Sheekada Ciise Ibnu Hishaam
حديث عيسى بن هشام
Noocyada
ليس هذا وقت الجدال في تلك المباحث الدقيقة، والتفتوا بنا إلى سماع الغناء قليلا فقد احتشد له المغنون.
الباشا (ملتفتا) :
نعم أصبت، وهل لك أن توفق لي بين حالة المغنين التي أراهم عليها الآن في احتشادهم على منصة الغناء وبين ما سمعته آنفا عن هذا الفن من الجلال والكمال، فانظر إليهم تجد أحدهم يمزح ويقهقه، والآخر يتثاءب ويتمطى، وهذا يبصق يمينا ويمخط شمالا، وذاك يصيح بأعلى صوته القهوة القهوة، وتأمل في هذا الواقف منهم فوق المنصة على رجل واحدة وبيده الرجل الأخرى يخلع منها نعله في وجوه الحاضرين، وأين ما ينبغي أن يكون عليه المغني من سكون النفس واجتماع الخاطر، وانشراح الصدر وصفاء الروح لحسن تأدية الغناء، واستهواء النفوس إليه؟
الصديق :
لا تؤاخذهم بما هم فيه فإنهم نشأوا في أمة يرى السواد الأعظم فيها أن صناعة الغناء من سافل الصناعات، وأن في ممارستها حطة ونقصا.
فصغرت لذلك نفوس المغنين وهانت عليهم صناعتهم، ولم يروا فيها سوى أنها أداة للكسب والارتزاق على مثال بقية الصناعات، فهم والحدادون أو هم والبناؤون سواء بسواء، وذهلوا كل الذهول عن جمال الصنعة وجلالها، وغفلوا كل الغفلة عن لذة الفن وأدبه وصاروا يؤدونه كما يتفق لا كما ينبغي، وكما يجيء لا كما يرضي، ولا يغيب عن فطنتك أنه لا بد للمغني من أن يثق في نفسه بتأثير غنائه في نفوس السامعين حتى تثور فيه نشوة الطرب، ويتبادل معهم لطف الانفعال، فتتصل القلوب وتتجاذب الأرواح وتصعد به نفسه في مراقي الفن وتسمو به في صناعته إلى مدارج الكمال، وإلا كان المغني إذا غنى في غفلة السامع واشتغاله عنه كمن يقرأ للنائم كتابا، أو يسرج للأعمى سراجا، فيحل به من التواني والفتور ويعتريه من الانقباض والضيق ما يذهب برونق الصنعة ويمحو بهجة الفن، وإنك لتحقق صدق ما أقول إذا نظرت معي نظرة إلى هيئة السامعين في هذا المكان، فعن يمينك جماعة من الأعيان والتجار تراهم مشتغلين بمراقبة كل داخل وخارج عساهم يحظون بإشارة تحية أو إيماءة تعطف، فهم لا ينفكون طول ليلهم في قيام وسلام للتزلف إلى الكبراء والحكام، وحديثهم لا ينقطع عن التفاخر بمعرفتهم والتباهي بأقدارهم، وعن شمالك خليط من القضاة والمحامين لا ينتهون أبدا من المناقشة في صنوف الدعاوى والقضايا، ولا يستريحون لحظة من تفسير المواد وشرح البنود واستنتاج الأحكام، ولا يترك المحامون القضاة إلا بعد أن يحتالوا على استنفاد ما عندهم من الأفكار والآراء في الوقائع المختلفة والمسائل المشتبهة؛ لينتفعوا بها ويستندوا عليها في مرافعتهم أمامهم ويتأكدوا بها ربح ما لديهم من المشاكل والدعاوى، ومن قدامك طائفة من الأمراء والحكام لا هم لهم إلا أن يجتلبوا توقير الحاضرين واحترامهم بالتأنق في الجلوس، والتكلف في الشمائل والانتفاخ في الثياب والفتل في الشوارب، أجسامهم حاضرة وقلوبهم غائبة، وأبصارهم شاخصة وألبابهم ذاهلة على هيئة التماثيل والأصنام؛ فاسألوهم إن كانوا ينطقون، ولئن نطقوا بكلام فإنما يدور على أن اليوم كان شديد الحر، وأن أوان الرحيل عن مصر قد حل، ومن خلفك ثلة من الأحداث، لم تهذبهم الأحداث، وشبان لم يربهم الزمان، مرمى الغاية عندهم أن تكون ملابسهم على الزي الجديد، وأن تفرغ أجسادهم منها في قالب من حديد، فهم لا يتحركون حركة إلا بألف حساب، خشية أن ينفرط نظام الثياب، فإن قعدوا فكالقاعدين للمصور في حفظ الأشكال والأوضاع، وإن هم وقفوا فكالمصلوبين على الأجذاع، ولئن تجاوز حديثهم حديث الملابس والأزياء، اشتغلت ألسنتهم بذكر النساء، ورووا عن زوج فلان أو بنت فلان، ما تنقبض منه النفوس وتقشعر الأبدان، ولم يبق غير هؤلاء من طبقات الحاضرين من يلتفت إلى سماع الغناء ويتفرغ له إلا طبقة الغوغاء من الخدم وغيرهم، فكيف يتيسر للمغنين في هذا المقام أن يتقنوا في عملهم، أو يتفننوا في صناعتهم أو يحافظوا على أدب المجلس ويراعوا حرمة الفن؟
قال عيسى بن هشام: وانقطع الحديث بمرور صاحب العرس أمامنا مر السحاب، فانقض على الواقفين عند الباب، كأنه بارقة شهاب، أو نازلة عذاب، يدفع بيديه عن الشمال وعن اليمين، في صدور القاعدين والقائمين، لا يشك من رآه أنه أسير حل عنه الوثاق، أو عبد من العبيد يطلب الإباق، فالتفت الباشا يسأل الصديق: أجدار هوى في البيت أم حريق؟
الصديق :
لا هذا ولا ذاك وإنما جاء الخبر لصاحب البيت بقدوم جماعة من رجال الإفرنج ونسائهم.
الباشا :
Bog aan la aqoon