسواه.» قال أبو عبد الرحمن السلمي: «سئل الحسين بن منصور: من هو الحق الذي تشيرون إليه؟ قال: معل الأنام، ولا يعتل.»
وفي تفسير قوله تعالى:
وجعلنا بعضكم لبعض فتنة : «المحنة لخواص أوليائه، والفتنة لعامة الناس.» ثم يقول: «أبدى الله الأكوان كلها بقوله: «كن» إهانة لها وتصغيرا، ليعرف الخلق إهانتها، فلا يركنوا إليها، ويرجعون إلى مبدئها ومنشئها، فاشتغل الخلق بزينة الكون فتركهم معه، واختار من خواصه خصوصا أعتقهم من رق الكون، فأحياهم به فلم يجعل للعلل عليهم سبيلا، ولا للآثار فيهم طريقا.»
ويقول في تفسير قوله تعالى:
وهو معكم أين ما كنتم : «ما فارق الأكوان الحق وما قارنها، كيف يفارقها وهو موجدها وحافظها؟! وكيف يقارن الحدث بالقدم؟! قوام الكل، وهو بائن عن الكل.»
وفي تفسير قوله تعالى:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم
قال: «هو معهم علما وحكما، لا نفسا وذاتا.»
وقال في تفسير قوله تعالى:
وصوركم فأحسن صوركم : «أحسن الصور: صورة أعتقت من ذل «كن» ... وتولى الحق تصويرها بيده، ونفخ فيها من روحه، وألبسها شواهد البعث، وجلالها بالتعليم، وأسجد لها الملائكة المقربين، وأسكنها في مجاورته، وزين باطنها بالمعرفة، وظاهرها بفنون الخدمة، وخلق آدم على صورته - أي صورته التي صوره عليها - فأحسن صورته.»
ويقول في تفسير قوله تعالى:
فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون : «ما اختزن من خلقه الذي لم يجر القلم به، ولم يشعر الملائكة بذلك. وما أظهر الله للخلق من صفاته، وأراهم من صنعته، وأبدى لهم من علمه في جنب ما اختزن عنهم، كذرة في جميع الدنيا والآخرة! ولو أظهر الله تعالى من حقائق ما اختزن لذاب الخلق عن آخرهم فضلا عن حملها ...»
والحلاج يرى أن في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور. ويقول: إن كل هذه العلوم القرآنية قد أحاط بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وهي للعارفين بحكم الميراث المحمدي، وهي سر الحكمة والجلال الذي يشرق في أقوال العارفين من الصوفية ...
الحلاج وأدب السلوك الصوفي
كان الحلاج فوق رسالته الإصلاحية والربانية مربيا، وأستاذا صوفيا، في القمة السامقة، سلوكا ومعرفة. ولقد التف حول الحلاج في حياته أكبر مجموعة صوفية، في تاريخ القرن الثالث الهجري - عصر التصوف الذهبي - حتى ليقول العلامة ابن كثير: «إنه كان يلازمه في سفره الشاق الطويل أكثر من أربعمائة من صفوة المريدين السالكين.»
وفي كل بقعة في الشرق الإسلامي، من بغداد إلى أعالي الهند تكونت مجموعات حلاجية، ثم تحولت هذه المجموعات إلى جامعة صوفية، دانت للحلاج بالزعامة والولاية، واتخذت منهجه معراجا وصراطا.
وقلب التصوف الإيماني، وروحه المثالي، ورسالته الخالدة تتجلى مبينة مشرقة في مدرسة «الشيخ والمريد»، تلك المدرسة المثالية، التي أنجبت المربين العالميين، الذين ابتدعوا سبلا في التربية، وأسلوبا في السلوك، تخشع حياله، وتلقى باليدين وهي صاغرة كل مدرسة مهما سمت أدبا، وكل جامعة مهما عظمت منهجا! لقد امتدت تلك الأيدي المتوضئة المؤمنة الملهمة إلى القلب الإنساني فدرسته، وتعمقت خوافيه، وجاست خلاله، وكشفت أسراره، وأحاطت بنوازعه وخوالجه، فمسحت بنور القرآن فجوره، وأشعلت بأدب الرسول تقواه، ثم عرجت بملكاته صعودا حتى أشهدته تسبيحات الملأ الأعلى، وإشراقات الأفق الأسنى، فسجد عند ربه يقتات برضوانه، وينهل من فيضه وينعم بإلهامه.
ثم مشوا بنور ربهم إلى الروح الإنساني، فأطعموها نور الذكر، وسقوها رحيق الحب، وأشعلوها بالوجد، وبسطوها بالأنس، وصاحبوها في مقاماتها وأحوالها من النفس الأمارة إلى النفس اللوامة، ومن المطمئنة إلى الراضية.
وإن لكل مقام منهجا، ولكل حال علما وذوقا، فأسكنوها نعيما مقيما، وجنة عالية، في الأولى قبل الآخرة ... لقد أحالوا مثاليات القرآن، وأدب النبوة إلى منهج سلوكي تربوي، أخرج للناس نماذج بشرية مضيئة، لم تعرف الإنسانية بعد الرسل والأنبياء من هم أهدى منهم خلقا، أو أزكى نفسا وأتقى قلبا.
وقد أوجدت هذه التربية روحا صوفيا له طابعه وخصائصه، وهذا الروح هو سر التصوف وأفقه ومنهجه ... فقد أخذوا دينهم بقوة، وتميزوا بعزمات صاعدة؛ فهم أرباب العزائم لا الرخص، وهم الذين أيقظوا قلوبهم فلم تنم عن ربهم وهدفهم.
وهم الذين عاشوا في كل حرف من القرآن، ومع كل خلق من الرسول، فكلماتهم حياتهم، وعقيدتهم وجودهم ... قال صوفي لمحدث: «أخرجوا زكاة الحديث! قال: وما زكاة الحديث؟ قال: اعملوا بخمسة أحاديث من كل مائة حديث تحفظونها.»
والحلاج لم يستكمل تربيته الصوفية على أيدي المشايخ الكبار، لقد انفصم ما بينه وبينهم مبكرا، فحلق منفردا في القمم العالية، واصطلى وحده التجربة الصوفية كاملة، وألزم نفسه ألوانا من المجاهدة والرياضة، تعمد فيها القسوة والصرامة!
ومن هنا جاءت تلك البروق الشاطحة، وتلك الحرارة الدافقة، التي امتزجت بتعبيرات الحلاج، وطبعت مواجيده وألحانه! بل من هنا جاءت تلك الصلة الكبرى بين الحلاج وربه، تلك الصلة العالية الصوت في حياته، الصلة التي تجعلنا ونحن نقرأ للحلاج نحس برجل يعيش أنفاسه مع مولاه، فهو أنيسه وجليسه، وحبيبه ومربيه ...
يقول المستشرق ماسنيون في مقدمة كتاب الطواسين: «وليس هناك من متصوف في التاريخ أكثر «عشرة مع الله» من الحلاج الذي يتصل في حديثه معه «أنا» و«أنت» و«نحن» وليس هناك من شعر صوفي أشد حرارة وأكثر بعدا عن المادة من شعر الحلاج.»
يقول الحلاج، معبرا عن منهجه في السلوك: «إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك، وهو بعد في السلوك غير واصل.» ويقول: «من صدق مع الله في أحواله فهم عنه كل شيء، وفهم عن كل شيء ...»
ويقول - مصورا للصوفي: «الصوفي يكون مع الله تعالى بحكم ما وجب، ولا يكون على سره أثر من الأكوان، ويكون وجداني الذات، لم يشهده الحق غيره، فهو أعمى عن الكون. ويكون له مع الحق نسب يحمل به الواردات، ولا يذكر برؤية الكون غير الحق.»
ذلك هو المنهج الحلاجي، أو ذلك هو الحلاج الصوفي! إنه مع الله بحكم ما أوجب، مع إرادة الله بحكم ما قضت، وليس بقلبه أثر من الأكوان، وهو وجداني الذات، لا يبصر الكون، بل إن الكون لا يرى فيه غير الحق - غير الله - ثم إن له مع الحق لصلة من الحب والوجد والفناء، تعينه على تحمل الواردات، وتذوق الإلهامات، والقيام بالواجبات.
ونستطيع أن نتذوق منهج الحلاج في آداب السلوك الصوفي، تلك الأداب التي ألزم مريديه بها، من ذلك الدستور الذي وضعه لهم ... ولقد حفظ لنا أبو عبد الله السلمي - المؤرخ الصوفي الكبير - زبدة طيبة من ذلك الدستور ...
فالسلمي: يعرض لنا أدب المريد، ثم يقيم الشاهد والدليل من كلمات الحلاج ومذهبه ... والعلامة الكلاباذي - في التعرف لمذهب أهل التصوف - قد حفظ لنا جملا من هذا التراث، أدرجها تحت قوله: «قال بعض الكبراء.» لقد كانت محنة الحلاج الهائلة ترهب الكتاب، وترهب رجال التاريخ، فتصرفهم عن اسمه، وعن تراثه!
يقول أبو عبد الله السلمي: «من آدابهم ترك التدبير، والرجوع إلى حال التسليم، قال أبو الحسين بن منصور: من سلم إلى الله أمره صنع به، وصنع له، ومن وجد الله لم يجد معه غيره، ومن طلب رضاه حباه الله بالمكنون من سره، وهو قوله
ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما .»
ومن آدابهم: دوام التوبة مما عملوا ومما لم يعملوا مما جرى عليهم من الغفلات، كذلك حكي عن الحسين بن المنصور أنه قال: «التوبة مما لا تعلم تبعثك على التوبة مما تعلم. والشكر على ما لا تعلم يبعثك على الشكر على ما تعلم؛ لأنه حرام على العبد الحركة والسكون إلا بأمر يؤديه إلى أمر الله.»
ومن آدابهم الحضور وقت الذكر، ومجانبة الذكر على الغفلة؛ لذلك قال ابن منصور: «من ذكر الله وهو يشاهد غيره لا يزداد منه إلا بعدا، ويقسو قلبه، ويكون مستدرجا لا يهتدي.»
ومن آدابهم ترك التدبير، والسعي في طلب الرزق، والسكون في كل الأصول إلى مسوق القضاء وضمان الحق، كما قال الحسين بن منصور : «من أراد أن يتذوق شيئا من هذه الأحوال فلينزل نفسه إحدى منازل ثلاث: إما أن يكون كما كان في بطن أمه - مدبرا غير مدبر، مرزوقا من حيث لا يعلم - أو كما يكون في قبره، أو كما يكون في يوم القيامة» ... وقال أيضا: «المتوكل رزقه من حيث لا يعلم بغير حساب، ولا يكون عليه فيه سؤال ...»
ومن آدابهم ترك لفظ «أنا» و«نحن» و«لي» وما أشبه ذلك، كما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه استأذن عليه رجل فقال: «من ذا؟» فقال: أنا - أنا - فكره ذلك رسول الله ... وحكي عن الحسين بن منصور أنه قال: «إذا قال العبد «أنا» قال الله تعالى: بل «أنا»، وإذا قال العبد: لا بل أنت يا مولاي، قال المولى: بل أنت يا عبدي، فيكون مراده مراد الله فيه ...»
ومن آدابهم: العمل في الوقوف على ما يرد عليهم من الأحوال، حكي عن الحسين بن منصور أنه قال: «حفظك أنفاسك وأوقاتك وساعاتك وما هو بك، وما أنت فيه، فمن عرف من أين جاء، عرف إلى أين يذهب. ومن علم ما يراد منه علم ما له، ومن علم ما عليه علم ما معه. ومن لم يعلم من أين أتى وأين هو وكيف هو ولمن هو فذاك ممن لا يعلم، ولا يعلم أنه لا يعلم، ويظن أنه يعلم ...»
ومن آدابهم: في معرفة الدواعي، قال الحسين بن منصور: «داعي الإيمان يدعو إلى الرشد. وداعي الإسلام يدعو إلى الإطلاق، وداعي الإحسان يدعو إلى المشاهدة، وداعي الفهم يدعو إلى الزيادة، وداعي العقل يدعو إلى المذاق، وداعي العلم يدعو إلى السماع، وداعي المعرفة يدعو إلى الروح والراحة، وداعي التوكل يدعو إلى الثقة، وداعي الخوف يدعو إلى الارتفاع، وداعي الرجاء يدعو إلى الطمأنينة، وداعي المحبة يدعو إلى الشوق، وداعي الشوق يدعو إلى الوله، وداعي الوله يدعو إلى الله، وخاب من لم يكن له داعية من هذه الدواعي! أولئك من الذين أهملوا في مفاوز التحير، وممن لا يبالي الله بهم.»
الحلاج والتصوف
كانت حياة الحلاج وما انبثق منها من إشعاعات وإشراقات، وما ابتدعت من مناهج في التفكير والتأمل والروحانيات، كانت كما يقول نيكلسون: لحظة جوهرية في تاريخ التصوف الإسلامي.
كانت حياته، من نقاط التحول والتطور في الأفق الصوفي، ومن مطالع النماء والخصوبة في التفكير الروحي، وإلى الحلاج ترجع الأصول الكبرى لذلك التراث الإسلامي العالمي، الذي شكل في محيط الفكر الصوفي، أعظم القوى الروحانية الإيمانية التي عرفها تاريخ الإنسان.
والتصوف عند الحلاج، هو انتساب الإنسان إلى الله سبحانه، لا إلى هذا العالم المادي الحيواني، هو ارتفاع الإنسان إلى الله في سفر طويل هائل، لا تقدر عليه إلا عزمات الرجال الكبار، المصطفين الأحرار.
سفر تفنى فيه الصفات البشرية، في الصفات الإلهية، فناء طاعة وعبودية، وحب ووجد، وذوق وشوق.
ويقسم الحلاج هذا السفر الطويل إلى أربع رحلات، تبتدئ أولاها بالمعرفة وتنتهي بالفناء، والثانية تبدأ أنوارها وإلهاماتها، حينما يعقب الفناء البقاء، وفي الثالثة، يوجه الإنسان الكامل اهتمامه لمخلوقات الله مرشدا وهاديا.
والرابعة وما أدراك ما الرابعة! قمة سامقة مشرقة، يحلق الإنسان في آفاقها وقد غمرته الصفات الربانية، والأنوار الإلهية، فيصبح مرآة تتجلى فيها حقائق الكون وأسراره، وهو موقف لا مجال للحديث عنه، وحسبنا إلى أن نومئ هنا إلى كلمة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «ليس في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم إلى غيرهم، وغاية ما في هذا المستطاع هو الرمز عن تلك الظواهر لأولئك الذين أخذوا في ممارستها.
ومن أراد فقها أكبر، فليتأمل قول سيد المرسلين في حديث الإسراء: «انعكس بصري في بصيرتي، فرأيت من ليس كمثله شيء» أي رآه بالحاسة القلبية الروحية.
يقول الحلاج: «أسماء الله التسعة والتسعين تصير أوصافا للعبد السالك، وهو بعد في السلوك غير واصل.»
1
ويقول: «من صدق مع الله في أحواله، فهم عنه كل شيء، وفهم عن كل شيء.»
2
ومن هذا الأفق قول الشبلي للجنيد: «ما رأيك في من الحق نعته، حالا ومقاما؟» فقال: «هيهات يا أبا بكر، بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقة، في أولها ذهب الاسم.» أي لا يوجد أنا أبدا.
ولقد حمل الحلاج أمانة المعرفة الصوفية العليا وعاشها بروحه وقلبه وحسه، وقدم دمه فداء لها في بطولة أسطورية لا يزال شعاعها وإلهامها يومض عبر التاريخ.
كانت تجربة الحلاج الصوفية من أصدق وأخلص ما عرف تاريخ التصوف، وهذا سر ما فيها من عمق، ومن حرارة، ومن إلهام.
لقد صعد في معارجها بجناح جبار من أجنحة الحب والوجد، ووهبها كل ذرات روحه وهتافات قلبه، وأماني حسه، وحمل قيثارته ليهب للخلود، إلهامات حبه ومعرفته وتجربته.
يقول الحلاج مصورا حبه ووجده:
الله يعلم ما في النفس جارحة
إلا وذكرك فيها نيل ما فيها
ولا تنفست إلا كنت في نفسي
تجري بك الروح مني في مجاريها
إذ كانت العين مذ فارقتها نظرت
إلى سواك فخانتها مآقيها
أو كانت النفس بعد البعد آلفة
خلفا عداك فلا نالت أمانيها
ثم يهتف، وقد برح به الهوى، واشتعل قلبه بالوجد، وهامت روحه بأنوار القرب، وسكرت أحاسيسه بإشراقات الأنس، حتى تفجرت ألحانا وأنغاما بحبه العلوي المقدس:
3
أباحت دمي إذ باح قلبي بحبها
وحل لها في حكمها ما استحلت
وما كنت ممن يظهر السر إنما
عروس هواها في ضميري تجلت
فألقت على سري أشعة نورها
فلاحت لجلاسي خفايا طويتي
فإن كنت في سكري شطحت فإنني
حكمت بتمزيق الفؤاد المفتت
ومن عجب أن الذين أحبهم
وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنة
سقوني وقالوا لا تفني ولو سقوا
جبال حنين ما سقوني لفنت
لقد توغل في معراج السلوك ففنى عن كل ما سوى الله سبحانه، وتطهرت روحه وبرئت من كل ما لا ينتسب إليه جل جلاله، فصار في حال فناء كامل عن وجود السوي، فلم يصبر على ما شاهد من جمال وجلال فهتف:
4
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا خلوت إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا
إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالا منك في الكاس
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعيا على الوجه أو مشيا على الراس
ما لي وللناس كم يلحقوني سفها
ديني لنفسي ودين الناس للناس
ما للحلاج والناس؟ لقد سما فوق التراب والطين، وتطلع إلى مشارق الروح، ورب الأرباب.
ولنستمع إليه في تلك الضراعة المؤمنة المحبة الملهمة وهو يناجي حبيبه الأكبر وموجوده الأعظم: «... عن ابن الحداد المصري قال:
5
خرجت في ليلة مقمرة إلى قبر أحمد بن حنبل رحمه الله، فرأيت هناك من بعيد رجلا قائما مستقبلا القبلة فدنوت منه من غير أن يعلم، فإذا هو الحسين بن منصور وهو يبكي ويقول: يا من أسكرني بحبه، وحيرني في ميادين قربه، أنت المنفرد بالقدم، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضورك بالعلم لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتجال، فلا شيء فوقك فيظلك، ولا شيء تحتك فيقلك، ولا أمامك شيء فيحدك، ولا وراءك شيء فيدركك ... أسألك بحرمة هذه الترب المقبولة، والمراتب المسئولة، ألا تردني إلي بعد ما اختطفتني مني، ولا تريني نفسي بعد ما احتجبتها عني، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك.
فلما أحس بي التفت وضحك في وجهي ورجع وقال لي: يا أبا الحسن، هذا الذي أنا فيه أول مقام المريدين، ثم زعق ثلاث زعقات وسقط وسال الدم من حلقه، وأشار إلي بكفه فذهبت وتركته، فلما أصبحت رأيته في جامع المنصور فأخذ بيدي ومال بي إلى زاوية وقال: بالله عليك، لا تعلم أحدا بما رأيت البارحة.»
صلة الحلاج بالله
هذا الحلاج المحب الفاني، العابد المثالي، السابح في وجده، المحترق في تجربته، المشوق في قربه، الذي ملأ الدنيا بضجيج ضراعاته ومواجيده، قد امتلأت صحف التاريخ بالتهاويل والأباطيل، حول حبه وعقيدته، وحول إيمانه وصلته بربه!
وصفوه بأنه حلولي ينادي بالحلول، ويتخذ الحب والفناء معراجا لغايته، وتنادوا بأنه اتحادي، يحاول برياضاته ومجاهداته وشطحاته، أن يتحد بموجده في تجربة مهمة غامضة! وأنه اتخذ من الوجد والنشوة عند السماع والاستغراق سبيلا إلى هدفه، حتى أصبح في سكره وسبحاته يقول في دعاوى عريضة ... أنا عوضا عن هو! تأليها لنفسه وللإنسان المجتبى المختار الكامل، الذي يجد في ذاته حقيقة ... صورة الله!
فهل كان الحلاج كما قالوا؟ وهل كان الحلاج كما وصفوا؟ لنمش معه خطوات في مناجاته لربه، وخطوات في حديثه عن صلة الإنسان بخالقه.
قال أحمد بن فاتك: «قال الحلاج:
6
من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية تمتزج بالألوهية فقد كفر، فإن الله انفرد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجه من الوجوه، ولا يشبهونه بشيء من الأشياء، وكيف يتصور الشبه بين القديم والمحدث، ومن زعم أن الباري في مكان، أو على مكان، أو متصل بمكان، أو يتصور على الضمير، أو يتخايل في الأوهام، أو يدخل تحت الصفة والنعت فقد أشرك.»
وعن الحسين بن حمدان قال:
7
دخلت على الحلاج يوما فقلت له: أريد أن أطلب الله فأين أطلبه؟ فاحمرت وجنتاه وقال: «الحق تعالى على الأين والمكان، وتفرد عن الوقت والزمان، وتنزه عن القلب والجنان، واحتجب عن الكشف والبيان، وتقدس عن إدراك العيون، وعما تحيط به أوهام الظنون، تفرد عن الخلق بالقدم، كما تفردوا عنه بالحدوث، فمن كانت هذه صفته كيف يطلب السبيل إليه؟!» ثم بكى وقال:
فقلت أخلائي هي الشمس ضوؤها
قريب ولكن في تناولها بعد
قال ابن فاتك:
8 «قصدت الحلاج ليلة فرأيته يصلي فقمت خلفه فلما سلم قال: اللهم أنت المأمول بكل خير، والمسئول عن كل مهم، والمرجو منك قضاء كل حاجة، والمطلوب من فضلك الواسع كل عفو ورحمة.
وأنت تعلم ولا تعلم، وترى ولا ترى، وتخبر عن كوامن أسرار ضمائر خلقك، وأنت على كل شيء قدير.
وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك، أستحقر الراسيات، وأستخف الأرضين والسموات، وبحقك لو بعت مني الجنة، بلمحة من وقتي، أو بطرفة من أحر أنفاسي لما اشتريتها، ولو عرضت علي النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك مني، فاعف عن الخلق ولا تعف عني، وارحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسألك بحقي، فافعل بي ما تريد.
فلما فرغ قام إلى صلاة أخرى وقرأ الفاتحة، وافتتح بسورة النور وبلغ إلى سورة النمل، فلما بلغ إلى قوله تعالى:
ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض
صاح صيحة عظيمة وقال: هذه صيحة الجاهل به.»
ومن الكلم الذي تخفق له القلوب، ويشع منه النور، تلك المناجاة الحلاجية: «... إلهي وإله الموجودات والمعقولات والمحسوسات، يا واهب العقول والنفوس، ومخترع الأركان والأصول، يا واجب الوجود، ومفيض الجود، يا جاعل القلوب والأرواح، يا فاعل الصور والأشباح، يا نور الأنوار، ومدبر كل الدوار، أنت الأول الذي لا أول قبلك، وأنت الآخر الذي لا آخر بعدك، الملائكة عاجزون عن إدراك جلالك، والناس قاصرون عن معرفة كمال ذاتك.
اللهم خلصنا من العوائق الدنية الجسمانية، ونجنا من العوائق الردية الظلمانية، وأرسل على أرواحنا شوارف آثارك، وأفض على نفوسنا بوارق أنوارك.
العقل قطرة من قطرات بحار ملكوتك، والنفس شعلة من شعلات جبروتك، ذاتك ذات فياضة تفيض منها جواهر روحانية، لا متمكنة ولا متحيزة، ولا متصلة ولا منفصلة، مبرأة عن الأحياز والأين، معراة عن الوصل والبين، فسبحان الذي لا تدركه الأبصار، ولا تمثله الأفكار، لك الحمد والثناء، ومنك المنع والعطاء، ولك الجود والبقاء، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.»
قال ابن سودكين راويا عن شيخه: «رأيت الحلاج في هذا التجلي، فقلت له يا حلاج: هل تصح عندك علية له وأشرت، فتبسم وقال لي: أتريد قول القائل: يا علة العلل، ويا قديم لم يزل؟ قلت له نعم. قال: هذه قولة جاهل، اعلم أن الله تعالى يخلق العلل وليس بعلة، كيف يقبل العلية من كان ولا شيء معه، وأوجد من لا شيء، وهو الآن كما كان، ولا شيء جل وتعالى!
لو كان علة لارتبط، ولو ارتبط لم يصح له الكمال، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا! قلت له هكذا أعرفه. قال: هكذا ينبغي أن يعرف فاثبت.»
قال ابن سودكين: سمعت شيخي يقول في أثناء شرحه هذا التجلي: لما اجتمعت بالحلاج - رحمه الله - في هذا التجلي وسألته عن العلية، هل تصح عنده أم لا؟ فقال هي قولة جاهل، يعني أرسطو.»
9
ويقول الحلاج واصفا للمتحققين بالله في وجدهم: «إن لله عبادا اختارهم من خلقه، واصطفاهم لنفسه، وانتخبهم لسره، وأطلعهم على لطيف حكمته، ومخزون علمه، أفناهم عن أوصافهم الناشئة عن طبائعهم، ولم يردهم إلى علومهم المستخرجة بحكم عقولهم، ولم يحوجهم من المرسوم من حكمة الحكماء، بل كان هو لسانهم الذي به ينطقون، وبصرهم الذي به يبصرون، وأسماعهم التي بها يسمعون، وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يتفكرون.
بان عن حلول في ذواتهم، فأبدى الأشياء فيما بينه وبينهم، قهر كل موجود، وغمر كل محدود، وأفنى كل معهود، ظهر لأهل صفوته، ولم يجعل للعلم إلى كيفية ذلك سبيلا، ولا إلى بحث ذلك تمثيلا.»
ومن الكلم الطيب الذي يصعد في معارج النور إلى مقام الإلهام قول الحلاج: «من عرفه ما وصفه، ومن وصفه ما عرفه، عنت الوجوه لعظمة كبريائه في أرضه وسمائه، وأنست قلوب أوليائه بشهود جلاله وجماله وبهائه، وكلت المقاول عن شكر آلائه وأفضاله ونعمائه، وقصرت المعارف عن ذاته وصفاته وأسمائه، وحارت العقول في نزوله وارتفاعه واستوائه!
فقوم جحدوا وألحدوا، وقوم أشركوا وعددوا، وقوم أنكروا الصفات فعطلوا وبطلوا، وقوم أثبتوها ولكن شبهوا وشكوا.
ولم يصب شاكلة الحق إلا من آمن بالذات والصفات، وكفر باللات والآلات، ولازم التوحيد والتنزيه، وأثبت الصفة ونفى التعطيل والتشبيه.»
صلته القوية بالله
وغشى مع الحلاج خطوات في آفاقه الذوقية، وفي مواجيده وحبه للذات الإلهية، وفي تلك المجالات الروحية التي ابتدعها حول صلات العبد الولي المختار، بمفيض الوجود ومبدعه وملهمه.
وصلة الحلاج بالله سبحانه، تدور على قطبين: الحب الواله القوي الغلاب المذهل، والفناء في هذا الحب فناء شاملا يذوب فيه كل شيء مادي دنيوي ويحترق ليخلد.
ثم مرحلة السير في هذا الحب، ومجالات هذا السير الروحية، بما فيها من إلهامات وتجليات، ومواجيد وأشواق وحيرة ودهشة وعذاب.
والمحب هنا في عذاب ملهم، يعذب في بحثه عن مولاه، ويعذب في حبه له ، ويعذب في حيرته حيال جبروته وآياته.
والعذاب في الحب الإلهي أكبر خير يفيضه الله سبحانه على عبده ووليه المحبوب.
وإن لله سبحانه لنظرات وإشراقات وزيارات للقلب المحب المعذب المحترق، زيارات تهب ولها مقدسا، يعقبه هجران يدفع إلى دهشة محلقة.
ومن كل هذه الانفعالات تنبثق مواجيد المعرفة العليا، وتسبيحات الولاية العظمى، وينبثق فوق هذا وذاك في قلب المحب، فيض إلهي يعبر عن الإرادات الإلهية، ويقتبس من نورها وهداها.
وروح المحب الولي، هو وحده الذي يظفر بهذا الحب الإلهي، لا عن طريق الحلول التحيزي، بل بوساطة الفيض النوراني الذي يرفع أرواح الأولياء المحبين إلى المراتب القدسية.
وخلال هذا الفيض أو هذا الاتصال، تحدث الجذبة الروحية التي تصورها لنا تلك المناجاة المشعة المستمرة بين روح المحب ومحبوبه الأسمى الذي تشعر بوجوده في أعماقها.
وحينئذ تتوالى ضراعات الروح وترتفع إلى مولاها بكل آلامها وآمالها وأشواقها في لغة فوق لغة الألسن، وفي تصوير لا يمت إلى العلائق الدنيوية بصلة أو نسب.
يقول الحلاج: «اعلم أن العبد إذا وحد ربه فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي، وإنما الله تعالى هو الذي وحد نفسه على لسان من يشاء من خلقه،
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .»
والذين لا يستطيعون متابعة مثل هذا الروح في عروجه وسلوكه وحبه وعذابه وتجربته، لا يستطيعون أن ينكروا أنها محاولة في المعرفة الذوقية، وفي الحب والإيمان اليقيني، ليست أقل شأنا في تاريخ العقل الإنساني من مسلك الفلاسفة، ومنهج المتكلمين.
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «إذا كان وجود الخالق ووجود المخلوق واحدا، فلا معنى لقيام حوار العشق بينه وبين الله.»
وهذه آية الآيات على نفي الوحدة، ونفي الحلول في منهج الحب الإلهي الصوفي.
والحلاج من أكبر من تغنوا بالحب الإلهي، ولعله أكبرهم عاطفة، وأشدهم وجدا وولها.
يقول الحلاج: «إن المسافة بين النفس وبين الله تتوقف في مقدارها على صفة العشق الإلهي.»
ويقول: «إن شهادة الحمد هي شهادة حب، وإن القلب الذي يعرف الحب لا يموت أبدا .»
إن عذاب الحلاج في حبه، وفي صلته بربه لتقدم لنا أروع نماذج الإيمان الصوفي.
لقد عاش الحلاج في وجد وعذاب، وفي سبحة علوية من إلهامات حبه وشوقه وذوقه.
وإنها لمواجيد حق وصدق، وإن عجزت عنها فهوم الأكابر.
يقول الحلاج:
10
مواجيد حق أوجد الحق كلها
وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الوجد إلا خطرة ثم نظرة
تنشي لهيبا بين تلك السرائر
إذا سكن الحق السريرة ضوعفت
ثلاثة أحوال لأهل البصائر
والوجد والعذاب فيض رباني على المصطفين الأحبة؛ ولهذا فهو لا يصطنع في وجده ما يلهبه ويثيره من سماع أو ذكر كما يصطنع غيره:
أنت الموله لي لا الذكر ولهني
حاشا لقلبي أن يعلق به ذكري
الذكر واسطة تخفيك عن نظري
11
إذا توشحه من خاطري فكري
وكل شيء في الوجود مادي أو معنوي، هو حجاب دون رؤية الله سبحانه، يجب الفناء عنها، كما يجب أن يفنى الإنسان عن نفسه أيضا.
بدا لك سر طال عنك اكتتامه
ولاح صبح كنت أنت ظلامه
وأنت حجاب القلب عن سر غيبه
ولولاك لم يطبع عليك ختامه
12
إن تجربة الحلاج الصوفية في المعرفة الإلهية لتجربة فذة عليها طابعه وحده، لقد شارك الصوفية في مواجيدهم وأذواقهم، ثم ابتدع منهجا خاصا به هو سره الأكبر، لقد جعل من الآلام شيئا مقصودا لذاته.
أريدك لا أريدك للثواب
ولكني أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلت منها
سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
13
يقول ابن الخطيب، في تاريخ بغداد: «إن ابن عطاء لما سمع هذا الشعر قال: هذا مما يتزايد به عذاب الشغف، وهيام الكلف، واحتراق الأسف، وشغف الحب، فإذا صفا ووفا، علا إلى مشرب عذب، وهطل من الحق دائم سكب.»
والحب لذة لا يعرفها إلا الصفوة من المحبين.
مكانك من قلبي هو القلب كله
فليس لخلق في مكانك موضع
وحطتك روحي بين جلدي وأعظمي
فكيف تراني إن فقدتك أصنع
14
ونحن ندنو رويدا من فلسفة الحلاج العليا في الحب الإلهي.
