Hallaj
الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)
Noocyada
ولقد فسد عصر الحلاج فسادا كبيرا، وتنابذ الناس واختلفوا، وتفرقت بهم السبل، وأغرقوا في الشهوات والملذات والترف الهلوك ... وكانت قمة الفساد قصور الخلفاء والأمراء، فقد غدت مسرحا لعبث الجواري والإماء، ومرتعا للمرتشين والمقامرين والملحدين!
ومع هذا، فها هي بغداد - عاصمة الخلافة - تموج بالنجوم الكبار من أعلام التصوف وأئمته: الجنيد - التستري - المكي - الشبلي - الثوري ... وها هو العراق - في كل سهل وجبل وقرية - فيه صوفية عباد أتقياء أصفياء، لهم مكانتهم وأقدارهم ...!
إن سهل بن عبد الله التستري ليقول: إنه دخل البصرة فوجد بها أربعة آلاف من العارفين! البصرة وحدها يعيش بها هذا العدد الضخم من العارفين الواصلين، فكم منهم في بغداد؟ وفي كل مدينة من مدن العراق؟ ومع هذا، فبغداد والعراق قد أصبحتا علما عالميا على التدهور الخلقي، والانحلال الديني، والفساد الاجتماعي . ماذا فعل الصوفية حيال كل هذا؟! ولهم المكانة ولهم الجاه ، ولهم الحب والتقدير عند الخاصة، والسلطان الشامخ على العامة.
لقد فكر الحلاج في كل هذا وأطال التفكير، فلم يرض عنه، ولم يطمئن إليه، وعبر عن سخطه بكلمات من لهيب وبرق ... إن الله سبحانه - كما يقول الحلاج - لم يقبل من الناس عبادتهم إذا اختلت سياستهم، وفسدت أخلاقهم، ثم استكانوا للبغي والفساد! وإن الله سبحانه - كما يقول الحلاج - لن يقبل من أصحاب الأردية والأكسية دندناتهم وكلماتهم ما لم ينهضوا للحق ويجهروا به، ويقدموا دماءهم في ساحة الاستشهاد والفداء.
وقد آن لرجل من رجال الله أن يرفع صوته، ويؤذن بالدعوة، وإن الحلاج ليهب نفسه ويرصدها لهذه الغاية الكبرى. وإن كان يمسك نفسه حينا، ويقلب وجوه الرأى أحيانا، فليس عن تردد أو ضعف، إنه يريد أن يستوثق من نفسه، وأن يطمئن إلى عدته، هل كملت رياضاته؟ وهل نضجت مجاهداته؟ وهل خلص له قلبه؟ إن قلبه لينازع عقله فيما يريد، وإن وجدانه ليصاول تفكيره فيما يحب ... لقد تعشق بقلبه ووجدانه وروحه المنهج الصوفي، ورصد كل قواه منذ صباه لحب الله وعبادته والجهاد في مرضاته، حتى يصل إلى فناء كامل، تفنى فيه إرادته في إرادة الله، ونوازع بشرية في كمالات عبادته، وأهواء نفسه في لذة أنسه وجلال قربه.
وإن هذا الجلال، وهذا الحب، وهذا الفناء ليكاد يسرقه عن نفسه، وعن رسالته حينا وحينا، يخيل إليه أنهما ارتبطا واتحدا، وأصبحا شيئا واحدا، إنها عاصفة من التفكير المزلزل، المتعدد الألوان والصور، خلص له منها أمر يقيني اطمأن إليه اطمئنانا لم يجده عند سواه.
إنه في حاجة إلى خلوة كاملة، يعيشها متحنثا متطهرا ذاكرا قانتا، خلوة تؤهله أو تدنيه من الكمال، وتزوده وتعده للجهاد العنيف الشاق الذي اعتزم القيام به في وجه جميع القوى.
ومن ثم اعتزم الحلاج أن يرحل إلى بيت الله المقدس، ليخلو بنفسه في أرض الوحي والإلهام، ليزداد قربا من ربه، وكمالا في نفسه، وهما عدته ومعراجه إلى هدفه.
الحلاج في بيت الله
وفارق الحلاج بغداد فجأة إلى مكة المكرمة، وبعد أن طاف بالبيت العتيق، وامتلأت عيناه بالمشاهد التي شهدت خطو الملائكة وجهاد خاتم النبيين، نذر البقاء عاما للعمرة في حرم البيت المبارك للتطهر والنسك، والتصفية القلبية والإعداد الروحي.
Bog aan la aqoon