Sheekada Ciise Ibnu Hishaam
حديث عيسى بن هشام
Noocyada
في الدهر إلا منزلا موبوءا؟
وأن من حانت منيته، لم تنفعه تقيته، ومن حل أجله، لم يحمه وجله:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أسباب السماء بسلم
إلا أنهم مع ذلك كله لا يرون من مانع يمنعهم عن الأخذ بأسباب التقية والحذر، ولا في العمل بمقتضى القوانين المندوب إليها في حفظ صحة الأبدان، وما يقرره أهل صناعة الطب من سبل التوقي والتحرس اتقاء لما نهوا عنه من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة واحتذاء لما ترسمه ظروف الأحوال وتقضي به أحكام الزمان، ولا يجدون الطاعة لإشارة الأطباء في مثل هذه النوازل مما يخالف لهم سنة أو يناقض لديهم شرعا، وإن لم يكن من ورائها فائدة فليس في عقباها مضرة، فنراهم لذلك في أجل مقام من شجاعة القلب وقوة النفس وثبات الجنان بفضل الدين واليقين، وعلى أحسن حال من سلامة الجسم وطهارة البدن بفضل العلم، وحسن القيام بما يرشد إليه من وسائط الوقاية، لا سلطة للوساوس والهواجس عليهم ولا محل للرعب والرهب فيهم، آمنين مطمئنين يتمتع كل واحد منهم بالروح السليمة في الجسم السليم». «وهناك طبقة ثالثة حديثة النشأة حديثة التربية لا من هؤلاء ولا من هؤلاء لم يرسخ الإيمان في قلوبهم، ولم تتمكن التربية الدينية من نفوسهم، ولم يتأدبوا بأدب الدين، ولم يرتاحوا لحسن اليقين، بل اقتصرت بضاعتهم على ما تلقوه في المدارس من العلوم الآلية والفنون الصناعية دون علوم التربية النفسانية والفضائل الروحانية، وخلت صدورهم من آيات الله والحكمة، قد أخذوا عن بعض الغربيين عادة التهاون بالشرائع والازدراء بالإيمان، ولم يحيطوا بشيء من العلوم الموضوعة لتقويم النفوس، وتطهير الطباع ومعرفة الحقائق ورياضة القلوب على التجلد والثبات عند وقوع المكروه ونزول الملمات، فتجدهم قد ظهروا للناس في هذه النازلة الوبائية، وانكشفوا لأهل البحث والنظر أصغر خلق الله نفوسا وأجبنهم قلوبا وأكثرهم هوسا ووسواسا، وأشدهم قلقا واضطرابا وأعظمهم خوفا ورعبا وأكبرهم بلاء وكربا، يتمثل لهم الموت في أعينهم على أفظع الصور وأشنع المناظر، فيحاولون الفرار منه وهو ممسك بنواصيهم، ويهابون دنوه وهو آخذ بتلابيبهم، حل الخوف مفاصلهم واستل الرعب نخاعهم؛ فهم يرون في كل عود نعشا لهم ويحسبون كل صيحة عليهم، أولئك لا إيمان لهم يثبت أقدامهم، ولا علم لديهم يرجح أحلامهم، بل هم على مثل حال المغشي عليه من الموت أو الممسوس من الشيطان يتوهمون طعم الموت ومذاق الوباء في تنفس الهواء وتناول الغذاء وشرب الماء وملامسة الأيدي ومخاطبة الناس، فإذا رأى المسكين منهم تلك الآلة الحدباء تحمل أحد المصابين بالوباء جمد دمه وسال عرقه وخمدت أنفاسه والتوت أعصابه وأمسك من بجانبه يستنجد به ويستغيث ليحميه من شر العدوى، ويدفع عنه نزول البلوى، وما أشبههم في حالهم هذه من الخور والهلع والفزع والجزع إلا بمثل أناس قضي عليهم بالإعدام لوقتهم فهم وقوف بين يدي الجلاد والسياف؛ إذا قدم أحدهم للسيف والنطع مات الذي يليه من الخوف قبل القتل.
ومنهم من اعتكف على الخمر يشربها ليله ونهاره عساها تجهله كيف اطمأنت به الحال، ومنهم من يبالغ ويغالي في تناول العقاقير السامة والجواهر القتالة مما وضعه الأطباء لقتل الجراثيم، فهو يشربها ويستعطها ويدهن بها جسده ويغمس فيها ثيابه ويبلل بها فراشه ويغسل بها آنية طعامه وشرابه، وكلما سمع بزيادة العدد في المصابين زاد في مقدار ما يستعمله منها يوما بعد يوم حتى أصبحت أجسامهم مسمومة وأبدانهم مهزولة وشفاههم متقلصة وعيونهم غائرة ووجوههم مغبرة وأناملهم مصفرة ينطبق عليهم قوله جل وعلا:
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، إذا رأيتهم حسبتهم في حال المصابين بالفعل لولا أن هؤلاء يفضلونهم بالخلاص من ألم الداء براحة العدم والفناء، ولما كان الخوف والوسواس من أكبر وجوه العذاب في الحياة، ومن أعظم الأسباب في رأي الأطباء لجلب الداء كانوا هم أعداء أنفسهم بأنفسهم، وهم أصحاب الأرواح السقيمة، في الأجسام السقيمة، لهم النكد في هذه الدنيا ولهم الخزي في الآخرة».
فأين تضع نفسك الشريفة أيها الباشا من هذه الطبقات؟
الباشا :
ما أرى لي موضعا بعد - إذ عاشرتني وأرشدتني - إلا في طبقة أهل الخاصة الذين يسلمون للقضاء والقدر، ويعملون بالحيطة والحذر، لكنني مع ذلك أفضل الابتعاد عن ضوضاء الناس في هذا الوباء وأرغب في التخلص من النظر إليهم وهم في مثل أهوال القيامة من الفزع والهلع، وليس من الصواب أن نجمع بين أكدارنا وهمومنا، وبين التأثر لأكدار الناس وهمومهم.
Bog aan la aqoon