وأي أرض تخلو منك حتى
تعالوا يطلبونك من السماء
تراهم ينظرون إليك جهرا
وهم لا يبصرون من العماء
15
إنه كما يقول المستشرق دي بور يحاول أن يتذوق بروحه ما يحاول المتكلمون والفلاسفة أن يصلوا إليه بالنظر العقلي.
وإنه للحب العالي، الحب الذي تعجز الكلمات عن تصويره أو كما يقول سحنون لا يعبر عن شيء إلا هو أرق منه، ولا شيء أرق من المحبة فيما يعبر عنها.
يقول الحلاج:
لي حبيب أزور في الخلوات
حاضر غائب عن اللحظات
ما تراني أصغي إليه يسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نط
ق ولا مثل نغمة الأصوات
فكأني مخاطب كنت إيا
ه على خاطري بذاتي لذاتي
حاضر غائب قريب بعيد
وهو لم تحوه رسوم الصفات
هو أدنى من الضمير إلى الوه
م وأخفى من لائح الخطرات
16
ومن الكلم المضيء الذي يكشف عن منهج الحلاج وإيمانه الذوقي، تلك الدراسة التحليلية الرائعة التي أدارها الحلاج حول كيفية معرفة الإنسان لربه وخالقه.
قال في الطواسين
17
وهي أدق وأعمق ما انفرجت عنه الأقلام: «... من قال عرفته بفقدي، فالمفقود كيف يعرف الموجود! ومن قال عرفته بوجودي، فقديمان لا يكونان.»
ومن قال: عرفته حين جهلته، فالجهل حجاب، والمعرفة وراء الحجاب لا حقيقة لها.
ومن قال: عرفته بالاسم، فالاسم لا يفارق المسمى؛ لأنه ليس بمخلوق.
ومن قال: عرفته به فقد أشار إلى معروفين؟ ومن قال: عرفته بصفته، فقد اكتفى بالصنع دون الصانع، ومن قال: عرفته بالعجز عن معرفته فالعاجز منقطع، والمنقطع كيف يدرك المعروف!
ومن قال: كما عرفني عرفته، فقد أشار إلى العلم فرجع إلى المعلوم، والمعلوم يفارق الذات، ومن فارق الذات كيف يدرك الذات!
ومن قال: عرفته كما وصف نفسه، فقد قنع بالخبر دون الأثر.
ومن قال: عرفته على حدين، فالمعروف شيء واحد لا يتحيز ولا يتبعض.
ومن قال: المعروف عرف نفسه فقد أقر بأن العارف في البين متكلف به؛ لأن المعروف لم يزل كان عارفا بنفسه، يا عجبا ممن لا يعرف شعرة من بدنه، كيف تنبت سوداء، أم بيضاء، كيف يعرف مكون الأشياء!
من لا يعرف المجمل والمفصل، ولا يعرف الآخر والأول، والتصاريف والعلل، والحقائق والحيل، لا تصح له معرفة من لم يزل.
سبحان من حجبهم بالاسم والرسم والوسم! حجبهم بالقال والحال والكمال والجلال، عن الذي لم يزل ولا يزال.
القلب مضغة جوفانية، فالمعرفة لا تستقر فيها؛ لأنها ربانية.
من قال: عرفته على الحقيقة، فقد جعل وجوده أعظم من وجود المعروف؛ لأن من عرف شيئا على الحقيقة فقد صار أقوى من معروفه حين عرفه.
ويقول الحلاج عن الخواص العارفين: «فالخواص عباده الذين محاهم عن شواهدهم، وصانهم عن أسباب الفرقة، باستهلاكهم في شهوده، واستغراقهم في وجوده، فأي سبيل للشيطان إليهم! وأي يد للعدو عليهم! ومن أشهده الحق حقائق التوحيد، ورأى العالم معترفا في ثقة التقدير، لم يكن نهبا للأغيار، فمتى يكون للغير عليه تسلط!»
الحلاج وأعلام التصوف في عصره
ومن صلة الحلاج بالله، تكونت فلسفته الذوقية والإيمانية، التي عرفت في التاريخ بالحلاجية، تلك الفلسفة التي طبعت التصوف في عصره الذهبي - عصر الحلاج - بطابعها، والتي غدت كما يقول نيكلسون الراية التي تأتم بها العصور التي تعاقبت من بعده، والتي جعلت رجال الفكر الأوروبي، يطلقون على الحلاج لقب «المفتي» في الأمور الصوفية، كما يقول العلامة ليبنتر.
ومن صلة الحلاج بالله، انبثقت شخصية الحلاج، تلك الشخصية التي تلاقت فيها، العملاقية الجبارة الرهيبة، بالروحانية المشعة الحبيبة.
تلك الشخصية التي تشكلت وخطت في التصوف الإسلامي أروع آياته، وأخلد مواقفه.
وشخصية الحلاج عندي من ألغاز التاريخ، ومن مواقف العقول.
فهي شخصية في ملامحها العقلية والإيمانية عمق يندفع جبارا إلى أغوار، ليس من السهل على الباحث أن يلاحقها في اندفاعها، وأن يتابعها في مسالكها.
وفي آفاقها الذوقية والخلقية، انفساح وشمول، تقصر أجنحة الدارسين عن الدنو منها، والإمساك بآثارها.
إن الحلاج يفهمه القلب، أكثر مما يحيط به العقل، ويدركه الحس، ويدنو منه الوجدان، أكثر مما يحلله الفكر والبيان.
إنه في حاجة إلى أن نرتفع بأذواقنا ومواجيدنا، وأن نتلمس بأرواحنا وأشواقنا، الطريق الذي نطل من نوافذه على أسرار ذلك الروح الكبير، الذي حاول في عظمة شاهقة، أن يكون صورة الولي الكامل المعبر عن الله.
والذي حاول في بطولة خارقة، أن يكون الشهيد الذي يكتب بدمه آية الفداء لحبه وعقيدته.
الشهيد الذي وقف على آلة صلبة، يتحدى الدنيا فلما قطعت أعضاؤه، وتدفق دمه، أخذ يتوضأ بهذا الدم، فلما سئل ماذا تفعل، قال: «ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم.»
ولسنا هنا بصدد تحليل تلك الشخصية الخارقة، فلهذا مكانه من تلك الدراسة.
وإنما نقدم لمحات، ترشد وتومئ إلى شخصية الحلاج، وتلقي شعاعا من الضوء على أسرارها.
وتلك اللمحات التي نقصدها، هي موقف أعلام التصوف الإسلامي في عصر الحلاج من الحلاج، وموقف الحلاج منهم.
يقول المستشرق ألفردفون كريمر: «فالكل مجمعون على أنه كان على رأس فرقة كبيرة، وأنه كان له أتباع كثيرون، أعجبوا به، واتخذوه إماما ومرشدا.»
18
ويذكر لنا ماسنيون:
19
أن كثيرا من الأمراء، وقواد الجيش، وعظماء الدولة العباسية، وأعلام المعتزلة، وفقهاء الحنابلة، وصفوة من المفكرين والمصلحين، ومع كل هؤلاء جمهرة كبيرة من الناس، كانوا جميعا من أتباع الحلاج، ومن تلاميذه، ومن المؤمنين بقداسته وولايته، ودعوته الإصلاحية.
ومع هذا كله، فإن عددا من أعلام التصوف الإسلامي في عصره، قد خاصمه ولم يناصره في أهدافه وصيحاته، ولم يسانده في محنته واستشهاده.
لقد جاء الحلاج ليضيف جديدا إلى التصوف الإسلامي، في صلته بالله، وفي صلاته بالحياة.
لقد جاء الحلاج لا ليكون صورة مكررة من الناس أو العلماء، أو سطورا متلألئة في كتب التاريخ بجانب السطور التي خطها المفكرون أو العابدون.
جاء ليكون كتابا وأمة، جاء ليقيم منهجا، ويرسم طريقا، ويفتح أفقا، ويجعل من نفسه بعد هذا، صورة صادقة معبرة وقائمة بمنهجه وطريقه وأفقه.
جاء ليصنع من تاريخه معالم وصورا، تهتدي بها الإنسانية، في سيرها المضيء إلى الله، وفي جهادها العنيف للكمال والتسامي.
كان الحلاج ينشد في المعرفة، أن يظفر الصوفي، بحظ من الفيض الإلهي، ليعبر دائما عن الإرادة الإلهية.
فإذا عبر عنها ارتفع إلى أفقها وقداستها، فأصبح قوله، صورة إيمانه في دنياه ودينه.
ومن هنا جاءت عظمة العقيدة الحلاجية، التي أخذت كل شيء بقوة وعزم وبقداسة، ولم تقبل أبدا، تساهلا، أو ترددا، أو تقية.
يقول الحلاج: «الواجب على أولياء الله، أن يتوجهوا إلى الله وحده، ويتحققوا بمعنى العبودية الكاملة، ويطيعوا أمره مهما كلفهم ذلك، من عنت وشقاء.»
والولاية عند الحلاج: تبلغ كمالها عن طريق الابتلاء، واحتمال الألم، وتبلغ جلالها، بالجهاد والتضحية.
فالصوفي المحب، هو الذي وهب نفسه لله، وصبر على ابتلائه في دنياه، صبره على امتحانه في حبه وإيمانه.
يقول الكلاباذي: (1) سمعت بعض مشايخنا يقول: سمعت محمد بن سعدان يقول: «خدمت أبا المغيث - الحلاج - عشرين سنة، فما رأيته أسف على شيء فاته، أو طلب شيئا فقده.»
ويقول: (2) وكان أبو المغيث لا يستند ولا ينام على جنبه، وكان يقوم الليل، وإذا غلبته عينه، قعد ووضع جبينه على ركبتيه، فيغفو غفوة، فقيل له: ارفق بنفسك! فقال: «والله ما رفق الرفيق بي رفقا فرحت به، أما سمعت سيد المرسلين يقول: أشد الناس بلاء، الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.»
ويقول: (3) سمعت بعض أصحابنا، يقول: سمعت بعض الكبراء - الحلاج - يقول: «ربما أغفو غفوة وأنادي: أتنام عني؟ إن نمت عني، لأضربنك بالسياط.»
والصوفي المحب لله، هو الذي يقوم بكلمات الله في الأرض، مجاهدا مناضلا مضحيا بكل شيء، حتى تعلو كلمة الحق. وتمشي الإنسانية، على الصراط المستقيم.
إن المحبة هي التضحية وهي الجهاد، والصوفي المحب لله، هو من كانت كلماته صورة في عمله في الدين والدنيا.
ومن هنا لم يكن زهد البسطامي، ولا تقية الجنيد، ولا سلبية المكي، ولا تردد الشبلي، مما يرضى عنه الحلاج.
لقد ثار الحلاج في عنف، وفي قداسة، على ولاة عهده، وفساد عصره.
كما ثار في عنف وقداسة، على السلبية الزاهدة التي عاشها كبار المتصوفة من معاصريه، الذين قنعوا بعبادة الله وحبه، غير ناظرين إلى واجباتهم حيال خلقه.
لقد عاب الحلاج على أبي يزيد البسطامي زهده العنيف الذي اتخذه طريقا للوصول وقنع به، فالوسيلة هنا ليست هي الأداة الكاملة، وليست هي غاية التصوف أو سبيله.
إن الصوم والصلاة ليست طرقا موصلة إلى الله، بذاتها، كما أن الذكر لا يعتبر وسيلة تفرض النتيجة على الله سبحانه .
إنما هو الحب، الحب الذي يقربنا إلى الله، الحب تحترق فيه شهواتنا ونزواتنا وأرضيتنا، الحب الذي يزورنا الله خلال لهيب وجده، ويمد يده إلينا ويباركنا ويلهمنا، الحب مع التضحية الكاملة، ومع القيام الكامل بحق الله علينا في عبادته، وبحق الله علينا حيال عباده.
ويروي لنا علي بن أنجب الساعي، عن أبي محمد الجسري، المعاصر للحلاج، قصة تاريخية، تعطينا صورة عن خصومات الحلاج مع صوفية عصره، وكيف بدأت تلك الخصومات.
عن أبي محمد الجسري قال: «رأيت الجنيد ينكر على الحلاج، وكذلك عمرو بن عثمان المكي وأبو يعقوب النهروجوري، وعلي بن سهل الأصبهاني، ومحمد بن داود الأصبهاني.
أما أبو يعقوب فقد رجع عن إنكاره في آخر عمره، وأما عمرو بن عثمان، فكان علة إنكاره أن الحلاج دخل مكة ولقي عمرا، فلما دخل عليه قال له: الفتى من أين؟ فقال الحلاج: لو كانت رؤيتك بالله لرأيت كل شيء مكانه، فإن الله تعالى يرى كل شيء، فخجل عمرو وغضب عليه، ولم يظهر وحشته حتى مضت مدة، ثم أشاع عنه أنه قال: يمكنني أن أتكلم بمثل هذا القرآن!
وأما علي بن سهل فدخل الحلاج أصفهان وكان علي بن سهل مقبولا عند أهلها، فأخذ علي بن سهل يتكلم في المعرفة، فقال الحسين بن منصور: يا دسوقي تتكلم في المعرفة وأنا حي؟ فقال علي بن سهل: هذا زنديق!
وأما الجنيد، فكنت عنده، إذ دخل شاب حسن الوجه والمنظر وعليه قميصان، وجلس سويعة، ثم قال للجنيد: ما الذي يصد الخلق عن رسوم الطبيعة؟ فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولا! أي خشبة تفسدها.
فخرج الشاب حزينا وخرجت على أثره، وقلت: رجل غريب قد أوحشه الشيخ، فدخل المقابر، وقعد في زاوية، ووضع رأسه على ركبتيه.
فأتيت الشاب وجلست بين يديه ألاطفه وأداريه، ثم قلت: الفتى من أين؟ قال من بيضاء فارس، إلا أنني ربيت بالبصرة.
فاعتذرت لديه للجنيد، فقال: ليس له إلا الشيخوخة، وإنما منزلة الرجال تعطى، ولا تتعاطى ...»
ثم تغلظ هذه الخصومة، كلما اندفع الحلاج إلى الثورة على فساد عصره، وإلى الدعوة إلى حكومة الأولياء والأقطاب كما كان يسميها الحلاج.
وأخذ الحلاج في عنف وفي قداسة يتحدى أعلام المتصوفة في عصره.
إنه رجل عقيدته صورة قوله، فلا مجاملة عنده فيما يعتقد أنه الحق.
روى الكلاباذي في التعرف: «أن الحلاج حفر حفرة وأوقد فيها النار ووضع هاوون حتى صار كالجمر، وقال لمن يجادله من الصوفية، ومن كبار العارفين: «من كان صادقا بالله فليتقدم ويقف على الهاوون داخل النار، فلم يقدر على ذلك أحد.»
ثم أنه تقدم ووقف عليه فذاب تحت أقدامه، حتى صار كالماء.»
ويروي القشيري في رسالته:
20 «قال الحلاج لإبراهيم الخواص: ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفاوز؟ قال بقيت في التوكل، أصحح نفسي عليه! فقال الحلاج: أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد.»
إنها السلبية عند غيره، والإيجابية عنده، قال الشبلي: «كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت.»
والإيجابية الحلاجية التي تجعل الحلاج يدخل مسجد بغداد وأبو القاسم الجنيد يتكلم على المنبر، والجنيد هو الجنيد مكانة وعلما.
فيهتف به الحلاج على مسمع من الدنيا: يا أبا القاسم، إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم فإن كنت في العلم فالزم مكانك، وإلا فانزل فنزل الجنيد، ولم يتكلم على الناس شهرا.
21
يقول الحلاج في عزة الواثق في نفسه: من تكلم عن غير معناه، فقد تحمر في دعواه، ثم تلا قوله تعالى:
كمثل الحمار يحمل أسفارا .
لقد حمل الحلاج أمانة الرسالة الصوفية كاملة، ولم يستطع ذلك غيره، أو كما يقول ماسنيون: «لقد عاش في صوفيته تماما.»
ويكثر تحدي الحلاج للجنيد خاصة، إنه سيد الطائفة، وفي يده القيادة والزعامة، فيوجه إليه يوما سؤالا متعمدا هادفا عن قيمة الإلهام الباطني، بوصف أنه قاعدة من قواعد التقوى والعبادة. ويرفض الجنيد الإجابة، ويكرر الحلاج السؤال، فيسميه الجنيد برجل المطامع، ويضحك الحلاج ساخرا!
وابتدأ الصراع بين الرجلين العظيمين، ورددت محافل بغداد ومساجدها، صدى هذا الصراع العنيف، وابتدأ الجنيد يهاجم الحلاج جهرة، في غضب، وفي تطرف ، ويرميه بالسحر والشعوذة!
قال أحمد بن يونس:
22 «كنا في ضيافة بغداد، فأطال الجنيد اللسان في الحلاج، ونسبه إلى السحر والشعوذة والنيرنج! وكان مجلسنا غاصا بالمشايخ، فلم يتكلم أحد احتراما للجنيد، فقال ابن خفيف: يا شيخ لا تطول، ليس إجابة الدعاء، والإخبار عن الأسرار، من النيرنجات والشعبذة والسحر، فاتفق القوم على تصديق ابن خفيف، فلما خرجنا أخبرت الحلاج بذلك فضحك وقال: أما ابن خفيف فقد غضب لله، وسيؤجر على ذلك، وأما أبو القاسم الجنيد، فقد قال: إنه كذب! ولكن قل له:
سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .»
ويمضي الحلاج في تحديه للجنيد، وتعقبه في مساجد بغداد، يطالبه بأن يخرج من سلبيته إلى إيجابية الدعوة الصوفية، فما يملك الجنيد في لحظة غضب، إلا أن يرمي بنبوءته الصادقة ... ستقتل!
ويضحك الحلاج، ويعقب بنبوءة أخرى صادقة أيضا ... نعم، وستمضي على قتلي!
رجلان عظيمان، لكل منهما عقيدته ومنهجه، ولكنهما اختلفا، ولو اتفقا لتغير وجه التاريخ.
الزعيم الثائر
وكما اصطدم الحلاج بالجنيد ومدرسته، اصطداما أساسه الاختلاف الجذري في فهم رسالة التصوف عامة، وصلة التصوف بالحياة خاصة، أخذ أيضا يصطدم ويصارع كافة القوى التي تهيمن على بغداد، اصطداما وصراعا أساسه الاختلاف الجذري أيضا في فهم رسالة الإصلاح السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي.
لقد دخل الحلاج بغداد في نهاية عام 296ه، بعد أن طوف بمشارق الأرض ومغاربها، يبذر بذور مذهبه، ويدعو الناس إلى ربه، ويملأ آفاق الأرض، بألحان حبه، ومواجيد قلبه، دخلها وهي تمر بأيام حاسمة في تاريخها، وفي تاريخ الأمة الإسلامية كافة.
لقد وصلت بغداد في نهاية القرن الثالث الهجري إلى المرحلة التي يسميها الفيلسوف اشبنلجر البرزخ الفاصل، بين قمة الحضارة، وبداية التحلل والانحدار.
فقد حملت إلى بغداد كنوز الأرض وخراجها، وتدفقت إليها ثروات الدنيا ومتاعها، وهرع إليها أصحاب العقول والقلوب والمطامع والأهواء من كل لون وجنس وملة ونحلة!
وتدفق إليها سيل لا ينقطع، من الجواري والإماء والعبيد والمغامرين، والمنجمين والمارقين والمبتدعين، وصناع النزوات والشهوات.
وأخذت الصلابة العربية تتهاوى، وأخذت الفكرة الإسلامية تلين وتتوارى.
وانطلقت بغداد وقد غدت عاصمة الدنيا تتبرج وتتزين وتعب من كل لذة، وتقتات بكل شهوة، وتبتدع ألوانا من التفكير، وفنونا من القول، لا تعرف القيود ولا الحدود!
وأسرفت بغداد على نفسها في الترف وفي الشهوات، إسرافا قتل فيها الحيوية الخلاقة، ونال من الشخصية الإسلامية المؤمنة المهتدية، التي صنعت التاريخ المضيء لهذا الكوكب.
وأسرفت بغداد على نفسها في السفح الفلسفي، وفي الابتداع المذهبي، وفي الجدل العقلي، حتى أصبحت أنديتها أروقة للسفسطة والحوار، وغدت مساجدها ساحات للعراك والقتال بين الحنابلة والأشاعرة والمعتزلة، والصوفية والمنجمين والسحرة والفلاسفة، فتمزقت وحدتها الفكرية، وانحلت أخوتها القلبية، وتبددت ثروتها الأخلاقية!
وأسرفت بغداد على نفسها في السياسة، فنجمت الأحزاب والشيع والفرق، مقنعة وسافرة، عربية وأعجمية، مؤمنة وملحدة، ثائرة ورجعية!
أحزاب للعسكرية التركية المغامرة تثير الفتن والقلاقل، وأحزاب للفرس والشيعة تتربص بالخلافة الدوائر، وأحزاب للرجعية الدينية تثير الشغب والقتال في الطرقات والمساجد، وأحزاب للرأسمالية الاحتكارية تمتص الحياة والدماء، وأحزاب للقصر تهيمن عليها الجواري والإماء.
وفي القمة من هذا المجتمع العجيب، الخليفة المقتدر، صبي ملتاث عربيد، يقول عنه المؤرخ الكبير الطبري وهو معاصر له: «وأما المقتدر فرقيق ركيك، لاه بما هو فيه من اللعب والسرف والتبذير، أحب جارية رومية حسناء، أسلمها الدولة وأهدى لها فصا من الياقوت بثلاثمائة ألف دينار.»
ويقول المؤرخ ابن الأثير: «كان المقتدر الطفل الخليفة، لا هم له إلا أن يلهو في قصره بين عشرة آلاف خصي من الصقالبة والجواري والغلمان.
ومن فوق هذا الخليفة الطفل، والدته السيدة شغب التي أحالت الملك العريض إلى ألعوبة في يدها، وبلغ من نفوذها واستهتارها، أن أمرت قهرمانتها أم موسى أن تجلس في مجلس القضاء للمظالم، ومن نفوذ هذه القهرمانة، أنها كانت تصدر أوامر المصادرات وإحصاء الأموال والتركات.»
ويقول الدميري في كتاب الحيوان: «وانطلقت الألسن في المقتدر وأمه ووزرائه وعماله وقضاته، وكثر السبي والقتل، ودخل المنجمون والمتخرصون على الرؤساء والنساء، وقعد الدجالون للناس في الطرقات.»
ويقول العلامة السيوطي في كتابه «تاريخ الخلفاء»:
1 «إن محمد بن جرير الطبري لما علم بخلع المقتدر، ومبايعة ابن المعتز، قال: ما الخبر؟ قيل: بويع ابن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قيل: محمد بن داود، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قيل: أبو المثني، فأطرق ثم قال: هذا الأمر لا يتم! فقيل له: وكيف؟ قال: كل واحد ممن سميتم متقدم في معناه، عالي الرتبة، والزمان مدبر، والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال، وما أرى لمدته طولا.»
ومن قلب هذه الحياة المتداعية، وعلى القمم العالية، من هذه التيارات المتصارعة، تجلت شخصية الحلاج، بما أفيض عليها من جاذبية ومغناطيسية، وبما تملك من قوى خارقة أسطورية، وبما ترقرق حولها من بريق الروح وسناء الإيمان، وبما تمثله من بطولة فدائية لا تلين ولا تهادن، وبما تقدم للناس من منهج متكامل، للدين والدنيا.
كانت شخصية تملأ عين من يراها سحرا، وتملأ قلب من يشاهدها إجلالا، وتملك فوق هذا وذاك قدرة الإيحاء الذي يطلق الأمل الحي في قلوب الدعاة المؤمنين، ويرسم الغد الجميل للقانطين واليائسين.
كان الحلاج يبشر بمنهج فيه بريق التصوف وروحانيته وإشراقه، وفيه أهداف السياسة الإيجابية البناءة.
كما كان يقول المستشرق ماسنيون يهدف إلى قيام خلافة ليس بينها وبين الجمهور نفور سياسي، ويعمل كي يزيل من شعوب الدولة ما بينها من نفور اجتماعي، ويزيل ما بين الفرق من نفور ديني، ويحطم ما بين الطبقات من تفاوت مادي.
منهج إيجابي للإصلاح السياسي والاجتماعي، يظلله ويدعمه منهج روحي، قوامه الدعوة إلى حكومة الأتقياء الأولياء الذين يملئون الأرض عدلا وقسطا، ويملئون القلوب إيمانا وحبا، الحكومة الربانية المهتدية التي ستعيد عهد حكومة الرسول، بكل ما فيها من عدل وقوة، ومحبة وعبادة.
أو كما يقول الحلاج: «خلافة ربانية تشعر بمسئوليتها أمام الله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صيام وصلاة، وحج وزكاة.»
وبذلك يربط الحلاج بين صلاح الحكم، وقبول الله سبحانه للعبادة من عباده المؤمنين.
فلن يقبل الله عبادة عابد، تحت ظل حكم فاسد - كما يقول - وأولياء الله حقا في منهجه، هم الذين يحملون أمانة الرسل في الإصلاح العام، وهم الذين يقودون الإنسانية إلى الله، وإن واجبهم أن يستشهدوا، أو ينتصروا.
ذلك إيمان الحلاج، وتلك دعوته، التي انبثقت منها صيحته الكبرى ذات الرنين الخلاب.
صيحة الخلافة، التي يتولى القيادة فيها والزعامة، القطب الولي الأكبر، الذي له خلافة الظاهر والباطن، القطب الزعيم الذي ارتبط قلبه بالله، فقام به وتلقى عنه، القطب الذي يمشي على خطو الأنبياء ومنهجهم، ويحقق بأعماله رسالتهم.
القطب الذي سيقود العالم الإسلامي، بل الإنسانية كافة، إلى معارج الكمال القرآني، وآفاق الحب الإلهي، فيصبح الإنسان جديرا بخلافة الله.
تلك هي الخطوط الرئيسية لمنهج الحلاج، الذي دوى في سماء بغداد، فأطلق العواصف المرعدة، وأثار المعارك الملتهبة، وانقسم الناس حياله، كما يقول المستشرق نيكلسون إلى حلاجية، وخصوم للحلاجية.
يقول ماسنيون: «إن الحلاج أحيا بمنهجه هذا، وبحميته الثائرة، وبشخصيته الباهرة، الآمال العريضة، والأحلام الجميلة، التي كانت تعيش في أعماق الأمة الإسلامية، فالتفت حوله الجماهير، واندفع في تياره كثير من الأمراء والوزراء والقادة.»
وفي الناحية الأخرى، أحاطت بالحلاج الأحقاد والخصومات العنيفة الملتهبة، لقد جاء ليزلزل نظاما، ويحطم حكما، ويحارب فسادا شامخا، وينتزع من الزعامات الفكرية والروحية مكانا سامقا!
لقد لقبه الإمام الجنيد من أجل هذا المنهج برجل المطامع، وهي كلمة لها معناها ودلالتها وهدفها.
يقول الإصطخري: «إن كثيرا من علية القوم رأوا حينئذ في الحلاج أنه الرئيس القطب.»
الرئيس القطب رجل المطامع، الذي ينشد الخلافة لنفسه، إن هذا وحده يكفل للحلاج عداوة شامخة مريرة، من كافة القوى المنتفعة بالخلافة، وما يحيط بها وما يدور في فلكها.
وزاد من عنف المعركة، أن الحلاج كان بطبيعته المؤمنة الثائرة، مهاجما قاسيا عنيفا، لا يعرف المهادنة ولا يعترف بالتقية، ولا يرضى بأنصاف الحلول.
هاجم الشيعة وطالب بعزلهم عن الخراج، وإبعادهم عن بيت المال، لقد أرهقوا الناس، وأفسدوا الضمائر، واختلسوا الأموال، واحتكروا الأرزاق.
وهاجم المعتزلة؛ لأنهم حصروا أنفسهم في قوالب فلسفية، وأهملوا دعوة الإصلاح والحرية.
وحارب الوزراء الذين تخرجوا من المدارس النسطورية، وكانوا من أصول نصرانية، كابن وهب، وابن نوبخت؛ لأن في قلوبهم بقية ملحدة تحارب الإسلام، ولا تؤمن بدعوته.
وهاجم الخلافة وأحزابها وقوادها وحجابها ، لقد غرقوا في الترف، وأسرفوا في المجون، وأشاعوا الفساد، واستبدوا بالعباد، وانحرفوا عن رسالة الإسلام!
وأخذ الحلاج يدعم معركته برسائل سياسية، تحدث فيها عن منهجه في الإصلاح العام، وأوضح بها واجبات الوزراء، وحقوق الرعية، كما تحدث فيها عن الخلافة الربانية، وما يجب أن يتوافر لها من شروط.
وهي رسائل لا تزال مخطوطة متفرقة في مكتبات العالم، بما تشتمل عليه من تصوير رائع لمرحلة من أخطر المراحل الفكرية في تاريخ الأمة الإسلامية.
لقد تحدث الحلاج في هذه الرسائل عن الحرية الفردية، وعن الحقوق الاجتماعية، وعن المثالية الخلقية، كما تحدث عن السياسة المالية في الخراج والضرائب، وعن سياسة الحكم وتبعاته وأهدافه.
وبذلك سبق الحلاج بمنهجه الذي يمكن أن نسميه بالاشتراكية الديموقراطية الدينية، كافة الدعاة العالميين إلى هذا اللون المنهجي في الإصلاح الاجتماعي.
ومن أشهر هذه الرسائل، الرسائل الثلاث التي أهداها إلى أصدقائه من الوزراء، حسين بن حمدان، وابن عيسى، ونصر القشوري.
ثورة ابن المعتز
وعلى دوي كلمات الحلاج المزلزلة، أخذت العناصر الثائرة، الطامعة في الخلافة من بني العباس، ترفع رأسها، وتدبر أمرها، وتطمع في أن تثب في عنان هذه الحملة الحلاجية على عرش الخلافة لتنتزعه لنفسها.
وكان ابن المعتز الشاعر العباسي الكبير، من أبناء الخلفاء، وكان يرى أنه أحق بالخلافة من المقتدر.
وكان يلوذ به طائفة قوية من أبناء البيت العباسي، غضبوا من المقتدر ورأوا في مجونه ولهوه وتهالكه، وهيمنة النساء عليه نذيرا يعرض البيت العباسي بأسره للزوال والفناء.
ورأى أدباء بغداد وشعراؤها في ابن المعتز، زميلا شاعرا أديبا، فطافوا به، ومشوا في ركابه، واحتضنوا دعوته.
كما رأى الحنابلة المتعصبون المتزمتون في ابن المعتز، متنفسا لحقدهم على الخليفة، الطفل العابث، فأسرعوا إلى ابن المعتز يحيطونه بهالة من قداسة الدين وبريقه.
وأخذ بعض تلاميذ الحلاج من الوزراء والقواد ينضمون إلى ابن المعتز سرا، لقد رأوا في حركته سبيلا قد يحقق لأستاذهم ما يدعو إليه، ويبشر به، وكان أكبر هؤلاء التلاميذ الأمير الحسين بن حمدان الذي تولى القيادة العسكرية للثورة.
ويرى ماسنيون: أن الحلاج كان الزعيم الروحي لحركة ابن المعتز، والقائد الحقيقي لثورته.
يقول ماسنيون: «وأدار الحلاج دعوته من وراء الحجب وفي سنة (296ه / 908م) انفجرت المؤامرة الإصلاحية، وقامت خلافة تحت رعاية الحلاج، تولاها ابن المعتز، ولكنها استمرت يوما واحدا ثم فشلت؛ لأنها لم تستطع الحصول على الأموال من الممولين اليهود في القصر، وقد كانوا متواطئين مع عمال الخراج الشيعة.
فأعيدت الخلافة إلى المقتدر، بمساعدة الشرطة، وابن الفرات، الذي تولى الوزارة وكان أول أمر أصدره هو القبض على الحلاج وأتباعه.
ونجا الحلاج من القبض، واختفى لدى الحنابلة، ببلدة - سوس - من الأهواز.
وبعد ثلاث سنوات من اختفائه، وبخيانة عامل مدينة واسط - حامد - قبض على الحلاج وجيء به إلى بغداد، حيث ابتدأت قضيته العالمية.»
