Fitna Kubra Cuthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Noocyada
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Bog aan la aqoon
الفصل الحادي والثلاثون
ملحقات
بعض المراجع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
Bog aan la aqoon
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
Bog aan la aqoon
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
Bog aan la aqoon
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
ملحقات
بعض المراجع
الفتنة الكبرى (الجزء الأول)
الفتنة الكبرى (الجزء الأول)
عثمان
تأليف
Bog aan la aqoon
طه حسين
الفصل الأول
هذا حديث أريد أن أخلصه للحق ما وسعني إخلاصه للحق وحده، وأن أتحرى فيه الصواب ما استطعت إلى تحري الصواب سبيلا، وأن أحمل نفسي فيه على الإنصاف لا أحيد عنه ولا أمالئ فيه حزبا من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أشايع فيه فريقا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق؛ فلست عثماني الهوى، ولست شيعة لعلي، ولست أفكر في هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وجنوا معه أو بعده نتائجها.
وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلى الآن، كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله؛ فمنهم العثماني الذي لا يعدل بعثمان أحدا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد الشيخين، ومنهم الشيعي الذي لا يعدل بعلي رحمه الله بعد النبي أحدا، لا يستثني الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارا؛ ومنهم من يتردد بين هذا وذاك، يقتصد في عثمانيته شيئا أو يقتصد في تشيعه لعلي شيئا، فيعرف لأصحاب النبي كلهم مكانتهم، ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثم لا يفضل بعد ذلك أحدا منهم على الآخر، يرى أنهم جميعا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللإسلام والمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولأولئك وهؤلاء أجرهم؛ لأنهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة. وكل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها ويتفانون في سبيلها؛ لأنهم يفكرون في هذه القضية تفكيرا دينيا، يصدرون فيه عن الإيمان، ويبتغون به ما يبتغي المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه، وابتغاء رضوان الله بكل ما يعمل في ذلك أو يقول.
وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرد نفسه تجريدا كاملا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها.
وقد قضى جماعة من المسلمين، بل من خيار المسلمين، نحبهم قبل أن تحدث هذه القضية وتثار حولها الخصومة، فلم ينقص هذا من إيمانهم ولا من أقدارهم، وإنما عصمهم من الشبهة وجنبهم مواطن الزلل، فمضوا بخير ما كتب الله للمسلمين، ونجوا من شر ما كتب عليهم؛ وعاش قوم من أصحاب النبي حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم، فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلا ولا كثيرا، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله؛ وقال قائلهم سعد بن أبي وقاص رحمه الله: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك!
فأنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله، لا أجادل عن أولئك ولا عن هؤلاء، وإنما أحاول أن أتبين لنفسي وأبين للناس الظروف التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى الفتنة وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرقتهم وما زالت تفرقهم إلى الآن، وستظل تفرقهم في أكبر الظن إلى آخر الدهر. وسيرى الذين يقرءون هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهما وقام من دونهما، وأن غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيها عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ومن اختصام الناس حوله واقتتالهم بعد ذلك فيه.
وأكاد أعتقد أن الخلافة الإسلامية، كما فهمها أبو بكر وعمر، إنما كانت تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة، ولكنها لم تنته إلى غايتها، ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلى غايتها؛ لأنها أجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تجرى فيه، سبق بها هذا العصر سبقا عظيما.
Bog aan la aqoon
وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي، وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تنشئ نظاما سياسيا يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه!
وقد ذهبت الإنسانية في الحكم مذاهبها المختلفة؛ فكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم آلهة، وكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالا للآلهة، ثم كان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالا لإله واحد. وهؤلاء الملوك جميعا كانوا يرون مخلصين أو غير مخلصين أن سلطانهم لا يأتيهم من الناس، وإنما يأتيهم من آبائهم الآلهة إن رأوا أنفسهم آلهة، ويأتيهم من الإله أو من الآلهة الذين اتخذوهم لأنفسهم ظلالا واستخلفوهم على عبادهم من الناس؛ فكان هؤلاء الملوك يصدرون فيما يأمرون وما ينهون وفيما يأتون وما يدعون عن أنفسهم، لا يعنيهم أن يرضى الناس أو يسخطوا، فليس للناس أن يرضوا أو يسخطوا، وإنما عليهم أن يذعنوا، وليس من شأن رضاهم أو سخطهم أن يغير من سيرة ملوكهم شيئا؛ فأنت تستطيع أن ترضى عن الشمس حين تضيء، وتسخط عليها حين تحتجب، فلن يغريها رضاك بالإشراق، ولن يمنعها سخطك عن الاحتجاب.
عرفت الإنسانية حكم هؤلاء الملوك فسعدت به قليلا وشقيت به كثيرا، وحاولت أن تغيره فأتيح لها هذا التغيير في بعض الظروف؛ فعرفت حكم القلة الأرستقراطية التي تستأثر بالعدل فيما بينها من دون الناس، وعرفت حكم الطغاة الذين أقبلوا لينقذوا الشعب من ظلم هذه القلة واستئثارها، وليشيعوا العدل بين الناس جميعا لا يفرقون بين الأقوياء والضعفاء، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين القادرين والعاجزين، فلم يتح لهم إلا أن يشيعوا الظلم بين الناس جميعا، وأن يذلوا القلة مع الكثرة ويردوها من الضعة والهوان، إلى مثل ما حاولت أن تخرج منه أو إلى شر مما حاولت أن تخرج منه.
ثم عرفت الإنسانية بعد ذلك نظاما من نظم الحكم، ظنت أنه من خير النظم وأرقاها وأقومها وأمثلها وأجدرها أن يحقق العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، وهو هذا النظام الذي يرد إلى الشعب أمور الشعب يصرفها كما يشاء ويدبرها كما يحب. ولكن الإنسانية جربت هذا النظام فنالت به قسطا من العدل، ولم تنل به العدل كله، بل لم تنل به من العدل إلا أيسره وأهونه شأنا؛ فلم يتح للناس إلى الآن أن يتفقوا على رأي ولا أن يجتمعوا على هوى، ولا أن تتحد لهم كلمة أو يلتئم لهم شمل, وهم من أجل ذلك يرون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر، ثم لا يصنعون من ذلك شيئا في حقيقة الأمر: يستفتون الشعب في أمره؛ فإذا كان الاختلاف - ولا بد من أن يكون الاختلاف - أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة، وأتاحوا بذلك للأكثرين أن يستذلوا الأقلين، أو أن يحكموهم على غير ما يريدون؛ ولو قد ضمن للأكثرين أن يحكموا أنفسهم، وأن يحكموا الأقلين لكان هذا النظام مقاربا للعدل مباعدا للظلم المنكر إلى حد ما. ولكن الأكثرين لا يحكمون بأنفسهم ولا سبيل إلى أن يحكموا بأنفسهم، فهم يكلون أمر الحكم إلى ممثلين لهم يختارونهم لذلك اختيارا، ويكلفونهم بذلك تكليفا، وقد يخلص هذا الاختيار في نفسه من العنف والإغراء، ومن الرغب والرهب، أو لا يخلص؛ ولكن ليس من شك في أن هؤلاء الممثلين الذين تكل الكثرة إليهم أمور الحكم، ناس من الناس، فيهم القوة وفيهم الضعف، وفيهم الشدة وفيهم اللين، وفيهم القناعة وفيهم الطمع، وفيهم الإيثار وفيهم الأثرة؛ فهم معرضون لأن يجوروا عن القصد، وينحرفوا عن الطريق، ويحملوا أنفسهم ويحملوا الناس معهم على غير الجادة، ويتورطوا كما تورط الملوك المستبدون، وكما تورطت الأرستقراطية المستأثرة، وكما تورط الطغاة المستعلون في الظلم والجور.
هذا كله ولم نتجاوز العدل السياسي، فكيف إذا قصدنا إلى العدل الاجتماعي الذي يراد منه ألا يجعل الناس سواء أمام الحاكم فحسب، وإنما يجعلهم سواء أمام الثمرات التي قدر للناس أن يعيشوا عليها؛ فقد عجزت نظم الحكم التي عرفتها الإنسانية، على اختلاف العصور والبيئات والظروف، عن أن تحقق هذا العدل الاجتماعي تحقيقا ينتهي بالناس إلى اطمئنان لا يشوبه قلق، ورضا لا يشوبه سخط، وأمن لا يشوبه خوف. والإنسانية المعاصرة ترى من ذلك ما لا يحتاج إلى أن نطيل القول فيه؛ فالديمقراطية قد ضمنت للناس شيئا من حرية وقليلا من مساواة أمام القانون، ولكنها لم تكد تضمن لهم من العدل الاجتماعي شيئا؛ والشيوعية قد ضمنت للناس قليلا أو كثيرا من العدل الاجتماعي، فألغت ما بينهم من الفروق، وأتاحت للعاملين منهم أن يعملوا وينتفعوا بثمرة أعمالهم، وأتاحت للعاجزين منهم أن يعيشوا غير معرضين لذلة أو ضعة أو هوان، ولكنها ضحت في سبيل ذلك بحريتهم كلها فلم تدع لهم منها شيئا، أو لم تكد تدع لهم منها شيئا؛ والفاشية قد ضحت بالحرية والعدل جميعا، فاستذلت الناس لسلطان الدولة استذلالا بعيد المدى، واستغلتهم لقوة الدولة أبشع استغلال وأشنعه، ثم لم ترد عليهم من نتائج عملهم شيئا، ولم تحفظ عليهم من حريتهم قليلا ولا كثيرا.
