117

Sheekada Ciise Ibnu Hishaam

حديث عيسى بن هشام

Noocyada

أجل، هذا هو حال بعض الأطباء، مع الأعلاء وأشباه الأعلاء، فأما حالهم مع الأصحاء وذوي السلامة من بعض الخلق فهو أعجب وأغرب، وما يعزب عنك أن كثيرا من المولعين بسوء التقليد للغربيين والمتهالكين على حب التظاهر بمظهر الرفه والترف، يتغالون في الاحتياط لأبدانهم ويبالغون في التوقي لأجسامهم، فينمو فيهم وسواس المرض والسقم، فتراهم يتوجسون من كل أكلة شرا، ويتوقعون من كل شربة ضرا، ويتخيلون أن في كل لقمة تخمة، وفي كل جرعة غصة، فلا يتناولون قدحا من الماء، أو يستنشقون نفسا من الهواء، إلا وفي اعتقادهم أنه لا يخلو من كل هامة سامة، أو جرثومة ضارة، ولا يزالون على هذه الحال حتى يمتنعوا عما فيه صلاح أبدانهم من المأكل والمشرب، ويبعدوا ما استطاعوا في طرق الحمية من غير علة ولا داء فيبدلوا الماء الزلال بالماء المعدني، ويهجروا الأغذية المناسبة لتركيب الجسم، وقوام البدن إلى الأطعمة الغريبة عن أذواقهم المنافرة لنسيج أبدانهم، فيضطرب نظام التركيب وتضعف البنية، ويصبح كل واحد منهم جازما بأن به داء دفينا وما به من داء، وعلة كامنة وما به من علة، فيشكو أمره إلى الطبيب فيكون الطبيب حينئذ أسرع من وهمه وخياله في اختلاق علة له واختراع مرض دون أن يفحص أمره أو يبلو خبره، فينزل به ما ينزل من بوائق الخوف والفزع، ويوالي عليه الطبيب ما يوالي من صنوف الخلاصات المعدنية والجواهر السامة والمركبات الحادة، فيترصف على مائدته من ألوان العلاج والدواء أضعاف ما يترصص عليها من ألوان الطعام والغذاء، ويتقيد المسكين بمعيشة لا تناسب غريزة البنية ولا فطرة المولد ولا طبيعة الإقليم، ولا توافق إلا من جمدت عروق آبائه تحت جليد لوندرة، لا من ذابت مفاصل أجداده تحت هجير القاهرة، فلا يلبث أن يأتي على ما بقي في الجسم من قوة، وما في البدن من صحة، ويعيش إن عاش في يد الطبيب حيا كميت، ويكون بين الأموات والأحياء، لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، إلى أن يلحد في لحده، شهيد طبيبه وقتيل يده، وهناك يخلق بأهله أن يكتبوا بنجيع الدمع لا بسواد المداد، ما كتب على قبر عظيم من قدماء القواد: «لم تمتني قوة الأعداء، وإنما أهلكتني قوة الأطباء.»

ولقد سرى هذا البلاء فينا مسرى العادة فأصبحنا لا نرى في جمهور من نراهم من المترفين المقلدين إلا شاكيا من ألم أو متألما من مرض، فراجت سوق الطب وعظم عدد الأطباء وغدت حوانيت الصيادلة في الأسواق أكثر عددا من حوانيت الخبازين والقصابين، وصار من متاع البيت وجهاز العروس صناديق الدواء وآنية العلاج، وقل أن تجد اليوم بيتا خاليا من مريض ولا مجلسا ليس فيه من سقيم.

عيسى بن هشام :

كأنك تحاول أيها الطبيب الآسي أن تقنعنا بقوة البرهان، وجلي البيان أن لا فائدة من الطب ولا منفعة في الأطباء.

الطبيب :

حاشا لمثلك أن يشتبه عليه القصد أو أن يذهب بقولي خلاف مذهبه، وما قصدت بكلامي هذا كله إلا أن أظهر عيب بعض الأطباء في ممارسة صناعتهم دون التعرض لصناعة الطب في ذاتها، على أنه يمكنني أن أضيف إلى ما قلته ما قد قيل من قبل، وهو أن العلم علمان: علم تستنير به البصائر وتهتدي به العقول فهو جميل الأثر، محمود الورد والصدر، وعلم تصدأ منه الأفهام، وتضل به الأحلام، فهو وبي المرعي، سيئ العقبى، وكذلك الطب طبان: طب يصحح الأجسام، ويشفي الأسقام، فهو عظيم النفع جليل القدر، وطب يورث الأمراض ويولد الأدواء فهو شديد الوطء عظيم الضر، ومدار الأمر كله على حسن الاهتداء للتمييز بين النافع والضار والتفريق بين الطيب والخبيث، ولا تتوهمن أيضا أنني أتناول بكلامي جماعة الأطباء قاطبة، فإن فيهم الصالح كما أن فيهم الطالح، ولكنني أعني من بينهم أولئك الذين يطلبون مجرد الربح من مباشرة الصناعة مع الجهل بها، أو يتعمدون الحيل وينصبون الأشراك حتى يعتل جسم الصحيح ويزمن مرض المريض ليكون لهم من وراء ذلك ما يسد بعض شرههم في الغنى واليسار، وما أولى سائر الناس بأن يثبتوا بينهم عادة أهل الصين في معاملة مثل هؤلاء الأطباء، وذلك أنهم يجرون على أطبائهم العطاء ما داموا أصحاء، فإذا نزل بأحدهم المرض انقطع العطاء عن الطبيب حتى يعود المريض إلى سلامته، فيكون من مصلحة الأطباء على الدوام أن تطول مدة السلامة وتقصر مدة العلة، على خلاف الحال بيننا.