ولكن الحلاج نجا مما أعد له، لقد كانت له مكانة شعبية تحميه وتعصمه من غضب الخليفة، وكان له أنصاره الأقوياء من الأمراء والوزراء ومن كبار رجال القصر.
أنصار استطاعوا أن ينتزعوا من الخليفة المقتدر، أمرا بالعفو عن الحلاج، وأن يكتفي بتحديد إقامته بدار حاجب الخليفة نصر القشوري تلميذ الحلاج المخلص.
يقول صاحب «تاريخ بغداد»: «فأقام عند نصر القشوري، في سعة ودعة يزوره من يشاء.»
2
الحلاج في قصر الخليفة
ثم أطلقت حرية الحلاج كاملة، فعاد إلى منهجه ورسالته، يقول ابنه أحمد كما يروي صاحب «تاريخ بغداد»: «إن والده وقع له عند الناس قبول عظيم، حتى حسده جميع من في وقته.
ثم بنى دارا في بغداد واتخذ له عقارا، ودعا الناس إلى فكرته فأجابه الخلق.
وخرج عليه محمد بن داود الظاهري، وجماعة من أهل العلم وقبحوا صورته.
ووقع بينه وبين الوزير، علي بن عيسى، عداوة من أجل نصر القشوري، ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية، واختلفت الألسن في أمره.»
3
وكلمة أحمد بن الحلاج تصور لنا تلك الحقبة من حياة الحلاج تصويرا دقيقا.
لقد واصل دعوته بتلك الحمية الثائرة التي أثرت عنه، فأجابه الخلق، كما ثارت حوله الخصومات والعداوات من جديد.
فخاصمه أول ما خاصمه ابن داود الظاهري، الفقيه الجامد المتعصب ومن يلوذ به من الفقهاء خصوم الحياة الروحية بكافة صورها وألوانها، وأخذوا ينشرون الشائعات حول الحلاج وعقيدته ودعوته.
ومن الناحية السياسية، خاصمه الوزير علي بن عيسى، خصومة سياسية، من أجل نصر القشوري حاجب الخليفة، وخصمه السياسي.
وفجأة حدث تحول بعيد المدى في حياة الحلاج ودعوته، بل بعيد المدى في تاريخه ومأساته.
يقول البغدادي:
4 «إن علة عرضت للمقتدر بالله في جوفه، ووقف نصر القشوري على خبرها، فحدث الخليفة عن الحلاج ووصفه بأنه الرجل الصالح، واستأذنه في إدخاله إليه فأذن له.»
وجاء الحلاج فوضع يده على الموضع الذي كانت العلة فيه، وقرأ عليه فاتفق أن زالت العلة.
ثم يقول: «ولحق والدة المقتدر بالله، مثل تلك العلة وفعل بها ذلك فزال ما وجدته، فقام للحلاج بذلك سوق في الدار، وعند والدة المقتدر والخدم والحاشية.»
ويقول عريب القرطبي في كتابه «صلة تاريخ الطبري»: «أحيا الحلاج ببغاء ولي العهد الراضي محمد بن جعفر المقتدر، فأحدث ذلك دويا في القصر وفي بغداد.»
ويحدثنا صاحب «تاريخ بغداد» حديثا عجبا عن الحلاج الذي أقام في قصر الخليفة، بأمر الخليفة، وكيف غدا صاحب الكلمة الأولى في القصر، ثم يقول: «وكانت بنت السمري صاحب الحلاج قد أدخلت إليه، وأقامت عنده في دار السلطان.»
ثم يذكر في موضع آخر، أن ابنة الحلاج قد أقامت معه أيضا في دار الخليفة.
5
أي إن الحلاج قد انتقل بأسرته وخدمه ومعارفه إلى دار الخلافة.
أصبح الحلاج سيدا مطاعا مرهوبا، عالي المكانة، مسموع الصوت، في قصر الخليفة.
وغدت والدة الخليفة المقتدر، السيدة شغب بسلطانها وجلالها ونفوذها، من أخلص تلاميذ الحلاج المؤمنين به، المدافعين عنه.
ومشى كثير من الوزراء والقواد والأمراء في موكبه، وحفوا به في مجالسه، واعتنقوا منهجه، إما عن اقتناع به، وإما افتتانا بشخصيته الساحرة، وإما تزلفا وتقربا لرجل، أصبحت الأسرة الحاكمة ترعاه وتجله، وتؤمن به وتقدره.
وامتلأ قصر الخليفة الكبير، بالحديث عن كراماته وآياته، وما تصنع يداه من عجائب وغرائب، تكاد ترتفع فوق الكرامات والآيات .
وأسرف الناس كعادتهم في هذا الحديث، ولونوه ووشوه، وأضافوا إليه وزادوا فيه، حتى غدا الحلاج أكثر من أسطورة، وأكبر من ولي، في أفق بغداد، وسماء العراق.
وملأت الهمسات الملونة، أندية بغداد ومساجدها، وفقد خصوم الحلاج أعصابهم، فقد رأوا غريمهم، يرتفع شاهقا فوق هاماتهم، فراحوا يملئون الدنيا صياحا غاضبا مجنونا، حول الحلاج، الدعي الساحر الدجال حينا، وحينا تتناول الصيحات المرعدة، عقيدته الإيمانية، فترميه وتصفه، بالكفر والفسوق، والاتحاد والحلول!
والحلاج في آفاقه بعيدا بعيدا عن هذا الدوي، لقد ملكت عليه رسالته الإصلاحية أقطار تفكيره، وملك عليه حبه لربه، وجدانه وقلبه، فراح يجاهد في الميدانين، بما أثر عنه من حماس ملتهب، وبما عرف به من عزمات لا تلين.
ولكن الذي كان يمزق قلب الحلاج حقا، ويملأه بالأسى المرير هو موقف أحبابه وأساتذته وتلاميذه من الصوفية، من أبناء مدرسة الجنيد، لقد حاربوه في رسالته، وبارزوه العداوة في منهجه، وسلقوه بألسنة حداد في حبه وإيمانه.
وهذا الموقف العدائي من الإمام الجنيد ومدرسته، قد أرقه وأهمه، وحرق قلبه، ونرى أثر هذا الموقف في الكلمات الباكية الحزينة، التي أخذت تترى على لسان الحلاج، في مواجيده وابتهالاته.
لقد أخذت تتسلل إلى قلبه شيئا فشيئا، فكرة الاستشهاد في سبيل حبه، وفي سبيل عقيدته.
لقد آمن من قبل بأن الوجد والعذاب في الحب، هما معراجه إلى الوصول والقرب، واليوم أخذ يؤمن بأن الاستشهاد هو طريقه إلى النصر، النصر الشامخ المتلألأ لفكرته ومنهجه.
إن استشهاده في سبيلهما، لهو صورة إيمانه، وآية صدقه، وصراط قربه، وعلامة قبوله عند ربه.
بل لقد راح في نشوة روحية عالية، يتنبأ بمصرعه، ويرى مشاهد هذا المصرع، جلية مبينة.
قال إبراهيم بن فاتك:
6 «دخلت يوما على الحلاج في بيت له، على غفلة منه، فرأيته قائما على هامة رأسه، وهو يقول: يا من لازمني في خلدي قربا، وباعدني بعد القدم من الحدث غيبا، تتجلى علي حتى ظننتك الكل، وتسلب عني حتى أشهد بنفيك، فلا بعدك يبقى، ولا قربك ينفع ولا حربك يغني، ولا سلمك يؤمن!
فلما أحس بي ، قعد مستويا وقال: ادخل ولا عليك، فدخلت وجلست بين يديه، فإذا عيناه كشعلتي نار، ثم قال: يا بني، إن بعض الناس يشهدون علي بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية! فقلت: يا شيخ، ولم ذلك؟ فقال: لأن الذين يشهدون علي بالكفر تعصبا لدينهم، ومن تعصب لدينه، أحب إلى الله ممن أحسن الظن بأحد، ثم قال لي: وكيف أنت يا إبراهيم حين تراني، وقد صلبت وقتلت وأحرقت، وذلك أسعد يوم من أيام عمري جميعه؟ ثم قال لي: لا تجلس واخرج في أمان الله.»
ويقول أحمد بن فاتك:
7 «كنا مع الحلاج، وكان يوم النيروز، فسمعنا صوت البوق، فقال الحلاج: أي شيء هذا؟ فقلت: يوم النيروز، فتأوه وقال: متى ننورز؟ فقلت: متى تعني؟ قال: يوم أصلب!
فلما كان يوم صلبه بعد ثلاث عشرة سنة، نظر إلي من رأس الجذع وقال: يا أحمد، نورزنا: فقلت: أيها الشيخ، هل أتحفت؟ قال: بلى، أتحفت بالكشف واليقين، وأنا مما أتحفت به خجل، غير أني تعجلت الفرح.»
ويقول أحمد بن فارس:
8 «رأيت الحلاج في سوق القطيفة قائما على باب مسجد المنصور، وهو يقول: أيها الناس، إذا استولى الحق على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمن سواه، وإذا أحب عبدا حث عباده بالعدوان عليه حتى يتقرب العبد مقبلا عليه، فكيف لي ولم أجد من الله شمة، ولا قربا منه لمحة، وقد ظل الناس يعادونني.
ثم بكى حتى أخذ أهل السوق في البكاء.»
ويقول علي بن أنجب الساعي: «صاح الحلاج في جامع منصور: أيها الناس، اعلموا أن الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني اقتلوني تؤجروا وأسترح، ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلي، وتكونوا أنتم مجاهدين، وأنا شهيد.»
9
ولم يهنأ الحلاج طويلا بمكانته في القصر، ولم تتحقق له الآمال الإصلاحية العريضة، التي راودته وهو يلج قصر الخليفة، لقد بدأت الدسائس والمؤامرات تحيط به وتواثبه، وتضيق حوله النطاق وتطارده!
لقد كان وجوده في قصر الخليفة، أمرا مخالفا لطبيعة الحياة، ولطبيعة المعركة التي يقودها.
فهو بإيمانه ورسالته، يختلف اختلافا جذريا عن سكان القصور، وهو بخلقه ونسكه ومبادئه، يختلف اختلافا منهجيا عن الطبقة الأرستقراطية الحاكمة.
وكان الاصطدام حتما مقضيا بين الحلاج وبين الحاشية، لقد رأى بعض الوزراء والقواد والأمراء، أن مكانتهم قد تزلزلت، ورأى المستغلون والمنتفعون والمرتشون، وأرباب النزوات والأهواء والشهوات، الذين هيمنوا على الخليفة في الماضي، أن رأس مالهم الأكبر قد طار من أيديهم.
وانضم إلى هؤلاء وهؤلاء، السياسيون المحترفون من خصوم السيدة شغب أم الخليفة، وخصوم نصر القشوري الحاجب، وهما أكبر أنصار الحلاج، وأخلص تلاميذه.
وفي رجال القصر براعة في الدس والنفاق، وكفاءة في التلوين والتآمر وهم تاريخيا أقدر الناس على هذا الضرب من الحياة، وأبرعهم فيه.
يقول المستشرق نيكلسون: «لقد ضاق كبار رجال الدولة بنفوذ الحلاج وصيحاته وشعبيته الحارة، التي تهدد بثورة تطيح بهم وبنفوذهم.»
وتقول دائرة المعارف الإسلامية:
10 «وكانت رعاية شغب أم المقتدر، والحاجب نصر، للحلاج سببا في أن عاداه الوزير حامد، الذي سيقود المعركة يوم محاكمته.»
وابتدأت الحاشية تهمس في براعة قادرة مدربة في أذن الخليفة، بأن الحلاج يعد العدة لضربته الكبرى، الضربة التي ستطيح بالخليفة، ليتولى هو الأمر من بعده!
أليس هو صاحب نظرية القطب الزعيم الحاكم؟ أليس هو المنادي بحكومة الأقطاب والأولياء، التي يحبها الله ويرضى عنها؟
أليس يجمع حوله الكتاب والشعراء والصوفية ورجال الفكر، ومن وراء هؤلاء جميعا جماهير بغداد، ثم أليس الحلاج هو الولي الأكبر، والمنقذ الأعظم عند هذه الجماهير؟!
وزاد الهمس في أذن الخليفة، وزادت الاتهامات وتضخمت، حتى أرعبت الخليفة، وأنسته نفسه، وأنسته صداقته للحلاج، واستضافته له.
وابتدأ الخليفة يضيق بالحلاج، ويعطي له وجها غير وجهه الأول، وابتدأ خصوم الحلاج في القصر يوسعون نطاق مؤامراتهم، ويمدون حبالهم إلى خارج القصر، ليشركوا معهم الخصوم التاريخيين للحلاج.
واستدعي إلى القصر، المهرة المدربون على الهمسات والشائعات، ولكن مكانة الحلاج الشعبية كانت دائما ترهب خصومه، وتنال من اندفاعهم، إن له لقداسة وسحرا لا يقاومان بين العامة.
ومن هنا ابتدأ التفكير في تحطيم هذه الهالة الشعبية، وتمزيق هذه القداسة الدينية.
وفكر رجال القصر وقدروا، ثم فكروا وقدروا، فاهتدوا إلى سلاح تاريخي رهيب، جرب فأثبت صلاحيته وإيجابيته.
يجب أن يحارب الحلاج باسم الدين وبسلاحه، لقد شاد مكانته السابقة لدى الجماهير باسم الدين والقداسة الروحية، فيجب إذن أن يحطم باسم الدين، وباسم الدفاع عن القداسة والمقدسات الروحية!
ومن ثم بدأت حملة من أكبر حملات التزييف في التاريخ، حملة انقلبت إلى عاصفة لا تزال ريحها تدوي عبر القرون، تتهم الحلاج بالمروق والإلحاد، والحلول والاتحاد، وغير هذا وذاك من المسميات والنعوت!
وأخذ سيل من الرسائل والكتب يتدفق من الأقلام المأجورة لمهاجمة الحلاج! وابتدأ الدساسون يحرفون كلمه عن مواضعه، وينسبون إليه ما لم يقله.
بل ابتدءوا يجمعون ويدربون الشهود الزور، الذين سيتقولون الإفك، ويشهدون على الحلاج يوم محاكمته.
يقول ماسنيون: «وساهم في المعركة كثير من رجال الدين، حتى المعتزلة شاركوا فيهاحسدا للحلاج، فروجوا في القصر ردا على كرامات الحلاج، رسالة - للأوارجي - تصف شعبذة الحلاج وحيله.»
11
ويقول نيكلسون: «لقد اشترك في المعركة ضد الحلاج مزيج عجيب من المرتشين والقوادين والزنادقة ومستغلي النفوذ.»
ثم أخذت آفاق السياسة العامة للعراق تضطرب، وأخذت أحزابه تتصارع وتتقاتل، وعلى قمة هذا الصراع، بدأت محاكمة الحلاج ومأساته.
محاكمات الحلاج
رأى الحلاج أن دعوته قد تعرضت للخطر، وأن منهجه الإصلاحي أصبح في مهب العاصفة، وأن الساعة الحاسمة تقترب من القمة.
لقد تغير عليه قلب الخليفة، وتجرأ خصومه في القصر وخارجه، وأعلنوها بغضاء سافرة، وبدأت نذر العاصفة تطرق عليه الأبواب.
كما أدرك في جلاء مبين، أن أساليبه السلمية التي استهدف بها تحقيق رسالته، عن طريق القصر وصداقات القصر، أصبحت لا تحقق هدفا، ولا تملك أملا.
فأخذ يحرك أتباعه من الوزراء وقادة الجيش، ليتخذوا موقفا إيجابيا في مقاومة فساد الحكم وانحرافه عن رسالة الإيمان والدين.
كما أخذت رسائله تتوالى على أنصاره من العلماء والأدباء، يعدهم ويعبئهم للمعركة السافرة، وعادت اتصالاته بالجماهير تتسع وتقوى، يحرك وجدانهم، ويثير مشاعرهم، ويلهب فيهم روح المقاومة ضد ما يتعرضون له من استغلال، وما يلقون من هوان.
يقول المستشرق ماسنيون:
1 «ولقد قامت في ذلك الحين بين العلماء رغبة عامة في إصلاح الأداة الإدارية، وطالبوا بإقامة خلافة إسلامية حقا، ووزارة تحكم بالعدل بين الناس، خصوصا في مسائل الخراج والضرائب - ضد مفاسد عمال الخراج الشيعة من خصوم الحكم الوراثي - وخلافة شاعرة بمسئوليات وظيفتها أمام الله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم - من صلاة وحج وصيام - وكان الأمل معقودا على الحلاج في العمل بهذا السبيل، في الوقت الذي توقع فيه الحلاج، قرب مصادرة حريته من جانب أعدائه وأصدقائه.»
ودخل الحلاج المعركة، وحمل عبئها ومسئوليتها، وكانت طلقته الأولى في القمة، في مجلس وزراء الخليفة.
وابتدأ الصراع بين الوزراء الحلاجيين، وخصومهم من الوزراء، صراعا سافرا مريرا.
واستطاع أنصار الحلاج في الوزارة، أن يصدروا أول بيان تاريخي منهجي في العالم الإسلامي، لميزانية الدولة الإسلامية، على أسس اشتراكية، هذا البيان الذي يقول عنه المستشرق ماسنيون: «إنه صار مشهورا بحق.»
2
واستطاع هذا البيان، أن يعيد تنظيم سياسة الدولة المالية، وأن يخفف من قسوة الضرائب، وأن يتجه بفائض المال إلى الخدمات العامة، بدلا من إنفاقه على الخليفة وحاشيته!
وغضب الوزير حامد بن العباسي خصم الحلاج الأكبر، فقام بحركة مضادة فأغرى الخليفة باحتكار المخزون من القمح والمضاربة فيه!
يقول ماسنيون:
3 «فأجاب الوزير ابن عيسى صديق الحلاج على هذا الإجراء، بإثارة فتنة شعبية، وفيها أطلق نصر القشوري حبل العمل للحنابلة - أصدقاء الحلاج - فقامت نقابات العمال في بغداد والبصرة والكوفة والموصل، وهاجمت المحتكرين والمخازن وفتحت السجون.» (1) المحاكمة الأولى
واهتز عرش الخلافة، واهتزت أرائك الوزراء غير الحلاجين، فأدرك الوزير حامد أن الخطر أصبح من الضخامة، بحيث لا يقاوم إلا بالإقدام على مخاطرة حاسمة ... هي القبض على الحلاج نفسه ومحاكمته، وهو أمر لا يستطيعه إلا الخليفة، ولكن الخليفة جبن وتردد، رغم إلحاح الوزير عليه، وتبصيره بالخطر المحدق به.
فلجأ حامد إلى السلاح الديني الشرعي، فاتصل بأحد أعضاء محكمة القضاء الكبرى ببغداد، وهو الفقيه الظاهري محمد بن داود، وكان شاعرا هلوكا يبغض الحلاج ويمقت التصوف، فأغراه بالمال، ومناه بالآمال، وحرضه باسم الخلافة والخليفة.
واستغل محمد بن داود مركزه الشرعي ، فرفع أمر الحلاج إلى المحكمة العليا طالبا محاكمته، والحكم بقتله، بدعوى الشعوذة وادعاء الألوهية!
وجند الوزير حامد الشهود ليوم المحاكمة، فأعد رجلا من غمار الصوفية، لقنه أن يقول إنه سمع الحلاج يتحدث في درسه الصوفي بمسجد المنصور قائلا: أنا الحق!
وجاء برجل آخر من العامة ليشهد بأنه من أتباع الحلاج، وبأن الحلاج إله! وأنه يحيي الموتى!
وحضر الحلاج المحاكمة في دار القضاء العالي، وواجه الشهود. يقول المؤرخ ابن كثير:
4 «وأنكر الحلاج ما نسب إليه، وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية، أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله، وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، ولا أعرف غير ذلك، وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، ويكثر أن يقول: سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.»
وهنا انتصر للحلاج القاضي الشافعي ابن سريح قائلا: «إن مثل هذا لا يدخل في القضاء، والأدلة غير ثابتة، والدليل لا يوجد.»
وبهذا الاعتراض فشلت المحاكمة، وضاعت المؤامرة، ولكن الوزير حامد، أسرع فأصدر أمرا بتشكيل هيئة قضاء أخرى برياسة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وعضوية القاضي أبو جعفر بن البهلول وجماعة من الفقهاء.
وأعيد الاتهام وجاءوا بالحلاج وتوالى الاتهام: هل أنت إله؟! هل تحيي الموتى؟! هل تخدمك الجن؟! هل تصنع ما تحب عن طريق المعجزات؟! كما يقول الشهود.
وأنكر الحلاج ما نسب إليه بشدة، وسخر من شهوده بقوة، وقال: أنا عبد الله، أؤمن به وبرسله، وأدعو إلى الحق، وأنشد الخير للمسلمين، ولا أقر الظلم، ولا أعرف هؤلاء الشهود، ولا أقول غير هذا وأعوذ بالله من الدعوى.
وتعالت صيحات الجماهير الغاضبة خارج دار القضاء، ووجد القضاة أنفسهم بين شقي الرحى.
فعادوا إلى الوزير حامد ليبلغوه بأنهم لم يجدوا ما يوجب قتل الحلاج، ولا عقابه، وأنه لا يجوز قبول ادعاء إلا بدليل أو إقرار!
وفشلت القضية من جديد، وثار حامد وأسرع إلى الخليفة ينشد تأييده، فقد زادت هذه المحاكمات من مكانة الحلاج ونفوذه.
ولكن الخليفة كان أكثر حرصا من وزيره، أو أكثر جبنا وخوفا، وكان دائما يتردد في حمل مسئولية دم الحلاج ، فأمر حامد بأن يسلمه إلى علي بن عيسى عالم بغداد وخصم الحلاج ليناظره، عسى أن تفلت من فم الحلاج كلمة فيؤخذ بها!
وعقد مجلس المناظرة، وحشد للمجلس خصوم الحلاج من كل لون ونحلة.
يقول الخطيب البغدادي في تاريخه: «فلما حضر الحلاج مجلس المناظرة، خاطبه علي بن عيسى خطابا فيه غلظة، فقال له الحلاج: قف حيث انتهيت، ولا تزد عليه شيئا، وتأدب وإلا قلبت عليك الأرض، فتهيب علي بن عيسى من مناظرته، وطلب من الخليفة أن يعفيه من مناظرته فأعفاه.»
5
وطارت شهرة الحلاج، وصفقت بغداد إعجابا ببطلها ووليها، وأسرع الوزير حامد إلى الخليفة يناشده العون، ويطلب إبقاء على ماء وجهه، وحرصا على مكانة الخليفة، أن يصدر أمره السامي بسجن الحلاج! أو على الأقل بتحديد إقامته، مع سجن الخطرين من تلامذته، وإبقاء القضية معلقة، ليبقى الاتهام دائما محلقا فوق الحلاج وأنصاره!
واستجاب الخليفة، وقبض على بعض أنصار الحلاج، وأخذ الحلاج نفسه يتنقل بين السجن حينا، وبين مصادرة حريته وتحديد إقامته أحيانا، طوال ثمانية أعوام كاملة، وكان سجنه بدار الخلافة، وكان تحديد إقامته بمنزل صديقه وتلميذه نصر القشوري حاجب الخليفة. لقد استهدفت الخلافة بهذا الحكم العجيب أن يكون الحلاج تحت سمعها وبصرها، لتأمن وثبته، وتتقي ثورته، وتحد من اتصالاته وتنقلاته.
ومن ثم بدأت مرحلة حاسمة، من أخطر مراحل حياة الحلاج وأجلها، مرحلة خصبة، أشد ما تكون الخصوبة، حية أقوى ما تكون الحياة.
مرحلة جهاد مرير لتحقيق رسالته في الإصلاح، تحت ضغط ظروف قاسية مرهقة، وجهاد أعلى وأشق، ليبلغ كماله الروحي، ولتحترق بشريته في لهب وجده المقدس، وحبه الأسمى، ليظفر بجوهرة الخلود الكبرى، جوهرة الحياة، التي ترتبط بالله، فتقوم به، وتتلقى عنه، وتقتات بذكره، وتظفر بأنسه، وتنعم بإلهامه، وتفني إرادتها في إرادته، ثم تحلق بمعراج وجدها، حتى تراه سبحانه بوجدانها، وتشاهده بقلبها، نورا، هو نور السموات والأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، سبحانه هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.
مرحلة أخذ الحلاج يضع فيها أخلد كتبه وأبقاها، وفي طليعتها كتاب «طاسين الأزل» الذي أنقذه من الفناء الذي صبته الخلافة العباسية على تراثه، صديقه الوفي، ابن عطاء سنة 309ه، في اللحظات الأخيرة.
كما أخذ يدنو رويدا رويدا من هدفه الروحي، هدف التضحية والاستشهاد؛ ليكون جديرا - كما يقول - برسالته، وكفئا لحبه.
وأخذت شخصية الحلاج ونفوذه يلعبان دورهما، فأصبح المكان الذي حدد لإقامته بدار نصر القشوري مكانا فسيحا رحبا، مزودا بكل شيء.
لقد امتد إليه سحره كما يقول صاحب «تاريخ بغداد»: «فأصبح بيتا ناعما، كل من فيه يؤمن بالحلاج ويحبه، ويلبي طلباته، موسعا عليه، مأذونا لمن يدخل عليه.»
6
وغدا سجنه بدار السلطان مدرسة ومنتدى، يقول ابن كثير: «واستطاع الحلاج وهو بسجنه في دار السلطان أن يستغوي جماعة من غلمان السلطان، وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيله، حتى صاروا يحمونه، ويدفعون عنه، ويرفهونه، ويدخلون عليه من شاء.»
7
بل لقد اتسعت حياة الحلاج رغم السجن وتحديد الإقامة، فأصبح يغشى مجلس الخليفة، يعظه وينذره، ويذهب نهارا إلى جامع المنصور، يلقي دروسه، ويشرح منهجه، وفي الليل يواصل تهجده وتضرعه، في المكان الحبيب إلى قلبه، بين القبور، عند قبر الإمام أحمد بن حنبل.
ثم يعود بعد هذا كله إلى سجنه بدار السلطان حينا، وإلى المقر الذي حدد له بدار نصر القشوري أحيانا، ليواصل مقابلاته واتصالاته بالوزراء والقادة والأمراء، يحدثهم ويجادلهم في فنون الحكم والسياسة.
كما يتصل أيضا ويقابل العلماء والصوفية والأدباء، يحدثهم ويعلمهم أسرار الحب، ومنازل القرب، ومقامات التصوف.
جاء في روضة المريدين لابن يزد إنيار: «سئل الحلاج وهو في سجنه عن التصوف، فقال: طوامس وروامس اللاهوتية! فقال السائل: أفصح في هذا المعنى. فقال: لا عبارة عنه. فقلت: لم أظهرته؟ فقال: يعلمه من يعلمه، ويجهله من يجهله. فقلت: أسألك بالله إلا فهمتني، فأنشأ يقول:
لا تعرض بنا فهذا بنان
قد خضبناه بدم العشاق»
وسئل عن الصوفي فقال: «من أشار إليه فهو متصوف، ومن أشار عنه فهو صوفي.»
وقال في مرة أخرى عن الصوفي: «إنه وحداني الذات، لا يقبل أحدا ولا يقبله أحد.»
وقال: «معنى الخلق العظيم، ألا يؤثر فيه جفاء الخلق بعد مطالعة الحق .»
وقال: «إذا استوى الحق على سر عبد، ملك الأسرار، فيعاينها ويخبر عنها.»
وقال: «من أسكرته أنوار التوحيد حجب عن عبادة التجريد.»
وقال: «من خاف من شيء سوى الله، أو رجا سواه، أغلق عليه أبواب كل شيء، وسلط عليه المخافة، وحجب بسبعين حجابا، أيسرها الشك.»
وقال: «لا يجوز لمن يرى غير الله أن يدعي أنه يعرفه.»
8
وزاره الشبلي في سجنه، فوجده جالسا يخط في التراب، فجلس بين يديه حتى ضجر، فرفع الحلاج طرفه إلى السماء، وقال: «إلهي لكل حق حقيقة، ولكل خلق طريقة، ولكل عهد وثيقة، ثم قال: «يا شبلي من أخذه مولاه عن نفسه، ثم أوصله إلى بساط أنسه، كيف تراه؟»
فقال الشبلي: وكيف ذاك؟
فقال الحلاج: يأخذه عن نفسه، ثم يرده على قلبه، فهو عن نفسه مأخوذ، وعلى قلبه مردود، فأخذه عن نفسه تعذيب، ورده إلى قلبه تقريب، طوبى لنفس كانت له طائعة، وشموس الحقيقة في قلوبها طالعة! ثم أنشد:
9
طلعت شمس من أحبك ليلا
فاستضاءت فما لها من غروب
إن شمس النهار تغرب باللي
ل وشمس القلوب ليس تغيب»
واستمرت هذه الحياة ثماني سنوات، استطاع الحلاج خلالها رغم سجنه ورغم مصادرة حريته، أن يوجه الأحداث في بغداد، ويحرك تاريخها.
لقد استطاع طوال هذه السنوات أن يواجه الحرب في كل ميدان، وأن يحمي صديقه نصر القشوري، وأن يبقيه في القصر وفي الحكم أيضا.
كما استطاع أن يدخل في الوزارة دائما صديقه ابن عيسى، وأن يدفع بالقنائيين أحبابه وتلاميذه وحزبه، إلى الصدارة حينا، وإلى كراسي الوزارة أحيانا.
كما استطاع الحلاج، أن يبعد خصمه الأكبر حامد عن الصدارة، وعن الوزارة، رغم صلاته الكبرى بالخليفة، ورغم نفوذه الضخم في الدوائر الأرستقراطية، ولدى الشيعة، وعمال الخراج، ورجال المال.
وبجانب هذا وذاك كان الحزب العسكري يهادن الحلاج ولا يبارزه الخصومة، بل كان في أكثر من موقف يصادقه، ويمد يده إليه. (2) المحاكمة الكبرى
وفي نهاية عام 308ه عاد مؤنس التركي - كبير القواد العسكريين - إلى بغداد، بعد أن أنقذ دولة العباسيين في مصر من الفاطميين في المغرب .
ويصور لنا المستشرق ماسنيون تلك الحقبة الحاسمة من التاريخ، وأثرها في قضية الحلاج وحياته، تلك الحقبة التي انقلبت فيها السياسة العسكرية العامة فجأة، فأنجبت مسائل صغيرة من الصراع السياسي، نتائج خطيرة، بعيدة المدى في التاريخ.
يقول ماسنيون: استفاد حامد من عودة مؤنس كبير القواد إلى بغداد، كما استفاد من الأحداث نفسها.
فبعد أن أنقذ مؤنس مصر من الفاطميين، كان عليه أن يحمي إيران ضد تهديد الديلميين، الذين دخلوا الري بفضل واليها - الفارسي - أخ صعلوك مساعد مؤنس سابقا، وكان دائما في حماية نصر وابن عيسى - أصدقاء الحلاج.
فعرض حامد على مؤنس ضرورة القضاء على أخ صعلوك، ولما كان هذا أميرا سامانيا، فلا بد من مجانبة الوزير الساماني، وهو - البلعمي - وهو شافعي من أنصار الحلاج.
10
ومثل هذا القلب في الاتجاه السياسي يقتضي التشديد في زيادة الضرائب، ولن يوافق الخليفة على هذا، إلا إذا تخلى عن ثقته بابن عيسى ونصر القشوري.
فلكي يقضي حامد على كليهما، ويبلغ غرضه، قرر استئناف النظر في قضية الحلاج صديقهما.
وبفضل مؤازرة كبير القواد مؤنس، وبفضل رجل آخر هو أبو بكر بن مجاهد، شيخ الحفاظ، وله كلمة مسموعة في بغداد، ومن خصوم الحلاج الألداء.
بهؤلاء الأنصار الأقوياء، نجح حامد في مؤامرته، واستطاع إقناع الخليفة بمؤازرته.
11
وصدرت أوامر الخليفة تترى، وبمقتضى هذه الأوامر منع ابن عيسى من النظر في قضية الحلاج، ومنع نصر القشوري من حراسته.
ثم منحت كل هذه الاختصاصات إلى حامد، الخصم الألد الخصام، الذي عاد إلى الوزارة ليستأنف سياسته المالية القاسية، وليعيد إلى المسرح محاكمة الحلاج.
ورددت محافل بغداد أن الحلاج في طريقه إلى المحاكمة الفاصلة.