سلكت الإنسانية في سبيل الحكم الصالح كل هذه الطرق، وجربت كل هذه النظم، فلم تنته إلى غاية، وما زالت تشكو الظلم والجور، وتضيق بالاستذلال والاستغلال، وتبحث عن النظام القويم الذي يضمن للناس الحرية والعدل جميعا. وهذا النظام القويم هو الذي حاولت الخلافة الإسلامية لعهد أبي بكر وعمر أن تنشئه، فمات أبو بكر رحمه الله ولم يكد يبدأ التجربة، وقتل عمر رحمه الله وقد خطا بالتجربة خطوات واسعة، ولكنه لم يرض عنها أولا؛ فقد روي عنه أنه كان يقول في آخر خلافته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» فقد رأى عمر إذن أنه لم يبلغ من تحقيق العدل الاجتماعي ما كان يريد، فكيف ولم يعرف المسلمون ولا غير المسلمين أميرا حاول من العدل ما حاول عمر وحقق منه ما حقق عمر. ولم يرض الناس عن تجربة عمر في أيامه ثانيا؛ فقد كانوا يهابونه ويشفقون من سلطانه، ويعطيه أكثرهم خوفا ورهبا؛ وكان أشد الناس حبا لعمر وأشد الناس حبا إلى عمر يبتغون إليه الوسيلة ليرفق بنفسه وبهم وبعامة الناس فلا يبلغون منه شيئا؛ لأنه كان يؤثر العدل على كل شيء، ثم لم يرض المغلوبون عن هذه التجربة آخر الأمر؛ فقد كانوا يرون أنهم يكلفون ما لا يحبون وفوق ما لا يطيقون، وكانوا يرون أنهم أصحاب سابقة في الحضارة، وأن العرب طارئون على هذه الحضارة، وأن مما يخالف أهواء نفوسهم أن يتسلط البادون على الحاضرين. وقد قتل عمر رحمه الله نتيجة لهذا السخط؛ قتله أحد هؤلاء المغلوبين الذي شكا إليه شدة سيده المغيرة بن شعبة، فلما حقق شكاته لم يعتبه، فكانت نتيجة ذلك أن طعن وهو يستقبل الصلاة.
على أن من الإسراف أن نقضي في هذه التجربة الجريئة بهذه السرعة السريعة، فمن حقها علينا أن نقف عندها وقفة فيها شيء من تمهل وأناة، لنرى أكان من الممكن أن تبقى، ولنرى أكان من الممكن أن تنجح وتبلغ غايتها؛ فقد نحقق بهذه الوقفة المتمهلة المستأنية ما أخذنا به أنفسنا من الإنصاف أولا، وقد تعيننا هذه الوقفة المتمهلة المستأنية على أن نفقه هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها، أو أثيرت أيام عثمان، لا لأن عثمان كان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان قد آن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه، وليثير الناس بعضها الآخر.
الفصل الثاني
كانت القاعدة الأساسية التي أقام أبو بكر وعمر عليها نظام حكمهما، هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وسيرة النبي في المسلمين معروفة إلى أبعد حد ممكن. وكان قوام هذه السيرة تحقيق العدل الخالص المطلق بين الناس، وما نحتاج فيما نظن أن نقيم على ذلك دليلا، وحسبنا أن نذكر من لا يذكر أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين؛ أولاهما: التوحيد، وثانيتهما: المساواة بين الناس، والله عز وجل يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
Bog aan la aqoon
وكان أغيظ ما غاظ قريشا من النبي ودعوته أنه كان يدعو إلى هذا العدل وإلى هذه المساواة، ولم يكن يفرق بين السيد والمسود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعا سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم من بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض. وقد يقال: إنه لم يلغ الرق، ولم يمنع الناس من أن يملك بعضهم بعضا! ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حق معرفته لا ينكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوى بين الحر والعبد أمام الله كانت وحدها حدثا خطيرا في تاريخ الناس، وحدثا خطيرا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب؛ فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يخلصوا قلوبهم له؛ والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء؛ والله قد شرع دينه واحدا لأولئك وهؤلاء، لم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوا ويحرمه تحريما؛ فكيف وقد جعل الله فك الرقبة وإعتاق الرقيق من الأمور التي يتنافس فيها المسلمون، يدخرون بها الأجر من الله والمثوبة عنده، وكيف والله قد فتح في الدين أبوابا كثيرة لا يكاد يلجها الرقيق حتى يعتق، والله قد مد في أسباب الإعتاق والتحرير لمن شاء أن يتصل بها، فجعل الإعتاق - كما قدمت آنفا - من الأعمال الصالحات التي يقصد إليها المسلم، وجعل الإعتاق كفارة لبعض الخطايا، ولم يدع وسيلة تيسر الإعتاق وتغري به وتعين عليه وتفرضه على الناس فرضا إلا دعا إليها ورغب فيها وشرعها للمسلمين.
وقد سخطت قريش أشد السخط وأعنفه على النبي لما أظهر من ذلك، حتى لأكاد أعتقد أنه لو قد دعاها إلى التوحيد دون أن يعرض للنظام الاجتماعي والاقتصادي، ودون أن يسوي بين الحر والعبد وبين الغني والفقير وبين القوي والضعيف، ودون أن يلغي ما ألغى من الربا، ودون أن يأخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء - أقول: لو قد دعاهم النبي إلى التوحيد وحده دون أن يمس نظامهم الاجتماعي والاقتصادي، لأجابته كثرتهم في غير مشقة ولا جهد؛ فما كانت قريش مؤمنة بأوثانها إيمانا خالصا، ولا كانت قريش حريصة على آلهتها حرصا صادقا، وما كانت قريش إلا شاكة ساخرة، تتخذ الأوثان وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء العرب واستغلالها - أو لأجابه من قريش من أجاب، وامتنع عليه منها من امتنع، دون أن يلقى في ذلك مشقة أو عنتا، إلا أن يكون حرص قريش على آلهتها نتيجة حرصها على مكانتها من العرب وانتفاعها بما كان يجلب إليها من الثمرات. ومهما يكن من شيء فقد سخطت قريش على النبي لأنه عرض لنظامها الاجتماعي، وفرض عليها نوعا من العدل لا يلائم منافع سادتها وكبرائها، أكثر مما سخطت عليه لأنه عاب آلهتها ودعاها إلى أن تلغي الواسطة بينها وبين الله.
والناس جميعا يعلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ربما رفق ببعض السادة من قريش طمعا في أن يستميله إلى الإسلام، فيكون ذلك قوة للدعوة الجديدة، وربما دعاه هذا الرفق إلى شيء من الإعراض عن بعض المستضعفين، فلامه الله في ذلك أشد اللوم وأعنفه، وأنزل الله في ذلك قرآنا، وما زال الناس يقرءون ما أنزل الله في قصة ابن أم مكتوم من قوله عز وجل:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة .
فالتسوية بين الناس إذن هي مظهر أحد الأساسين اللذين قام عليهما الإسلام، وهما التوحيد والعدل؛ وقد سار النبي في أصحابه بمكة ثم بالمدينة سيرة قوامها العدل في الجليل من أمرهم والخطير، حتى استقر في نفوس المسلمين أن العدل ركن أساسي من أركان الإسلام، وأن الانحراف عنه انحراف عن الإسلام، والإخلال به إخلال بالدين؛ ومن أجل ذلك لم يتردد بعض المسلمين في أن ينكر على النبي نفسه بعض ما رأى، ولم يفهم حين كان النبي يقسم الغنائم بعد حنين، ويتألف بعض من كان يتألف من العرب فيعطيهم أكثر من حقهم في الغنيمة، فقال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. وقد أعرض النبي
صلى الله عليه وسلم
عنه أول الأمر، ولكنه أعاد كلمته وأعادها، فظهر الغضب في وجه النبي وقال: «ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!»
وهم بعض المسلمين أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عنه لأنه كان يحفظ لأصحابه حريتهم وحقهم في المشورة والاعتراض والنقد. والنبي مع ذلك لم يتألف من تألف من العرب إلا عن وحي من الله وإذن في القرآن؛ فالله قد أذن له في سورة «براءة» أن يتألف قلوب بعض الناس من أموال الصدقة، وجعل تألف بعض القلوب مصرفا من مصارف الصدقة.
Bog aan la aqoon
فهو إذن لم يجر عن القصد حين أعطى من الغنيمة جماعة من هؤلاء الذين أذن الله له في أن يتألف قلوبهم؛ وليس أدل على أن النبي مضى في رعاية العدل إلى أبعد حد ممكن، من هذه السنة التي استنها في نفسه فأحب الخلفاء أن يسنوها بعده في الناس فلم يبلغوا من ذلك ما أرادوا؛ فقد أقص النبي من نفسه، وزعم عمر أثناء خلافته أن أي عامل آذى بعض رعيته بغير الحق فهو عرضة لهذا القصاص، ويقال إن بعض الرعية شكا إلى عمر في الموسم أن عامله قد ضربه بغير الحق، فلما استبان ظلم العامل لعمر قضى بأن يقتص منه شاكيه، وفزع العمال إلى عمر يطلبون إليه أن يقيل هذا العامل من هذا القصاص؛ لأنه يغض من هيبة السلطان، ويطمع الرعية في أمرائها، فلم يقبل منهم عمر على كثرة ما ألحوا، ثم رضي آخر الأمر أن يعفي العامل من هذا القصاص إذا أرضى شاكيه، وقد استطاع هذا العامل أن يرضي شاكيه فلم يتعرض لهذا القصاص؛ وكانت حجة عمر أن النبي قد أقص من نفسه وهو خير أمته، فلا على غيره من الخلفاء والولاة أن يقصوا من أنفسهم عن رضا أو أن يقص منهم السلطان وهم كارهون. وقد احتج خصوم عثمان عليه بإقصاص النبي من نفسه، وبما أراد عمر من إقصاص الرعية من ولاتها، وطلبوا إليه أن يقص من نفسه، فلم يجبهم إلى ما أرادوا. والذين قرءوا سيرة النبي وسنته يعلمون أنه لم يكن يؤثر نفسه بخير دون أصحابه، إلا أن يؤثره الله بهذا الخير في أمر يوحيه إليه في القرآن؛ فهو كان يشاورهم وينزل عند مشورتهم، وهو كان يحارب معهم إذا حاربوا ويسالم معهم إذا سالموا، وهو كان يبني معهم المسجد ويحفر معهم الخندق ويتغنى معهم وهم يتغنون، يستعينون بالغناء على مشقة الحفر والبناء، وهو كان يحمل معهم الأحجار والتراب، يرى نفسه واحدا منهم قد آثره الله بالوحي والنبوة، فلم يؤثر نفسه بأكثر مما آثره الله به، والسيرة والسنن تروي أنه حين مرض مرضه الذي خرج به من الدنيا سأل عن شيء من ذهب كان قد بقي عنده من مال المسلمين، فلما جيء به أخرجه إلى الناس ولم يبق منه شيئا، وتوفي وهو لا يملك من الدنيا بيضاء ولا صفراء. وقد اشتد على نفسه في ذلك، واشتد الله عليه فيه أيضا، إذ كان لا ينطق عن الهوى، فلم يكتف بالارتفاع عن أن يؤثر نفسه بشيء من دون أصحابه، وإنما أبى إلا أن يسير في أهله سيرته في نفسه، فقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة.» وقد جاءت فاطمة رحمها الله تطلب إلى أبي بكر ميراث أبيها: فدك، فلم يجبها إلى ما طلبت وروى لها هذا الحديث.