وما ينبغي أن ينصرف شيء مما قلته إلى بقية أهل الصناعة من ذوي الحذق والأمانة الذين يوفون الصناعة حقها، ويؤدون الواجب عليهم فيها حق أدائه، والذين يراعون في ممارستها ما يكون من تفاوت الأحوال في العلل والأمراض، وما تقضي به أحكام البلاد والعادات واختلاف الأمزجة والطبائع، والذين يجعلون لأنفسهم من حسن تبصرتهم وكثرة تجربتهم عدة حاضرة لمقاومة الأمراض وصحة تشخيص الأدواء ولطف تناسب العلاج وحسن الإرشاد لرفع الوسواس ودفع الخيال، وما يجري هذا المجرى من استعمال ما يليق بأهل الإقليم الحار مما لا يليق إلا بأهل الإقليم البارد، واجتناب ما لا يوافق أمزجة أهل البلاد الشرقية من المركبات المجهزة لطبائع أهل البلاد الغربية، ولقد طالما سمعت عن أشياخي في الصناعة أنه يجب على الطبيب في مصر أن يختار ما يكون من الأدوية وغيرها ألين قوة حتى لا يكون على طبيعة المصريين فيها كلفة، ولا يلحق أبدانهم منها مضرة، وأن لا يقدم على كل الأدوية المسطرة في كتب أهل الغرب، فإن أكثرها عملت لأبدان قوية البنية عظيمة الأخلاط على خلاف المعهود في أهل مصر، فيتعين على الطيبب حينئذ أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى، ويختار ألينها وينقص من مقدار تركيبها، ويبدل كثيرا منها بما يقوم مقامه ويكون ألين منه، وأن لا يهمل الاعتماد على الأدوية الطبيعية وهي البسائط واللين والحمية والفصد والاستحمام والرياضة والهواء، وأن يكون على الجملة مولعا بلذة الصناعة في ذاتها لا يعادلها لديه سواها من سائر اللذات، ممتلئ النفس بجلال قدرها وشرف منزلتها من بين الصناعات والفنون، فتعظم عنده نفسه ويشرف في عينه قدره، فيترفع عن سفالة الطمع وحطة الشره ويزهد في نيل الغنى من طريق التحايل على اقتنائه من وراء هذه الصناعة الجليلة، وكيف تزدهيه لذات العالم أجمع من مال وجاه أو زخرف ومتاع في جانب لذة الإتقان في الصنعة والإحسان في العمل، وأية رتبة من مراتب الخلق تماثل رتبة الطبيب العامل، وهو القيم على قوام الأبدان والكفيل بصحة الأجسام والرقيب على اعتدال الأمزجة والمشرف على سلامة الجوارح، لا بل أية صناعة في الوجود تفضل صناعته وهي أمس الصناعات بخلقة الصانع الفاطر وتكوين المبدع القادر.

وإذا كان قد بلغ عجب الصناعة بأحد النحاتين المصورين في الزمن السابق لما ازدهاه جمال الإتقان والأحكام في صورة إنسان نحتها من المرمر أن استخفه الطرب واستفزته لذة الصنعة، فعمي عليه فأنحى على التمثال بمنحاته، يثيره على نطق اللسان بعد أن أحكمت فيه خلقة الإنسان، ويكلف الجماد، وقد أتقنت فيه الصنعة، أن يخرج من الجمود إلى الحركة، حتى أطار عنه بعض أجزائه وبقي التمثال قائما إلى اليوم يفصح بما فيه من التلف عن نهاية الكمال في جمال الإتقان ومقدار لذة الإحسان في عمل الإنسان، فما بالك بلذة الطبيب ومقدار طربه في صناعته إذا هو شاهد أجسام الأحياء أمامه، وقد استخلصها من شوائب الأمراض واستنقذها من آفات العاهات، وردها إلى سواء التكوين، وأعاد نظام الخلقة إلى أصله وانتساق التركيب إلى شكله، فهل يجوز في العقل لمن يدرك كنه هذه الصناعة من الأطباء أن يرغب عن تلك الدرجة الرفيعة إلى الدرجة الوضيعة، فينزل بصناعته إلى مصاف أهل التجارة والسلع لا يفقه فيها من معنى سوى اصطياد الدرهم، ولا يعلم لها من مزية سوى الاحتيال على اكتساب الأموال، لا جرم أن الطبيب المدرك يفضل لذة صناعته في ذاتها على كل لذة، ويسلو عندها أعظم مزية في العالم وأعلى رتبة، وفصل الخطاب، في هذا الباب، أن يكون مبلغ همته، ومجمع لذته، أن يرى المريض بعد شفائه، بوجه لامع كالدينار، لا أن يراه في طول شقائه، بنظر طامع في درهم أو دينار.

قال عيسى بن هشام: فأعجبني من هذا الطبيب صدقه في مقالته، وحسن نظره في صناعته، وسألت الله لجماعة الأطباء، أن يهتدوا مثل هذا الاهتداء، ثم إني ودعته بعد أن عين لنا البقعة المناسبة لتبديل الهواء، وقرر ما يناسب حال المريض من العلاج والغذاء، إلى أن يتدرج من النقاهة إلى تمام الشفاء.

الطاعون

Bog aan la aqoon