وثارت جماهير بغداد، وتزعم الثورة صديق الحلاج الأمين ابن عطاء، كبير علماء الحنابلة وزعيمهم.
يقول ماسنيون: «وهتف الثوار ضد الوزير حامد بن العباس في شوارع بغداد، من أجل الاحتجاج ضد سياسته المالية، ومن أجل إنقاذ الحلاج معا.»
وجاءت الفرصة الذهبية لحامد، فمنح من الخليفة تفويضا كاملا بقمع الثورة، وبمحاكمة الحلاج والقضاء عليه.
ودبر أمر الحلاج بليل، وصدرت الأوامر حاسمة بسجن الحلاج سجنا حقيقيا قاسيا، وتكبيله بالأغلال والقيود.
يقول السلمي: سمعت عبد الواحد بن علي يقول: سمعت فارسا البغدادي يقول: لما حبس الحلاج، قيد من كعبه إلى ركبته بثلاثة عشر قيدا، وكان يصلي مع ذلك كل يوم وليلة ألف ركعة.
12
وأعد للقضية شهودها، كما صنعت وثيقة الاتهام فيها، وكانت كما يلي: (1)
مراسلاته السرية مع القرامطة. (2)
اعتقاد أتباعه بألوهيته. (3)
قوله: أنا الحق ...
يقول ماسنيون:
13 «ولعل بغداد كانت في ذلك الحين أكبر عاصمة في العالم المتمدين ... وهناك جرت المحاكمة، على منصة مرتفعة، كما حدث بالنسبة لجان دارك في قضية الحب الإلهي.
جرت في الإطار الفخم الذي يمثله قصر الخليفة العباسي، من سنة 308ه / 921م إلى سنة 309ه / 922م.
وجيء بالحلاج أمام هذه المنصة الفخمة العالية، وفي يديه ورجليه ثلاثة عشر قيدا، وانتشر الجند في كل مكان بالسلاح، وقبض على أنصار الحلاج بالجملة، وابتدأت حملات متتابعة قاسية لإرهاب الجماهير في بغداد.
واحتشد في ساحة الجلسة خصوم الحلاج جميعا، من كل لون ومذهب.» (2-1) قتل ابن عطاء!
وبدأت المحاكمة بأعجب حادث في تاريخ القضاء، بدأت بإعدام زعيم ديني، لم تعقد المحكمة لمحاكمته، ولم يوجه إليه اتهام، ذلك هو زعيم علماء الحنابلة، أبو العباس بن عطاء.
لقد أراد الوزير حامد أن يبث في ساحة القضاء الخوف، وأن يشيع فيها الرعب، وأنه يمنع كلمة الحق بضربة عنيفة، فيها نذير وإرهاب ووعيد، وشاء الله سبحانه أن يكون ابن عطاء هو كبش الفداء.
يقول الحافظ الخطيب البغدادي:
14 «أنبأنا إسماعيل بن أحمد الحيري، أنبأنا أبو عبد الرحمن الشبلي، قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: «كان الوزير حامد بن العباس، حين أحضر الحسين بن منصور، أمره أن يكتب اعتقاده! فكتب اعتقاده، فعرضه الوزير على الفقهاء ببغداد، فأنكروا ذلك.»
15
فقيل للوزير: إن أبا العباس بن عطاء يصوب قوله، فأمر أن يعرض ذلك على أبي العباس بن عطاء فعرض عليه، فقال: هذا اعتقاد صحيح، وأنا أعتقد هذا الاعتقاد، ومن لا يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد.
فأمر الوزير بإحضاره فأحضر، وأدخل عليه، فجلس في صدر المجلس، فغاظ الوزير ذلك.
ثم أخرج ذلك الخط، فقال: هذا خطك؟ فقال: نعم، فقال: تصوب مثل هذا الاعتقاد؟
فقال: ما لك ولهذا؟ عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس، وظلمهم وقتلهم، ما لك وبكلام هؤلاء السادة.
فقال الوزير: فكيه! فضرب فكاه! فقال أبو العباس: اللهم إنك سلطت هذا علي عقوبة لدخولي عليه!
فقال الوزير: خفه يا غلام، فنزع خفه، فقال: دماغه، فما زال يضرب رأسه حتى سال الدم من منخريه.
ثم قال: الحبس، فقيل يتشوش العامة لذلك، فحمل إلى منزله.
فقال أبو العباس: اللهم اقتله أخبث قتلة، واقطع يديه ورجليه! فمات أبو العباس بعد ذلك بسبعة أيام.
وقتل الوزير حامد بن العباس، أفظع قتلة وأوحشها - بعد قتل الحلاج - بعد أن قطعت يداه ورجلاه، وأحرق داره، وكانوا يقولون: أدركته دعوة أبي العباس بن عطاء.»
16 (2-2) شهود القضية
وفي هذا الجو النفسي الرهيب جيء بالشهود، وكان الشاهد الأول هو السمري، وكان في ماضيه من أتباع الحلاج ثم انشق عليه.
يقول صاحب «تاريخ بغداد»:
17
وأحضر حامد السمري صاحب الحلاج، وسأله عن أشياء من أمر الحلاج، وقال له حدثني بما شاهدته منه.
فقال له: إن رأى الوزير أن يعفيني فعل! فأعلمه أنه لا يعفيه، وعاد وسأله عما شاهده، فعاود استعفاءه، وألح عليه في السؤال، فلما تردد القول بينهما قال: أعلم أني إن حدثتك كذبتني، ولم آمن مكروها يلحقني، فوعده أن لا يلحقه مكروه، فقال: كنت معه بفارس، فخرجنا نريد إصطخر في زمن شات، فلما صرنا في بعض الطريق، أعلمته بأني قد اشتهيت خيارا، فقال لي: في هذا المكان! وفي مثل هذا الوقت من الزمان؟ فقلت: هو شيء عرض لي.
ولما كان بعد ساعات، قال لي: أنت على تلك الشهوة؟ فقلت: نعم.
قال: وسرنا إلى سفح جبل ثلج، فأدخل يده فيه، وأخرج إلي منه خيارة خضراء ودفعها إلي!
فقال له حامد: فأكلتها؟ قال: نعم. فقال له: كذبت يا ابن مائة ألف زانية، في مائة ألف زانية، أوجعوا فكيه؟! فأسرع الغلمان إليه، فامتثلوا ما أمرهم به، وهو يصيح : أليس من هذا خفنا؟!
ثم أمر به فأقيم من المجلس، وأقبل حامد يتحدث عن قوم من أصحاب النيرنجات، كانوا يعدون بإخراج التين وما يجري مجراه من الفواكه، فإذا حصل ذلك في يد الإنسان، وأراد أن يأكله صار بعرا.
وهكذا ضرب الشاهد وكذب، كما ضرب الفقيه العالم وكذب من قبل.
وأصبح حامد الغاضب الثائر هو المحكمة كلها، لا يتكلم سواه، ولا يحكم غيره، إنه وحده الذي يملك دماء الناس وأعراضهم وكرامتهم!
وإذا كان السمري لم يؤد الشهادة كما يجب، وكما اتفق من قبل، فإن ابنته ألين عريكة، وقلبها يهفو إلى كل إغراء مادي ... وحامد ملء يديه الآمال والإغراء.
وجيء بابنة السمري.
يقول زنجي - أكبر رواة المحاكمة، وقد حضرها بنفسه وعاش أحداثها:
18 «وحضرت بنت السمري، فسألها حامد عن الحلاج، فذكرت أن أباها السمري حملها إليه، لتخدمه وهو يسكن دار الخليفة، وأنها لما دخلت عليه، وهب لها أشياء كثيرة، عددت أصنافها، منها ريطة خضراء.
وقال لها: قد زوجتك من ابني سليمان، وهو أعز ولدي علي، وهو مقيم بنيسابور.
وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف، أو تنكر منه حالا من الأحوال، وقد أوصيته بك، فمتى جرى شيء تنكريه من جهته، فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إلى السطح وقومي على الرماد واجعلي فطرك عليه، وعلى ملح جريش، واستقبلي بوجهك، واذكري لي ما أنكرتيه منه، فإني أسمع وأرى.
قالت: وكنت ليلة نائمة في السطح، وابنة الحلاج معي في دار السلطان، وهو معنا.
فلما كان في الليل أحسست به وقد غشيني، فانتبهت مذعورة منكرة لما كان منه، فقال: إنما جئتك لأوقظك للصلاة، ولما أصبحنا نزلت إلى الدار ومعي بنته، ونزل هو، فلما صار على الدرجة، بحيث يرانا ونراه، قالت بنته: اسجدي له. فقلت لها: أويسجد أحد لغير الله؟ وسمع كلامي لها، فقال: نعم إله في السماء، وإله في الأرض.
قالت: ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه ، وأخرجها مملوءة مسكا، فدفعه إلي، وفعل هذا مرات، ثم قال لي: اجعلي هذا في طيبك، فإن المرأة إذا حصلت عند الرجل احتاجت إلى الطيب.
قالت: ثم دعاني وهو جالس في بيت البواري، فقال: ارفعي جانب البارية وخذي من تحته ما تريدين، وأومأ إلى زاوية البيت فجئت إليها ورفعت البارية، فوجدت الدنانير تحتها مفروشة ملء البيت، فبهرني ما رأيت من ذلك.»
قال زنجي: «وأقامت هذه المرأة معتقلة في دار حامد إلى أن قتل الحلاج.»
واستطاع الحلاج في بساطة أن يزيف هذه الشهادة، ولم تستطع ابنة السمري أن تقدم دليلا واحدا على صدقها، وهز القضاة رءوسهم، رغم تهديد حامد لهم، وقالوا: لا نصدر حكما بناء على أقوال امرأة، لا تملك دليلا.
وأخذ الوزير حامد يحضر الحلاج كل يوم إلى المحكمة، مكبلا بالقيد، محاطا بالجند، ويبدأ الجدل والحوار، ويحاول حامد أن يجد في كلام الحلاج منفذا أو سقطة - كما يقول ابن كثير - فأعجزه ذلك.
وتتابعت الأيام، وتوالت الشهور، وشاهد يأتي وشاهد يذهب، والحلاج كالجبل الأشم، تتساقط على أقدامه اتهامات المبغضين، ويذوب أمام بيانه وإيمانه جدل المجادلين؛ بل لقد استطاع الحلاج في محنته أن يكتسب كل يوم أنصارا أقوياء، وعلماء أجلاء. (2-3) بطولة ابن عفيف
وقصة محمد بن عفيف مع الحلاج تقدم لنا صورة مشرقة من انتصارات الحلاج الروحية العجيبة؛ فقد أرسله إليه الخليفة في سجنه ليجادله، وكان ابن عفيف كما يقول - ماسنيون - أشعريا متطرفا، وعالما لا يثبت لجدله أحد من الناس.
يقول ابن عفيف: إنه دخل على الحلاج فرأى نورا يتلألأ على جبينه، ووجد اطمئنانا يشيع الأمن والسلام في كل شيء يحيط به، حتى لقد خيل إليه أن غرفة الحلاج في سجنه قطعة من الجنة. ورأى عالما على كلامه إشعاع ليس من علم الأرض، فقبل يد الحلاج ورأسه، وهتف: لم أر في حياتي عالما ربانيا سوى هذا الشهيد، وأبى أن يفارق حجرة السجن، وطلب أن يبقى معه؛ ليقاسمه ما يلقى، وعجزت سياط الجلادين عن إقناعه.
يقول ابن كثير: «فحمل بالقوة إلى حجرة أخرى، وعلق من قدميه إلى السقف.»
وانصب على ابن عفيف جانب ضخم من الهول الذي ذاقه الحلاج، وكان يقول: حسبي أن أشارك عبدا ربانيا في عذابه، وظل معه في سجنه يقاسمه الألم والعذاب، حتى يوم مصرعه الرهيب. (2-4) عجائب الحلاج في سجنه
وبينما هذه المهزلة الرسمية تجري، وبينما قلب بغداد يخفق لها، وأذن العراق تستمع إليها.
أخذت أحداث أخرى تجري في سجن الحلاج، أحداث شقت طريقها إلى قلب بغداد، فألهته حتى عن المحاكمة، ونفذت إلى أذن العراق، فأطربته وأذهلته، وطارت باسم الحلاج في الخافقين.
تلك الأحداث التي ألقى الناس إليها بأسماعهم هي عجائب الحلاج وسحره إن شئت، وكراماته وآياته إن أحببت.
آيات سجلها التاريخ، ومن العجيب حقا أنها سجلت بأقلام خصومه، لقد أذهلتهم حتى لم يستطيعوا حجبها أو محوها من ذاكرة التاريخ، كما استطاعوا أن يحجبوا وأن يمحوا الكثير من سيرة الحلاج وتراثه وأيامه.
يقول أحمد بن فاتك:
19 «لما حبس الحلاج ببغداد كنت معه، فأول ليلة جاء السجان وقت العتمة، فقيده ووضع في عنقه سلسلة، وأدخله بيتا ضيقا، فقال له الحسين: لم فعلت بي هذا؟ قال: كذا أمرت. فقال له الحلاج: الآن آمنت مني؟ قال: نعم، فتحرك الحلاج فتناثر الحديد عنه كالعجين، وأشار بيده إلى الحائط فانفتح فيه باب، فرأى السجان فضاء واسعا، فعجب من ذلك، ثم مد الشيخ يده، وقال: الآن افعل ما أمرت به، فأعاده كما فعل أول مرة، فلما أصبح أخبر السجان الخليفة المقتدر بذلك فتعجب، وتعجب الناس.»
ويقول محمد بن عفيف:
20 «لما رجعت من مكة ودخلت بغداد، أردت أن ألقى الحسين بن منصور، وكان محبوسا قد منع الناس عنه، فاستعنت معارفي وكلموا السجان، وأدخلني عليه، فدخلت السجن والسجان معي، فرأيت دارا حسنة، ورأيت في الدار مجلسا حسنا، وفرشا حسنا، وشابا قائما كالخادم، فقلت له: أين الشيخ؟ فقال: مشغول بشغل. فقلت: ما يفعل الشيخ إذا كان جالسا ها هنا؟ قال: ترى هذا الباب، هو إلى حبس اللصوص والعيارين، يدخل عليهم ويعظهم فيتوبون. فقلت: من أين طعامه؟ فقال: تحضره كل يوم مائدة عليها ألوان الطعام، فينظر إليها ساعة، ثم ينقرها بإصبعه، فترفع ولا يأكل، فإذا الحلاج قد خرج إلينا، فرأيته حسن الوجه، لطيف الهيئة، عليه الهيبة والوقار.
فإذا هو سلم علي وقال: من أين الفتى؟ قلت: من شيراز، فسألني عن مشايخها فأخبرته، وسألني عن مشايخ بغداد فأخبرته، فقال: قل لأبي العباس احتفظ بتلك الرقاع،
21
ثم قال: كيف دخلت؟ فأخبرته ... فدخل أمير الجيش يرتعد، فقال له: ما لك؟ قال: سعي بي إلى أمير المؤمنين بأني أخذت رشوة، وخليت أميرا من الأمراء، وجعلت مكانه رجلا من العامة، وها أنا ذا أحمل لتضرب عنقي! فقال: امض لا بأس عليك، فذهب الرجل، وقام الشيخ إلى صحن الدار، وجثا على ركبتيه، ورفع يديه، وأشار بمسبحته إلى السماء، وقال: يا رب، ثم طأطأ رأسه حتى وضع خده على الأرض، وبكى حتى ابتلت الأرض من دموعه، وصار كالمغشي عليه.
وبينما هو على تلك الحال، دخل أمير الجيش، فقال: عفي عني. قال ابن خفيف: وكان الحلاج جالسا في طرف الصفة، وفي آخر الصفة منشفة، وكان طول الصفة خمس أذرع، فمد يده وأخذ المنشفة، فلا أدري أطالت يده، أم جاء المنديل إليه، فمسح وجهه بها، فقلت: هذا من ذاك.»
ويقول زنجي - أكبر رواة محاكمة الحلاج، وصديق الوزير حامد:
22 «كنت يوما وأبي بين يدي حامد، ثم نهض من مجلسه وخرجنا إلى دار العامة، وجلسنا في رواقها، وحضر هارون بن عمران الجهبذ فجلس بين يدي أبي ولم يحادثه، فهو في ذاك إذ جاء غلام حامد الذي كان موكلا بالحلاج، وأومأ إلى هارون بن عمران أن اخرج إليه، فنهض من المجلس مسرعا، ونحن لا ندري ما السبب. فغاب عنا قليلا، ثم عاد وهو متغير اللون جدا، فأنكر أبي ما رآه منه، وسأله عنه، فقال: دعاني الغلام الموكل بالحلاج، فخرجت إليه، فأعلمني أنه دخل إليه ومعه الطبق الذي رسم أن يقدمه إليه في كل يوم، فوجده ملأ البيت من سقفه إلى أرضه، وملأ جوانبه، فهاله ما رأى من ذلك، ورمى بالطبق من يده، وخرج من البيت مسرعا، وإن الغلام ارتعد وانتفض وحم! وبقي هارون يتعجب من ذلك.»
ويقول الخطيب البغدادي:
23 «وبلغ حامدا من بعض أصحاب الحلاج أنه ذكر أنه دخل عليه إلى الموضع الذي هو فيه، فخاطبه بما أراده، فأنكر ذلك كل الإنكار.
وتقدم بمسألة الحجاب والبوابين، وقد كان رسم أن لا يدخل إليه أحد، وضرب بعض البوابين، فحلفوا بالأيمان المغلظة أنهم ما أدخلوا أحدا من أصحاب الحلاج إليه، ولا اجتاز بهم، وتقدم يتفقد السطوح، وجوانب الحيطان، فتفقدوا ذلك أجمع، ولم يوجد له أثر ولا خلل. فسأل الحلاج عن دخول من دخل إليه، فقال: من القدرة نزل، ومن الموضع الذي نزل إلي منه خرج!» (2-5) اتجاهات هادفة في قضية الحلاج
رأى حامد أن قضية الحلاج قد تحولت إلى مظاهرة سياسية ودينية كبرى، مظاهرة أصبح بطلها الوحيد هو الحلاج، وأن المحاكمة قد تحولت أو كادت إلى ما يشبه التكريم الرائع لبطل ولي، جنت الجماهير بحبه وتقديره، وسبح خيال هذه الجماهير يجري مبهور الأنفاس، خلف بطولته وكراماته.
وامتد سحر الحلاج إلى أكبر رأس بين الحنابلة - ابن عطاء - وإلى أرفع رأس بين المعتزلة - ابن عفيف - فلم يكتفوا بتأييد الحلاج، بل قدموا أرواحهم فداء له.
وإذن فيجب أن يحدث انقلاب سريع هادف في سير القضية، فلم تعد التهم السابقة تكفي لإدانة الحلاج، وتحطيمه وتشويه مكانته وقداسته.
ودبر الأمر بليل، ومن ثم قامت حملات بوليسية ضخمة للإرهاب العام، حملات تفاجئ كل بيت من بيوت أنصار الحلاج وأعوانه، بدعوى البحث عن كتبه وآثاره.
ودبت حياة جديدة في القضية، وتهيأ المسرح للمرحلة الحاسمة.
يقول الخطيب البغدادي:
24 «جد حامد في طلب أصحاب الحلاج، وأذكى العيون عليهم وفتش منازلهم، وحصل في يده منهم: حيدرة، والسمري، ومحمد بن علي القنائي، والمعروف بأبي المغيث الهاشمي. واستتر المعروف بابن حماد وكبس منزله، وأخذت منه دفاتر كثيرة، وكذلك من منزل محمد بن علي القنائي، في ورق صيني، وبعضها مكتوب بماء الذهب، مبطنة بالديباج والحرير، مجلدة بالأديم الجيد.»
ثم يقول: «وكان في الكتب الموجودة عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين إلى النواحي، وتوصيتهم بما يدعون الناس إليه وما يأمرهم به، من نقلهم من حال إلى حال، ومرتبة إلى مرتبة ، حتى يبلغوا الغاية القصوى، وأن يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى استجابتهم وانقيادهم، وجوابات لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة، لا يعرفها إلا من كتبها ومن كتبت إليه، ومدارج فيها ما يجري هذا المجرى، وفي بعضها سورة فيها اسم الله تعالى، مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب «علي عليه السلام»، كتابة لا يقف عليها إلا من تأملها.»
وإذن فقد أخذت الاتهامات الجديدة تتجه اتجاها سياسيا غامضا.
والغموض هنا عن قصد، وعن عمد، حتى يسبح الخيال ما شاء في الاتهام، ويوجهه إلى كل هدف وأفق.
فالحلاج في هذا الاتهام الجديد له أصحاب وأتباع، أنفذهم إلى كل ناحية من أنحاء العالم الإسلامي، ودربهم وزودهم بما يدعون الناس إليه!
والدعوة الحلاجية منظمة تنظيما سياسيا وروحيا بارعا، ومن أدلة هذا التنظيم الروحي أن الحلاج يباشر قلوب أتباعه بالتربية والإلهام، ثم ينقلهم في الطريق الروحي الصاعد من حال إلى أخرى، ومن مرتبة إلى مرتبة، حتى يبلغوا الغاية القصوى من الكمال، أو من الفناء، أو من الاتحاد والحلول!
ومن أدلة التنظيم السياسي الهادف أن الحلاج قد أمر أتباعه أن يستعملوا الحكمة في دعوتهم السياسية فيخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم.
وخطابات هؤلاء الدعاة مرموزة، لا يعرفها إلا من كتبها أو من كتبت إليه.
وكلمة علي - عليه السلام - هنا تصلح لاتهام الحلاج بمناصرة الشيعة، أو بتأييد القرامطة، أو بالتهمتين معا.
أما الدليل الحاسم الناطق على هذا الاتهام العريض فلا حاجة إليه؛ لأن الخطابات قد كتبت بالرمز، والرمز لا يفهمه ولا يفقهه إلا من كتبه أو من أرسل إليه، وهذا أعجب اتهام عرفه التاريخ!
فإذا استقام هذا الاتهام العجيب في نظر حامد وأعوانه فليمض الاتهام إلى وجهة أخرى ... إلى النيل من قداسة الحلاج الدينية، ومكانته الروحية.
يقول الخطيب البغدادي وهو يواصل الحديث عن القضية:
25 «وحضرت مجلس حامد - الرواية على لسان زنجي وهو أحد شهود المحاكمة - وقد أحضر سفط خياذر لطيف، حمل من دار محمد بن علي القنائي - أكبر ظني - فتقدم بفتحه ففتح، فإذا فيه قدر وقوارير فيها شيء يشبه لون الزئبق، وكسر خبز جافة، وكان السمري حاضرا جالسا بالقرب من أبي، فعجب أبي من تلك القدر، وتصييرها في سفط مختوم، ومن تلك القوارير - وعندنا أنها أدهان - ومن كسر الخبز.
وسأل حامد السمري عن ذلك، فدافعه عن الجواب، واستعفاه منه، وألح عليه في السؤال، فعرفه أن تلك القدر رجيع الحلاج! وأنه يستشفي به، وأن الذي في القوارير بوله، فعرف حامد مقاله، فعجب منه من كان في المجلس!
واتصل القول في الطعن على الحلاج ... وأقبل أبي يعيد ذكر تلك الكسر ويتعجب منها، ومن احتفاظهم بها، حتى غاظ السمري ذلك، فقال له: هو ذا، أسمع ما تقول، وأرى تعجبك من هذه الكسر، وهي بين يديك، فكل منها ما شئت، ثم انظر كيف يكون قلبك للحلاج بعد أكلك ما تأكله منها، فتهيب أبي أن يأكلها، وتخوف أن يكون فيها سم.
وأحضر حامد الحلاج وسأله عما كان في السفط، وعن احتفاظ أصحابه برجيعه وبوله! فذكر أنه شيء ما علم به ولا عرفه.» (2-6) الكلمة القاتلة!
وعجزت هذه الاتهامات أيضا عن تحقيق الغرض منها، وشعر القضاة رغم التعليمات الصادرة إليهم بعجزهم عن إصدار حكم الإدانة القاتل؛ فعيون العلماء والفقهاء والصوفية ترقبهم، وصيحات الجماهير الغاضبة تخترق آذانهم، وفي أعماق قلوبهم يضج ضميرهم ويتمرد!
والوزير حامد وعصبته من وراء هذا كله، يمزقهم الغضب المرعد المجنون، ويقتلهم الحقد الأسود المرير، وقصر الخليفة يرقب المأساة، وقد تمزق أحزابا وشيعا.
فالخليفة ومعه كبير قواده وجمهرة وزرائه، يساندون حامد وعصبته من وراء ستار، بقوة وإصرار، وأم الخليفة، وحاجبه نصر القشوري، والوزير ابن عيسى يساندون الحلاج جهرة، ويرفعون الصوت عاليا بالدفاع عنه.
وكادت القضية أن تحدث انهيارا في الحكم العباسي، وتحفز الحنابلة والصوفية والشيعة وأنصار الحلاج للتمرد والانقضاض على الخلافة العاجزة الممزقة.
وصدرت الأوامر حاسمة من القصر، إلى حامد وإلى القضاة، وانتاب جو المحكمة قلق وتوتر ، وحوم حولها تهديد ووعيد، وتمشى في ساحتها ريح عاصف، يوشك أن يكون برقا ورعدا.
وانقلب جو المحكمة إلى ما يشبه جو محاكم التفتيش التاريخية، ويواصل الخطيب البغدادي روايته على لسان - زنجي - فيقول:
26 «وكان يخرج إلى حامد في كل يوم دفاتر مما حمل من دور أصحاب الحلاج، ويجعل بين يديه، فيدفعها إلى أبي، ويتقدم إليه بأن يقرأها عليه، فكان يفعل ذلك دائما.
فقرأ عليه في بعض الأيام من كتب الحلاج، والقاضي أبو عمر حاضر، والقاضي أبو الحسين بن الأشناني، كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه، أفرد في داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسة، ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه.
فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت الحرام، فإذا انقضى ذلك، وقضى من المناسك ما يقضي بمكة مثله، جمع ثلاثين يتيما وعمل لهم ما يمكنه من الطعام، وأحضرهم إلى ذلك البيت، وقدم إليهم الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم وغسل أيديهم، وكسا كل واحد منهم قميصا، ودفع إليه سبع دراهم أو ثلاثة - الشك مني - فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج!
فلما قرأ أبي هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلاج، وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري، فقال له أبو عمر: كذبت يا حلال الدم ... قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة، وليس فيه شيء مما ذكرته؟!
فلما قال أبو عمر يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا، فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فأقبل حامد يطالبه بالكتابة بما قاله، وهو يدافع ويتشاغل إلى أن مد حامد الدواة من بين يديه إلى أبي عمر، ودعا بدرج فدفعه إليه، وألح عليه حامد بالمطالبة بالكتابة إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة! فكتب بإحلال دمه، وكتب بعض من حضر المجلس.
ولما تبين الحلاج الصورة قال: ظهري حمي، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعد وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين، فالله الله في دمي!
ولم يزل يردد هذا القول، والقوم يكتبون خطوطهم، إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه، ونهضوا عن المجلس، ورد الحلاج إلى موضعه الذي كان فيه.
ورفع حامد ذلك المحضر إلى والدي، وتقدم إليه أن يكتب إلى المقتدر بالله - الخليفة - بخبر المجلس، وما جرى فيه، وينفذ الجواب عنها، فكتب الرقعتين، وأنفذ الفتوى إلى المقتدر بالله.»
وبذلك تمت مهزلة دامية من أعجب مهازل التاريخ، بل من أبشع مآسيه!
مهزلة اشترك فيها الخليفة، وكبير قواده مؤنس، وكبير وزرائه حامد، ومن ورائهم حشد ضخم من المنافقين والمرتشين والمحتكرين، ومحترفي السياسة المنتفعين، الذين يسبحون مع التيار المنتصر!
اشتركوا جميعا في قتل سافر، وليخنقوا صوت الحق، الصوت الرهيب الذي ارتفع في أفقهم السياسي، ليهدد مكانتهم ونفوذهم واستقلالهم.
مهزلة سياسية لبست ثوب الدين، وعجز حتى هذا الثوب عن أن يستر المهزلة، فجاء الثوب ممزقا مهلهلا.
يقول الإصطخري: ولم يعرف للحسن البصري كتاب باسم الإخلاص، ومع هذا وضعت الرواية على لسان الحلاج اسم هذا الكتاب، ووضعت على لسان القاضي أنه قرأه بمكة!
ثم عجزت الرواية المصنوعة نفسها عن أن تلبس الحكم ثوبا شرعيا، فالقاضي يقول وهو غاضب كلمة لا يقصد معناها، ولا يريد حقيقتها، والوزير يتلقف الكلمة في إصرار عجيب، ثم يرغم القاضي إرغاما عليها، وعلى توقيع الحكم باسمها.
يقول المستشرق ماسنيون:
27 «هنالك استطاع حامد أن يتآمر مع القاضي المالكي أبي عمر الحماوي - وهو معروف بتملقه للقائمين بالأمر - على الحكم الذي سيصدر بإعدام الحلاج وأسبابه! وذلك بالاحتجاج بمذهب الحلاج بالاستغناء عن الحج، ليشبه أمره بأمر القرامطة الثائرين، الذين أرادوا هدم الكعبة!
ومن عجب أن الحلاج حج ثلاث مرات، وقد رفض القاضي الحنفي ابن بهلول الموافقة على حكم ابن عمر، ولكن مساعده - الأشناني - قبل مساعدة ابن عمر في هذا الاتجاه.
ولم يحضر الجلسة أحد من الشافعية، وقد وجد عبد الله بن مكرم - رئيس الشهود المحترفين - عددا وافرا منهم وافقوا على الحكم، بلغ فيما يقال 84، وذلك بإضافة فقهاء وقراء إلى أعضاء المحكمة، وكان جزاء ابن مكرم ظفره بمنصب القضاء بطريقة شرفية، أي لا يمارس القضاء فعلا.» (2-7) الحلاج ينذر الخليفة
أدرك الحلاج أن المؤامرة قد بلغت نهايتها، وأنه في طريقه إلى الاستشهاد، الاستشهاد الذي طالما حن إليه وتنبأ به.
كما أدرك الهدف من هذا الحشد من الاتهامات الدينية، التي تصوره دجالا مشعوذا تارة، وملحدا مارقا تارة أخرى، إنها تستهدف أول ما تستهدف أن تزلزل في قلوب الجماهير تلك القدسية الدينية التي تنطوي عليها قلوبهم للحلاج، وأن تظهر الخلافة وأنصارها بمظهر الدفاع عن العقيدة الإسلامية وحمايتها.
وبين تهاويل هذه الاتهامات وضجيجها تختنق وتختفي صيحات الحلاج في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وتذوب وتتوارى حملاته على الفساد والمفسدين، والمنحلين والمحتكرين.
فإذا انطفأ ذلك البريق الساحر، الذي يترقرق حول الحلاج، وتمزقت تلك الهالة المضيئة التي تحيط بكلماته وحياته، وتقطعت الخيوط الروحية التي تربطه بوجدان الشعب وضميره، وحيل بين البطل وردائه، والولي وشعاعه؛ حينئذ تستطيع الخلافة أن تضرب ضربتها الانتقامية الكبرى، وأن تخضب وجه الأرض، بدم مهدر ضائع، لا يثور من أجله محب، ولا يغضب له منتفم!
أدرك الحلاج هذا كله وقدره، بل وصوره لنا في مشاهد حية، تكاد لصدقها تكون نبوءة مبصرة.
لم يجزع الحلاج ولم يضطرب، لقد أدرك بذوقه وبوجدانه - منذ أمد بعيد - أنه في طريقه إلى الاستشهاد، ولكنه اعتزم أن يمضي قدما في منهجه ورسالته، وأن يقول كلماته الأخيرة للخليفة نفسه.
وطلب الحلاج مقابلة الخليفة، والخليفة دائما كان يخاف الحلاج ويرهبه، وكان يحرص الحرص كله على أن يبدو أمام الجماهير بريئا من عذابه ودمه.
وأذن الخليفة بمقابلة الحلاج، كما أذن أيضا للوزير حامد بأن يشهد هذه المقابلة، بناء على طلبه وإلحاحه.
وحمل الحلاج مقيدا إلى الخليفة، فدخل مرفوع الرأس، مشرق الوجه، وألقى بتحية الإسلام، ثم أخذ يحذر الخليفة وينذره، ويطالبه بإصلاح الأداة الحكومية؛ حتى يرضى الله عنه، وبإبعاد المفسدين في الأرض، وبتطبيق الشريعة روحا ونصا؛ حتى تتحقق رسالة القرآن.