فقد قامت سيرة النبي إذن على العدل بين الناس فيما يكون بينهم وبين أنفسهم، وعلى العدل بين الناس وبين نفسه، وعلى العدل بين الناس وبين أهله أيضا. واجتهد صاحباه من بعده أن يذهبا مذهبه ويسيرا سيرته ما استطاعا إلى ذلك سبيلا؛ بل هم أبو بكر أن يكلف نفسه فوق ما تطيق، فأراد أن يكون إماما للمسلمين ينظر في أمرهم ويقف عليهم وقته وجهده، وأن يسعى مع ذلك ليكسب قوته وقوت أهله، ورآه المسلمون ذات يوم يحمل بعض العروض يسعى بها إلى السوق ليبيع ويشتري كما كان يفعل قبل أن يستخلف، وكما كان المسلمون يفعلون من حوله؛ ولكن المسلمين أشفقوا عليه من ذلك، أو أحس هو العجز عن أن يكون كاسبا وخليفة في وقت واحد، على اختلاف في الروايات؛ فرزقه المسلمون من بيت المال؛ ولم ييسروا عليه في الرزق، وإنما أعطوه ما يقيم أوده وأود أهله.
وقد سار أبو بكر سيرة النبي نفسه، فتحرج أن يموت وعنده من أموال المسلمين شيء، وأوصى آل أبي بكر أن يردوا على عمر هنات كانت عنده من أموال المسلمين، وقد ردت هذه الهنات على عمر فبكى وهم أن يقبلها، فأنكر عليه عبد الرحمن بن عوف ذلك، ولكن عمر أبى إلا أن يتحرج في ذات صاحبه كما تحرج هو في ذات نفسه، وكره أن يلقى أبو بكر ربه فيسأله عما بقي عنده من هذه الهنات، وكره أن يقول أبو بكر لربه: ردها أهلي، وأبى عمر أن يقبلها.
وكذلك بلغ حرص النبي وأبي بكر على العدل أن يتأثما مما لا إثم فيه، وأن يتحرجا مما لا تتحرج منه ضمائر الأتقياء. ولو قد طالت خلافة أبي بكر لرأينا منه في ذلك الأعاجيب، ولكن خلافة عمر جاوزت عشر سنين، فأرانا من ذلك ما لا تكاد تصدقه النفوس. ومن الناس من يزعم أن الرواة قد تكثروا على عمر، وأضافوا إليه من الشدة أكثر مما كان فيه، ولكن الذين يقرءون سيرة عمر في كتب السنن والطبقات والتاريخ يفرقون في غير مشقة بين ما يمكن أن يكون الرواة قد تكلفوه وبين ما يلائم سيرة عمر وطبعه ومزاجه من الأحداث والواقعات؛ فقد كان عمر شديدا على الناس إلى أقصى حدود الشدة في ذات الله، ولكنه كان على نفسه أشد منه على الناس. وما أعرف أن التاريخ الإنساني كله يستطيع أن يجد لعمر نظيرا في هذا الضمير الحي الحساس المتحرج المتأثم الذي يخاف على نفسه ما لا يخاف، وينكر من نفسه ما لا ينكر، ويأخذ نفسه من ضروب الشدة والعنف بما لا يأخذ الرجل به نفسه إلا أن يكون من أولي العزم. والناس يعلمون أن عمر رأى الشدة التي نزلت بالمسلمين في عام الرمادة، فأبى إلا أن يشارك الناس في شدتهم، وأبى إلا أن يشارك من الناس في هذه الشدة أعظمهم حظا من الفقر والضيق.
عرف أن عامة الناس من حوله لا يجدون السمن، فحرم السمن على نفسه وصبرها على الخبز الجاف والزيت؛ ثم شق عليه الزيت، فخيل إليه أنه لو طبخ لانكسرت حدته ولكان أيسر إساغة وهضما، فتقدم إلى مولاه في أن يطبخ له الزيت، فلما طعمه مطبوخا كان أوجع له وأشد عليه، وقد أثر ذلك في صحته فتغير له لونه، وعرف المسلمون ذلك فلم يستطيعوا أن يردوه عنه؛ لأنه أبى أن يخصب حتى يخصب عامة المسلمين.
ولم يؤمن عمر قط فيما بينه وبين نفسه بأنه مدبر هذه الدولة الضخمة ذات الآفاق الواسعة والفتح البعيد، وإنما كان فيما بينه وبين نفسه يرى ولايته عجبا من العجب وغريبة من الغرائب، ويقول لنفسه إذا خلا إليها: بخ بخ يابن الخطاب؛ أصبحت أمير المؤمنين! وما يزال يذكر أنه كان قبل الإسلام ترعية يرعى على أبيه الخطاب غنيمة، يحدث الناس بذلك ويحدثهم بالمكان الذي كان يرعى فيه، ويحدثهم بما كان يلقى من الخطاب في عمله ذاك من الشدة والجهد. ولم يكن عمر يبخل بنفسه على عمل من أعمال المسلمين مهما يكن عسيرا شاقا، وقد رئي ذات يوم في حظيرة إبل الصدقة يحصي هذه الإبل ويصفها وصفا دقيقا مستقصى، يقول ذلك لعلي ويؤدي علي عنه ذلك إلى عثمان، فيكتبه عثمان في الصحف، حتى أعجب علي منه بذلك فتلا ما جاء في القرآن على لسان ابنة شعيب في موسى:
يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ، ثم قال: هذا هو القوي الأمين. ورأى الناس عمر يطلي إبل الصدقة بالقطران يهنأ منها مواضع النقب، كما يفعل الرعاة والمستضعفون من الناس، لا يجد في ذلك مشقة ولا يرى منه بأسا؛ وكان بعد شدته هذه العنيفة على نفسه يشتد على أهله حتى يرهقهم من أمرهم عسرا، وكان إذا نهى الناس عن شيء وحذرهم العقوبة إن فعلوه، جمع إليه أهله وقال لهم: إني قد نهيت المسلمين عن كذا وحذرتهم العقوبة إن أتوه، وإن الناس ينظرون إليكم لمكانكم مني؛ فلا أعرفن أن أحدكم قد أتى ما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة.
وكان في عام الرمادة يتتبع طعام أهله تتبعا دقيقا؛ فإن رأى عند أحدهم يسرا أو سعة رده عن ذلك ردا عنيفا، ثم كان بعد أن يعنف بنفسه وبأهله هذا العنف لا يتحرج في أن يأخذ الناس بسياسته تلك التي وصفها حين قال: «شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف.»
روي أنه كان يقسم مالا بين المسلمين ذات يوم وقد ازدحم الناس عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص رحمه الله، ومكانه من النبي مكانه، وبلاؤه في فتح فارس بلاؤه، فزاحم الناس حتى زحمهم وخلص إلى عمر؛ فلم يكن من عمر إلا أن علاه بالدرة، وقال: لم تهب سلطان الله في الأرض، فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!
كذلك كان حرص عمر على أن يسوي بين الناس وبين أنفسهم، وعلى أن يسوي بين الناس وبين نفسه وأهله. كل هذا بالقياس إلى سيرته الخاصة التي كان يسيرها في كل يوم.
Bog aan la aqoon
ولكن هذه الناحية من حياة عمر أيسر النواحي وأهونها على ما فيها من الشدة والجهد؛ فهناك السياسة العامة التي أخذ عمر نفسه بها وجعلها لخلافته شريعة ومنهاجا؛ وأول ذلك سياسته لهؤلاء النفر من كبار الصحابة وأعلام المهاجرين والأنصار؛ فهؤلاء هم أصحاب السابقة في الإسلام وأصحاب المكانة الممتازة من النبي، إليهم الحل والعقد في كل أمور المسلمين، يؤدي إليهم عمر حسابه عن تصرفه في كل أمر من الأمور العامة، ويستشيرهم في الجليل والخطير من المصالح، ويرى أنه قد ولي عليهم وليس خيرهم، فما عسى أن تكون سيرته فيهم مع ذلك؟ ما عسى أن تكون سياسته لهم؟ أخذهم بالحزم والرفق جميعا، فجعلهم نظراءه وخاصته وأصفياءه وذوي مشورته؛ ولكنه خاف عليهم الفتنة، وخاف منهم الفتنة أيضا، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلا بإذنه، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة لا يذهبون إليها إلا بأمر منه. خاف منهم أن يفتتن بهم الناس، وخاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان. وما من شك في أن هذا قد شق على كثير من أصحاب النبي ومن المهاجرين منهم خاصة.
وآية ذلك أن عثمان لم يكد يتولى أمر المسلمين حتى فك عنهم هذا العقال وأذن لهم فتفرقوا في الأرض، فرضوا عنه كل الرضا، ثم لم تمض أعوام حتى ضاقوا به أشد الضيق، وكانت الفتنة التي خشي عمر أن تكون. ثم كان عمر قد فرض لكل واحد من أصحاب النبي عطاءه على مكاناتهم وسابقاتهم في الإسلام، وعلى منازلهم وقرابتهم من النبي، وكان عمر يرى أن فيما فرض لهم من العطاء ما يغنيهم ويكفيهم السعي والاكتساب، ولكنهم مع ذلك اكتسبوا واتجروا، وكان منهم من ضارب، فعظم ثراؤهم وكثرت أموالهم، فتوسعوا في الغنى وتوسعوا في العطاء أيضا، ولم يستطع عمر أن يمنعهم من ذلك أو يردهم عنه؛ فهم كانوا يتجرون ويكتسبون أيام النبي فلم يردهم النبي عن التجارة ولا عن الاكتساب، ولكن عمر رأى ثراءهم وثراء غيرهم من المسلمين، بفضل ما أفاء الله عليهم من غنائم الفتح، وبفضل هذه الأعطيات التي كانت توزع عليهم كل عام، فلم يرض عن ذلك، ولم تطب به نفسه، حتى كان يقول: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» ولو قد مد لعمر في أسباب الحياة لكان من الممكن أن يرى التاريخ الإسلامي منه في ذلك عجبا.
