Fitna Kubra Cuthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Noocyada
وليس من شك في أن عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما أتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان وتثبيتها في بني أمية. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية، فضم إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر، وأطلق يده في أمور الشام أكثر مما أطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الأمراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته.
وقد كان عثمان يستطيع، لو أراد أن يحتفظ بسيرة عمر، أن يقر معاوية على دمشق والأردن، ويحتفظ بحمص وفلسطين ولايتين تتبعان المدينة مباشرة. ولو قد فعل ذلك لاحتفظ بسيرة عمر أولا، ولأتاح للنابهين من شيوخ الصحابة وشباب العرب أعمالا تحول بينهم وبين الفراغ وتحول بينهم وبين السخط، وتحول بينهم وبين الغضب والثورة أو التحريض على الثورة. ولو قد فعل ذلك لحال بين معاوية وبين ما أقدم عليه من الاستئثار حين أضرمت نار الفتنة، ولأتاح المسلمين أن يحتفظوا بالأمر شورى بينهم؛ ولكن هذا الملك الضخم الواسع المتصل مكن لمعاوية في الأرض، ويسر له أن يرسل إلى مصر من يقطعها عن عاصمة الخلافة، وأن يرسل إلى الحجاز ثم إلى بلاد العرب من يحتازها من دون علي، وأن ينظر علي ذات يوم فإذا معاوية قد استأثر من دونه بخير ما في الدولة من الأمصار والأقاليم. وليس لذلك مصدر إلا مهارة معاوية أولا، وضخامة ولايته ثانيا.
الفصل الحادي عشر
فإذا تركنا الشام ومضينا نحو الغرب انتهينا إلى مصر. وكان عمر قد ترك عمرو بن العاص واليا عليها، فأقره عثمان كما أقر غيره من عمال عمر وقتا ما. ولكن العام الأول من ولاية عثمان لم يكد ينقضي حتى جعلت قرابة عثمان تنظر إلى مصر نظرة لا تخلو من طمع فيها وطموح إليها. والناس يختلفون في عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن سعد بن أبي سرح عليها: فقوم يزعمون أن المصريين شكوا عمرا إلى عثمان فعزله عنهم، وآخرون يزعمون أن عمرا لم يعزل لسخط المصريين عليه أو ضيقهم به، وإنما هو الكيد عزل أميرا وولى مكانه أميرا آخر. والشيء البين من أحاديث الرواة هو أن عثمان كان يرشح عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة لأمر عظيم. فهم يقولون: إن عمرا كان قد أغار على إفريقية فأصاب شيئا من غنيمة ثم رجع . فكان من الطبيعي أن يخلي عثمان بين واليه على مصر وبين ما قبله من الثغور يغير عليها إغارة استطلاع ثم إغارة فتح، كما كان الشأن بالقياس إلى غيره من العمال في الكوفة والبصرة والشام. ولكن عثمان كف عمرا عن هذا الغزو، وأرسل إلى إفريقية جيشا لا يذعن لسلطان الوالي في مصر، وإنما يتصل مباشرة بالمدينة متخطيا عمرا على غير المألوف، وأمر عثمان على هذا الجيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقال له: إن فتحت عليك إفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة.
وطبيعي أن يغضب لذلك عمرو بن العاص؛ لأن عثمان خس به عن نظرائه من العمال. فلم يكن عثمان يرسل الجيوش من قبله مباشرة إلى الثغور، وإنما كان ذلك إلى العمال، يغزو معاوية الروم ويغزو عامل البصرة والكوفة بلاد الفرس، يؤامرون الخليفة في ذلك، ولكن لهم الرياسة والإشراف، لا يتخطون ولا يفتات عليهم.