ثم انتقل الحلاج بالحديث إلى قضيته، وموقف الخليفة منها ، فحذره الغرور بالخلافة، والاعتزاز بالملك؛ لأن من اعتز بغير الله ذل، أفهمه أنه آلة يحركها القدر الإلهي ... ثم قال :
28 «من أطاع الله أطاعه كل شيء، ثم حاكم ومحكوم عليه، وواسطة هي السبب في إيصال الحكم بالمحكوم عليه، فإن كان ثم جور أو عدل نسب إلى الواسطة في الظاهر، والرب يتحاشى عن أن يوصف بذلك.
وإنما أنت واسطة، تنفذ أحكام الرب ومشيئته، فيمن يشاء من عباده، بما شاء، كما شاء.
وأنا عبد من عبيد الله، مستسلم لقضاء الله، صابر لحكم الله، راض بقضاء الله، فافعل ما حركت له، واعمل بما استعملت فيه، وكن بعد ذلك شديد الحذر، فيما تأتي به وتذر، وانظر في عواقب أمرك، وتأمل ما تأتيه بثاقب فهمك، وصافي فكرك، فإن رأيت الصلاح فيما قام في نفسك فأمض حكم عدلك.
وإني لا أعترض عليك ولا ألومك في فعلك، ولكني أقول كما قال الخليل:
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .»
ثم خرج الحلاج كما دخل، مرفوع الرأس، مشرق الوجه، مطمئن القلب، لقد أدى واجبه كاملا، وإنه لفي طريقه إلى القمة، القمة الشاهقة، قمة الاستشهاد في رداء من البطولة السامقة، بل في إشراقة متلألئة من المحبة المضحية. (2-8) الخليفة يعتمد الحكم
وخيم على القصر صمت مطبق، حزين مرتعد، لقد جاءت الساعة الحاسمة، وقلب الخليفة الذي طالما انتظر هذه اللحظة وتمناها، إنه ليخفق اليوم خفقات أقرب إلى الرعب منها إلى البهجة والنصر.
إن بغداد لترتعد غضبا لوليها، وإن رعدة الغضب لتوشك أن تنفجر، وإن في انفجارها لما يرعب الخليفة، ويمزق وجدانه، ويحرق قلبه.
يقول ماسنيون: «وأصيب الخليفة بالحمى في اليومين التاليين للحكم على الحلاج، وفي هذا الجو العاصف بذل نصر أمير البلاط ووالدة الخليفة سعيهما لدى الخليفة، فبدل حكم الإعدام.»
ويقول الخطيب البغدادي مصورا لهذه الفترة الحرجة
29 - على لسان زنجي: «وأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد، ولحقه ندم على ما كتب به، وتخوف أن يكون قد وقع غير موقعه. ولم يجد بدا من نصرة ما عمله، فكتب بخط والدي رقعة إلى المقتدر بالله في اليوم الثالث، يقتضي فيها ما تضمنته الأولى، ويقول: إن ما جرى في المجلس قد شاع وانتشر، ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به، ولم يختلف عليه اثنان، ويستأذن في ذلك، وأنفذ الرقعة إلى مفلح، وسأله إيصالها، وتنجيز الجواب عنها، وإنفاذه إليه.»
ويقول ماسنيون:
30 «هنالك لوح حامد أمام الخليفة بشبح ثورة اجتماعية حلاجية، وراح يسعى للاتفاق مع كبير القواد مؤنس على الخلاص من الحلاج وأصدقائه.»
وتدخل مؤنس بنفوذه العسكري الكبير لدى الخليفة، وتحت إلحاحه المتواصل وقع الخليفة في تردد أمر الإعدام، ملقيا بتبعة دمه على القضاء.
يقول البغدادي:
31 «فعاد الجواب من المقتدر بالله - إلى حامد - بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله، وأباحوا دمه، فلتحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، وليتقدم إليه بتسليمه وضربه ألف سوط، فإن تلف تحت الضرب، وإلا ضرب عنقه.
فسر حامد بهذا الجواب، وزال ما كان عليه من الاضطراب، وأحضر محمد بن عبد الصمد، وأقرأه إياه، وتقدم إليه بتسلم الحلاج، فامتنع من ذلك، وذكر أنه يتخوف أن ينتزع منه، فأعلمه حامد أنه سيبعث معه غلمانه، حتى يصيروا به إلى مجلس الشرطة في الجانب الغربي.
ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه، وقوم على بغال مؤكفة، يجرون مجرى الساسة - ويلبس الحلاج مثلهم ويدخل في غمارهم - حتى لا ينتزع، وأوصاه بأن يضربه ألف سوط، فإن تلف حز رأسه واحتفظ به، وأحرق جثته، وقال له حامد: إن قال لك أجري لك الفرات ذهبا وفضة، فلا تقبل منه، ولا ترفع الضرب عنه.
فلما كان بعد عشاء الآخرة، وافى محمد بن عبد الصمد إلى حامد، ومعه رجاله والبغال المؤكفة، فتقدم إلى غلمانه بالركوب معه، حتى يصل إلى مجلس الشرطة، وتقدم إلى الغلام الموكل به بإخراجه من الموضع الذي هو فيه، وتسليمه إلى أصحاب محمد بن عبد الصمد.
وأخرج الحلاج وأركب بعض تلك البغال، واختلط بجملة الساسة، وركب غلمان حامد معه حتى أوصلوه إلى الجسر ثم انصرفوا، وبات هناك محمد بن عبد الصمد ورجاله.» (2-9) ليلة المصرع!
عن إبراهيم بن شيبان قال:
32 «دخلت على ابن سريج القاضي يوم أفتوا في قتل الحلاج، فقلت: يا أبا العباس، ما تقول في فتوى هؤلاء في قتل هذا الرجل؟ قال: لعلهم نسوا قول الله تعالى:
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله .»
ويقول الواسطي:
33 «قلت لابن سريج: ما تقول في الحلاج؟ قال: أما أنا أراه حافظا للقرآن، عالما به، ماهرا في الفقه، عالما بالحديث والأخبار والسنة، صائما الدهر، قائما الليل يعظ ويبكي.»
وهكذا كان الحلاج، حتى في ليلة الهول، ليلة المصرع، لقد أعرض عن الدوي الذي أحدثه النبأ العظيم، وأقبل على ربه يناجيه بمواجيد قلبه، وألحان حبه.
يقول ابنه أحمد:
34 «فلما كانت الليلة التي أخرج في صبيحتها والدي من الحبس - للقتل - قام فصلى ركعتين، فلما فرغ من صلاته لم يزل يقول: مكر، مكر، إلى أن مضى من الليل أكثره، ثم سكت طويلا، ثم قال: حق، حق، ثم قام قائما وتغطى بإزار، وائتزر بمئزر، ومد يديه نحو القبلة، وأخذ في المناجاة.
وكان خادمه أحمد بن فاتك حاضرا، فحفظنا بعضها، فكان من مناجاته: نحن بشواهدك نلوذ، وبسنا عزتك نستضيء، لتبدي ما شئت من شأنك ومشيئتك، وأنت الذي في السماء إله، وفي الأرض إله.
يا مدهر الدهور، ومصور الصور، يا من ذلت لك الجواهر، وسجدت لك الأعراض، وانعقدت بأمره الأجسام، وتصورت عنده الأحكام.
يا من تجلى لما شاء، كيف شاء، مثل التجلي في المشيئة، لأحسن صورة، والصورة هي الروح الناطقة، التي أفردته بالعلم والبيان والقدرة.
ثم أوعزت إلى شاهدك لما أردت بدايتي، وأظهرتني، عند عقيب كراتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا في معارج إلى عروش أزلياتي، عند القول من برياتي.
إني أحتضر، وأقتل، وأصلب، وأحترق، وأحمل على السافيات.
35
ثم أنشأ يقول:
أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها
فيما وراء الحيث أو في شاهد القدم
أنعى إليك قلوبا طال ما هطلت
سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعى إليك لسان الحق مذ زمن
أودى وتذكاره في الوهم كالعدم
أنعى إليك بيانا تستكين له
أقوال كل فصيح مقول فهم
أنعى إليك إشارات العقول معا
لم يبق منهن إلا دارس الرمم
أنعى وحبك أخلاقا لطائفة
كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فلا عين ولا أثر
مضي عاد وفقدان الألى إرم
وخلفوا معشرا يحذون لبستهم
أعمى من البهم بل أعمى من النعم»
وعن إبراهيم بن فاتك قال:
36 «دخلت على الحلاج في الليلة الأخيرة وهو في الصلاة، مبتدئا بقراءة سورة البقرة، فصلى ركعات حتى غلبني النوم، فلما انتبهت سمعته يقرأ سورة - حم عسق - فعلمت أنه يريد الختم، فختم القرآن في ركعة واحدة، ثم قرأ في الثانية ما قرأ، ثم ضحك إلي وقال: ألا ترى أني أصلي لرضائه، من ظن أنه يرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمنا!»
ويقول الرزاز:
37 «كان أخي خادما للحسين بن منصور، فسمعته يقول: لما كانت الليلة التي وعد من الغد بقتله، قلت: يا سيدي أوصني، فقال لي: عليك بنفسك، إن لم تشغلها شغلتك.
ثم أنشأ يقول:
عجبت منك ومني
يا منية المتمني
أدنيتني منك حتى
ظننت أنك أني
وغبت في الوجد حتى
أفنيتني بك عني
ثم أخذ يترنم ويرقص، وهو في حالة من النشوة العارمة، والوجد العنيف، جعلت ابن خفيف يعتقد أن جدران سجنه كانت أيضا تترنم بقوله:
لي حبيب حبه وسط الحشا
لو يشا يمشي على خدي مشى
روحه روحي، وروحي روحه
إن يشا شئت، وإن شئت يشا» (2-10) مصرع الشهيد
وجاء يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمائة، فشهدت بغداد أكبر حشد عرفه تاريخها!
اجتمع هذا الحشد العظيم على ضفاف دجلة، راجف القلب، دامع العين، كظيم الغيظ، وتركزت نظراته على الحلاج، الذي وقف في أغلاله وقيوده، مشرق الوجه، عالي الرأس، شامخا جليلا، وقد أحاطت به صفوف الجند، وطوقته زبانية العذاب، وارتفعت إلى السماء قوائم خشبية غليظة جللت بالسواد، هي الآلة التي أعدت لجلده وعذابه وصلبه.
قال الياقوتي: «سمعت الحلاج عندما تقدم للصلب يقول: يا معين الفناء علي أعني على الفناء.»
ويقول القاضي أبو العلاء الواسطي: «لما جيء بالحسين بن منصور الحلاج ليقتل، أخذ يتبختر في قيده، وهو ينشد:
طلبت المستقر بكل أرض
فلم أر لي بأرض مستقرا
فنلت من الزمان ونال مني
وكان مناله حلوا ومرا
وعن إبراهيم بن فاتك قال:
38 «لما أتي بالحسين بن منصور ليصلب، رأى الخشبة والمسامير، فضحك كثيرا حتى دمعت عيناه، ثم التفت إلى القوم، فرأى الشبلي بينهم، فقال له: يا أبا بكر، هل معك سجادتك؟ فقال: بلى يا شيخ، قال: افرشها لي، ففرشها، فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين، وكنت قريبا منه، فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، ثم قوله تعالى:
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع
الآية، وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب، ثم قوله تعالى:
كل نفس ذائقة الموت
الآية، فلما سلم ذكر أشياء لم أحفظها، وكان مما حفظته قوله:
اللهم إنك المتجلي
39
عن كل جهة، المتخلي عن كل جهة، بحق قدمك على حدثي، وحق حدثي تحت ملابس قدمك، أن ترزقني شكر هذه النعمة، التي أنعمت بها علي، حيث غيبت أغياري عما كشفت لي من مطالع وجهك، وحرمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك.
هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي! تعصبا لدينك، وتقربا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم، لما ابتليت بما ابتليت، فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد!
ثم سكت وناجى سرا، فتقدم أبو الحارث السياف، فلطمه لطمة هشمت أنفه، وسال الدم على شيبه!
فصاح الشبلي ومزق ثوبه، وغشي على أبي الحسن الواسطي، وعلى جماعة من الصوفية المشهورين، وكادت الفتنة تهيج، ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا!
ثم تقدم صاحب الشرطة، فشده إلى آلة الصلب، ثم أمر الجلاد بأن يضربه ألف سوط، فأخذ يضربه وهو صامت لا يتأوه، ولا يضطرب، ولا يستعفي، وإنما يقول: أحد أحد، حتى بلغ ستمائة سوط، فقال لصاحب الشرطة: ادن مني فإن عندي نصيحة تعدل عند الخليفة فتح قسطنطينية، فقال له: قد قيل لي عنك أنك تقول هذا وأمثاله، وليس لي أن أرفع الضرب عنك، فسكت حتى ضرب ألف سوط!
فلما أتم الجلاد ما كلف به، أخذ الحلاج يتواجد ويتبختر في مشيته، وفي قدميه ثلاثة عشر قيدا، ثم راح وهو في ثمل روحي عميق ينشد:
نديمي غير منسوب
إلى شيء من الحيف
دعاني ثم حياني
فعل الضيف بالضيف
فلما دارت الكأس
دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح
مع النثرين
40
في الصيف
41
ثم قال:
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد .»
بتر يداه
ثم تقدم الجلاد مشهرا سيفه، ومن حوله حملة الرماح والدروع، فقطع يده اليمنى، ثم يده اليسرى، ولم يجزع الحلاج ولم يتأوه، ولم تفارق الابتسامة شفتيه، ولم يفتر لسانه عن ذكر الله ومناجاته!
لقد اعتصم الحلاج بشيء أعظم من كل ما يدب على وجه الأرض، من عدوان وبغي، اعتصم بإيمانه، ولاذ بحبه، ولجأ إلى ربه، فغاب عن نفسه، وعن حسه، سما إلى الأفق الأعلى، فعاش في نشوة المشاهدة، ونعيم القرب، فأنساه ما يرى وما يتذوق هول ما يلقى من آلام وعذاب!
ولما أخذ وجهه في الاصفرار لكثرة ما نزف من دمه، شال بذراعه على وجهه
42
فخضبه بالدم حتى يخفي اصفراره، وقال مبتسما: ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم!
ثم أنشد مترنما:
وحرمة الود الذي لم يكن
يطمع في إفساده الدهر
ما نالني عند هجوم البلا
بأس ولا مسني الضر
ما قد لي عضو ولا مفصل
إلا وفيه لكم ذكر
43
وتطاير هذا النشيد الحار المؤمن إلى الجماهير المحتشدة، فارتفع الزئير المرعد من أفواه الرجال، وأغمي على كثير من النساء، وماجت الصفوف بالتهديد السافر، والغضب المتوهج.
وأسرع الجند إلى سياطهم وجرابهم، وازداد الموقف توترا في ساحة الصلب! بينما طافت نذر الثورة في أزقة بغداد وشوارعها.
وزاد الحقد والغضب بحامد وعصبته، فأخذوا يتصيدون بعض أعوانهم من صفوف الصوفية والفقهاء، ليدفعوا بهم حول منصة الصلب ليرموا الحلاج بالسباب، ويتهموه بالمروق، عل هذا الاتهام يخفف من إيمان الجمهور به، وغضبته له.
يقول ابن كثير:
44 «وجاء أبو الحسن البلخي عند الخشبة، وقال - للحلاج: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله؟ كيف رأيت بوس الناس في يديك، وقولهم لك يا سيدي ويا مولاي وأنت راض بذلك.»
ويقول ماسنيون:
45 «وأخذ الجند يحضرون بعض أفراد من الصوفية لينالوا من الحلاج، ثم يقول: وأتى الجند بالشبلي، وقد وضعوا منديله في عنقه، وهم يسحبونه إلى الحسين بن منصور ليلعنه! فتأبى من ذلك وقال: اتركوني، فقالوا: ما نتركك حتى تلعنه، أو ترسل إليه رسولا بذلك!
والتفت الشبلي يمينا وشمالا فرأى فاطمة الأموية، فقال لها: ادني مني، فدنت، فقال لها: اذهبي إلى الحسين بن منصور فقولي له: إن الله قد ائتمنك على سر من أسراره فأذعته، فأذاقك طعم الحديد، واحفظي ما يقول لك، ثم اسأليه عن التصوف، وما هو؟
ومضت فاطمة إلى الحلاج، فقالت: أنا رسولة أبي بكر الشبلي، فابتسم الحلاج، ثم قال: هاتي ما معك.
فقالت له: إنه يقول لك: إن الله قد ائتمنك على سر من أسراره فأذعته، فأذاقك طعم الحديد، فأنشأ يقول:
تجاسرت فكاشفت
ك لما غلب الصبر
وما أحسن في مثل
ك أن ينتهك الستر
وإن عنفني الناس
ففي وجهك لي عذر
كأن البدر محتاج
إلى وجهك يا بدر
ثم قال اذهبي إلى أبي بكر فقولي له: يا شبلي والله ما أذعت له سرا.
فقالت فاطمة: فما حقيقة التصوف، فقال: أهون مرقاة فيه ما ترين. قالت: فما أعلاه؟ قال: ليس لك إليه سبيل، ولكن سترين غدا ما يجري، فإن في الغيب ما شهدته وغاب عنك ... ثم قال: والله ما فرقت بين نعمة وبلوى ساعة قط.
فجاءت فاطمة إلى الشبلي، فأعادت عليه ذلك، فصاح الشبلي: يا معشر الناس، الجواب الأول لكم، والثاني لي؟»
عذاب الحلاج!
ثم قام الحراس فشدوا وثاقه إلى آلة الصلب، وأخذوا يتفننون في إيلامه وعذابه بألسنتهم وسياطهم.
ومضى يوم، وغربت الشمس، وجاءت الليلة الأولى من ليالي العذاب، فباتها الحلاج على صورة لم تعرف لغيره في التاريخ.
باتها مقيدا مصلوبا مقطوع اليدين، تنزف جراحه دما؟! وبات جمهور البغداديين حوله، على الضفة الغربية لدجلة، يرقب المأساة، ويشهد الفاجعة ، ويتتبع بعواطف متضاربة، مشاهد مسرحية حية دامية.
يشهد صراعا عجبا فذا تدور رحاه حول رجل أعزل، ينازل وحده، في بطولة متحدية، صابرة شامخة، القوى الحاكمة في العراق، وهي أعظم قوى الأرض في عصرها!
وكان منظرا مسرحيا، لم تشهد مسارح الدنيا مثيلا له من قبل، مئات المشاعل تضيء شواطئ دجلة، وتكشف آفاقها، وتغمر مياهها بالألوان والظلال.
وهنا وهناك قامت حلقات وأروقة للذاكرين من الصوفية، وللمجادلين من المعتزلة، وللمتناظرين من الحنابلة، وللمتعصبين من الشيعة، يديرون حديث القلب والعقل حول المشهد العظيم، الذي هز بغداد وأطار النوم من جفونها.
وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، شتيت من الأجناس والطوائف، المتعددة الأهواء والثقافات، والميول والاتجاهات.
ويمشي بين صفوف هؤلاء وهؤلاء تلاميذ الحلاج وأحبابه، يتحدثون عن إيمانه ورسالته، وكراماته وعجائبه، ويشتط الخيال بفريق منهم، فيذهب بهم بعيدا بعيدا، ليضفي على الحلاج قداسات أكثر مما تطيق البشرية، وأعلى مما تستطيع الإنسانية!
وتتلقف آذان الجماهير، هذه الأحاديث البارعة الملونة، فتخفق قلوبهم، للشهيد المعذب المصلوب، وتثور عواطفهم، للقطب المضطهد المظلوم!
وداخل هذا الإطار الكبير بألوانه وظلاله، يقف الحلاج مشدودا بوثاقه على مصلبه الدامي، مترنما بألحانه، محلقا في نشوة قلبية أكبر من آلامه، وفي ثمل روحي أعظم من عذابه.
إنه في عالمه العلوي الروحي المضيء، بعيدا بعيدا، عن الأرض وما يدبر فيها، وما يصب عليها!
إن صمود الحلاج على مصلبه، لزاد من الخلود - كما يقول الشبلي - أعلى مما يفهم من لم يذق مذاقه ويحيا حبه!
قطع قدماه!
وجاء صباح اليوم الثاني، فتضاعف - كما يقول ابن كثير - عدد البغداديين حول مصلبه، واجتمع من العامة عدد لا يحصى.
46
وبدأ العذاب من جديد في يومه الثاني، فقطعت رجله اليمنى، ثم اليسرى، ومع قطرات الدم، ارتفعت السياط، تمزق ما بقي من هذا الأديم الصابر الصامد!
يقول الخطيب البغدادي:
47 «سمعت فارسا يقول: قطعت أعضاء الحلاج، عضوا عضوا وما تغير لونه، وما فتر لسانه عن ذكر الله.»
وعن ابن فاتك قال:
48 «لما قطعت رجلا الحلاج قال: إلهي أصبحت في دار الرغائب، انظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك!»
ثم أنشد:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
إن عندي محو ذاتي
من أجل المكرمات
وبقائي في صفاتي
من قبيح السيئات
فاقتلوني واحرقوني
بعظامي الفانيات
ثم مروا برفاتي
في القبور الدارسات
تجدوا سر حبيبي
في طوايا الباقيات
49
ثم تتابعت مشاهد العذاب، من جلد وصفع وركل وسباب، والحلاج على مصلبه، ممزق الجسد، تتساقط قطرات الدماء من سائر جسده، وهو في نشوة روحية، بل في ثمل روحي أعلى وأسمى وأقوى من كل ما صب عليه من هول وعذاب!
إنه في تسابيحه ومواجيده ومناجاته، غير ملتفت إلى ما بتر منه، وما يحيط به!
لقد تفتحت له أبواب السماء، وأحاطت به هالات من النور، وفي سمعه ألحان من الأفق المضيء، وترنيمات من أوتار خفية، يوقع على موسيقاها ابتهالاته الخالدة.
إذا ذكرتك كاد الشوق يقلقني
وغفلتي عنك أحزان وأوجاع
وصار كلي قلوبا فيك داعية
للسقم فيها وللآلام إسراع
50 •••
يا لائمي في هواه كم تلوم فلو
عرفت منه الذي عنيت لم تلم
للناس حج ولي حج إلى سكني
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
51 •••
لا تلمني فاللوم مني بعيد
وأجر سيدي فإني وحيد
من أراد الكتاب هذا خطابي
فاقرءوا واعلموا بأني شهيد
52
ثم تتابعت مشاهد، تجلت فيها أسمى ما في النفوس الإنسانية من مثاليات، وأحط ما في الغرائز البشرية من صفات.
فقد أقام حامد وصحبه حول مصلب الحلاج أعوانا لهم، يملئون الدنيا سبابا وصياحا هاتفين: اقتلوا الحلاج الزنديق، وفي أعناقنا دمه!
ثم أخذ الجند يجمعون الفقهاء والصوفية ليرجموا الحلاج، وهو في موقف الهول والعذاب، فامتنع فريق كبير عن هذا الإثم، صبروا وصابروا، واحتملوا الجلد والسجن، ولم تقترف أيديهم السوء!
ثم جيء بالشبلي، تلميذ الحلاج وصديقه وصفيه، جيء به ليرجم الحلاج، وأقسموا على قتله إن لم يفعل!
وأذن له الحلاج وطالبه أن يفعل صونا لدمه، فرماه بوردة ... ثم بكى وصاح: «إن استشهاد الحلاج درة من الجمال المحرم، إنه زاد خلود، لا يظفر به إلا الأبطال، وليس بزاد يوزع على الجميع.»
يقول ماسنيون:
53 «وفي وسط هذا كله، الحلاج نفسه مصلوبا خارجا عن طوره، مظهرا للجميع من فوق مقصلته، وهو في حالة من الوجد تجاوز ببدنه حد الموت، شخصية المسيح الخالدة، كما وصفها القرآن، وكأنه الصورة المعبرة المتجلية فيها روح الله: وما قتلوه وما صلبوه.»
ومضى اليوم الثاني، وجاءت الليلة الثانية، على الشهيد الصامد، لهول لم يصمد له أحد من قبل!
ومضى الليل ثقيلا بطيئا، ورفرف الموت على الساحة الكبرى، وأخذت ظلال المشاعل ترسم أطيافا حزينة باكية.
والمصلوب المعذب في نشوته ومناجاته وضراعاته، التي ترسم في عالم الروح، صرخات تهز عالم النور.
عالم الروح والنور، الذي سعى إلى الحلاج ليؤنسه في لحظاته الأخيرة، تلك اللحظات التي صورها لنا الحلاج على مصلبه في آخر قصائده ...
قصيدة المصلب
54
وفيها يروي قصته كاملة، بذلك النغم المأثور عن الصوفية، في حالات الشطح والسبح الروحي.
فيحدثنا عن فنائه في الله، ذلك الفناء الذي أورثه البقاء به سبحانه، ومن بقي بالله عاش في عالم المشاهدة، وتفتحت عين روحه، لتطل على الوجود.
ثم يقول: إنه الباز الأشهب في عالم الروح، وهو مقام أعلى وأسمى من القطبانية، وإنه شربه من مقام الصديقية، وهو مقام لا يعلوه إلا مقام النبوة، وإنه غدا ربانيا يعيش تحت العرش، وإنه قد حطم ببرهانه جبال الأكاذيب التي أحاطت به.
وإنه الذي شاع ذكره في الملأ الأعلى، وإنه خاض بحر الهوى قويا كحوت يونس، وأخرج أروع جواهره.
ولكنه لم يجد في عصره من يفهم قيمة هذه الجواهر، فأصبح كمن يبيع الجوهر للفحامين! وكالذي يوقد الشموع في قاعات العميان! وكالذي يضع السر في أكمام عريان.
ثم يعرض علينا في إطار فخم حوادث مصرعه، وكيف احتشد الأقطاب والأولياء جميعا، وفي مقدمتهم الخضر لمؤانسته وتحيته، وأن السيف خاطبه وناجاه، ولو أراد لامتنع السيف عنه، ولو شاء لهدم بغداد على البغاة، ولكن الخضر والأقطاب طالبوه بأن يموت شهيدا كما مات ابن عفان، وأن لا يخلع أبدا الخلافة الباطنية، كما لم يخلع ابن عفان الخلافة الظاهرية.
ذلك تصوير الحلاج لموقفه ولمصرعه، وذلك نشيده يوم الهول، وليلة الموت!
عجائب يوم المصرع
يقول ابن خفيف:
55 «تقدمت إليه في الليلة التي صلب فيها، فلما رأيته على خشبته بحالته، توليت وأنا مفكر في أمره! فإذا به يناديني: أن أقبل، فأقبلت إليه، فقال لي: عاملناه بالحقيقة، فعمل بنا ما ترى!»
ومضى الليل الطويل بهوله، وجاء اليوم الثالث بعذابه، ومع الفجر طافت جموع الشعب ببغداد، تحطم وتدمر، وتطالب بإنقاذ الحلاج، أو بإنقاذ ما تبقى منه!
وارتعد الخليفة وجبن، وأسرع إليه حاجبه نصر القشوري، ووالدته - شغب - ينذرانه عاقبة المأساة الحلاجية، ويناشدانه باسم الدين والإنسانية، العفو عن الجسد الممزق، والبطل المصلوب، الذي توشك الدماء السائلة منه أن تدفع ببغداد إلى ثورة مدمرة تطيح بكل شيء.
وخضع المقتدر للرجاء، أو خضع للخوف، فاعتزم العفو، وبلغ مسمع حامد ما يدور في القصر، فأسرع إلى الخليفة يناشده أن يتم ضربته الكبرى، منذرا بأن العفو في هذه الساعة الحاسمة قد يلهب بغداد أكثر مما يلهبها القتل!
ثم صاح حامد: اقتله يا أمير المؤمنين، وفي عنقي دمه، اقتله وإن حدثت الثورة التي يتنبأ بها نصر فاقتلني، اقتله قبل أن تثور العاصفة!
وبين التردد والعزم، صدر الأمر الأخير من فم الخليفة: اقطعوا رأس الحلاج، وأحرقوا جسده!
يقول ماسنيون:
56 «وبينما كان الثائرون يحرقون بعض الدكاكين، وقد أبطأ أمر الخليفة المعتاد بالإجهاز عليه، كان حامد يستحث المقتدر على الموافقة على الأمر بالإعدام، قائلا: إن أصابك شيء فاقتلني.»
ويقول ابن كثير:
57 «فلما كان اليوم الثالث، تقدم حامد إلى الخشبة، فتلا أمر الخليفة، ثم قرأ فتوى الفقهاء، بأن في قتل الحلاج صلاح أمر المسلمين! ثم أمر الجلاد بقطع رأسه والإجهاز عليه.»
ويقول الحلواني:
58 «قدم الحلاج للقتل وهو يضحك، فقلت: يا سيدي ما هذا الحال؟ فقال: دلال الجمال الجالب إليه أهل الوصال.»
ويقول عيسى القصار:
59 «آخر كلمة تكلم بها الحلاج عند قتله وصلبه أنه قال: حسب الواجد، إفراد الواحد له، فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ، إلا رق له واستحسن هذا الكلام.»
ويقول ابن خفيف:
60 «ثم ضرب عنقه، فبقي جسده ساعتين من النهار قائما، ورأسه بين رجليه، وهو يتكلم بكلام لا يفهم، فكان آخر كلامه، أحد، أحد. فتقدمت إليه، فإذا بالدم يخرج منه ويكتب على الأرض: الله، الله، في أحد وثلاثين موضعا، ثم أحرق بالنار!»
ويقول العلامة المناوي:
61 «ولما وقع دمه على الأرض، كتب: الله، الله، إشارة لتوحيده، وإنما لم يكتب دم الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ذلك؛ لأنه لا يحتاج لتبرئة بخلاف الحلاج.»
ويقول ابن الجوزي:
62 «ولم يبق ببغداد إلا من شهد قتله، والتفت إلى الناس وهو على الجذع - قبل قتله - وقال: من حضر بطلت شهادته، ومن غاب قبلت شهادته، وناداه بعض الصوفية وهو مصلوب: من طلق الدنيا كانت الآخرة حليلته.»
ويروي ابن أنجب الساعي عن الشيرازي، أنه قال:
63 «لما صلب الحلاج بقي ثلاثة أيام لم يمت، فأنزلوه وفتشوه، فوجدوا معه ورقة مكتوبة بخطه، وفيها آية الكرسي، وبعدها هذا الدعاء: اللهم ألق في قلبي رضاك، واقطع رجائي عمن سواك، وأعني باسمك الأعظم، وأغنني بالحلال عن الحرام، وأعطني ما لا ينبغي لأحد غيري «بحم عسق»، وأمتني شهيدا «بكهيعص».»
ثم لف جسده في بارية، وصب عليه النفط وأحرق، وحمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح، في السادس والعشرين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمائة ه / 26 مارس 922م.
ونصب رأسه يومين على الجسر ببغداد، ثم طيف به في خراسان، ثم أخذته أم الخليفة المقتدر، فحنطته وعطرته، وأبقته في خزانتها عاما كاملا.
مشاهد روحية
ويروي ماسنيون:
64 «أن الشبلي رأى الحلاج في المنام بعد قتله، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: أنزلني وأكرمني، قال: في أي محل؟ قال: قد غفر لكلتا الطائفتين، المشفقين علي، والمعادين لي، فأما من أشفق علي فلأنه عرفني، فأشفق علي لله، وأما من عاداني، فلأنه لم يعرفني، فعاداني لله أيضا، فهما معذورون!»
وتروي المخطوطات الصوفية:
65 «أن أخته ظلت تبكي عليه أمدا، ثم نامت ذات ليلة، فرأت في المنام أخاها حسينا، وهو يقول لها: يا أختي إلى كم تبكين علي ؟! فقالت له: كيف لا أبكي وقد جرى عليك الذي جرى؟! فقال لها: يا أختي لما قطعوا يدي ورجلي كان قلبي مشغولا بالمحبة، فلم أدر إلا هي طيبة! فلما صلبوني كنت مشاهدا ربي، فلم أدر ما فعلوا بي! فلما أحرقوني نزلت علي ملائكة ربي من السماء، صباح الوجوه، فاختطفوني إلى تحت العرش، وإذا بالنداء من العلي الأعلى: يا حسين، رحم الله من عرف قدره، وكتم سره، وحفظ أمره، فقلت: أردت التعجيل إلى رؤيتك، فقال: تملأ بالنظر، فإني لا أحتجب عنك.