وقد كثرت أموال المسلمين بفضل الفتح أيام عمر، فوقف من كثرتها موقف الحيرة أولا وشاور أصحابه؛ فأما علي فأشار عليه بما يلائم السنة الموروثة ولا يلائم تطور الحياة، فقال له: تقسم ما يرد من الأموال، حتى إذا حال الحول لم يبق في بيت المال درهم ولا دينار إلا ذهب إلى مستحقه. وأما عثمان فقال له: أرى مالا كثيرا، وإذا لم يضبط خشيت أن ينتشر الأمر. ثم انتهى عمر في القصة المعروفة إلى أن دون الدواوين، وفرض للناس أعطياتهم، وأمسك في بيت المال لمصالح المسلمين العامة ما يتجاوز هذه الأعطيات.
ولم تلبث الحوادث أن أظهرت صواب هذا الرأي الذي أشار به عثمان والذي كان يلائم طبيعة الأشياء في دولة متحضرة أو تريد أن تتحضر؛ فلما كان عام الرمادة وجد عمر في بيت المال ما أتاح له أن يقيم أمر الناس حتى يأتيه الغوث من الأقاليم، وكان يقول: نطعم المسلمين من بيت المال، حتى إذا لم نجد فيه شيئا أدخلنا على كل أهل بيت من الأغنياء مثلهم من المحتاجين، وما نزال نفعل ذلك حتى يطعم المسلمون جميعا.
على أن هذا النحو من سياسة المال كان أيسر ما ذهب إليه عمر، وهو على ذلك قيم له حظه العظيم من إيثار العدل والرفق بالناس. ولكن هناك مذهبا لعمر في سياسة المال ذهب إليه ومضى فيه إلى مدى بعيد، ويخيل إلي أن الأمم المتحضرة تحاول الآن أن تذهب إليه، فلا يتاح لها ذلك إلا في مشقة شاقة، وعسر عسير.
فقد كان عمر يرى ويعلن أن هذا المال الذي يأتي من الفيء ومن جباية الجزية والخراج، ملك للمسلمين جميعا، لا يستأثر به واحد دون الناس، ولا يستاثر به فريق من الناس دون غيرهم من الرعية، وكان يرى أنه المسئول الأول والأخير عن حفظ هذا المال أولا، وعن رده إلى أهله ثانيا، وكان يقول: لو ند جمل من إبل الصدقة في أبعد الأرض أو أصابه مكروه لخشيت أن يسألني الله عنه يوم القيامة. وكان يقول: إن عشت ليأتين الراعي في جبل صنعاء نصيبه من هذا المال.
وكان قد فرض للناس أعطياتهم من هذا المال؛ للرجل عطاؤه، وللمرأة عطاؤها، وللطفل عطاؤه، وللشيخ الفاني وذي العاهة عطاؤه. وكان يحسب أنه بذلك قد بلغ من العدل ما أراد، ولكنه مر ذات ليلة فسمع صبيا يبكي، فمضى لشأنه، ثم مر به ثانية فسمعه يبكي، فسأل أمه عن ذلك فأجابته جوابا ما، ولكنه مر الثالثة فسمعه يبكي، فلما ألح على أمه في السؤال أنبأته بأنها تريغه عن الرضاع: لأن عمر لا يفرض للأطفال إلا حين يفطمون، فلما سمع عمر ذلك جزع له جزعا شديدا. ثم أصبح فأمر من أذن في الناس: لا تعجلوا بفطام أطفالكم، فإنا نفرض لأطفال المسلمين منذ يولدون.
وكان عمر ينفذ أمر الله في أخذ الصدقات، ولكنه كان يتحرج في أخذها وتوزيعها تحرجا شديدا، والناس يعلمون أن أعرابيا سأل النبي ذات يوم: آلله أمرك أن تأخذ هذه الأموال من أغنيائنا فتردها على فقرائنا؟ فقال له النبي: اللهم نعم.
فكان عمر رحمه الله يعزم على سعاته أن يتحروا العدل في أخذ الصدقة من كل حي من أحياء العرب، وأن يردوا صدقة كل حي على فقرائه حتى يستغنوا عن المسألة، وأن يعودوا عليه بفضل ذلك؛ فإذا عادوا عليه بهذا الفضل حبسه على المصارف التي فرضها الله في القرآن، فأعان بها الفقير والمسكين وابن السبيل والغارمين، وما إلى ذلك من هذه المصارف التي ذكرها الله في آية الصدقات.
وما أذكر الاشتراكية وما أذكر الشيوعية، فلم يكن عمر صاحب اشتراكية ولا شيوعية؛ لأنه أقر الملك كما أقره النبي والقرآن، ولأنه أذن في الغنى كما أذن فيه النبي والقرآن. ولكن أذكر العدل الاجتماعي الذي يستطيع أن يتحقق في غير إلغاء للملك ولا تحريم للغنى، والذي تحاول بعض الديمقراطيات الحديثة أن تحققه محتفظة للمالكين بما يملكون، وللأغنياء بكثير مما يجمعون.
Bog aan la aqoon
وأذكر مشروع بيڨردج الذي حاول أن تكفل الدولة للناس حياتهم وصحتهم وحاجتهم وكرامتهم، دون أن تضطرهم إلى أن يستذلوا أو يستغلوا، ودون أن تغريهم بالتبطل والفراغ.
أذكر طموح الديمقراطية في هذا العصر وقصورها عن تحقيق ما تطمح إليه، ثم أذكر ما حاول عمر من ذلك وما حقق، فلا أتردد في أن الشاعر الذي رثاه إنما أثنى عليه بالحق حين قال:
جزى الله خيرا من إمام وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يجر أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما أدركت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
ثم لم يكن عمر رفيقا بعماله وولاته ولا مسمحا لهم، وإنما كان يراقبهم أشد المراقبة، كان لا يولي عاملا إلا أحصى عليه ماله حين التولية وأحصاه عليه حين العزل، فإن وجد فرقا قاسم العامل هذا الفرق، فترك له شطرا ورد الشطر الآخر إلى بيت المال، ثم كان يتتبع سيرة هؤلاء العمال في الرعية من قريب جدا، ويعزم عليهم سرا وإعلانا ألا يؤذوا المسلمين في أنفسهم ولا في أبشارهم ولا في أشعارهم ولا في أموالهم، وكان يلوم بعض ولاته في بعض ذلك فيقول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»
وكان يشاور من عنده في المدينة من أصحاب النبي فيما يلم من الخطوب كل يوم، ويضرب لعماله موعدا إذا كان الموسم، فيحج بالناس ويسمع من العمال في أمر الرعية ومن الرعية في أمر العمال، ويرد الأمر في ذلك كله إلى نصابه. وأكاد أعتقد أن عمر لو قدمت له أسباب الحياة لنظم الشورى في أمر المسلمين نظاما مستقرا باقيا، يعصمهم من الفتنة والاختلاف، ويكف الولاة عن الظلم والاستعلاء.
Bog aan la aqoon
ولم أتحدث عن بلاء عمر رحمه الله فيما دبر من أمور المسلمين، حتى فتحوا الأقطار ومصروا الأمصار وأنشئوا هذه الدول العربية الإسلامية الضخمة، فأنا لم أحاول أن أكتب تاريخ عمر ولا أن ألم بحياته إلماما يسيرا، وإنما أردت إلى أن أبين أن السيرة التي سارها النبي واجتهد صاحباه من بعده في أن يتبعاها، إنما كانت سيرة قوامها العدل الخالص المطلق الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي يعلم أن الله يراقبه من جهة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، يراقب منه ما ظهر ويراقب منه ما خفي ويسأل منه عن كل شيء، ويعلم من جهة أخرى أن الناس يراقبونه مراقبة شديدة أذن لهم فيها، بل فرضت عليهم فرضا، فهم مكلفون أن يطيعوا الخليفة ما استقام، وأن يقوموه إن اعوج، وأن يسألوه عما يلتبس عليهم من سيرته ليتبعوه عن علم، ويشيروا عليه عن بصيرة ويخالفوه عن عزيمة وإعذار.
فهل كانت هذه السيرة التي سارها النبي، واجتهد صاحباه في أن يسيراها ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، ملائمة لما فطر الناس عليه من الأثرة والطمع والحرص على المنافع العاجلة؟ وهل كانت هذه السيرة قادرة على أن تبقى حتى تغير من طباع الناس فترقى بهم إلى المثل العليا التي دعا إليها النبي وصاحباه؟
الفصل الثالث
وأول ما ينبغي أن نتبينه لنستطيع الإجابة عن هذا السؤال هو طبيعة هذه الحكومة التي حكمت المسلمين منذ أسست الدولة حين هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة إلى أن قتل عمر واستخلف عثمان، فقد يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن هذه الحكومة، أو بعبارة أدق أن نظام الحكم في هذا العهد القصير، قد كان نظاما ثيوقراطيا يعتمد قبل كل شيء وبعد كل شيء على الدين. ولما كان الدين في هذه البيئة الخاصة دينا سماويا منزلا، فقد يظن أصحاب هذا الرأي أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأنا في هذا السلطان، ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه، أو يعترضوا عليه، أو ينكروا منه قليلا أو كثيرا . وقد يخيل إلى الذين يذهبون هذا المذهب أن من أصرح الدلائل على ذلك وأصدقها، أن النبي هو الذي أسس هذه الدولة بأمر من الله عز وجل، فالله أمره أن يهاجر إلى المدينة، والله دعا المسلمين من أهل مكة إلى أن يهاجروا معه، والله أوحى إلى النبي بمجملات ومفصلات من الحكم، والله قال في سورة النجم:
ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى .
