وتمر السنون.
13
ينفرد عبد الغني وعبد الودود بالأرض تماما، ويصبح صابر وهو لا عمل له إلا الصلاة والعمرة والحج، والعجيب أن ولديه لم يستطيعا أن يغلباه على أمره، فإن أحدا منهما لا يملك التوقيع، ولا بد من توقيع صابر على كل المعاملات التي تتصل بالأرض، وحين حاول عبد الغني أن يقول: يا بابا، أنت تسافر كثيرا، والمعاملات المالية تحتاج إلى ...
قاطعه صابر في حزم ودون أي تفكير: إذا كنت تريد أن أكتب لك توكيلا لأصبح أنا وكأني غير موجود فهيهات، هذه الأرض ملكي، وستقسم على أبنائي الثلاثة عند موتي، وتأخذ زوجتي نصيب الثمن حقها الشرعي. - ولكن يا أبي ... - أي محاولة أخرى سأعود أنا إلى إدارة الأرض إدارة كاملة. - ما أحب إلينا. - لا تستطيع أن تخدع أباك، إن الذي لا يقدر ذكاء الآخرين ويحاول أن يتذاكى عليهم غبي لا يفهم. - وهل حاولت؟ - صدمتي في ابني لم تفقدني عقلي، وإنما زهدتني في الأرض التي جعلت الإخوة يهملون الأخ. أما عقلي فقد ازداد حدة وازددت إدراكا للحياة. وإقبالي على العبادة حب في الدنيا وفي الآخرة، وتعشقي للذات الربانية جعلني أكثر فهما للحياة وإدراكا لها، نحن الربانيين أعقل من يمشي على الأرض، والذي يعاملنا على غير هذا الأساس غبي لا يفهم.
وهكذا استقر الأمر على أن يدير عبد الغني وعبد الودود الأرض ما طابت لهما الإدارة، ولكن إصدار المال واستقباله يكون لصابر وحده.
وقد زرع عبد الغني وأخوه الذي كان أشبه بتابع له الأرض جميعها موالح، وأصبح عائد الأرض عشرة أضعاف عائدها حين كان صابر يديرها، وقد استطاع الشابان المتخرجان في الزراعة أن ينتجا من أرض الموالح أحسن ما تستطيع أن تعطيه كمية ونوعا، وأصبح لإنتاجهما شهرة بعيدة. •••
أصبح صابر ذات يوم فوجد نظره يتغشاه ما يعوق الرؤية بوضوح، فذهب من يومه إلى الطبيب.
فقال له الطبيب: لقد تعرضت لصدمات عصبية؟
ولم يجب صابر. - طبعا تحتاج إلى عملية. - هل نجاح العملية مؤكد؟ - إن شاء الله.
وحين عاد إلى البيت سألته هند فقال: يريد أن يجري لي عملية، ولن أجريها. - ماذا تقول؟ - لن أجري عملية؛ فأنا لا أحتاج لنظري إلا يوم يعود صديق، حين يعود سأجري العملية. - أهذا إيمان؟ - أنا لا أقتل نفسي، إنما أنا أستغني عن جارحة شاء الله أن يصيبني فيها، والله المستعان. - وكيف ستقرأ القرآن؟ - تقرئين أنت لي فأكسب فيك ثوابا، وتجدين شيئا تصنعينه بدلا من الحزن الذي يفري كيانك وترفضين أن تبيني عنه، حتى لا يقال عليك ما يقال علي. - ما يقال عنك لا يعيبك. - إنني لا أفتأ أذكر صديق حتى لقد أوشكت أن أجن. - ابنك وحزنت عليه، لا ضير عليك. - إذن فابكي يا هند كما أبكي حتى تخففي لوعتك. - ولماذا أبكي وأنت تقول أنه موجود، وأنت لم تكذب في حياتك قط؟ - ألهذا الحد تثقين بي؟ - وأي غرابة في ذلك؟ أنت جدير بكل ثقة. - أكرمك الله قدر ما تعذبت يا هند. - أكرمني أنت حتى يكرمني الله. - وهل قصرت؟ - أجر العملية. - أنا لا أريد أن أراك حزينة، وأرى ولدي فرحين بما حققا من نجاح. ربما خفت ضياع بصري من الآلام التي أطالعها بعيني في حياتي. - أليس الإبصار إكراما من الله؟ - ولسبب أراده حجبه عني فترة، الحمد لله على ما أعطى، والحمد له على ما أخذ، ولن أحاول أن أسترد بصري إلا إذا كان هناك ما أحب أن أراه.
Bog aan la aqoon