يا أختي إذا كنت في رياض وبساتين، وأثمار وأنهار، هل يطلب أحد بدل ذلك العمار هذا الخراب؟ قالت: لا، قال: كذلك أرى.»
بين محيي الدين والحلاج
ويحدثنا العلامة المناوي عن مشهد روحي بين الحلاج والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.
فقد سأل محيي الدين الحلاج في عالم الروح، قائلا: لماذا تركت بيتك يخرب؟!
فتبسم الحلاج وقال: «لما استطالت عليه أيدي الأكوان، حين أخليته، وخلفت هارون في قومي، استضعفوه لغيبتي، فأجمعوا على تخريبه، فلما هدموا من قواعده ما هدموا، وكنت قد فنيت، رددت إليه بعد الفناء، فأشرفت عليه، وقد حلت به المثولات، فأنفته نفسي، وقلت: لا أعمر بيتا تحكمت فيه الأكوان، فانقبضت عن دخوله، فقيل: مات الحلاج! والحلاج ما مات، ولكن البيت خرب، والساكن ارتحل.»
66
وهو مشهد روحي، يلقي بالأضواء على حياة الحلاج، وعلى أسرار مصرعه.
فمحيي الدين يعاتب الحلاج، على أنه قد كشف من الأسرار الروحية ما مكن خصومه من دمه، كما يعاتبه أيضا على أنه استسلم لمصرعه، ولم يحاول النجاة منه.
والحلاج في إجابته يروي قصته كاملة، فهو يتحدث عن سيره في الطريق المضيء إلى الله، ورحلته الروحية على أجنحة الحب والوجد، من الأكوان إلى المكون سبحانه. لقد حاول في تجربة روحية فذة، أن يصل إلى مرتبة الفناء الكامل.
الفناء عن نفسه، وعن كونه، ليبقى في عالم النور والمشاهدة، وليظفر بمقام الإنسان الرباني، الذي يكون الله جل جلاله هو سمعه وبصره، ويده ولسانه، وحركاته وسكناته.
وبذلك يذوق مذاقا من القرب ، أو مذاقا من الحب، يفني بشريته، فيحقق بهذا الفناء وثبة بالإنسان إلى أعلى أفق يتطلع إليه، أفق القرب، إلى أبعد حدود القرب، بين العبد والرب، والحلاج هو أجرأ وأقوى من حاول هذه التجربة في عالم التصوف.
ثم يقول الحلاج: «إنه في جهاده الروحي، لم يستطع أن يتخلص تماما من جسده، ومن العلاقات التي للكون على هذا الجسد!»
فرحل بروحه إلى الله، وترك العقل أو بقية منه، ليخلفه في تدبير هذا الجسد، كما رحل موسى عليه السلام إلى الله، وترك هارون في قومه ليخلفه فيهم.
وهنا تحكمت الأكوان في جسده، لغيبته عنه، واستضعفوا خليفته، فأدى ذلك إلى تقويضه.
ولما كان الحلاج قد فنى عن نفسه، وبقي بربه، رد بحكم البقاء بعد الفناء إلى البيت - الجسد - فلما وجد أن الأكوان قد تحكمت فيه، وحلت به المثولات، أنفته نفسه، ومن ثم زهد هذه الحياة، فزهدته الحياة، فكان العذاب، وكان القتل أبشع ما يكون القتل.
وانقبض الحلاج عن دخول البيت، وقيل مات الحلاج! وما مات الحلاج! ولكن البيت خرب! والساكن ارتحل! ارتحل إلى البقاء والخلود. (2-11) في أعقاب المصرع
وفي أعقاب المصرع انطلق خيال بغداد، ليضفي على البطل الشهيد نسيجا أسطوريا من أنسجة القداسة والخلود.
وإن لم يتسق هذا النسيج الموشى مع الحقيقة، فإنه ليرشد ويومئ إلى صور من الحب والإجلال خفق بها قلب بغداد، وهي تبكي بطلها الشهيد.
يقول ابن خلكان:
67 «وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما!»
واتفق أن دجلة زادت في تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها.
ويقول ابن كثير:
68 «وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل! وإنما ألقى شبهه على عدو له!»
ثم أخذ تلاميذ الحلاج يكونون في الخفاء جماعات روحية حلاجية، تتدارس تعاليمه، وتحافظ على تراثه، وتحاول جاهدة أن تبقي ذكراه حية نامية في ضمير التاريخ، متحدية في ثبات، وفي فدائية الخلافة العباسية، بكل ما لها من سلطان ساحق، ونفوذ لا يقاوم.
سر المأساة!
ذلك مصرع الحلاج، وتلك مأساته! ويوم المصرع عندي هو نقطة الانطلاق في حياة الحلاج، وهو سر خلوده وسحره التاريخي.
وإن كانت آراء الحلاج قد اختلف الناس فيها وتجادلوا، وأطالوا الاختلاف والجدال، فإن بطولة الحلاج وثباته الأسطوري المعجز، وإيمانه الصامد الصاعد في يوم مصرعه ليرسم صورة بطولة خالدة متألقة، أعلى من أن يتجادل الناس فيها أو يختلفوا.
ومن أراد أن يحلق حول شخصية الحلاج، ويلمس إيمانه وحبه، وعقيدته ورسالته، فليبحث عن هذه المعاني الشامخة في يوم مصرعه، وليلتمسها على آلة صلبه وعذابه.
إن هذه البطولة الخارقة، وهذا الثبات المعجز، وهذا الإيمان الأعلى، إنها مذاقات ومقامات، لا تفاض إلا على الصديقين والشهداء، من أصحاب المبادئ والرسالات.
إنها مواقف ليست من عقائد الأرض، ولا من شهواتها، إنها من إيمانيات السماء ووحيها.
وما كان لأبناء الدنيا، وأصحاب الهوى في آفاقها، أن يثبتوا ثبات الحلاج، وأن يصمدوا لما صمد له.
وما أحسب أن تاريخ البشرية، الطويل العريض، ضم بين صحفه وأحداثه إيمانا وثباتا تحت هول العذاب الصاعق، كثبات الحلاج وصبره وفدائيته وبطولته.
إن يوم المصرع هو عنوان الحلاج وتاريخه، وعنده يلتمس علماء النفس، وأساتذة الفكر شخصية الحلاج ومقامه في أروقة الخالدين، من المجاهدين المؤمنين.
إن يوم المصرع هو يوم النصر للحلاج، ويوم الهزيمة الكبرى للخلافة العباسية، بكل ما تمثله وتصوره في تلك الحقبة من التاريخ.
لقد هزم الحلاج الخلافة العباسية، في حياته واستشهاده، وفي حركة التاريخ وضميره، من بعد حياته واستشهاده.
لقد حرقت جسده وأحالته رمادا، ثم نثرت هذا الرماد في أقطار السماء، تريد له الفناء، فكتب له البقاء.
البقاء الحي أشد ما تكون الحياة، وأعصى ما تكون هذه الحياة على الزوال والفناء.
لقد أطلقت الخلافة حول سيرته سرادقا من نار ودخان، ثم أطلقت المنادين يأمرون الناس أن يحرقوا آثاره، وأن لا يبيعوا كتبه، وأن يمحوها من الوجود، وأطلقت من وراء هذا وذاك الأقلام المأجورة تملأ كتب التاريخ إفكا وزورا.
وعجز كل هذا الدخان والضباب ، والتزوير والافتراء، عن أن يحجب عن عين التاريخ وذاكرته وصحفه البرق المتلألئ من أسطورة البطل الشهيد، والسنا المتألق من تراث العارف المحب.
يقول المستشرق نيكلسون:
1 «قتل الحلاج وأحرق رفاته كما تنبأ، وعبثت برماد جسده الرياح العاصفة، والمياه الجارية، ولكن بقيت آراؤه من بعده تعمل عملها، خلال العصور الوسطى جميعها، وتحاول أن تحيا حياة جديدة.
وإننا لنتبين قوة هذا الرجل، وحيويته الروحية، من الأثر العظيم الذي كان له في نفوس الأجيال التي أعقبته.»
لقد أعجز الحلاج الخلافة العباسية، حيا ومصلوبا وشهيدا، وأحدث أثرا خالدا في التاريخ، حتى التهم البغيضة الغليظة، التي قذفوا بها الحلاج يوم المحاكمة، أخذت تتساقط سطرا فسطرا، لتفسح الطريق لوجه الفجر الصادق، يمحو بنوره كل فجر كاذب، وكل ادعاء فاجر؛ لتفسح الطريق للحقيقة، الكامنة وراء المأساة الدامية، فلم تكن الخلافة العباسية لتصب كل هذا الهول الفاجر على الحلاج، لشطحه الصوفي، أو لمروقه الإلحادي، أو لقوله - أنا الحق! كما حاولت أن تكره الشهود، وأن تكره القضاء، وأن تكره التاريخ على هذا البهتان والتزوير، بل صبت هذا الهول الغليظ الفاجر، دفاعا عن نفسها، وعن وجودها، وعما تمثله ويمثله وجودها، من شهوات وفجور، وفساد واستغلال، ومحاربة للدين والإيمان.
كانت محاكمة سياسية، وكان قتلا سياسيا، لبس زورا ثوب الدين، وتقنع كذبا بقداسته وحمايته.
يقول المستشرق ماسنيون: «فلولا أن الحلاج قد زج بنفسه في التيارات السياسية المضطربة في عصره، واتصل بالسياسة ورجالها، لما حدث له ما حدث، من تعذيب وصلب، وما كانت الاتهامات الدينية إلا اتهامات رسمية؛ لتكون تكأة يستند إليها السلطان.»
ويقول العلامة آدم متز:
2 «وأغلب ما انتهى إلينا من أخبار الحلاج، إنما ذكره خصومه، ويؤخذ من هذه الأخبار بوضوح أن الحلاج قد أثر في كبراء أهل بغداد، تأثيرا قويا نادر المثال، ويدل على عظيم شأنه أن كلا من الذهبي وابن الجوزي كتب عنه كتابا خاصا.
ولكن يظهر أن هذين الكتابين قد فقدا مع الأسف، ولم ينل هذا الشرف - أعني تخصيص كتاب في حياة رجل - إلا العدد القليل بين رجال الإسلام.»
وكما لمس رجال الاستشراق سر المأساة الحلاجية، وأنها مأساة سياسية لا دينية، لمس هذا السر أيضا بعض رجال التاريخ الإسلامي، من قدامى ومحدثين، لمسوه رغم الجهود الهائلة التي بذلتها الخلافة العباسية، لتشويه تاريخه، وتزوير أحداثه، وتمزيق تراثه.
فابن النديم: يعلل المأساة بأن الحلاج كان على اتصال بالرضا من آل محمد.
3
وابن خلكان: يفسرها بصلات الحلاج بالقرامطة وبالعلويين، وبتهديده للخلافة القائمة.
4
وأما صاحب «ظهر الإسلام»، فيفسح صفحات للمأساة، متهما الخلافة العباسية بالتزوير والافتراء.
يقول الأستاذ أحمد أمين:
5 «والظاهر من كل هذا أن الرجل والمرأة اللذين شهدا على الحلاج، كان موعزا إليهما بالشهادة، وأن القضاة تلكئوا في الحكم عليه، فاستعجلهم الوزير حامد!»
ثم يقول: «ويظهر أن أكبر تهمة وجهت إليه، هو أنه من شيعة أهل البيت، الذين يريدون أن ينحوا الخلفاء العباسيين ومن إليهم، ويوسعوا دائرة خلافة أهل البيت، فانتشرت دعوتهم في العراق وخراسان وجزيرة العرب وغير ذلك!»
ثم يقول: «فنعتقد أن هذا سر قتله لا غير ذلك، فدعوة كهذه تقض مضاجع خلفاء بني العباس ووزرائهم، فلا يبعد أن يكون الخليفة العباسي ووزيره حامد قد رتبا هذه المؤامرة ضده، وزوروا الشهود، واستحثا القضاة على قتله، وإلا فما بالهم قد تركوا الصوفية الآخرين، كالجنيد، وأبي يزيد البسطامي، وذي النون المصري من غير قتل، فهي مسألة سياسية بحتة، اتخذت شكلا دينيا، لعلمهم أن الدين أفعل في الشعوب من السياسة.
فكم من صوفية ادعوا وحدة الوجود، فلم يلتفت إليهم، وتركوا وشأنهم!
ومما لفت عامة المسلمين إليه ما تواتر عن الحلاج من إتيانه بالأعاجيب، فيظهر أنه كان له قدرة كبعض الأشخاص اليوم على استحضار ما يريده من الأشياء من أماكنها، كالذهب، والمسك، والفاكهة، وأنه كان له قدرة على التنويم المغناطيسي، وقدرة أخرى كيماوية بهر الناس بها لجهلهم بالكيمياء.
وعلى العموم، فهو شخصية قوية كشخصية ذي النون وأشد منها، كان له أثر كبير في المسلمين.»
ذلك ضمير التاريخ، أو ذلك بعض ضميره.
مغوثات الحلاج بين السحر والكرامة
الآن وقد مضى بنا القلم طويلا حول الحلاج السياسي، وصراعه مع الخلافة العباسية، ومصرعه البطولي الدامي!
الآن آن لنا أن نعود إلى الحلاج الصوفي، لنواصل دراسته، ولنحيا مع حبه ووجده وأشواقه ، وتحليقاته في الأحوال والمقامات الروحية، وما حققه في تجربته الصوفية، من فتوحات ووثبات في عالم المشاهدة والمعرفة.
ولا بد لنا - قبل أن نحيا مع الحلاج في تجربته - من أن ندير الحديث حول نقطة في تاريخه، لا تزال غامضة محيرة، يكثر حولها الجدل والحوار، تلك هي المغوثات الحلاجية، التي كانت سمة من سماته، وطابعا عرف به في حياته، من بداية أمره حتى يوم مأساته.
ولقد امتلأت حقائب التاريخ الصوفي، وغيره من تاريخ الرجال والطبقات، بالحديث عن عجائب الحلاج وخوارقه، واختلف الناس في أمرها، ودندنوا طويلا حولها.
نسبها قوم إلى السحر والنيرنج والشعوذة، والبراعة في الطب والكيمياء، والقدرة على تسخير الجن!
وآمن بها آخرون على أنها كرامات وآيات، تدل على صدقه وولايته، ومقامه وإيمانه.
يقول صاحب «تاريخ بغداد»:
1 «اختلف الناس في أمره، فقال قوم: ساحر! وقال قوم: مجنون! وقال قوم: له الكرامات، وإجابة الدعوات.»
وأصدقاء الحلاج وخصومه قد أجمعوا جميعا على حدوث هذه الخوارق، فابن كثير، وابن خلكان، والخطيب البغدادي، وابن النديم من رجال التاريخ العام، والشعراني والمناوي والسلمي من مؤرخي الطبقات الصوفية قد أجمعوا على أنه كان يخرج فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده في الهواء فيعيدها مملوءة دراهم، قد كتب عليها - قل هو الله أحد - ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوا، وما صنعوا في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم!
كما تحدثوا عن قدرته على شفاء المرضى، بالرقية حينا، وبقراءة القرآن أحيانا، بل تحدثوا عن إحيائه للموتى، كما حدث لببغاء ولي عهد الخلافة العباسية!
حتى اسمه دارت الكرامة والخارقة حوله، يقول أبو عبد الرحمن السلمي:
2 «إنما سمي الحلاج؛ لأنه دخل مدينة واسط، فتقدم إلى حلاج وبعثه في شغل له، فقال له الحلاج: أنا مشغول بصنعتي! فقال: اذهب أنت في شغلي، حتى أعينك في شغلك! فذهب الرجل، فلما رجع وجد كل قطعة في حانوته محلوجة، فسمي بذلك الحلاج!»
ويقول ابن كثير:
3 «ويقال: إنه أشار بالمرود، فامتاز الحب عن القطن.»
ويقول ابن خلكان:
4 «كان يتكلم في ابتداء أمره من قبل أن ينسب إليه ما نسب من الأسرار، فيكشف عن أسرار المريدين ويخبر عنها، فسمي بذلك حلاج الأسرار، فغلب عليه اسم الحلاج.»
وكتب الطبقات الصوفية تموج موجا بكرامات الحلاج وعجائبه، وترويها بلغة اليقين الذي لا يدنو منه الشك!
يقول الحلواني:
5 «كنت مع الحلاج وثلاثة من تلاميذه، في قافلة من واسط إلى بغداد، وكان الحلاج يتكلم، فجرى في كلامه حديث الحلاوة، فقلنا على الشيخ الحلاوة! فرفع رأسه وقال: يا من لم تصل إليه الضمائر، ولم تمسه شبه الظنون والخواطر، وهو المترائي عن كل هيكل وصورة، من غير مماسة ومزاج، وأنت المتجلي عن كل أحد، والمتجلي بالأزل والأبد، لا توجد إلا عند البأس، ولا تظهر إلا حال الالتباس، إن كان لقربي عندك قيمة، ولإعراضي لديك عن الخلق مزية، فائتنا بحلاوة يرتضيها أصحابي!
ثم مال عن الطريق مقدار ميل، فرأينا هناك قطعا من الحلاوة الملونة، فأكلنا ولم يأكل منها، فلما استوفينا ورجعنا، خطر ببالي سوء ظن بحاله، وكنت لا أقطع النظر عن ذلك المكان، وحافظته أحوط ما يحافظ مثله.
ثم عدلت عن الطريق للطهارة وهم ذاهبون، ورجعت إلى المكان، فلم أر شيئا فصليت ركعتين وقلت: اللهم خلصني من هذه التهمة الدنية، فهتف بي هاتف: يا هذا، أكلتم الحلاوة، وتطلب الشك؟! أحسن ظنك، فما هذا الشيخ إلا ملك الدنيا والآخرة.»
ويروي فريد الدين العطار:
6 «أن الحلاج رسم على حائط السجن صورة مركب، ثم أمر المسجونين بأن يركبوا فيها، وأن يذكروا اسم الله سبحانه، فلما فعلوا غابوا عن الحبس، ونجوا جميعا!»
ويحدثنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الفتوحات، وحجة الإسلام الغزالي في الإحياء، أن الحلاج كان يدخل في بيت له يسميه - بيت العظمة - وكان يتطور فينتفش وينتفخ حتى يملأ هذا البيت!
أما كتب التاريخ العام، فتروي عجائب الحلاج، ثم تحاول في أثناء روايتها أن تعللها متدخلة في الرواية حينا، وملقية بالشك عليها أحيانا. ... يروي مسعود بن ناصر، قال: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول:
7 «دخل الحسين بن منصور مكة ومعه أربعمائة رجل، فأخذ كل شيخ من شيوخ الصوفية جماعة، قال: وكان في سفرته الأولى كنت آمر من يخدمه، قال: ففي هذه الكرة أمرت المشايخ وتشفعت إليهم ليحملوا عنه الجمع العظيم.
قال: فلما كان وقت المغرب جئت إليه، وقلت له: قد أمسينا فقم بنا حتى نفطر، فقال: تأكل على أبي قبيس؟ فأخذنا ما أردنا من الطعام، وصعدنا على أبي قبيس، وقعدنا للأكل، فلما فرغنا من الأكل، قال الحسين بن منصور: لم نأكل شيئا حلوا، فقلت: أليس قد أكلنا التمر؟ فقال: أريد شيئا قد مسته النار!
فقام وأخذ ركوبته وغاب عنا ساعة، ثم رجع ومعه جام حلواء، فوضعه بين أيدينا، وقال: باسم الله، فأخذ القوم يأكلون، وأنا أقول مع نفسي، قد أخذ في الصنعة التي نسبها إليه عمرو بن عثمان!
قال: فأخذت منه قطعة ونزلت الوادي، ودرت على الحلويين أريهم ذلك الحلواء، وأسألهم هل يعرفون من يتخذ هذا بمكة؟ فما عرفوه، حتى حمل إلى جارية طباخة فعرفته، وقالت: لا يعمل هذا إلا بزبيد، فذهبت إلى حاج زبيد - وكان لي فيه صديق - وأريته الحلواء فعرفه، وقال: يعمل هذا عندنا إلا أنه لا يمكن حمله، فلا أدري كيف حمل، وأمرت حتى حمل إليه الجام، وتشفعت إليه ليتعرف الخبر بزبيد، هل ضاع لأحد من الحلاويين جام، علامته كذا وكذا، فرجع الزبيدي إلى زبيد.
وإذ إنه حمل من دكان إنسان حلاوي، فصح عندي أن الرجل مخدوم!»
وأبو يعقوب النهرجوري راوي القصة، من الصوفية الذين خاصموا الحلاج، خصومة مرة عنيفة، ومن الذين أثاروا حوله الصيحات المرعدة، واتهموه بالسحر والشعوذة!
ونمشي مع الجانب المخاصم للحلاج خطوة أخرى، لنستمع إلى شاهد آخر، يروي قصة ثانية نسبها إلى مجهول أسماه بالمنجم.
وهي قصة كما يقول راويها لم تذكر في حياة الحلاج، وإنما ذكرت بعد مصرعه!
يقول صاحب «تاريخ بغداد»:
8 «حدثنا علي بن أبي علي، حدثني أبي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الشاهد الأهوازي، قال: أخبرني فلان المنجم - وأسماه ووصفه بالحذق والفراهة - قال: بلغني خبر الحلاج، وما كان يفعله من إظهار تلك العجائب التي يدعي أنها معجزات، فقلت أمضي وأنظر من أي جنس هي من المخاريق، فجئته كأني مسترشد في الدين، فخاطبني وخاطبته، ثم قال لي: تشه الساعة ما شئت حتى أجيئك به! وكنا في بعض بلدان الجبل التي لا يكون فيها الأنهار، فقلت له: أريد سمكا طريا في الحياة الساعة! فقال: أفعل، اجلس مكانك فجلست، وقام، فقال: أدخل البيت وأدعو الله أن يبعث لك به.
قال: فدخل بيتا حيالي وغلق بابه، وأبطأ ساعة طويلة، ثم جاءني وقد خاض وحلا إلى ركبتيه وماء، ومعه سمكة تضطرب كبيرة، فقلت له: ما هذا؟ فقال: دعوت الله فأمرني أن أقصد البطائح وأجيئك بهذه، فمضيت إلى البطائح، فخضت الأهواز، فهذا الطين منها حتى أخذت هذه!
فعلمت أنها حيلة، فقلت له: تدعني أدخل البيت فإن لم ينكشف لي حيلة فيه آمنت بك، فقال: شأنك، فدخلت البيت وغلقته على نفسي، فلم أجد فيه طريقة ولا حيلة، فندمت، وقلت: إن وجدت فيه حيلة فكشفتها، لم آمن أن يقتلني في الدار، وإن لم أجد طالبني بتصديقه، كيف أعمل؟
قال: وفكرت في البيت فرفعت تأزيرة - وكان مؤزرا بإزار ساج - فإذا بعض التأزير فارغا، فحركت جسرية منه خمنت عليها، فإذا هي قد انفلقت، فدخلت فيها فإذا هي باب ممر، فولجت فيها إلى دار كبيرة، فيها بستان عظيم، فيه صنوف الأشجار والثمار، والريحان والأنوار، التي هي وقتها، وما ليس هو وقته، مما قد غطي وعتق، واحتيل في بقائه، وإذا الخزائن مفتوحة فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها، والحوائج لما يعمل في الحال إذا طلب، وإذا بركة كبيرة في الدار فخضتها، فإذا هي مملوءة سمكا كبارا وصغارا، فاصطدت واحدة كبيرة وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل، والماء إلى حد ما رأيت رجله!
فقلت: الآن إن خرجت ورأى هذا معي قتلني، فقلت: احتال عليه في الخروج، فلما رجعت إلى البيت أقبلت أقول: آمنت وصدقت ، فقال لي: ما لك؟ قلت: ما ها هنا حيلة، وليس إلا التصديق بك، قال: فاخرج فخرجت، وقد بعد عن الباب ، وتموه عليه قولي، فحين خرجت أقبلت أعدو أطلب باب الدار، ورأى السمكة معي، فقصدني وعلم أني قد عرفت حيلته، فأقبل يعدو خلفي فلحقني، فضربت بالسمكة صدره ووجهه، وقلت له: أتعبتني حتى مضيت إلى البحر، فاستخرجت لك هذه منه!
قال: واشتغل بصدره وبعينه وما لحقهما من السمكة، وخرجت فلما صرت خارج الدار طرحت نفسي مستلقيا لما لحقني من الجزع والفزع، فخرج إلي وضاحكني، وقال: ادخل، هيهات والله لئن دخلت لا تتركني أخرج أبدا، فقال: اسمع، والله إن شئت قتلك على فراشك لأفعلن، ولئن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك، ولو كنت في تخوم الأرض، وما دام خبرها مستورا، فأنت آمن على نفسك، امض الآن حيث شئت، وتركني ودخل، فعلمت أنه يقدر على ذلك، بأن يدس أحد من يطيعه ويعتقد فيه ما يعتقده فيقتلني، فما حكيت الحكاية إلى أن قتل!»
وقصة ثالثة، يبدو فيها الراوية متهكما ماجنا ساخرا من كل القيم الإنسانية.
يقول صاحب «تاريخ بغداد»:
9 «أخبرنا علي بن أبي علي عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق: أن الحسين بن منصور الحلاج لما قدم بغداد يدعو، استغوى كثيرا من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم.
فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه، وكان أبو سهل من بينهم مثقفا فهما فطنا، فقال أبو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل، ولا لذة لي أكبر من النساء وخلوتي بهن، وأنا مبتلى بالصلع، حتى إني أطول قحفي وآخذ به إلى جبيني، وأشده بالعمامة، وأحتال فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب لستر المشيب، فإن جعل لي شعرا ورد لحيتي سوداء بلا خضاب، آمنت بما يدعوني إليه كائنا ما كان! إن شاء قلت: إنه باب الإمام! وإن شاء الإمام! وإن شاء قلت: إنه النبي، وإن شاء قلت: إنه الله!
قال: فلما سمع الحلاج جوابه آيس منه، وكف عنه، قال أبو الحسن: وكان الحلاج يدعو كل قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل!»
ثم يقول: «وأخبرني جماعة من أصحابنا أنه لما افتتن الناس بالأهواز وكورها بالحلاج، وما يخرجه لهم من الأطعمة والأشربة في غير حينها، والدراهم التي سماها دراهم القدرة، حدثت أبا علي الجبائي بذلك، فقال لهم: هذه الأشياء محفوظة في منازل يمكن الحيل فيها، ولكن أدخلوه بيتا من بيوتكم لا من منزله هو، وكلفوه بأن يخرج منه جزرتين، فإن فعل فصدقوه.
فبلغ الحلاج قوله، وأن قوما قد عملوا على ذلك، فخرج عن الأهواز!»
وتمضي قصص الخصوم هادفة مجرحة، يصعد بها الرواة إلى راو أخير، لا يذكر اسمه، وإنما يذكر نعته، وهو أنه من الثقاة!
يقول الخطيب البغدادي:
10 «أنبأنا علي بن أبي علي المعدل عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق، قال: حدثني غير واحد من الثقات من أصحابنا: أن الحسين بن منصور الحلاج كان قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلد من بلدان الجبل، وافقه على حيلة يعملها، فخرج الرجل فأقام عندهم سنين يظهر النسك والعبادة، ويقرأ القرآن ويصوم، فغلب على البلد حتى إذا علم أنه قد تمكن أظهر أنه قد عمي، فكان يقاد إلى مسجده، ويتعامى عن كل أحد شهورا.
ثم أظهر أنه قد زمن، فكان يحبو ويحمل إلى المسجد حتى مضت سنة على ذلك، وتقرر في النفوس زمانته وعماه، فقال لهم بعد ذلك: إني رأيت في النوم كأن النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول لي: إنه يطرق هذا البلد عبد صالح مجاب الدعاء، يكون عافيتك على يده وبدعائه، فاطلبوا إلى كل من يجتاز من الفقراء، أو من الصوفية، فلعل الله أن يفرج عني على يد ذلك العبد وبدعائه، كما وعدني رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتعلقت النفوس إلى ورود العبد الصالح، وتطلعته القلوب، ومضى الأجل الذي كان بينه وبين الحلاج، فقدم البلد فلبس الثياب الصوف الرقاق، وتفرد في الجامع بالدعاء والصلاة، وتنبهوا على خبره، فقالوا للأعمى: فقال: احملوني إليه، فلما حصل عنده وعلم أنه الحلاج ، قال له: يا عبد الله إني رأيت في المنام كيت وكيت، فتدعو الله لي، فقال: ومن أنا وما محلي؟ فما زال به حتى دعا له ثم مسح يده عليه، فقام المتزامن صحيحا مبصرا! فانقلب البلد وكذا الناس على الحلاج، فتركهم وخرج من البلد، وأقام المتعامي المتزامن فيه شهورا، ثم قال لهم: إن من حق نعمة الله عندي، ورده جوارحي علي أن أنفرد بالعبادة انفرادا أكثر من هذا، وأن يكون مقامي في الثغر، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، فمن كانت له حاجة تحملتها، وإلا فأنا أستودعكم الله، قال: فأخرج هذا ألف درهم فأعطاه، وقال: اغزيها عني، وأعطاه هذا مائة دينار، وقال: اخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه هذا مالا، وهذا مالا، حتى اجتمع ألوف دنانير ودراهم، فلحق بالحلاج فقاسمه عليها!»
ولا يكتفي خصوم الحلاج بهذا، بل يضعون على لسانه كلمات يتهم فيها نفسه، بأنه يتعلم السحر، ولماذا يتعلمه، ليدعو به الخلق إلى الله!
يقول صاحب «تاريخ بغداد»:
11 «سمعت علي بن أحمد الحاسب قال: سمعت والدي يقول: وجهني المعتضد إلى الهند لأمور أتعرفها ليقف عليها، وكان معي بالسفينة رجل يعرف بالحسين بن منصور، وكان حسن العشرة، طيب الصحبة، فلما خرجنا من المركب ونحن على الساحل، والحمالون ينقلون الثياب من المركب إلى الشط، فقلت له: إيش جئت إلى هنا؟ قال: جئت لأتعلم السحر، وأدعو الخلق إلى الله تعالى.
قال: وكان على الشط كوخ وفيه شيخ كبير، فسأل الحسين بن منصور، هل عندكم من يعرف شيئا من السحر؟ قال: فأخرج الشيخ كبة غزل، وناول طرفه الحسين بن منصور، ثم رمى الكبة في الهواء، فصارت طاقة واحدة، ثم صعد عليها ونزل، وقال للحسين بن منصور: مثل هذا تريد؟ ثم فارقني ولم أره بعد ذلك إلا ببغداد.»
ويقول أيضا:
12 «... أنبأنا إسماعيل بن أحمد الحيري قال: قال المزين: رأيت الحسين بن منصور في بعض أسفاره، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إلى الهند أتعلم السحر، أدعو به الخلق إلى الله عز وجل!»
يقول الأستاذ عبد الحكيم حسان :
13 «يحمل على تكذيبهما أنهما مما روي بعد محنة الحلاج، ومما يرجح ذلك أن الراوي الأول هو والد علي بن أحمد الحاجب، كان موظفا في قصر المعتضد، ومركزه يحتم عليه نصرة المذهب السني الذي يعمل القصر والحكومة على حمايته، وأن الراوي الثاني هو أبو الحسن علي بن محمد المزين، وهو من خصوم الحلاج.»
حتى الروايات التاريخية التي تنطق بصدق الحلاج وترفعه، ونفوره مما ينسب إليه من الخوارق، يحاول الرواة إرضاء للسياسة العامة أن يعقبوا عليها بكلمات الشك والتجريح!
يقول الخطيب البغدادي:
14 «أنبأنا علي بن أبي علي البصري، أخبرني أبي قال: حدثني أبو الحسن محمد بن عمر القاضي، قال: حملني خالي معه إلى الحسين بن منصور الحلاج، وهو إذ ذاك في جامع البصرة يتعبد ويتصوف ويقرأ، قبل أن يدعي تلك الجهالات ويدخل في ذلك، وكان أمره إذ ذاك مستورا، إلا أن الصوفية تدعي له المعجزات من طريق التصوف، وما يسمونه مغوثات، لا من طريق المذاهب.