والله أمر المسلمين أن يطيعوا الله ورسوله، وبين لهم أنهم لن يؤمنوا حتى يحكموا النبي فيما شجر بينهم، وقد يضيفون إلى ذلك أن أبا بكر كان خليفة رسول الله، وأن عمر كان خليفة أبي بكر؛ فقد تنزل الحكم إذن من النبي إلى هذين الإمامين الراشدين، والنبي إنما تلقى السلطان من الله عز وجل؛ فنظام الحكم إذن في هذا العهد إنما هو النظام التيوقراطي الإلهي لا أكثر ولا أقل. ولا أشك في أن هذا الرأي أبعد الآراء عن الصواب؛ فقد كان الإسلام وما زال دينا قبل كل شيء وبعد كل شيء، وجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا وفي الآخرة بما بين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولا، وبتصديق النبي ثانيا، وبتوخي الخير في السيرة بعد ذلك، ولكنه لم يسلبهم حريتهم ولم يملك عليهم أمرهم كله، وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم، ولم يحص عليهم كل ما ينبغي أن يفعلوا، وكل ما ينبغي أن يتركوا، وإنما ترك لهم عقولا تستبصر، وقلوبا تستذكر، وأذن لهم في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصالح الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر، ولو قد كان الحكم متنزلا من السماء لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه لم يشاور فيه أحدا ولم يؤامر فيه وليا من أوليائه، فكيف والله يقول له:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . ومن قبل هذه الآية التي نزلت فيما نزل من القرآن بعد محنة أحد، قبل النبي مشورة أصحابه في غزوة بدر حين نزل بهم منزلا فسأله بعضهم: أعن أمر من الله نزل بهم هذا المنزل، أم هو الرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والمكيدة. فأشير عليه حينئذ أن يمضي بالمسلمين عن هذا المنزل الذي لم يكن يلائم خطط الحرب حتى ينزل بهم في المنزل الملائم قريبا من الماء. ثم قبل رأي أصحابه بعد وقعة بدر فيما كان من أمر الأسرى، وتعرض في ذلك لما أصابه من اللوم الذي نزل به القرآن في قول الله عز وجل:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة . وكان النبي يرى حين بلغه سير قريش إليه في وقعة أحد أن يقيم في المدينة ولا يخرج بأصحابه للقاء قريش بالعراء، وأن يذود قريشا إن هاجمت المدينة، ولكن أصحابه، والأنصار منهم خاصة، ألحوا في الخروج إلى عدوهم، فنزل النبي عند رأيهم، ثم دخل ليلبس لأمته، وندم المسلمون أثناء ذلك لأنهم استكرهوا رسول الله على ما لم يحب، فلما خرج إليهم في سلاحه اعتذروا إليه واستأذنوه في الرجوع إلى رأيه، فأبى ومضى على عزيمته. ولو كان الحكم إلهيا يتنزل دائما من السماء لما استطاع المسلمون أن يستكرهوا رسول الله على ما لا يريد، ولما قبل النبي منهم ذلك مهما تكن الظروف. وعن المشورة والاعتماد على رأي أصحابه صدر النبي حين أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
ففي هذه المواطن كلها وفي مواطن أخرى شاور النبي أصحابه وقبل رأيهم عن رضا، أو نزل عند رأيهم إيثارا لرضاهم، فلما كان يوم الحديبية شاور النبي أصحابه بعد أن عرضت عليه قريش ما عرضت من الرجوع عن مكة عامه ذاك دون أن يزور البيت، فكره أصحابه إجابة قريش إلى ما طلبت، وألح النبي في ذلك، وضاق بعض أصحابه بهذا الإلحاح، حتى قال له عمر: لم نعطي الدنية في ديننا؟! هنالك ظهر الغضب في وجه النبي، وقال: أنا رسول الله وعبده. فعلم المسلمون أن الأمر ليس أمر مشورة ومفاوضة، وإنما هو أمر قد نزل به الوحي من السماء، فتابوا إلى الله وثابوا إلى نبيهم، وأنزل الله في ذلك:
Bog aan la aqoon
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
إلى آخر الآية.
ولو أردنا أن نستقصي المواطن التي شاور فيها النبي أصحابه لطال بنا الحديث إلى أبعد مما نريد. ولكن في هذه الأحداث اليسيرة التي رويناها ما يكفي لإثبات أن الحكم في أيام النبي لم يكن يتنزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما الوحي كان يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل. وربما كان من أصدق الأدلة وأقطعها على ما نذهب إليه أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيما مجملا أو مفصلا، وإنما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ورسم لهم حدودا عامة، ثم ترك لهم تدبير أمورهم كما يحبون على ألا يتعدوا هذه الحدود، وأن النبي نفسه لم يرسم بسنته نظاما معينا للحكم ولا للسياسة، ولم يستخلف على المسلمين أحدا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب حين ثقل عليه المرض، وإنما أمر أبا بكر فصلى بالناس، وقال المسلمون بعد ذلك: رضيه رسول الله لأمور ديننا فما يمنعنا أن نرضاه لأمور دنيانا؟! ولو قد كان للمسلمين نظام سياسي منزل من السماء لرسمه القرآن أو لبين النبي حدوده وأصوله، ولفرض على المسلمين الإيمان به والإذعان له في غير مجادلة ولا مناضلة ولا مماراة.
وأخرى تدل على أن نظام الحكم في أيام النبي وصاحبيه لم يكن إلهيا منزلا من السماء، وهي البيعة التي سنها رسول الله للمسلمين حتى في أيامه هو، والناس جميعا يعلمون أنه استنفر أصحابه لوقعة بدر ولم يأمرهم بها أمرا، وإنما دعاهم إليها ورغبهم فيها ووعدهم بأمر الله إحدى الحسنيين، وكان العهد بينه وبين الأنصار ألا يخرجهم لقتال، وأن يدافعوا عنه إذا تعرض للأذى، فلما كانت غزوة بدر شاور أصحابه وانتظر أن يدلوا إليه بآرائهم، ولم يمض بهم إلى القتال حتى قال له زعماء الأنصار: لو سلكت بنا هذا البحر لاتبعناك، فعرف أنهم يرضون أن يخرجوا معه للقتال. والناس جميعا يعلمون أنه لم يأمر أصحابه بقتال قريش حين بلغه أنها مكرت بعثمان يوم الحديبية، وإنما ندبهم لذلك فبايعوه على الموت، ولو قد شاء أحدهم ألا يبايع لكان له مخرج، ولكنهم بايعوه جميعا؛ لأنهم كانوا يؤمنون به وبالله الذي أرسله ويستجيبون إذا دعاهم. وقد أنزل الله في هذه البيعة من سورة الفتح:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم . وفي القرآن آيات كثيرة ترغب المؤمنين في الجهاد وتدعوهم إليه، وتذكر الذين تخلفوا عن الجهاد فعذرهم الله ورسوله، والذين تخلفوا وتكلفوا الأعذار فلم يقبل منهم، ولكن النبي مع ذلك لم يعاقبهم ولم يعرض لهم بما يكرهون، وإنما ترك أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء تاب عليهم.
وليس أقل من هذا خطرا أن أمر الخلافة كله قام على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين، يعطي الخلفاء على أنفسهم العهد أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل، وأن يرعوا مصالحهم، وأن يسيروا فيهم سيرة النبي ما وسعهم ذلك، ويعطي المسلمون على أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا.
وما من شك في أن خليفة من خلفاء المسلمين ما كان ليفرض نفسه وسلطانه عليهم فرضا، إلا أن يعطيهم عهده ويأخذ منهم عهدهم، ثم يمضي فيهم الحكم بمقتضى هذا العقد المتبادل بينه وبينهم. ومن أجل ذلك لم يورث السلطان عن النبي وراثة؛ لم يرثه عنه أهل بيته، ولم يرثه عنه أبو بكر نفسه، وإنما تلقى هذا السلطان من الجماعة التي بايعته به وائتمنته عليه، ثم لم يرث أبناء أبي بكر عنه الخلافة، ولم يرثها عنه عمر نفسه، وما كان استخلاف أبي بكر لعمر إلا مشورة على المسلمين، وآية ذلك أن عهد أبي بكر لم ينفذ ولم يصبح عمر خليفة إلا بعد أن بايعه المسلمون رضا برأي أبي بكر وقبولا لمشورته، وآية ذلك أيضا أن عثمان خرج بعهد أبي بكر إلى الناس مختوما وأبو بكر لم يمت بعد، فقال لهم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم؛ لأنهم كانوا يثقون بأبي بكر ويرضون رأيه ويرون أنه لهم ناصح وبهم رءوف. ولم يرث أبناء عمر عنه الخلافة، وكره عمر أن تكون الخلافة بعده في أحد من ولده، وأشرك ابنه عبد الله في الشورى على ألا يكون له في الأمر شيء، ومن أجل ذلك أيضا سخط عامة المسلمين على توريث السلطان في أيام معاوية، وقال قائلهم: إنه جعلها هرقلية أو كسروية. فإذا دل هذا كله على شيء، فإنما يدل على أن الحكم أيام النبي لم يكن مفروضا من السماء لا رأي للناس فيه. وإذا كان الأمر كذلك أيام النبي الذي كان يتنزل عليه الوحي، فأحرى أن يكون الأمر كذلك أيام صاحبيه بعد أن تقطع عن الناس خبر السماء.
والذين يظنون أن نظام الحكم في هذا الصدر من حياة المسلمين كان إلهيا، يخدعون عن رأيهم هذا بما يجدون في أحاديث الخلفاء وخطبهم، وفي أحاديث الناس عنهم وإليهم من ذكر الله وأمره وسلطانه وطاعته؛ يحسبون أن هذا كله يدل على أن نظام الحكم منزل من السماء، مع أنه لا يدل في حقيقة الأمر إلا على شيء يسير خطير في وقت واحد، وهو أن الخلافة عهد بين المسلمين وخلفائهم، وأن الله أمر المسلمين بأن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا سواء أكان هذا العهد متصلا بشئون الحكم، أم متصلا بالعلاقات الخارجية، أم متصلا بما يكون بين الأفراد من العهود والمواثيق؛ فالله يأمر باحترام العهود، والله شاهد على ضمائر الناس حين يوفون بالعهود أو ينكثونها، والله يثيب من وفى بالعهد ويعاقب من نكثه عقابا شديدا.
فليس بين الإسلام وبين المسيحية مثلا فرق من هذه الناحية؛ فالإسلام دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوجه إلى الخير ويصد عن الشر، ويريد أن تقوم أمور الناس على العدل وتبرأ من الجور، ثم يخلي بعد ذلك بينهم وبين أمورهم يدبرونها كما يرون ما داموا يرعون هذه الحدود. ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه، ولأمر ما قال عيسى عليه السلام للذين جادلوه من بني إسرائيل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» وما أشك في أن عيسى عليه السلام لم يرد أن يعطي ما لقيصر لقيصر بغير حقه، أو أن تقوم الصلة بين قيصر وبين الناس على الظلم والجور والخوف.
وسنرى في غير هذا الموضع من هذا الحديث أن من المسلمين من أنكر على بعض العمال أيام عثمان قولهم: إن ما كان يأتي من الفيء ويجنى من الخراج مال الله، وقالوا: هو مال المسلمين، وتعرضوا في سبيل ذلك لبعض الأذى. ولو قد فهم المسلمون نظام الحكم في ذلك الصدر من حياتهم على أنه نظام إلهي، لما أنكروا أن يقال مال الله؛ لذلك اعتذر معاوية من هذا التعبير حين أنكر عليه، بأن الناس وما ملكوا لله، فهم عباد الله ومالهم مال الله.
