Sheekada Ciise Ibnu Hishaam
حديث عيسى بن هشام
Noocyada
الطبيب :
لا فضل لي يستحق كل هذا المدح والثناء، والسبب في خطأ الأطباء أن العدد الأعظم منهم يسيرون في ممارسة صناعتهم على طريقة معينة ودائرة محدودة قررتها العادة فيهم، فهم لا يتخطونها ولا يتعدونها، فترى كل واحد منهم يحصر في ذهنه عدة أمراض معلومة وعلل معروفة، فيطبق عليها كل ما يراه من الأعراض التي تظهر له في عامة المرضى - والأعراض تختلف وتشتبه - فيحكم بمعرفة الداء ويأمر بالدواء المعين لذلك المرض المعين بقطع النظر عن الفحص والتأمل في حال المريض أو البحث، والتدقيق في معرفة الأسباب المادية والأدبية التي يرجع منشأ المرض إليها، ولا يكلف ذهنه التبصر أو التصرف على حال من الأحوال، فيعيش في أسر العادة وقيد الطريقة لا يعبأ بالبحث في اختلاف الأمزجة وتباين الغرائز، وتفاوت المعايش وتغاير القوى في البني؛ فلذلك يكثر منهم الخطأ ويقل الصواب.
عيسى بن هشام :
كأنك تريد أنهم يكونون على مثل حال أهل الصناعات الآلية الذين يحل فيهم مجرى العادة محل إعمال الفكرة؛ فتنطلق أيديهم على وجه واحد وتنصرف أفكارهم عن التصرف أو التفنن في وجوه شتى.
الطبيب :
نعم لقد أصبت في التشبيه، وغير ذلك فإن بين هؤلاء الأطباء من لا يرى في صناعته إلا آلة لاجتلاب الرزق واصطياد الربح، واستدرار الدرهم والدينار حتى يصلوا إلى اكتناز الأموال، ويصبحوا في مصاف أهل الغنى والثراء لا يبالي أحدهم أي باب طرق ولا أي سبيل قصد للتوصل إلى هذا الغرض المطلوب، فكل الوسائط لديه مقبولة وكل الطرق عنده مسلوكة، فهو يدخل على المريض طامعا في ماله لا طامعا في شفائه، فيحتال له أنواع الحيل لتطول مدته في المرض فيتسع نصيبه من الأجرة، فيعطيه من أصناف الأدوية ما لا ينفع ولا يضر، أستغفر الله بل ما يضر ولا ينفع ليبقى المريض في حاجة دائمة إلى تجدد العيادة والزيارة، وفي كل مرة يصف له نوعا حديثا وصنفا جديدا من المركبات التي يعظم ثمنها بمقدار ما يقل نفعها، وينفسح له بذلك طريق للكسب والربح فوق أجر العيادات يرصده له الصيدلي في دفتر شركتهما؛ ليقاسمه أرباح تلك الأثمان الفادحة لتلك الأدوية المتكررة، فيضرب الطبيب في صناعته بقدحين، ويصيب في الكسب بسهمين، بعد أن يملأ جوف العليل من كل دواء ضار، ويخلي كيسه من كل فضة ونضار.
ومن أولئك الأطباء من يجعل همه منصرفا إلى الإبداع والتفنن، في وجوه التزيي والتزين، ويسلك سبيل التصنع والتكلف، في أبواب التظرف والتلطف، ثم يتفنن ما استطاع في حسن المحاضرة، ويتعمد رقة الحديث والمسامرة، ويتقلب في أساليب المؤانسة والمجاملة، وأفانين المغامزة والمغازلة، ليقيم له بين النساء بضاعة رائجة، وسوقا رابحة فيحل من أهل الحرم محل الجليس المحبوب، والأنيس المطلوب، وينزل من ربات الخدور، بمنزلة المحب المكرم، ويكون بين مقصورات القصور، أكرم زائر في أرحب منزل، والنساء لا يعدمن العلات، على العلات، ولا تعوزهن العلل، في اختراع العلل، لا سيما إن كانت دعوى المرض، تدني من نيل الغرض، فيكون للطبيب بينهن زيارات وعيادات، وروحات وغدوات، والطبيب كما يعلم الناس مؤتمن الجانب، يؤتمن فوق الأهل والأقارب، تفتح أمامه الأبواب، ويكشف من دونه الحجاب، فترى له زيارات بين كل صباح ومساء، تكتب له بوافر الأجر وسوء الجزاء: بوافر الأجر في دفتر حسابه، وبسوء الجزاء يوم عرضه وحسابه، ومنهم من يتطلع إلى ما فوق ذلك فيطمع في ثروة البيت بأكملها وفي حيازة الأموال بأجمعها، فيديم التردد ويوالي العشرة ويحكم الصلة ويلحم الخلطة، حتى إذا تأربت عقدة الحبل تم الاتفاق بينه وبين ربة البيت وصاحبة المتاع على التأهل بها، لا التفات هناك إلى تفاوت الأقدار ولا عناية بوجود الكفاءة، فتصبح له حليلة بعد أن كانت خليلة، وينتهي ما كان من أمر الداء والعلاج، بما تم من أمر العقد والزواج.
عيسى بن هشام :
الآن تبين لي ما كان علي غامضا واتضح ما كان مبهما من أمر الطبيبين اللذين كانا يعالجان الباشا في كثرة الزيارة وقلة نفع الدواء، وشدة التدقيق في تعيين الصيدلية، وطول استراق النظر لما وراء الحجاب.
الطبيب :
Bog aan la aqoon