قال: فأخذ خالي يحادثه وأنا صبي جالس معهما أسمع ما يجري، فقال لخالي: قد عملت على الخروج من البصرة، فقال له خالي: لم؟ قال: قد صير لي أهل هذا البلد حديثا، فقد ضاق صدري وأريد أبعد منهم، فقال له: مثل ماذا؟ قال: يروني أفعل أشياء فلا يسألوني عنها، ولا يكشفونها، فيعلمون أنها ليست كما وقع لهم، ويخرجون فيقولون: الحلاج مجاب الدعوة، وله مغوثات، قد تمت على يده ألطاف، ومن أنا حتى يكون لي هذا؟ بحسبك أن رجلا حمل إلي منذ أيام دراهم، وقال لي: اصرفها إلى الفقراء فلم يكن يحضرني في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية من بواري الجامع إلى جنب أسطوانة عرفتها، وجلست طويلا فلم يجئني أحد، فانصرفت إلى منزلي وبت ليلتي، فلما كان من غد جئت إلى الأسطوانة وجعلت أصلي، فاحتف بي قوم من الفقراء، فقطعت الصلاة وشلت البارية فأعطيتهم تلك الدراهم، فشنعوا علي بأن قالوا: إني إذا ضربت يدي إلى التراب، صار في يدي دراهم، قال: وأخذ يعدد مثل هذا، فقام خالي عنه وودعه ولم يعد إليه، وقال: هذا منمس وسيكون له بعد هذا شأن، فما مضى إلا قليل حتى خرج من البصرة وظهر أمره.»
يقول طاهر بن أحمد التستري:
15 «تعجبت من أمر الحلاج، فلم أزل أتتبع وأطلب الحيل، وأتعلم النيرنجات لأقف على ما هو عليه! فدخلت عليه يوما من الأيام، وسلمت وجلست ساعة، ثم قال لي: يا طاهر لا تتمن، فإن الذي تراه وتسمعه من فعل الأشخاص لا من فعلي، لا تظن أنه كرامة أو شعوذة! فصح عندي أنه كما يقول.»
ويقول أبو العباس الرزاز: «قلت لأبي العباس بن عطاء: ما تقول في الحسين بن منصور؟ فقال: ذاك مخدوم من الجن، قال: فلما كان بعد سنة، سألته عنه، فقال: ذاك من حق، فقلت له: قد سألتك عنه قبل هذا فقلت: مخدوم من الجن، وأنت الآن تقول هذا! فقال: نعم، ليس كل من صحبنا يبقى معنا، فيمكننا أن نشرفه على الأحوال! وسألت عنه وأنت في بدء أمرك، وأما الآن وقد تأكد الحال بيننا، فالأمر فيه ما سمعت.»
16
وأبو العباس بن عطاء يزيد الأمر غموضا وإبهاما، فيجعل من عجائب الحلاج، أو من كراماته سرا يجب أن يصان، وأن يضن به على غير أهله.
ومصرع الحلاج أيضا تحيط به الخوارق أو الكرامات، كما يتحدث الرواة، فجسده يبقى ساعات حيا بعد قطع رأسه؟ ودمه يخط على الأرض ... لا إله إلا الله!
وعندي أن أروع خوارق الحلاج أو كراماته هي فدائيته وبطولته الصادرة في إيمان عميق، وثبات رهيب، وصبر معجز، أمام هول من العذاب لا يحتمله بشر!
لم يضعف، ولم يهن، ولم يتراجع، ولم يغفل لسانه أو قلبه لحظة أو سائحة عن ذكر الله، والتغني بحبه.
والحلاج بعد هذا من أصحاب الرياضات والمجاهدات، بل هو قمة شامخة في المجاهدات والرياضات الروحية، حمل نفسه فيها على الصعب الأشق، وهي طريق ينبت دائما هذه الخوارق، أو هذه الكرامات.
والخارقة أو الكرامة من الأمور التي يكاد الإجماع ينعقد على جوازها للصفوة الممتازة المختارة، من المؤمنين البررة، يجريها الله سبحانه على أيديهم ، تثبيتا لهم، إو إظهارا لمقامهم، فضلا منه سبحانه وكرما.
والصوفية يجعلون الكرامة من طبيعة حياتهم الروحية المضيئة، ويقولون: إن الولاية لم يدعها في الإسلام سواهم، وهي آية صدقهم وتقواهم.
ولكن الصوفية مع هذا لا يكبرون من شأن الكرامة، ولا يعتزون بالخارقة، بل يرونها من أنواع الابتلاء، وأن الوقوف معها من علامات النقص.
والكرامة الكبرى عندهم هي ترقيهم في معارج الكمال الخلقي والروحي، وثباتهم في هذه المعارج، وتذوقهم لها، مع حفظ جوارحهم وقلوبهم وألسنتهم حفظا ربانيا، هو علامة الرضا، وآية القبول، ودليل الكرامة الأعلى.
يقول سهل بن عبد الله التستري: «أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاق نفسك بخلق محمود.»
ويقول أبو القاسم الجنيد: «إن الاتكال على الكرامات أحد الحجب التي تمنع المختار من النفوذ إلى صومعة الحق المحجبة.»
ويقول أبو الحسن الخرقاني: «الكرامات أول مراحل ألف في الطريق إلى الله.»
الحلاج والحب الإلهي
مفتاح شخصية الحلاج هو حبه الإلهي، فهو سمته وطابعه، وهو الذي شكل ملامحه الروحية، وكون معارفه الذوقية، وهو معراجه الذي صعد عليه، مستهدفا الوصول إلى شيء يدق على التعبير، ويسمو على التصور والتصوير، إلى الفناء في المحبوب الأسمى، فناء يمنحه الخلود والبقاء، ويضفي عليه بهاء الرجل الإلهي.
عاش الحلاج بالحب وللحب، فهو قوته الروحي، وغذاؤه القلبي، وهو ملهب أشواقه، ومبدع مواجيده، ومطلق ألحانه، وهو أفقه الفسيح المتلألئ، الذي تترقرق فيه الأنوار، وتتجلى فيه الأسرار.
والحب هو التصوف، والتصوف هو الحب، ولقد حاول رجال المنهج الصوفي قديما وحديثا أن يعرفوا التصوف، فابتدعوا وابتكروا كلمات مضيئة، تعبر عن الأخلاق، وعن الزهد، وعن التسامي، وعن العبادة، ولكنها عندي جميعا إنما تعبر تعبيرا جزئيا لا يصور المنهج الصوفي، ولا يحيط به.
فالتصوف في جوهره هو الصلة الدائمة اليقظة الحية بالله، هو محاولة تجريبية لعودة الإنسان، بكل جزئية في كيانه الروحي، إلى مبدعه ومولاه.
هو إيقاظ عين القلب، لتتفتح بكل طاقاتها التي أودعها الله فيها، لتكون مبصرة في عالم المشاهدة، فترى الله في كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء .
والصوفي في تجربته الكبرى مسافر في ملكوت السماء والأرض، يسلك طريقا روحيا تتوالى فيه وتتابع الأحوال والمقامات، بإلهاماتها وأذواقها ومعارفها ، حتى يصل من المقام الأول، مقام التوبة، إلى المقام الأعلى، مقام الفناء بالله والبقاء به، ليغدو ربانيا سمعه بالله، وبصره بالله، وكل ما يصدر عنه، وينبثق منه، ويتحرك فيه، إنما هو لله وبالله.
وبراقه الصاعد، ومعراجه ودليله وهاديه في طريقه، هو حبه لربه، ذلك الحب الذي يحرق فيه كل ما هو ترابي، ليبقى كل ما هو روحي رباني.
ذلك الحب الذي يغسل قلبه من الدنيا، ويطلق كنوز روحه العليا، ويمنحه مذاقات الأنس والقرب، وما إلى الأنس والقرب من هبات التجربة الصوفية وعطاياها.
ذلك الحب هو عنوان التصوف، وهو البذرة الأم، التي نمت منها أغصانه، وانبثق زهره، وأينع ثمره.
وقد جعل الصوفية من هذا الحب فلسفة تحيط بكل شيء في الكون، وتمتد أجنحتها إلى كل أفق في الحياة.
فلسفة تمسح من وجه الكون الكبير قناعه المادي، لتحيل الكون جميعه إلى أرواح حساسة عابدة مسبحة؛ لأنها بالحب خلقت، وبالحب قامت، وبالحب تسبح وتهتف.
ثم تمشي إلى الأخلاق الإنسانية، فتنفخ فيها من روح الله، وتسمو بها إلى هداه ورضاه.
يقول جلال الدين الرومي، شاعر التصوف الفارسي: «الحب دواء كبريائنا وغرورنا بأنفسنا، وهو الطبيب لضعفنا كله، ومن استعار الحب ثوبه، برئ أصالة من كل إثرته.»
1
وعلى قدر محبة الصوفي لربه، تكون محبته لعباده ولكونه، بكل ما فيه، وبكل ما ينطوي عليه.
والحب الإلهي يضفي على الكون الجمال المطلق: الله نور السموات والأرض، ويضفي على أحداث الحياة الرضا، فكل شيء جميل؛ لأنه من قضاء الله، ومن إرادته، وقضاء الحبيب حبيب.
والحب كما يقول الصوفية: «هو سكر المشاهدة، وشجاعة الباذل، وإيمان الولي، والأصل الأصيل للتحقق الخلقي، والإدراك الروحي، هو نبذ النفس وتضحيتها، والتخلي عن كل مملوك من مال أو جاه، أو إرادة أو حياة، وعن كل ما يضن به الناس، لوجه المحبوب، دون تفكير في جزاء.»
2
والحب الإلهي هو المصدر الحقيقي الذي استمدت منه الموجودات وجودها ، وهو سبيل المعرفة العليا، فإذا فنيت النفس عن أوصافها بالحب، انكشفت لها الأسرار، ورفعت عنها الأستار.
يقول المستشرق جولد زيهر :
3 «فمحبة الله هي إذن خلاصة ما انتهى إليه هذا المجهود المركز الذي بذلته أرواح الصوفيين، لكي يفنى خيال الوجود الشخصي في حقيقة الكائن الإلهي، الشاملة لكل شيء، وقد أنتجت هذه الفكرة في كافة لغات الأمم الإسلامية الراقية أدبا شعريا يعد في مرتبة الدرر الفريدة في الأدب العالمي، وهذه الفكرة العامة كانت أساسا فلسفيا كافيا لأن يدعم حياة النسك والتصوف.»
والحب الإلهي ليس شرعة عامة للناس جميعا، إنما هو هبة الله للصفوة المختارة، التي سبق له منها الحسنى.
قيل لمعروف الكرخي: «أخبرنا عن المحبة أي شيء هي؟ قال: يا أخي ليس المحبة من تعليم الناس، المحبة من تعليم الحبيب.»
4
ويقول أبو يزيد البسطامي: «توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه، فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري، ومعرفته سبقت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي، وطلبه لي أولا حتى طلبته.»
5
ويقول الإمام الغزالي:
6 «إن لله تعالى شرابا يسقيه في الليل قلوب أحبائه، فإذا شربوا طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى، حبا لله تعالى، وشوقا إليه.»
وسئل أبو سعيد الخراز عن المحبة، فقال: «طوبى لمن شرب كأسا من محبته، وذاق نعيما من مناجاة الجليل وقربه، بما وجد من اللذات بحبه، فملئ قلبه حبا، وطار بالله طربا، وهام به اشتياقا، فيا له من رامق، أسف بربه، كلف دنف، ليس له سكن غيره، ولا مألوف سواه!»
7
ويقول أبو القاسم الجنيد: «سألني السري السقطي يوما عن المحبة؟ فقلت: هي الموافقة، وقال قوم: الإيثار، فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد! ثم قال: وعزته تعالى لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت، ثم غشي عليه.»
ويقول جلال الدين الرومي عن الحب: «هو الكحل الذي تكتحل به عين القلب فينجلي بصرها.»
8
والحب في منطق الصوفية هو أسمى العبادات وأزكاها، وهو معراج المعرفة، وبراق القرب، يقول فريد الدين العطار: «ما لم أتجه بقلبي إليك أعد صلاتي غير جديرة بأن تعد صلاة.»
ويقول الشبلي: «لأن تحس أنك واحد مع الله خير من عبادة الناس جميعا، من بدء الدنيا إلى غايتها.»
والحب الإلهي في التصوف الإسلامي يدين للحلاج دينا كبيرا، فقد ترك في المحبة وما يتصل بها، ويدور حولها ثروة خصبة حية غدت مادة الصوفية في هذا المنهج، ودستورهم المتلألئ في هذا الأفق.
بل يرى ماسنيون: أن الحلاج هو الشخصية الكاملة التي تمثل أصدق تمثيل أسمى ما وصل إليه الحب الإلهي في التصوف الإسلامي.
ويقول نيكلسون:
9 «لقد نمت على يد الحلاج أكبر حركة تطور في تاريخ التصوف، فهو المبتكر الأول للمصطلحات الصوفية، التي وسعت آفاق التصوف، وهو الذي جعل من الحب الإلهي فلسفة كاملة، ومنهجا متماسكا، وأن كل من جاء بعده إنما كان ينسج ويقلد.»
ويقول الأستاذ عبد الحكيم حسان، متحدثا عن نمو التصوف وتطوره، من الزهد إلى المحبة:
10 «أما حين انتهى أمر الحب الإلهي إلى الحلاج، فإنه اتخذ شكلا قويا لما رتب عليه الحلاج من مذاهب صوفية كثيرة؛ فقد تكلم صراحة في اتحاد المحب بالمحبوب، اتحادا يزيل صفة البشرية عن المحب، باستبداله بصفاته صفات الله عز وجل، وصحب هذا كلام في اللاهوت والناسوت لأول مرة في تاريخ التصوف.
كما استتبع كلامه في الحب الإلهي كلاما آخر في - النور المحمدي - لأن من أحب الله فقد أحب حبيبه محمدا، وانتهى به كلامه في الحب إلى القول بوحدة الأديان.
وهكذا ترك الحلاج في الحب الإلهي وما يتصل به ثروة ضخمة من بين منظوم ومنثور.»
ويقول المستشرق بروان: «كان ظهور الحلاج إيذانا ببدء مرحلة جديدة في التصوف الإسلامي، نثره وشعره على السواء، خاصة في الحب الإلهي.»
ولا جدال في أن أخلد صفحات الحب الإلهي في التصوف الإسلامي هي الصفحات التي كتبها الحلاج نثرا ونظما، كتبها بذوب قلبه، وبقطرات روحه، وبأشد حرقة ووجد، عرفا عن محب أفنى وجوده وكيانه وروحه في محبوبه الأسمى.
يقول الحلاج: «حقيقة المحبة، قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك والاتصال بأوصافه.»
لقد استهدف الحلاج بحبه الفناء الكامل، ليخرج من بشرية صفاته، إلى بهاء التحلي بأوصاف القدس الأعلى.
استهدف الارتفاع بالبشرية إلى مرتبة الحقيقة الربانية، التي يكمن وراء سترها المقدس سر الوجود، وسر الخلق.
فالخلق أصلا برز من عالم الغيب بالحب، وخلق بالحب، وتشكلت حقائقه وصفاته بالحب، ومن هنا أصبح الحب هو سر الكون.
وبهذا الحب وحده يمكن الإنسان أن يتصل بالحقيقة العليا، وبالمعرفة العليا، وأخيرا يمكنه به أن يحقق في ذاته الإنسان الكامل، الإنسان الذي يتخلى عن ترابيته، ليتحلى ببهاء الرجل الرباني، الذي يعيش في فيض من نور ربه وحبه.
يقول الحلاج: «كان الله قبل أن يخلق خلقه، يتحدث إلى نفسه في أحديته، حديثا حمديا، وهو يتأمل روعة ماهيته، وتأمله لذاته في بساطة هو الحب.
والحب في ماهيته هو ماهية الماهية، وهو فوق كل تشكل بأشكال الصفات، وهكذا يحب الله ذاته في انفراده بحمد ذاته، ويتجلى في الحب.
وعن هذا التجلي الأول للحب، في المطلق الإلهي، ظهرت صفاته وأسماؤه.
فبالحب تجلى لنفسه في نفسه، فلما أحب أن يرى ذلك الحب بعيدا عن الغيرية والثنوية في صورة ظاهرة، أخرج من العدم صورة لها جميع صفاته وأسمائه، فكانت هذه الصورة الإلهية آدم الذي تجلى الحق فيه.»
11
وهذا ارتفاع بالإنسان والإنسانية، تنبثق منه فلسفة إيمانية ربانية، هي الفلسفة التي شكلت أبدع وأضوأ جوانب الحياة الروحية في تاريخ التصوف الإسلامي.
ومن هنا كانت نظرية الحلاج، التي اعتنقها الصوفية جميعا، تلك النظرية التي جعلت الحب، والحب وحده هو المعراج الموصل لمعرفة الله.
يقول الحلاج: «لا سبيل إلى معرفة الله بالعلم، بل إن الحب هو الطريق إليها،؛ إذ ليست المعرفة الفكرية للقضاء الإلهي هي التي تقربنا من الله، بل إنما هو خضوع القلب للأمر الإلهي في كل لحظة.»
ومن هنا يقول الحلاج: «ما من أحد يعبد الله بفعل يكون أحب إلى الله من حبه تعالى.»
وقد عبد الحلاج ربه سبحانه بهذا الحب، عبادة حارة مضيئة أحاطت بحياته، وبثت فيها مذاقات وإلهامات، وعرضت على عين قلبه صورا من التجليات والمشاهدات، جعلته في شوقه ووجده يحس إحساسا روحيا بأنه مع من يحب، بل يحس إحساسا لا شعوريا في حيرته وذهوله، أن بشريته قد احترقت وفنيت في هذا المحبوب الأسمى.
يقول ماسنيون:
12 «وليس هناك من متصوف أكثر عشرة مع الله، يتصل في حديثه معه - أنا وأنت ونحن - دون إشارة إلى رموز الحب البشري من الحلاج.»
ثم يقول: «وليس هناك من شعر صوفي أشد حرارة، وأكثر بعدا عن المادة من شعر الحلاج.»
يقول الحلاج:
13
تباركت مشيئتك يا ربي وسيدي
تباركت مشيئتك يا قصدي ومرادي
يا ذات وجودي وغاية رغبتي
يا حديثي وإيماني ورمزي
يا كل كلي يا سمعي ويا بصري
يا جميعي وعنصري وأجزائي
لقد فنى الحلاج عن كل شيء، وأعرض عن كل شيء، واستغرقه حبه لربه، استغراقا جعله يحس بأن هذا الحب قد ملأ وجوده وقلبه وروحه.
إنه ليحب بكل ذرة من ذرات جسده، وبكل طاقة من طاقات روحه، حتى لم يعد كيانه كله إلا حبا وتجليا لمولاه وحبيبه.
حويت بكلي كل حبك يا قدسي
تكاشفني حتى كأنك نفسي
أقلب قلبي في سواك فلا أرى
سوى وحشتي منه ومنك به أنسي
فهل أنا في حب الحياة مجمع
من الأنس فاقبضني إليك من الحبس
14
ثم يقول:
15
مكانك من قلبي هو القلب كله
فليس لخلق في مكانك موضع
وحطتك روحي بين جلدي وأعظمي
فكيف تراني إن فقدتك أصنع
ثم يهتف في ضراعة باكية:
16
يا موضع الناظر من ناظري
ويا مكان السر من خاطري
يا جملة الكل التي كلها
أحب من بعضي ومن سائري
تراك ترثي للذي قلبه
معلق في مخلبي طائر
مدله حيران مستوحش
يهرب من قفر إلى آخر
يسري وما يدري وأسراره
تسري كلمح البارق الثائر
كسرعة الوهم لمن وهمه
على دقيق الغامض الغابر
في لج بحر الفكر تجري به
لطائف من قدرة القادر
والحلاج لا يكتم حبه، فأطيب الحب وأعذبه ما سار الحديث به، وتناقلته الرواة.
الحب ما دام مكتوما على خطر
وغاية الأمن أن تدنو من الحذر
وأطيب الحب ما تم الحديث به
كالنار لم تؤت نفعا وهي في الحجر
من بعد ما حضر الأحباب واجتمع ال
أعداء واختط اسمي صاحب الخبر
أرجو لنفسي برءا من محبتكم
إذا تبرأت من سمعي ومن بصري
17
وهو قلق في حبه، تتقاذفه أمواج الوجد والشوق، إلى محيطات ليس لها شط.
ما زلت أطفو في بحار الهوى
يرفعني الموج وأنحط
فتارة يرفعني موجها
وتارة أهوى وأنغط
حتى إذا صيرني في الهوى
إلى مكان ما له شط
ناديت يا من لم أبح باسمه
ولم أخنه في الهوى قط
تقيك نفسي السوء من حاكم
ما كان هذا بيننا شرط
18
والحلاج في حبه يخاطب محبوبه الأسمى مواجهة، يقول ماسنيون: «إن أسلوب الحلاج في الحب أسلوب مجرد من المظاهر المادية، فهو لا يستعمل الطريقة الرمزية - ليلى، لبنى - التي تتخذ شكلا من أشكال الحب الدنيوي.»
سكنت قلبي وفيه منك أسرار
فليهنئك الدار بل فليهنئك الجار
ما فيه غيرك من سر علمت به
فانظر بعينك هل في الدار ديار
وليلة الهجران طالت وإن قصرت
فمؤنسي أملي فيها وتذكار
إني لراض بما يرضيك من تلفي
يا قاتلي ولما تختار أختار
19
ثم يوغل الحلاج في حبه، وفي قربه، وفي طاعته، وفي أنسه بربه، حتى يكون الله سبحانه بصره وسمعه، ويده وبدنه، فيهتف في نشوة وجده، وحرقة فنائه:
لبيك لبيك يا سري ونجوائي
لبيك لبيك يا قصدي ومعنائي
أدعوك بل أنت تدعوني إليك فهل
ناديت إياك أم ناجيت إيائي
يا عين عين وجودي يا مدى هممي
يا منطقي وعباراتي وإعيائي
يا كل كلي ويا سمعي ويا بصري
يا جملتي وتباعيضي وأجزائي
يا من به علقت روحي فلقد تلفت
وجدا فصرت رهينا تحت أهوائي
أبكي على شجني من فرقتي وطني
طوعا ويسعدني بالنوح أعدائي
أدنو فيبعدني خوفي فيقلقني
شوق تمكن في مكنون أحشائي
فكيف أصنع في حب كلفت به
مولاي قد مل من سقمي أطبائي
قالوا تداو به منه فقلت لهم
يا قوم هل يتداوى الداء بالدائي
حبي لمولاي أضناني وأسقمني
فكيف أشكو إلى مولاي مولائي
إني لأرمقه والقلب يعرفه
فما يترجم عنه غير إيمائي
يا ويح روحي من روحي فوا أسفي
علي مني فإني أصل بلوائي
كأنني غرق تبدو أنامله
تغوثا وهو في بحر من الماء
وليس يعلم ما لاقيت من أحد
إلا الذي حل مني في سويدائي
يا غاية المسئول والمأمول يا سكني
يا عيش روحي يا ديني ودنيائي
قل لي فديتك يا سمعي ويا بصري
لماذا اللجاجة في بعدي وإقصائي
إن كنت بالغيب عن عيني محتجبا
فالقلب يرعاك في الإبعاد والنائي
20
ويمشي خطوات على لهيب وجده المقدس، معتزا فخورا بتحليقاته التي عجزت عنها أجنحة المحبين من قبل.
لقد وسم الحب قلبه بميسم الشوق العنيف الجبار، حتى غاب عن شهود ذاته، لقد استغرقته أنوار لا يرى معها سواها:
وخضت في لج بحر فكري
أمر فيه كمر سهم
وطار قلبي بريش شوق
مركب في جناح عزمي
إلى الذي إن سئلت عنه
رمزت رمزا ولم أسمي
حتى إذا جزت كل حد
في فلوات الدنو أهمي
نظرت إذ ذاك في سجال
فما تجاوزت حد رسمي
فجئت مستسلما إليه
حد قيادي بكف سلمي
قد وسم منه الحب قلبي
بميسم الشوق أي وسم
وغاب عني شهود ذاتي
بالقرب حتى نسيت اسمي
21
وحب الحلاج هو كل آماله وأحلامه، هو دينه ودنياه، إنه حب قلب أبصر فعشق فاحترق.
كانت لقلبي أهواء مفرقة
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
ما لامني فيك أحبابي وأعدائي
إلا لغفلتهم عن عظم بلوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم
شغلا بحبك يا ديني ودنيائي
أشعلت في كبدي نارين واحدة
بين الضلوع وأخرى بين أحشائي
ثم يقول مترنما:
ولا هممت من شرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالا منك في الماء
النار أبرد من ثلج على كبدي
والسيف ألين من هجران مولائي
22
ومن مناجاته:
غبت وما غبت عن ضميري
وصرت فرجتي وسروري
وانفصل الفصل بافتراق
فصار في غيبتي حضوري
فأنت في سر غيب همي
أخفى من الوهم في ضميري
تؤنسني بالنهار حقا
وأنت عند الدجى سميري
23
ومن ألحانه:
لي حبيب حبه وسط الحشا
لو يشا يمشي على قلبي مشا
روحه روحي وروحي روحه
إن يشا شئت وإن شئت يشا
24
ومن ترنيماته:
مزجت روحك في روحي
كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
25
ومن مواجيده:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
26
وفي لحظات يقظته الروحية يشرح لنا في أدق عبارة، وأبين منطق، حقائق كلماته، في سبحات نشوته، واحتراقات وجده، ولحظات فنائه عن ذاته.
إنها كلمات من استغراقات المشاهدة، لا تقصد لذاتها، وإنما تعبر في لحظات التجلي عن فناء صفاتها في لهيب وجدها، فلا ترى في الكون إلا هو سبحانه.
عجبت منك ومني
يا منية المتمني
أدنيتني منك حتى
ظننت أنك أني
وغبت في الوجد حتى
أفنيتني بك عني
يا نعمتي في حياتي
وراحتي بعد دفني
ما لي بغيرك أنس
من حيث خوفي وأمني
27
ومنهج الحلاج في الحب هو العذاب لا اللذة، هو التضحية، التضحية الكاملة بالنفس، وهذه التضحية هي أسمى درجات الحب؛ لأنها أكبر الآيات على صدق المحب في حبه.
يقول نيكلسون:
28 «أما الحلاج فيرى أن محبة الله لعباده ورحمته بهم فوق كل شيء، وأن أساس المحبة التضحية، وأن المحب يجب أن يشقى من أجل محبوبه، من غير أن يسأل عن الأسباب، وأن الواجب على أولياء الله أن يتوجهوا إلى الله وحده، ويتحققوا بمعنى العبودية الكاملة، ويطيعوا أمره مهما كلفهم ذلك من عنت وشقاء.»
ويقول الحلاج:
29 «المحبة لذة، والحق لا يتلذذ به؛ لأن مواضع الحقيقة دهش وحيرة!»
ثم يقول: «محبة العبد لله تعظيم يحل الأسرار، فلا يستجيز تعظيم سواه، ومحبة الله للعبد هو أن يبليه فلا يصلح لغيره!»
مقام الفناء الصوفي وشبهات الاتحاد والحلول
وانتهى الحب الإلهي بالصوفية إلى ذروة التجربة الروحية، إلى مقام الفناء، ففنوا في محبوبهم الأعلى، فناء لم يشاهدوا خلاله غير جمال الحبيب، وهم في بحر الفناء الزاخر، لا يحسون بشيء من الموجودات؛ لأن الإحساس قد فنى بالنسبة لهذه الموجودات، واتجه بكليته لمطالعة جمال المحبوب.
1
وبالفناء يفقد الصوفية عالم الناس، ليعيشوا في عالم آخر، هو عالم الجمال المطلق، والخير المطلق، والحق المطلق، وفي عالمهم هذا ترفع الأستار عن الأسرار، وتتجلى لهم الحقائق، حق اليقين، وعين اليقين.
وهم في عالمهم هذا ليسوا على درجة سواء، فمنهم من يشاهد الحبيب وهو في حالة رهبة أو خشية، ومنهم من يشاهده وهو في حالة أنس به، أو مناجاة له.
وقد تزداد درجة القرب، ثم تزداد حتى يتحدث المحب عن الله بصيغة المتكلم، فقد غاب عن نفسه، وعن كونه، فلم يعد يرى إلا الأول والآخر والظاهر والباطن سبحانه، أو كما يقول الصوفية: يغدو الكلام إشارة منه به إليه!
يقول معروف الكرخي: «إذا انفتحت عين بصيرة العارف، نامت عين بصره، فلا يرى إلا الله.»
ويقول الحلاج: «من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم.»
ويقول شارح المواقف للنفري: «أقل علوم القرب - القرب من الله - أنك إذا نظرت إلى أي شخص محسوس أو معقول، أو غير ذلك فسوف ترى الله فيه رؤية أبين من رؤية الشيء نفسه، والدرجات في ذلك متفاوتة.
فبعض الصوفية يقولون: إنهم لا يرون شيئا إلا ويرون الله قبله، وبعضهم يقول: إنهم لا يرون شيئا إلا ويرون الله بعده، وآخرون يقولون: إنهم لا يرون شيئا إلا ويرون الله معه، ويقول غيرهم: ما رأينا شيئا غير الله.»
والفناء هو غاية الصوفية، ففيه يشربون رحيق الحب الأعلى، وينعمون فيه بمتع ولذائذ روحية، تنسيهم دنياهم وأخراهم ووجودهم، وكل شيء سوى المحبوب الأعلى.
والفاني كما يقول الصوفية، لا يحس بما حوله، ولا يحس بنفسه، فقد فنى عما سوى الله، ومن هنا جاء كلام الصوفية الذي لا يفهمه ولا يتذوقه سواهم، حينما يقولون في نشوة الفناء، ووقدة الحب، ليس في الوجود إلا الله.
والفناء كما يقول الجرجاني: «فناءان؛ أحدهما ذوقي، والآخر خلقي، فالذوقي هو عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت ، بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق. والخلقي هو سقوط أوصافه المذمومة، واستبدالها بالأوصاف المحمودة.»
2
ويصف أبو القاسم الجنيد الفناء: بأنه دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب، أي التخلق بأخلاق الله وصفاته ليكون ربانيا.
ويقول المستشرق نيكلسون:
3 «والصوفية كلها تقوم على القول بأنه إذا فقدت النفس الفردية، فقد وجدت النفس الكلية، والجذب يهيئ الأسباب التي بها تتصل الروح مباشرة بالله. والزهد والتطهر من الآثام، والحب والمعرفة والولاية، بل جميع الأفكار الأساسية في الصوفية، تنبع من هذا الأصل الجامع.»
والفناء كما يقول - الجامي - يتهيأ بجعل القلب واحدا، وذلك بتطهيره وحبسه عن الاتصال بشيء خلا الله، سواء في الإرادة أو العلم أو المعرفة، ورغبة الصوفي أو إرادته لا بد أن تصرف صرفا عن الأشياء جميعا المرغوب فيها والمراد.
ولا بد كذلك أن تطرد من خياله الواعي، كل موضوعات العلم والعرفان، ولا بد أن توجه أفكاره جميعا إلى الله لا غير، وألا يذكر معه غيره.
ويقول العلامة زين الدين الخافي:
4 «العبد إذا تخلق ثم تحقق، ثم جذب، اضمحلت ذاته، وذهبت صفاته، وتخلص من السوى، فعند ذلك تلوح له بروق الحق بالحق، فيطلع على كل شيء، وهذا أول المقامات. فإذا ترقى عن هذا المقام، وأشرف على مقام أعلى منه، وعضده التأييد الإلهي، رأى أن الأشياء كلها فيض وجوده تعالى، لا عين وجوده.»
ويقول الدكتور عبد الرحمن عزام:
5 «الفناء عند الصوفية هو خلاص الإنسان من نزعاته وأهوائه وإرادته الخاصة، فيكون كل فكره وعمله لله وبالله.
وبهذا ينبغي أن يفسر ما يقول الصوفية في الفناء، أنه ليس بموت؛ لأن الذي يسمونه فانيا يعيش على هذه الأرض، وليس هو حلول الله في الإنسان، كما في بعض النحل.»