Bog aan la aqoon
لم يكن نظام الحكم إذن أيام النبي تيوقراطية مقدسة، وإنما كان أمرا من أمور الناس، يقع فيه الخطأ والصواب، ويتاح للناس أن يعرفوا منه وأن ينكروا وأن يرضوا عنه ويسخطوا عليه.
ويظن آخرون أن نظام الحكم أيام النبي وصاحبيه قد كان نظاما ديمقراطيا، وهذا تجوز في الألفاظ وخروج بها عن الدقائق من معانيها. وقد ينبغي أن نتبين معنى الديمقراطية بالدقة قبل أن نقول إن نظام الحكم هذا كان أو لم يكن ديمقراطيا. والديمقراطية لفظ يدل به على حكم الشعب بالشعب وللشعب، أي على أن يختار الشعب حكامه اختيارا حرا، ويراقبهم مراقبة حرة؛ ليتبين أنهم يحكمونه لمصلحته هو لا لمصلحتهم هم، ويعزلهم إن لم يرض عن حكمهم ولم يطمئن إلى الثقة بهم.
كذلك فهمت الديمقراطية في العصور القديمة عند اليونان، وكذلك تفهم الديمقراطية في العصور الحديثة عند الأمم التي تصطنع هذا النظام، على اختلاف مع ذلك في فهم كلمة الشعب؛ فهذه الكلمة كانت تضيق في أيام اليونان مثلا، حتى لا تدل إلا على جماعة ضئيلة من المواطنين لهم وحدهم جميع الحقوق يستوون فيها أمام القانون، على حين لا تستمتع الكثرة الكثيرة من هذه الحقوق بشيء ولا تساهم من أمور الحكم بنصيب. وكان هذا اللفظ يتسع بعد الثورة الفرنسية إلى حيث يشمل عددا ضخما من المواطنين يكون لهم الاستمتاع بالحقوق السياسية، ولكنه لا يشملهم جميعا؛ فهو محدد بملك مقدار من المال، أو أداء مقدار معين من الضرائب، أو تحصيل قدر معين من الثقافة. ثم اتسع في آخر القرن الماضي حتى شمل المواطنين جميعا من الرجال منذ يبلغون الرشد، ثم اتسع في هذا القرن حتى شمل المواطنين من الرجال والنساء منذ يبلغون الرشد. وللديمقراطية بعد ذلك، سواء أكانت ضيقة أم واسعة، نظم مقررة تكفل استمتاع الشعب بحقوقه واختياره لحكامه ومراقبته لهؤلاء الحكام.
فإذا فهمت الديمقراطية على هذا المعنى الدقيق، فليس من شك في أن نظام الحكم في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطيا؛ فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق، وليس الشعب هو الذي اختار النبي ليبلغه رسالات ربه وليقيم الأمر فيه بالقسط والعدل، ولكن الله أرسل رسوله فاتبعه من اتبعه وخالف عنه من خالف عنه، وإذا قلنا إن الذين اتبعوا النبي من أصحابه قد اختاروه ليكون لهم حاكما، فهم لم يختاروه على النحو الذي يختار عليه الحكام في النظام الديمقراطي، وهم لم يكونوا يراقبونه ولا يحاسبونه، وإنما كان النبي يستشيرهم فيشيرون عليه، وكانوا يشيرون عليه حسبة أحيانا، وكان يقبل منهم أو لا يقبل. وليس من الدقة في شيء أن يقال إن حكم أبي بكر وعمر قد كان حكما ديمقراطيا بالمعنى التدقيق، فليس كل المسلمين قد اختاروا أبا بكر وعمر لأمر الخلافة، وإنما اختارهما فريق بعينه من المسلمين، وهم أولو الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، على ما كان بينهم في ذلك من اختلاف أول الأمر.
ولم يستأمر العرب الذين مات النبي وهم مسلمون من أهل مكة والطائف والبادية في اختيار أبي بكر أو عمر، وإنما اختارهما أهل المدينة فسمع لهما سائر المسلمين وأطاعوا؛ ولذلك لم يكن غريبا قول من قال من أصحاب الردة:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ثم لم يكن للشعب، بل لم يكن لهذا الفريق من المهاجرين والأنصار، نظام معين مقرر محدد يراقبون به سيرة الخلفاء ويحاسبونهم على ما يأتون وما يدعون، وإنما كان الخلفاء يستشيرونهم فيشيرون عليهم؛ يستشيرونهم مجتمعين حينا ومتفرقين حينا آخر. وكان لمن شاء من المهاجرين والأنصار أن يشير على الخليفة حسبة، فيقبل الخليفة منه أو لا يقبل؛ وإذن فلم يكن نظام الحكم في ذلك الصدر من حياة المسلمين نظاما ديمقراطيا بمعناه الدقيق في الفقه الدستوري عند القدماء أو المحدثين.
فإذا أطلق لفظ الديمقراطية على هذا المعنى العام الذي يفهم منه حاجة الحكام إلى رضا الشعب عنهم وثقة الشعب بهم، وأخذ الحكام أنفسهم بأن يسيروا في الشعب سيرة تقوم على العدل والمساواة، وتبرأ من التسلط والاستعلاء؛ فأنت تستطيع أن تقول: إن نظام الحكم في الصدر الأول للإسلام قد كان نظاما ديمقراطيا بهذا المعنى العام الذي ليس له مقاييس ولا معايير ولا حدود، وسترى أثر ذلك فيما عرض للمسلمين من أمور الفتنة أيام عثمان.
وقوم آخرون قد يظنون أن نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام قد كان نظام السلطان الفردي العادل، فلم يكن للنبي ولا لصاحبيه من بعده شركاء في الحكم، وإنما كان لهم من أصحابهم مشيرون لا يلزمون بمشورتهم أحدا. ولكن النبي وصاحبيه كانوا على ذلك يتوخون العدل ولا يتوخون غيره. وهذا النحو من التفكير يقرب نظام الحكم إلى حد ما من النظام الذي عرفه الرومان أيام الملوك والقياصرة؛ فقد كان ملوك روما وقياصرتها لا يتوارثون الحكم حتما، وإنما ينتخب أكثرهم له انتخابا، وكان أحدهم إذا انتخب ولي الأمر حياته كلها إلا أن تخلعه منه ثورة أو انتقاض. وكل ما يكون من الفرق بين هذا النظام الروماني وبين النظام الإسلامي أيام النبي وصاحبيه، هو أن العدل كان وحده قوام الحكم فيما عرف المسلمون من هذا النظام؛ على حين كان ملوك الرومان وقياصرتهم يتجاوزون العدل والقسط في كثير من الأحيان. وليس هذا الرأي أكثر دقة من الرأيين السابقين.
Bog aan la aqoon
فنحن نعلم أن قد كان للدين سلطانه في اختيار الملوك والقياصرة عند الرومان، وفيما يكون من سيرة هؤلاء الملوك والقياصرة. ولكن الفرق بين النظام الروماني والإسلامي، هو الفرق بين دين ودين، كما أنه الفرق بين جنس وجنس وبين بيئة وبيئة؛ فلم يكن للدين الذي سيطر على ملوك الرومان خاصة وعلى قياصرتهم إلى حد ما، من النقاء والسمو ما يشبه نقاء الديانات السماوية من قريب أو بعيد. إنما كان دين الرومان يقوم على العيافة والزجر واستطلاع ضمائر الغيب بطرق نقرؤها الآن فنبتسم لها ونضحك منها، وكان تطور الشعب الروماني من حياته الساذجة الأولى إلى حياته المعقدة مباعدا كل البعد لتطور الشعب العربي من جاهليته إلى إسلامه؛ فقد كان التطور الروماني ماديا، إن صح هذا التعبير، نشأ من تقدم الحضارة قليلا قليلا؛ على حين كان التطور العربي معنويا، نشأ من تغير النفس العربية بتأثير الإسلام، فكأنه كان تطورا من داخل إلى خارج، تغيرت النفس العربية فتغيرت الحياة المادية للعرب؛ على حين كان التطور الروماني من خارج إلى داخل، تغيرت ظروف الرومان الخارجية فتطورت نفوس الرومان وضمائرهم.
والبيئتان من بعد ذلك مختلفتان بمقدار ما يكون الاختلاف بين إيطاليا والحجاز: فليس غريبا ألا يكون هناك تشابه بين نظام الحكم الروماني أيام الملوك وأيام القياصرة، ونظام الحكم في الصدر الأول للإسلام.
وأكاد أتصور تشابها بعيدا أو قريبا بين نظام الحكم الروماني أيام الجمهورية ونظام الحكم الإسلامي بعد وفاة النبي؛ فقد كان الرومانيون يختارون قناصلهم على نحو يوشك أن يشبه اختيار المسلمين لخلفائهم، وإلى شيء من ذلك نحا الأنصار حين قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. ثم كان سلطان القنصل بعد اختياره يشبه في عمومه وشموله سلطان الخلفاء، إلا أن سلطان القنصل كان موقوتا بسنة واحدة، وكان سلطان الخلفاء يمتد مدى الحياة بعد اختيار الخليفة، وكان سلطان القنصل مقيدا بالقوانين التي تصدرها جماعة الشعب والقرارات التي يصدرها مجلس الشيوخ، كما كان سلطان الخليفة مقيدا بالحدود التي رسمها الدين، وبما يرى كبار الصحابة من رأي، وبما تميل إليه أو تنحرف عنه عامة المسلمين. ولكن هذه كلها وجوه للتشابه يظهر فيها التكلف والتصنع والإبعاد، فإذا أضفنا إليها مظاهر الحكم التي كانت تحيط بالقنصل ولم يكن يحيط منها بالخليفة شيء. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض النظم التي اقتضتها ظروف الجمهورية الرومانية لتقييد سلطان القنصل وحماية العامة من تحكمه، كنظام الزعماء الذين كانت الدهماء تنتخبهم ليكفوا عنها جور القنصل إن هم القنصل بشيء من الجور - أقول: إذا أضفنا هذه الفروق إلى وجوه الشبه تلك المتكلفة، كان من الواضح أن ليس هناك صلة قريبة أو بعيدة بين نظام الحكم العربي في ذلك العهد القصير وبين نظم الرومان في عهد الملوك أو عهد الجمهورية أو عهد القياصرة.