وقد احتفل عثمان لفتح إفريقية، فرمى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالرجال وسرح معه نفرا من أصحاب النبي وجماعة من شباب قريش وعددا غير قليل من الأنصار، وأمره إذا فرغ من إفريقية أن يرسل فريقا من جيشه لغزو الأندلس من قبل البحر. وقد أتيح لابن أبي سرح فتح إفريقية، وأتيحت له غنائم كثيرة قسمها بين الناس، وأخذ لنفسه خمس الخمس وأرسل سائره إلى عثمان. وقيل: إن مروان بن الحكم اشترى خمس الخمس بمائة ألف دينار أو مائتي ألف، وأدى بعض الثمن ووهب له عثمان سائره. قال الرواة: فسخط الجيش لما آثر عثمان به عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأرسلوا إلى عثمان وفدا يراجعه في ذلك. فقال لهم عثمان: أنا نفلته ما أخذ، فإن أقررتموه فذاك، وإن سخطتم فهو رد. قال القوم: قد سخطنا. قال عثمان: فهو رد إذن. قال القوم: فاعزله عنا، فلن تحسن الصلة بينه وبيننا بعد الذي كان. فأجابهم عثمان إلى ما أرادوا، وكتب إلى عبد الله يأمره برد ما أخذ ويعزله عن إفريقية. وعاد عبد الله بعد ذلك إلى مصر وفي نفسه شيء من الحسرة وخيبة الأمل، فقد فتح الله على يديه إقليما ذا خطر، ثم رد هو عن هذا الإقليم الذي فتحه، ولم يتح له حتى أن يحتفظ بالنفل الذي نفله عثمان إياه. وما من شك في أن قرابة عثمان غضبت لعبد الله بن سعد، وأبت إلا أن تعوضه مما فقد خيرا منه، فما زالت بعثمان حتى ولاه خراج مصر، وترك لعمرو صلاتها وحربها. ولم يكن بد من أن يكون الخلاف بين هذين العاملين. فجائز أن يكون عمرو قد أغرى بعبد الله وحرض عليه حتى استرد الخليفة منه ما قد نفله وعزله عن إفريقية. ومهما يكن من شيء، فقد ثار الخلاف بين الرجلين، فكتب عبد الله إلى عثمان أن عمرا قد كسر علي الخراج. وكتب عمرو إلى عثمان أن عبد الله قد أفسد علي حيلة الحرب. وكان عثمان خليقا أن يدعو عبد الله إلى المدينة ويترك لعمرو ولاية مصر؛ فقد مات عمر وهو راض عن ولايته. فإذا لم يكن بد من التغيير فقد كان عثمان خليقا أن يعزل الرجلين جميعا ويجعل أمور مصر إلى غيرهما من قريش أو من غير قريش. كان ذلك أحرى أن يخفف من حفيظة عمرو، وأن يؤجل انقسام قريش. ولكن عثمان عزل عمرا وجمع لعبد الله صلاة مصر وحربها إلى ما كان يلي من الخراج، فاتخذ لنفسه من عمرو عدوا.
ثم لم يقف أمر عثمان مع عمرو عند هذا الحد؛ فقد اتهمه في أمانته معرضا مرة ومصرحا مرة أخرى. دخل عليه عمرو ذات يوم وعليه جبة محشوة، فقال له عثمان: ما حشو جبتك؟ قال: حشوها عمرو. قال عثمان: ما عن هذا سألتك فقد علمت أنك فيها، إنما سألتك أحشوها قطن أم غيره؟
وأرسل عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان من مصر مالا كثيرا، فدخل عمرو على عثمان حين وافى هذا المال، فقال له عثمان: هل تعلم أن تلك اللقاح قد درت بعدك يا عمرو؟ قال عمرو: وقد هلكت فصالها . أراد عثمان أن عمرا كان يحتجن المال من دونه. وأراد عمرو أن عامل عثمان يكلف أهل مصر فوق ما يطيقون.
ولم يكن عبد الله بن سعد بن أبي سرح رجل صدق، ولم يكن المسلمون يرضون عنه؛ فهو كان من الذين اشتدوا على النبي وأسرفوا في السخر منه، وقد نزل القرآن بكفره وذمه. فقد كان عبد الله يقول ساخرا من القرآن: سأنزل مثل ما أنزل الله.
وقد أهدر النبي دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح يوم الفتح، ولكن عثمان جاء به مسلما إلى النبي، فلم يجد النبي عليه سبيلا. وما من شك في أن سيرة عبد الله في مصر لم تكن رضا لأهلها؛ فهو كان يكلفهم فوق ما يطيقون، كما عرض بذلك عمرو بن العاص. وهو كان في أكبر الظن يظهر من الغطرسة والكبرياء على غير قريش من عرب مصر ما أحفظهم وأضجرهم، حتى شكوه إلى عثمان، وحتى كتب إليه عثمان ينذره ويأمره أن ينزع عما تكره الرعية، فلم يحفل بذلك، وإنما عاقب الذين شكوه وضرب منهم رجلا حتى قتله
Bog aan la aqoon