ويقول العلامة الهجويري:
6 «هو درجة كمال يبلغها العارفون، الذين انتهى بهم الطلب إلى الكشف، فرأوا كل مرئي، وسمعوا كل مسموع، وأدركوا كل أسرار القلب، وأعرضوا عن كل شيء، وفنوا في مقصدهم، وفنيت في هذا المقصد كل مقاصدهم.»
والصوفية كما يقول المستشرق جولدزيهر:
7 «بإبرازهم للمثل الأعلى لكمال النفس الإنسانية، وتحديدهم للخير الأسمى في هذا المقام، يزيدون على الفلاسفة خطوة، ويسبقونهم درجة.»
وكما يقول العلامة ابن سبعين المرسي: «إن الفلاسفة الأقدمين رأوا أن الغاية المثلى هي التشبه بالله، بينما الصوفية يدأبون على الفناء في الله، وذلك بأن يكون الصوفي قابلا لأن يدع السنن الإلهية تغمره وتفيض عليه، وأن يمحو انفعالات الحواس، ويظهر مشاعر الروح.»
والحلاج عند صوفية ما وراء النهر جميعا، وعند الكثرة من رجال الاستشراق، أبرز وأقوى الشخصيت الصوفية التي عاشت هذا المقام، وتحققت به، وتذوقت إلهامه، وكشفت الأستار عن أسراره.
يقول شاعر الإسلام محمد إقبال في حديثه عن تطورات التفكير الديني في الإسلام:
8 «وقد بلغ تطور هذا المقام ذروته في تاريخ الإسلام، في عبارة الحلاج المشهورة «أنا الحق»، ولا مجال للشك في أن الولي الشهيد لم يكن يقصد من عبارته أن ينكر على الله صفة التنزيه، فالحلاج لم يستهدف بكلمته فناء الذات الإنسانية، واختفاءها في ذات الله، ولكنه إدراك لحقيقة النفس الإنسانية، وتأكيد جزئي لدوامها في شخصية أعمق، بعبارة قوية باقية على الدهر.»
ثم يقول: «وهذه التجربة في تاريخ الرياضة الدينية في الإسلام، تجعل الإنسان كما قال الرسول يتخلق بأخلاق الله.
وقد عبر عنها بعبارات، مثل: «أنا الحق» الحلاج، و«أنا الدهر» النبي محمد، و«أنا القرآن الناطق» علي بن أبي طالب.
وفي التصوف الإسلامي الرفيع ليس معنى أن إرادة الإنسان هي عين إرادة الله، أن النفس الإنسانية تمحو شخصيتها هي، بنوع من الاستغراق في الذات غير المتناهية، بل الأحرى أن الذات غير المتناهية تدخل بين أحضان محبها المتناهي، وهي حياة وقوة لا حد لها ولا عائق، تجعل الإنسان قادرا على إقامة الصلوات آمنا مطمئنا، والرصاص يتساقط من حوله.»
لقد انتهت الرياضة الروحية الرفيعة بالصوفية، إلى مقام الفناء، وذاق الصوفية في هذا المقام بروق التجليات وأنوار الهبات، ثم تخلوا فيه عن إرادتهم ومشيئتهم وصفاتهم، ليفنوا في إرادة الله ومشيئته وصفاته، ثم ليتخلقوا بأخلاقه.
فخرجوا بذلك من نطاق البشرية الترابية، إلى أفق الربانية العلوية، التي تقوم بالله، وتتكلم بالله، وتتحرك بالله، ولا ترى في الكون سواه.
ومن هذا الأفق كانت كلماتهم التي عبرت عن الله سبحانه، بأنه الظاهر في كل شيء، الباطن في كل شيء، فلا وجود للحقيقة لغيره.
ومن هذا المقام ومن أفقه انطلقت الاتهامات المجنحة قديما وحديثا، تحاول أن تحيل هذا المقام الروحي الإيماني إلى ما أسموه بالاتحاد والحلول حينا، وإلى ما أسموه بوحدة الوجود أحيانا.
وسر الاتهام هو عجز الأقلام المادية، مع علمها ومكانتها، عن تذوق فلسفة مقام الفناء.
إنها فلسفة تنبع من السفر الصوفي الطويل، في الطريق المضيء الصاعد إلى الله.
وهي فلسفة بنيت على تذوق، وعلى مشاهدة، وعلى محبة، فاستعصى فهمها على العقول، التي لم تتذوق، ولم تشهد ولم تحب.
يقول المستشرق نيكلسون: «إنه مقام أعلن الذين تمرسوا به أنه فوق التعبير والتصوير، فهو غاية لطريق تتحرر فيه الروح شيئا فشيئا من كل ما هو غير رباني، طريق يتلاشى فيه الصوفي عن وجوده الحسي.»
ويقول العلامة الكلاباذي في التعرف: «مشاهدات القلوب، ومشاهدات الأسرار، لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال.»
ويقول العلامة القوني في شرحه للتعرف: «إذا كمل انقطاع العبد إلى الله وفناؤه عن فعله، أصبح متحدثا بلسان الحقيقة.»
ثم يقول: «وأكثر ما يقع في كلام هذه الطائفة من الإشارات، محمول على هذا النوع من الاستعارات، ومن حملها على ظاهرها، أشكلت عليه معانيها، فأساء الظن بهم.
فأحيانا يتكلمون بلسان الحقيقة، كقول الحلاج: أنا الحق، وكقول ابن الفارض:
وإن عبد النار المجوس وما انطفت
كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما عبدوا غيري وما كان قصدهم
سواي وإن لم يضمروا عقد نيتي
وكقول الرسول - صلوات الله عليه - في حديث البخاري عن أبي هريرة: «ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة.»
إنما قاله
صلى الله عليه وسلم
حكاية عن ربه، وإن لم يصرح به، وقال: وما منا إلا وله مقام معلوم: فهذا على لسان الملائكة، وقال: وما نتنزل إلا بأمر ربك: فهذا على لسان جبريل، وهذا نوع لطيف حررت الكلام فيه في الإتقان، ومثال قول علي وفا:
كمالك طاعتي في كل حال
ونقصك أن تعاندني مرادي
فإن هذا قاله على لسان الحقيقة.»
ويقول الشيخ نجا في كتابه «كشف الأسرار»: «ذلك لأنه يشهدك تجلياته بسائر مخلوقاته، لكن بغير حلول ولا مماسة، ولا نوع من أنواع التجسيم والتشبيه، كما وقع لسيدنا موسى في تجليه سبحانه على النار، التي رآها موسى عليه السلام في جانب الشجرة، حيث سمع النداء، إني أنا الله لا إله إلا أنا، فلم ينكر موسى عليه السلام تجليه سبحانه في النار، بل آمن وصدق.»
ويقول السهروردي:
9 «فإذا نظر العاشق المسكين إلى نفسه لا يبصر بعد شيئا، إذا وجده مملوءا بهذا النور.
هنالك يصيح بأمثال تلك العبارة الوجدانية الإلهية المشهورة، التي قالها الحلاج: أنا الحق.»
ويقول الحلاج: «لا يستطيع أحد أن يقول أنا على الحقيقة، إلا الله وحده.»
ويقول العلامة الهجويري متحدثا عن مقام الفناء:
10
إنه توجه الفكر إلى المطلوب، وقصره عليه، وهكذا كان شأن مجنون ليلى، وجه فكره إلى ليلى، وقصره عليها، يراها في كل شيء، ويرى فيها كل شيء، وقد جاء بعضهم إلى صومعة أبي يزيد البسطامي، وسأل: أهنا أبو يزيد؟ فأجابه: أهنا أحد غير الله: ثم يقتبس عن الحلاج قوله:
تباركت مشيئتك يا ربي وسيدي
تباركت مشيئتك يا قصدي ومرادي
يا ذات وجودي وغاية رغبتي
يا حديثي وإيمائي ورمزي
يا جميعي وعنصري وأجزائي
ويحدثنا حجة الإسلام الإمام الغزالي عن التوحيد ومراتبه في كتابه الإحياء، وبعد شرحه للمراتب الأولى الثلاث، يقول:
11 «والرابعة ألا يرى في الوجود إلا واحدا، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمية للصوفية: الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد، كان فانيا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والخلق، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد.
وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج، حيث رأى الخواص يدور في الأسفار ، فقال لي: ماذا أنت؟ فقال أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل. فقال الحسين: لقد أفنيت عمرك في عمران باطنك ، فأين الفناء في التوحيد؟»
فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث، فطالبه بالمقام الرابع. ثم يقول الغزالي: «العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان له هذه الحالة عرفانا علميا، ومنهم من صار له ذوقا وحالا، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكرا وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شأني، وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله، وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى.»
ثم يزيد الإمام الغزالي هذه المعاني إيضاحا، فيعقد في كتابه معراج السالكين، فصلا عن المعراج الرابع عند تفسيره لقوله تعالى:
الله نور السموات والأرض
فيقول:
12 «فأثبت أن المراد ليس النور الذي كالشعاع، ولا النور الذي هو مادة، ولا كنور البصر، ولا نور الشمس، ولا نور العقل، ولا نور العلم، وإنما هو النور الذي تظهر به الأشياء، وتقوم به الأشياء، وتعرف به الأشياء، وهو نور لا يوصف بالكثافة والتجسيم، وقد وصف الله تعالى ذلك بأن قال:
نور على نور .»
ويفيض الغزالي في شرح الآية الكريمة، وفي شرح معنى القيومية، ثم يقول: «فمن حقق من الصوفية، وعلم وقوف الأشياء عليه، وأن الأمور لا قوام لها دونه قال: ما في الجبة إلا الله، وقال: أنا الحق، مبالغة في التوحيد.»
ومن عجب أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهما علما السنة، يتحدثان عن مقام الفناء حديثا يتفق ويتسق تماما مع المنهج الصوفي، بألحانه ومواجيده وتعبيراته.
يقول ابن القيم:
13 «الفناء الذي يشير إليه القوم، ويعملون عليه، أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا، فلا يبقى له صورة ولا رسم، ثم يغيب شهوده أيضا فلا يبقى له شهود، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته أن يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل.»
ويقول ابن تيمية:
14 «وقد يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر، بقوة استيلاء الوجد والذكر عليه، من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره، فيغيب بمعبوده عن عبادته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين، كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال له: أنا وقعت فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني.
وينشدون:
رق الزجاج ورقت الخمر
وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين. ثم يقول: وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى
ومن أهوى أنا
وقوله:
إذا كنت ليلى
وليلى أنا
فهذا إنما أراد به الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
غبت بك عني
فظننت أنك أني
ثم يقول:
15 «فهذه الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جانب الحق، فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه، وعن نفسه، وبموجوده عن وجوده، فلا يشعر حينئذ بالتمييز ولا بوجوده، فقد يقول في هذه الحال: أنا الحق، أو: سبحاني، أو: ما في الجبة إلا الله، ونحو ذلك، وهو سكران بوجد المحبة!»
ولم أجد في الدفاع عن الحلاج وتبرئته من تهمة الحلول والاتحاد أبلغ من كلام ابن تيمية خصم الصوفية الكبير.
من هذا المقام الذي جلاه لنا ابن تيمية كانت ألحان الحلاج.
ومواجيده التي عبر فيها عن صلته بالله، تعبيرات حارة ملتهبة، تضج بوجده، وتنبض بفناء ذاته، وتدندن بالقرب الذي يبيح له أن يتكلم بلسان الحقيقة، فيهتف:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
ثم يعود إلى لسان بشريته فيترنم:
أنا سر الحق ما الحق أنا
بل أنا حق ففرق بيننا
16
سأل النهرواني الحلاج أن يفيده بكلمة من التوحيد، فقال الحلاج: «اعلم أن العبد إذا وحد ربه تعالى فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه، فقد أتى بالشرك الخفي، وإنما الله تعالى هو الذي وحد نفسه على لسان من شاء من خلقه،
17
ثم ترنم:
يا سر سر يدق حتى
يخفى على وهم كل حي
وظاهرا باطنا تجلى
لكل شيء بكل شي
إن اعتذاري إليك جهل
وعظم شكي وفرط عي
يا جملة الكل لست غيري
فما اعتذاري إذا إلي؟
وما أصدق هذا اللحن وأروعه:
وظنوا بي حلولا واتحادا
وقلبي من سوى التوحيد خال
الحلاج والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان
يقول ماسنيون:
1 «إن الحلاج وقف في مفترق الطرق، بين عصرين من أهم عصور التصوف، كان للعصر الأول أثر في تكوين مذهبه، كما كان لمذهبه أثر في توجيه التصوف في العصر الثاني.»
ولا جدال في أن الحلاج قد وجه خطو الحياة الروحية في الإسلام، إلى معارج وآفاق لم تعرفها من قبله، وكان في طليعة هذه المعارج والآفاق، فكرة الحلاج أو نظريته عن الحقيقة المحمدية، أو النور المحمدي.
فلأول مرة في تاريخ التصوف نرى الحب الإلهي عند الحلاج يتجاوز ذات الله سبحانه، إلى أول مخلوقاته، وهو نور محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وتنادي النظرية الحلاجية، بأن للرسول عليه السلام صورتين مختلفتين، صورته نورا قديما كان قبل أن تكون الأكوان، ومنه يستمد كل علم وعرفان. وصورته نبيا مرسلا، وكائنا محدثا، تعين وجوده في زمان ومكان محدودين.
وتجعل النظرية النور المحمدي مصدر الخلق جميعا، فمنه صدرت الموجودات، ومن نوره ظهرت أنوار النبوات، وما سائر الأنبياء إلا صور من ذلك النور الأزلي، وقد كانت الصورة الكاملة في سيدنا محمد خاتم النبيين، وأول خلق الله أجمعين.
وقد عقد الحلاج لشرح هذه النظرية فصلا في كتابه «الطواسين» أسماه: طاسين السراج، قال فيه: «طس سراج من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلى من بين الأقمار، برجه في فلك الأسرار، سماه الحق «أميا» لجمع همته، و«حرميا» لعظم نعته، و«مكيا» لتمكينه عند قربه.
شرح صدره، ورفع قدره، وأوجب أمره، فأظهر بدره، طلع بدره من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة، وأضاء سراجه من معدن الكرامة.
ما أخبر إلا عن بصيرته، ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته، حضر فأحضر، وأبصر فأخبر، وأنذر فحدد.
ما أبصره أحد على التحقيق، سوى الصديق؛ لأنه دافعه، ثم رافعه، ما عرفه عارف إلا جهل وصفه
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون .»
ثم يقول: «أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر من نور صاحب الكرم، همته سبقت الهمم، واسمه سبق القلم؛ لأنه كان قبل الأمم.»
ثم يقول: «العلوم كلها قطرة من بحره، الحكم كلها غرفة من نهره، الأزمان كلها ساعة من دهره.»
فرسول الله إذن في نظرية الحلاج هو أول تعين من تعينات الذات الإلهية، وعنه فاضت المخلوقات الأخرى، فهو أصل الوجود وعماده، ولولاه ما كان شمس ولا قمر، ولا نجوم ولا أنهار.
ولو لم يبعث محمد - صلوات الله عليه - كما يقول الحلاج، لم تكمل الحجة على جميع الخلق، وكان يرجو الكفار النجاة من النار.
وعن الحلاج تطورت هذه النظرية، على أيدي الصوفية، حاملة أسماء مختلفة، مثل الإنسان الكامل، أو القطب الباز، ولكن جوهر النظرية ظل كما وضعه الحلاج في القرن الثالث.
وقد أثرت هذه النظرية في توجيه المدائح النبوية، إلى تلك الصور التي تتسق مع هذه النظرية، فمداح الرسول عليه السلام يستقون - كما يقول ماسنيون - من معين الحلاج، وينسجون على منواله.
ومن المعارج والآفاق التي ابتكرها الحلاج وأضافها إلى المعرفة الصوفية قوله بوحدة الأديان؛ فهو يرى أن الأديان وجهات نظر إلى حقيقة واحدة؛ لأن أهل كل دين قد نظروا إلى الله نظرة تخالف نظر الآخرين، والجميع ينشدون شيئا واحدا، وهم في ذلك محقون؛ لأن الاختلاف لا بد أن يكون اختلافا في الأسماء والألقاب، والمقصود في الجميع لا يختلف.
وقد انبثقت من هذه النظرية نظرية حلاجية أخرى في الجبر؛ لأنه نتيجة طبيعية لهذه الوحدة.
فالحلاج يرى أن الله شغل بكل دين طائفة، لا اختيارا منهم، بل اختيارا عليهم، فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه، فقد حكم بأنه اختار ذلك لنفسه.
والجبر يقتضي الفرق بين الإرادة والأمر، والحلاج لهذا لا يقسو على إبليس بل يشفق عليه في رفضه السجود لآدم؛ لأن الله سبحانه أراد عدم السجود في الأزل، رغم الأمر بالسجود، وإبليس رأى أن هذا الأمر ظاهري فقط، وهو في حقيقته ابتلاء! والله وحده سبحانه هو الحقيق بالسجود له.
يقول الحلاج:
2 «لما قيل لإبليس اسجد لآدم، خاطب الحق: أرفع شرف السجود عن سري إلاك حتى أسجد له؟ إن كنت أمرتني، فقد نهيتني. قال: فإني أعذبك عذاب الأبد! فقال: ألست تراني في عذابك لي؟ قال: بلى، فقال: فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب، افعل لي ما شئت.»
وإبليس عند الحلاج من أهل الفتوة؛ لأنه هدد بالعذاب الخالد فلم يرجع عن دعواه التي آمن بها!
عقيدته التوحيدية
مذهب الحلاج في التوحيد أن الذات الإلهية وراء الإدراك، وفوق التصور، لا ينالها البصر، ولا يدركها الفكر، وكل ما يصف به الناس ربهم، فإنما يصفون به أنفسهم.
والعقل الإنساني لا يدرك الله سبحانه، فالوجد وحده هو الذي يدرك الله تعالى، وجذبة الوجد، وحرقة الحب، هما طريق الوصول.
والوجود الحقيقي لله سبحانه، وهو سبحانه غير محدود، فلا يوجد وجودا حقيقيا سواه.
وهذا الوجود الظاهر للعالم، متصل بالله اتصالا يجعل إدراكه بغير إدراك الله متعذرا! يقول الحلاج: «ما انفصلت البشرية عنه، ولا اتصلت به.»
والوحدة التي تأتي في كلمات الحلاج ليست من الحلول، ولا من الاتحاد، ولا من وحدة الوجود.
فالحلاج يفرق بين الله والعالم، ولكنه يرى، كما يرى الصوفية جميعا أن هذا العالم الظاهر لا جود له حقا ، وإنما الوجود الحق لله، فليس هو العالم ولا العالم هو؛ لأن العالم لا وجود له.
فالله سبحانه ليس في العالم ، ولا العالم خلو منه، ليس محدودا فيه، وليس خارجه، فما العالم إلا تجليه، فهو في كل مكان، وليس في كل مكان، في كل جهة وليس له جهة، أو كما يقول الحلاج في مواجيده: «أين أنت؟ وأين مكان لست فيه؟»
ويقول الحلاج وهو من أبلغ الكلم في جلاء مذهبه التوحيدي:
1 «الحق تعالى أوجد هذه الهياكل على رسم العلل، منوطة بالآفات، فانية في الحقيقة، وإنما الأرواح فيها إلى أجل معدود، وقهرها بالموت، وربطها في وقت إتمامها بالعجز.
وصفاته تعالى باينة عن هذه الأوصاف من كل الوجوه، فكيف يجوز أن يظهر الحق فيما أوجده بهذا النقص والعلة؟ كلا وحاشا، وثبت أن الحق سبحانه وتعالى ألزم في كتابه وصف العبودية للخلق أجمع، فقال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
وقال:
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا
فكيف يجوز أن يحل فيما ألزمه وصف النقص، وهو العبودية، فيكون مستعبدا معبودا؟!» أيتهم الحلاج بعد ذلك بالحلول؟!
قال المزني: «دخل الحسين بن منصور - رحمه الله - مكة، فسئل عن شهادة الذر للحق بالوحدانية وعن التوحيد، فتكلم فيه حتى نسينا التوحيد، فقلنا: هذا يليق بالحق؟ فقال: هذا يليق به، من حيث رضي به نعتا، ولا يليق به وصفا ولا حقيقة، كما رضي بشكرنا لنعمه، وأنى يليق شكرنا بنعمه؟!»
ويقول السلمي في حقائق التفسير: «سئل الحسين بن منصور هل ذكره أحد على الحقيقة، فقال: ليس له إدراك، ولا لغيبه هتاك، له من الأسماء معناها، والحروف مجراها؛ إذ الحروف مبدوعة، والأنفاس مصنوعة، والحروف قول القائل.
رجع الوصف إلى الوصف، وعمي العقل عن الفهم، والفهم عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق إلى مثله.»
ويقول مسعود الواسطي:
2 «سمعت الحسين بن منصور يقول لإبراهيم بن فاتك، وأنا أسمع: يا إبراهيم إن الله تعالى لا تحيط به القلوب، ولا تدركه الأبصار، ولا تمسكه الأماكن، ولا تحويه الجهات، ولا يتصور في الأوهام، ولا يتخايل للفكر، ولا يدخل تحت كيف، ولا ينعت بالشرح والوصف، ولا تتحرك، ولا تسكن، ولا تتنفس إلا وهو معك، فانظر كيف تعيش.»
ويروي الكلاباذي عن الحلاج قوله:
3 «البادي من المكونات معروف بنفسه بهجوم العقل عليه، والحق أعز من أن تهجم العقول عليه، وأنه عرفنا نفسه أنه ربنا، فقال: «ألست بربكم»، ولم يقل من أنا، فتهجم العقول عليه حين بدا معرفا، فلذلك انفرد عن العقول، وتنزه عن التحصيل غير الإثبات.»
ومن وراء أستار الغيب يقول الحلاج:
هذا وجودي وتصريحي ومعتقدي
هذا توحيد توحيدي وإيماني
هذا عبارة أهل الانفراد به
ذوي المعاني في سر وإعلان
هذا وجود وجود الواجدين له
بني التجانس أصحابي وخلاني
الحلاج بين أنصاره وخصومه
يقول الإمام الشعراني: «إن الله سبحانه قد ابتلى هذه الطائفة - الصوفية - بالخلق كما ابتلى الأنبياء من قبل بعداوة الناس وخصومتهم.»
ولقد اختص الحلاج وحده في الأفق الصوفي بأكبر قسط من هذا الابتلاء، أو هذا الافتراء.
فلم تختصم الأقلام حول رجل في الحياة الروحية كما اختصمت صاخبة مدوية حول الحلاج وسيرته وعقيدته!
حتى ليقول اليافعي: «الحلاج ثالث ثلاثة، أحبهم قوم فكفروا بحبهم، وأبغضهم قوم فكفروا ببغضهم، والاثنان الآخران، عيسى ابن مريم، وعلي بن أبي طالب.»
وروى العارف زروق عن شيخه النوري، أنه سئل عنه فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية، ومن لم يذق ما ذاقه القوم، ويجاهد مجاهداتهم، لا يسعه إلا الإنكار عليهم.»
وجاء في مطلع كتاب - مفاتيح الغيوب وتعمير القلوب: «اعلم أن الحلاج عند محققي العلماء، مجمع على ولايته، ومعرفته بربه عز وجل، ما ينسب إليه من غير هذا كذب وبهتان عليه، فيجب اعتقاد ولايته وصدقه، وأنه ركن من أركان طريق الحق سبحانه، وإمام من أئمة المسلمين، ولكنه كان له أعداء أغراهم إبليس به، فآذوه وافتروا عليه، ولا تلتفت إلى هذه المخالفات المزورة عليه، وقد وصفه بالولاية، والجمع بين العلم والعمل غير واحد من أكابر الأئمة.»
وعن عيسى القزويني قال: «سألت ابن خفيف ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد بولايته، قلت : قد كفره المشايخ، قال: إن كان الذي رأيت في الحبس لم يكن توحيدا، فليس في الدنيا توحيد.»
ويقول العلامة السلمي : سمعت إبراهيم بن محمد النصراباذي، وقد عوتب في شيء حكي عن الحلاج في الروح، فقال: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج.»
ويقول الشعراني:
1 «وقد كان الشيخ أبو العباس المرسي - رضى الله عنه - يقول: أكره من الفقهاء خصلتين: قولهم بكفر الحلاج، وقولهم بموت الخضر عليه السلام. أما الحلاج فلم يثبت عنه ما يوجب القتل، وما نقل عنه يصح تأويله نحو قوله - على دين الصليب يكون موتي - ومراده أن يموت على دين نفسه، فإنه هو الصليب، وكأنه قال: أنا أموت على دين الإسلام، وأشار إلى أنه يموت مصلوبا وكذلك كان.»
وقيل للقطب الرفاعي: إن أهل بغداد يقولون: مشايخ العراق كانوا في زمان الحلاج؛ لأنه لما احترق وذرى في الماء شربوه فصاروا مشايخ وأخذوا بقوله:
وما شرب العشاق إلا بقيتي
وما وردوا في الحب إلا على وردي
فقال: لو كان مشايخ العراق مشايخ، لأخذ السيف جنوبهم، كما أخذ الحلاج!»
وذكر الكلاباذي في التعرف: «أن الخضر عليه السلام عبر على الحلاج وهو مصلوب، فقال له الحلاج: هذا جزاء أولياء الله، فقال له الخضر: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت لو طارت مني شرارة لأحرقت مالكا وناره!»
ويروي السلمي: أن بعض أهل الكشف زار قبر الحلاج، فرأى نورا ساطعا من قبره إلى السماء، فقال: يا رب ما الفرق بين قوله «أنا الحق»، وبين قول فرعون «أنا ربكم الأعلى»، فألهم أن فرعون رأى نفسه وغاب عنا، وهذا رآنا وغاب عن نفسه.
ويقول صاحب «فصل الخطاب»: «الإجماع منعقد عند المشايخ على كون الحسين بن منصور شهيدا.»
ويقول أبو حيان:
2 «وكان شيخ الحنابلة في عصره أبو الوفا بن عقيل يتعصب للحلاج ويمجده، وعزلته الخلافة العباسية واضطهدته لذلك.»
ويقول العلامة ابن سبعين عن الحلاج: «إنه ولي وشفيع لا تناقض عنده، مؤمن بالتوحيد الأول الكلي الذي يتجاوز نطاق الإسلام.»
ويقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الفتوحات، معقبا على كتاب الحلاج - الصيهور والديهور: «لم أر متحدا أوثق وفتق، وبربه نطق، وأقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، وركب طبقا على طبق مثله، فإنه نور في عنق، منزلة الحق عنده منزلة موسى من التابوت؛ ولذلك كان يقول باللاهوت والناسوت، وليس هو ممن يقول «العين واحدة»، ويحيل الصفة الزائدة.
وأين فاران من الطور، وأين النار من النور، والعرض محدود، والطول ظل ممدود، والفرض والنقل شاهد ومشهود.»
وقد عقد الإمام الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار» فصلا طويلا دافع فيه عن الحلاج، وشرح ألفاظه وأقواله، واعتبره من الصفوة الهداة الداعين إلى الله.
ويقول الأستاذ أبو الوفا التفتازاني، في كتابه عن ابن عطاء السكندري: «إن الشاذلية جميعا يجلون الحلاج ويعتقدونه إماما.»
وتقول دائرة المعارف الإسلامية:
3 «قل بين المسلمين من ثار حوله الجدل مثل الحلاج، وذلك أن الرأي العام وضعه موضع التقديس والولاية، رغم ما أثار خصومه حوله.»
ثم تضع دائرة المعارف سجلا شاملا لمن كفره، ولمن اعتقد بولايته، ولمن توقف في أمره، فتقول: «فمن عده من الأولياء من الفقهاء: الشوشتري، والعاملي، والعبدري، والدلنجاوي، والنابلسي، والمقدسي، واليافعي، والشعراني، والهيتمي، وابن عقيلة، وسيد مرتضى الزبيدي.
ومن المتكلمين: ابن خفيف، والغزالي، وفخر الدين الرازي، والمدرستان السالمية، والماتردية.
ومن الحكماء: ابن طفيل، والسهروردي، والحلبي، ومن الصوفية: الشبلي، وفارس، والكلاباذي، والنصراباذي، والسلمي، والدقاق، والقشيري، والصيدلاني، والهجويري، وأبو سعيد الهروي، والفارمذي، وعبد القادر الجيلاني، والبقلي، والعطار، وابن عربي، وجلال الدين الرومي.
وأما الذين تنادوا بتكفيره: فابن داود، وابن حزم، وابن تيمية، والطوسي، والحلي، وابن خلدون، والجبائي، والباقلاني.»
ثم تقول دائرة المعارف: «وقد حاول الحلاج بوصفه من أهل الجدل والوجد أن يوفق بين الدين والفلسفة اليونانية، على أساس من التجربة الصوفية، وهو في هذا يعد رائدا للغزالي، وقد جعل الصوفية من الحلاج أعظم شهدائهم.»
الروح الخالد
ذلك موقف التاريخ من الحلاج وحياته، وتلك هي المعركة التي دارت حول رسالته.
وقد آن للضمير الإسلامي أن يتحرر من سحر التهاويل المفتعلة، وضجيج الافتراءات الكاذبة، التي أحاطت بالحلاج وسيرته ورسالته.
ومن أدب القرآن ، أن من قتل نفسا ظلما فقد قتل الناس جميعا، وكذلك من اتهم نفسا ظلما فكأنما اتهم الناس جميعا.
إن عرض الإنسانية وشرفها وكرامتها كل لا يتجزأ، والدفاع عن هذه المقدسات للناس كافة رسالة وأمانة في أعناق الأقلام الحرة، والقلوب المؤمنة.
ومن كلمات النبوة الخالدة: «من أرخ مؤمنا فكأنما أحياه.»
ونحن نأمل أن نكون قد وفينا حق هذه الأمانة، وأقمنا على الصراط المستقيم المضيء حياة رجل يقف شامخا على مرقاة مضيئة هادية، ليرشد الإنسانية إلى معراج من الحب الإلهي يسمو بالوجود الإنساني، إلى سدرة الرجل الرباني، الذي يرتفع فوق الحياة، ليتخلق بأخلاق الله، ويقتات قلبه بنوره ورضاه.
رجل عاش للمثالية الإيمانية، بكل ما يتسع له أفقها الرحب، وجاهد في سبيلها، وقدم دمه فداء لها.
عاش للمثل العليا، تملأ نفسه، وتغمر روحه، وتضيء قلبه، وتفتح له آفاقا فسيحة في عالم الخير والحب والكمال، عاش ووجهه للسماء أبدا.
عاش ليقدم للإنسانية صورة من صور البطولة الروحية الشامخة، تتضاءل حيالها كافة الصور البطولية، التي تنبثق من كبرياء النفس وشهواتها.
عاش ليقدم البرهان المضيء على أن التصوف في جوهره هو أعلى صور التسامي، كما هو أعلى صور الجهاد والفداء.
عاش ليقدم الدليل الحي على أن الروح إذا ارتفعت إلى الله سبحانه صغرت الأكوان في نظرها، وهانت الأحداث في منطقها، فغدت بزهدها وترفعها، أعظم قوة تهز عروش البغي، وتوجه أحداث التاريخ.
وبعد، فعلى مرمى السهم من الفرات، في قلب بغداد، يقوم ضريح لا تنطفئ أنواره، ولا ينقطع رواده.
وإلى هذا الضريح تتجه قلوب الملايين، عبر القرون، وتحت قبابه أنشد جلال الدين الرومي روائعه، ورتل فريد الدين العطار أقوى ملاحمه، وترنم الجامي بنفحات أنسه، وفي ردهاته عقد صوفية الفرس والترك حلقاتهم التاريخية، وأنشد العابدون على ناي منصور أروع ألحان الروحانية الإسلامية.
ومن عجب أن الضريح لا يضم جسدا، ولا يحوي رفاتا، لقد أقيم رمزا وذكرى، لروح لمع في أفق الحياة، كما يلتمع الشهاب في أفق السماء، ثم احترق كما يحترق كل شهاب، يطل على الوجود، بنور لا تحتمله العيون.
ذلك هو ضريح الحلاج الشهيد، الذي لا يضم رفاتا؛ لأن الكون كله، هو الذي ضم رفاته، واحتضن ذراته .
وتلك آية من آيات الخالدين.
طه عبد الباقي سرور نعيم
22 من ربيع الأول عام 1381ه / 2 سبتمبر عام 1961م
Bog aan la aqoon