ليس من شك في أن المسلمين قد اقتبسوا كثيرا من نظم القياصرة والأكاسرة في السياسة والإدارة والحرب، ولكن هذا الاقتباس جاء متأخرة جدا عن العصر الذي نتحدث فيه؛ فلننصرف إذن عن هذا التشابه الذي لا يقوم على أساس متين.
لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد إذن نظام حكم مطلق، ولا نظاما ديمقراطيا على نحو ما عرف اليونان، ولا نظاما ملكيا أو جمهوريا أو قيصريا مقيدا على نحو ما عرف الرومان، وإنما كان نظاما عربيا خالصا بين الإسلام له حدوده العامة من جهة، وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى.
وقد قلت في بعض أحاديثي عن نشأة النثر عند العرب: إن القرآن ليس شعرا ولا نثرا، وإنما هو قرآن له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء، فيه من قيود الموسيقى ما يخيل إلى أصحاب السذاجة أنه شعر، وفيه من قيود القافية ما يخيل إليهم أنه سجع، وفيه من الحرية والانطلاق والترسل ما قد يخيل إلى بعض أصحاب السذاجة الآخرين أنه نثر؛ ومن أجل هذا خدع المشركون من قريش، فقالوا إنه شعر، وكذبوا في ذلك تكذيبا شديدا، ومن أجل هذا خدع كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر فظنوا أنه أول النثر العربي، وتكذبهم الحقائق الواقعة تكذيبا شديدا. فلو قد حاول بعض الكتاب الثائرين - وقد حاول بعضهم ذلك - أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إلا أن يأتوا بما يضحك ويثير السخرية.
قلت ذلك بالقياس إلى القرآن، وأريد أن أقول شيئا قريبا منه بالقياس إلى نظام الحكم العربي الإسلامي في ذلك العهد، فهو لم يكن ملكا، ولم يكن يؤذي النبي وصاحبيه شيء كما كان يؤذيهم أن يظن بهم الملك، وهو لم يكن جمهوريا، فلم نعرف في نظم الجمهورية نظاما يتيح للرئيس المنتخب أن يرقى إلى الحكم فلا ينزله عنه إلا الموت، ولم يكن قيصريا بالمعنى الذي عرفه الرومان، فلم يكن الجيش هو الذي يختار الخلفاء، فهو إذن نظام عربي إسلامي خالص لم يسبق العرب إليه، ثم لم يقلدوا بعد ذلك فيه، وهذا لا يعفينا مع ذلك من أن نحلله ونتبين دقائقه لنرى أكان قادرا على البقاء أم كان خليقا أن يتغير متى تغيرت الظروف التي أحاطت بنشأته ثم بتطوره.
وأول ما نلاحظ من العناصر التي كان هذا النظام يأتلف منها، العنصر الديني؛ فلم يكن هذا النظام، كما قلت آنفا، نظاما سماويا، وإنما كان نظاما إنسانيا، ولكنه على ذلك تأثر بالدين إلى حد بعيد جدا. لم يكن الخليفة يصدر عن وحي أو شيء يشبه الوحي في كل ما يأتي وما يدع، ولكنه على ذلك كان مقيدا بما أمر الله به من إقامة الحق وإقرار العدل وإيثار المعروف واجتناب المنكر والصدود عن البغي.
وهذا الوحي الذي اتصل ثلاثة وعشرين عاما يصابح المسلمين ويماسيهم، ينزل قرآنا مرة، وينطق به النبي حديثا مرة أخرى، ويجريه النبي بسيرته العملية سنة متبعة مرة ثالثة، قد أيقظ في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميرا دينيا قويا دقيقا حيا إلى أبعد غايات القوة والدقة والحياة، فلم يكن من الممكن أن يتخلص منه المسلم في قول أو عمل أو تفكير، بل لم يكن من الممكن أن يخلص منه في يقظة أو نوم، فصلته بالرعية إن كان حاكما، وبالحاكم إن كان رعية ، وبنظرائه في حياته اليومية؛ متأثرة دائما بهذا الضمير، وهذا هو الذي يخيل لكثير من الناس أن نظام الحكم في ذلك الوقت قد كان نظاما يتنزل من السماء إلى الأرض؛ وليس الأمر كذلك، وإنما هو يدور مع مقدار ما يكون لضمير الخليفة ورعيته من التأثر بالدين.
أما العنصر الثاني من العناصر التي ائتلف منها هذا النظام، فهو عنصر الأرستقراطية التي لا تعتمد على المولد ولا على الثروة ولا على ارتفاع المكانة الاجتماعية بمعناها الشائع العام، وإنما تعتمد على شيء آخر أهم من هذا كله: وهو الاتصال بالنبي أيام حياته، والإذعان لما كان يأمر به وينهى عنه في غير تردد ولا شيء يشبه التردد، والإبلاء بعد ذلك في سبيل الله في أوقات السلم والحرب جميعا.
Bog aan la aqoon
هذه الخصال أنشأت منذ ظهر الإسلام طبقة ممتازة من الناس، لم تستأثر من دونهم بحق من حقوق الدنيا، ولم تجن لنفسها منفعة عاجلة أو آجلة، وإنما آثرها النبي بحبه وأعلن إليها وإلى الناس أن الله قد آثرها بحبه أيضا؛ فالذين سبقوا إلى الإسلام، والذين عذبوا في الله، والذين هاجروا بدينهم إلى بلاد الحبشة ثم إلى المدينة، والذين آووا ونصروا، والذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لزموا النبي يسمعون له ويكتبون عنه - كل أولئك كونوا هذه الطبقة التي أحبها الله ورسوله وأكبرتها عامة المسلمين. وهذه الطبقة لم تكن ترى نفسها أحق بالامتياز ولا أجدر بالاستعلاء، وإنما كانت ترى نفسها كغيرها من الناس، وكان تواضعها نفسه يزيدها حبا عند رسول الله، ويرفعها درجات عند الله، ويعلي مكانتها في نفوس عامة الناس، ولم تكن هذه الطبقة مؤلفة من ذوي المولد الممتاز والنسب الصريح والثراء العريض وحدهم، وإنما كانت مؤلفة من بعض هؤلاء ومن آخرين كان منهم العبد الذي فتن في دينه حتى صادف من المسلمين من اشتراه وأعتقه، وكان منهم الضعيف الذي أقبل مستجيرا بمكة يعيش في حمى حلف عقدها مع هذا الحي أو ذاك من أحياء قريش ومع هذا العظيم أو ذاك من عظمائها، وكان منهم من أقبل على مكة ذات يوم فوجد فيها أمنا ومكسبا فأقام؛ ثم كان منهم من صرح نسبه وحسن مولده، ولكنه كان قصير اليد قليل المال، فهو في عزة من قومه ولكنه في ضيق من عيشه يكسب حياته كما يستطيع.
كان منهم كل هؤلاء، وكل هؤلاء سوى بينهم الإسلام في الحقوق والواجبات، ولم يفرق بينهم إلا في حظوظهم من حسن البلاد في سبيل الإسلام، والصبر على المكروه حين يلم المكروه، ومؤازرة النبي بنفسه وماله حين يحتاج النبي إلى المؤازرة بالأنفس والأموال.
ولم يكد الإسلام ينتشر حتى امتازت هذه الطبقة في نفوس المسلمين امتيازا طبيعيا، وحتى أعطاها المسلمون من الحقوق ما لم تكن هي تعطي نفسها، فأعضاؤها كانوا يعلمون الناس دينهم، ويشيرون عليهم فيما يلم بهم من الأمر. وما أكثر ما كانت أحياء العرب تطلب إلى النبي أن يرسل إليها من يفقهها في الدين، فيختار لها من هؤلاء معلما وفقيها وإماما، ثم لم تكد الشهور تمضي على هجرة النبي حتى كانت غزوة بدر التي رفعت مكانة الإسلام في بلاد العرب وجعلت له شوكة ترهب وتخاف، ولا يكاد الزمن يمضي حتى يصبح الذين شاركوا في هذه الغزوة طبقة ممتازة بين المسلمين؛ فإذا أتيح لهم أن يشهدوا غيرها من المشاهد مع النبي، فهم أشد امتيازا؛ فإذا أتيح لهم أن يثبتوا في القلة التي ثبتت مع النبي يوم أحد، فهم أشد امتيازا أيضا؛ فإذا أتيح لهم أن يثني النبي عليهم، ويجعلهم لغيرهم قدوة وإماما، ويبشرهم بالجنة، ويعلن أنه عنهم راض، فقد بلغوا أرقى درجات الامتياز. وليس في شيء من هذا كله غرابة أو عجب؛ فهذا كله ملائم لطبيعة الأشياء، وإنما المهم هو أن هذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي على ما يكون بينها من تفاوت في الامتياز، قد أصبحت بعد وفاة النبي صاحبة الحل والعقد في أمور المسلمين كلها بعد أن مضى النبي إلى ربه وانقطع الوحي وعاد ما بين السماء والأرض إلى البعد بعد القرب.
فمن هذه الطبقة وحدها يختار من يخلف النبي في أمته ، وعلى هذه الطبقة وحدها يعتمد الخليفة في أن يسمع له الناس ويطيعوا، وإلى هذه الطبقة وحدها يلجأ الخليفة حين يحتاج إلى التشاور وإدارة الرأي.
على أن الأمر لم يقف عند هذا بعد وفاة النبي، فلم تكد تمضي أيام بل ساعات على وفاة النبي حتى عرف الإسلام نوعا جديدا من الأرستقراطية يتصل بالحكم نفسه اتصالا شديدا؛ وذلك حين تحدث المسلمون في أمر الخلافة، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. وروى أبو بكر عن النبي أنه قال: الأئمة من قريش، ثم قال للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقبل الأنصار ذلك لم يكادوا يعارضون فيه، ولم يأبه منهم إلا سعد بن عبادة، رحمه الله.
منذ ذلك الوقت نشأت في الإسلام أرستقراطية قوامها القرب من رسول الله؛ فأصبح الحكم إلى قريش وحدها، وأصبحت المشورة إلى الأنصار. والمشورة حق عام لكل مسلم؛ فلقريش أن تحكم، ولقريش أن تشير، وللأنصار وغيرهم من العرب أن يشيروا، وليس لهم أن يحكموا. ومع ذلك فقد ينبغي أن نستأني في تحقيق هذه الأرستقراطية كما فهمها أبو بكر وأصحابه من المهاجرين، وكما فهمتها قريش بعد ذلك؛ فما من شك في أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح لم يفكروا في إطلاق الإمامة لقريش كلها بغير تحديد، وأكبر الظن أنهم إنما فكروا في المهاجرين الذين سبقوا إلى الإسلام، فآمنوا قبل أن يؤمن غيرهم، وآزروا النبي بأنفسهم وأموالهم على نشر دعوته في مكة أيام الجهد والشدة والضيق؛ فالكثرة العظمى من هؤلاء المهاجرين قرشية، والمهاجرون يذكرون مع الأنصار في القرآن والحديث وعلى ألسنة الناس، فيبدأ بهم ويثني بالأنصار، وما أرى إلا أن أبا بكر إنما قصد إلى هذه الطبقة الممتازة من قريش؛ طبقة الذين سبقوا إلى الإسلام وجاهدوا مع النبي أثناء الفتنة في مكة، ثم جاهدوا معه وجاهد معهم الأنصار أثناء القوة في المدينة.
ولو أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة فكروا في قريش من حيث إنها الحي الذي يتصل نسبه بنسب رسول الله، أي من حيث القرابة من النبي؛ لاقتضاهم هذا التفكير أن يؤثروا بالخلافة أقرب قريش من رسول الله، وأن يرشحوا لها العباس عمه أو عليا ابن عمه وصاحب صهره وربيبه حين كان صبيا. فأبو بكر وأصحابه إذن لم يفهموا من قريش إلا هذا المعنى الذي يتصل بالمهاجرين، وبأصحاب السبق والفضل من المهاجرين خاصة، ومن أحمق الحمق أن يقول قائل إن أبا بكر وأصحابه فكروا في قرابة قريش من النبي، وجعلوا هذه القرابة مصدر امتياز قريش بالإمامة، فلو قد كان هذا لكان الطلقاء من قريش أحق بالإمامة عند أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من الذين آووا ونصروا، ولكان أبو سفيان أو صفوان بن أمية أو الحارث بن هشام، أحق بالإمامة من أعلام الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان؛ ولكن قريشا فهمت قول أبي بكر على غير ما أراده هو وعلى غير ما فهمه أصحابه في ذلك الوقت، فاستيقنت أن الإمامة حق لها لا ينبغي أن يعدوها إلى غيرها، وأنها حق لها لمكانها من النبي. وقد كانت قريش في هذا الفهم خاطئة متكلفة، ما في ذلك شك، ولو قد صح فهمها وتأويلها لظهرت عليها حجة بني هاشم، ولكان بنو هاشم أحق المسلمين بالإمامة ما استطاعوا أن ينهضوا بأعبائها.
ذلك إلى أن الإسلام لم يقدم أحدا على أحد بمولده ولا بمكانه الاجتماعي، وإنما فاضل بين الناس عند الله بالتقوى، وفاضل بين الناس عند الناس بالتقوى والكفاية وحسن البلاء.
ويدل على صواب ما نذهب إليه أن عمر حين طلب إليه أن يستخلف قال: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته. وسالم مولى أبي حذيفة لم يكن قرشيا، بل لم يكن له نسب في العرب، وإنما جلب صبيا من إصطخر، فأعتقته امرأة من الأنصار كانت تملكه، وتولى هو ولاء أبي حذيفة من قريش، وقد كان المسلمون يقدمونه في أمور دينهم أيام النبي؛ فهو كان يؤم المهاجرين في الصلاة، وفيهم عمر، أثناء انتظارهم لمقدم النبي على المدينة. وقد قتل باليمامة في حرب الردة في خلافة أبي بكر.
وما ينبغي أن يؤبه لما قيل من أن سالما كان قرشيا بالولاء، فلو قد عاش واستخلفه عمر لما خرجت الإمامة من قريش. فهذا كله كلام لا يستقيم، ونحن نعلم أن الولاء على ما كان يعقد بين الموالي من الصلات لم يكن ليرفع الموالي إلى طبقة الذين يتولونهم من الأحرار. ولم تكن العرب تعرف لسالم نسبا، حتى إنهم كانوا يدعون زيد بن حارثة لأبيه حين أمر الله أن يدعى الموالي إلى آبائهم، وكانوا يقولون إن سالما من الصالحين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون له أبا بعد أن ألغى الإسلام تبني أبي حذيفة إياه، فقد كان عمر إذن يود لو استخلف على المسلمين رجلا ليس من قريش، بل ليس من العرب إلا بالولاء، لا يرى بذلك بأسا. وكان عمر مصيبا في مذهبه هذا موافقا لأصول الإسلام الذي لا يفضل أحدا على أحد بالنسب والمولد، وإنما يفاضل بين الناس بالكفاية والتقوى وحسن البلاء، وقد كان سالم تقيا كافيا حسن البلاء.
Bog aan la aqoon
ومهما يكن من شيء فقد نشأت هذه الأرستقراطية القرشية فجاءة على غير حساب من الناس، وكانت أرستقراطية قد غلط بها: أراد أبو بكر أن تكون الإمامة في المهاجرين ما وجد بينهم الكفء القوي على النهوض بها. فحولت قريش ذلك فيما بعد إلى منافعها وعصبيتها، وخرجت بذلك عن أصل خطير من أصول الإسلام وهو المساواة بين المسلمين.
ولم تكد قريش تخطو هذه الخطوة حتى أتبعتها خطوة أخرى كان لها أبعد الأثر في حياة المسلمين، وهي تفضيل العرب على غيرهم من الذين اعتنقوا الإسلام، ولم يكن لهم في العرب نسب صريح. والناس جميعا يعلمون أن استئثار قريش بالخلافة جر على المسلمين كثيرا من الفتن، وأن استئثار العرب بالسلطان والفضل أدال من بني أمية لبني العباس بفضل من ناصرهم من الموالي.
فلنظام الحكم في هذا الصدر في الإسلام عنصران متميزان إذن: أحدهما معنوي، وهو الدين الذي يأمر بالعدل والمعروف يفرضهما على الرعاة والرعية جميعا، والآخر هذه الأرستقراطية الخاصة التي قام أمرها على الكفاية والتقوى وحسن البلاء والاتصال برسول الله ، والتي انحرفت بها قريش بعد ذلك عن طريقها. وواضح جدا أن هذين العنصرين لم يكن من شأنهما أن يطاولا مر الدهر، وتقلب الخطوب وتتابع الأحداث؛ فأما أولهما وهو هذا الضمير الديني القوي اليقظ الحي، فشيء يتاح لأصحابه، وليس من المكفول ولا من المحتوم أن يرثه عنهم الأبناء والحفدة، فالذين اتصلوا برسول الله اتصالا قريبا وتعلموا منه وتأدبوا بأدبه، خليقون أن يتأثروه في سيرته وأن يتمثلوه كلما عملوا أو قالوا أو فكروا، فأما الأجيال التي تأتي بعدهم من الأبناء والحفدة فقد يتأثرون بهم وقد لا يتأثرون، وهم لم يتصلوا بالنبي إلا قليلا أو لم يتصلوا به أصلا، فليس غريبا ألا يتاح لضمائرهم الدينية من اليقظة والقوة والحياة ما أتيح لخاصة النبي وصفوة أصحابه الأقربين.
وأخرى لا ينبغي أن تفوتنا، وهي أن أمور الحكم إنما تستقيم حين يكون التعاون والتضامن بين الحاكمين والمحكومين في الأصول التي يقوم عليها النظام، فليس يكفي أن يكون الحاكم يقظ الضمير مؤثرا للعدل مصطنعا للمعروف حريصا على رضا الله كافيا بعد ذلك لمشكلات السياسة خراجا منها إذا ادلهمت، وإنما يجب أن يكون لرعيته حظ من هذا الضمير الحي اليقظ، ومن حب العدل وإيثار المعروف والحرص على رضا الله.
وهذه هي المشكلة الأولى التي واجهت نظام الحكم الجديد، فلم يكن العرب كلهم أصحاب رسول الله، بل لم تكن كثرة العرب قد صاحبت النبي واتصلت به، وإنما كان أصحاب رسول الله كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ولم يكن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقا أو مقاربا لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما كان من العرب من حسن إيمانه، ومنهم من أسلم ولم يؤمن، كما جاء في القرآن:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
بل كان من العرب من جرت كلمة الإسلام على لسانه، ولكنه احتفظ بجاهليته كاملة في قلبه ونفسه وضميره، والله يقول في بعض هؤلاء:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله .
فلم يكن هناك توازن بين الحاكم والمحكوم، ولم يكن هناك تضامن صحيح بين الخليفة والكثرة الضخمة من رعيته العربية، وإنما كان التضامن والتوازن قائمين بين الخليفة وهذه الطبقة الممتازة من أصحاب النبي، وبفضل هذا التضامن والتوازن استطاع أبو بكر أن يعيد العرب إلى الإسلام بعد أن ارتدوا، وأن يشغلهم بعد ذلك بما وجههم إليه من الفتوح. وأخرى لا ينبغي أن ننساها ولا ينبغي أن يضيق بها المتحرجون الذين يغلون في حسن الظن بالإنسان، وهي أن هذا الضمير الديني الحي اليقظ قد يتعرض للفتنة والمحنة، وقد يلقى أخطارا كثيرة من الأحداث والخطوب، فما أكثر ما يخلص الإنسان نفسه وقلبه وضميره للحق والخير والعدل والإحسان، ثم تلم به أسباب الفتنة وتلح عليه وتسرف في الإلحاح حتى تضطره إلى أن يتأول في بعض الأمر، ثم ما يزال ينتقل من تأول إلى تأول ومن تعلل إلى تعلل ومن تحلل إلى تحلل، حتى ينظر ذات يوم فإذا بينه وبين الإخلاص الأول أمد بعيد، ومن أجل هذا ألح القرآن وألح النبي وألح الخلفاء والصالحون في تحذير الناس من الدنيا وغرورها ومما تمد لهم من أسباب الفتن وما تعرضهم له من ضروب المحن، ومن هذه السيئات التي تذهب بالحسنات، ومن بعض النيات والأعمال التي تأكل الصالحات كما تأكل النار الحطب؛ فليس من الغريب في شيء أن يتعرض كثير من الصالحين ومن أصحاب النبي أنفسهم لأسباب الفتن ودواعي الغرور، وأن يطرأ عليهم من الأحداث والخطوب ما يباعد بينهم وبين عهدهم الأول حين كان الإسلام غضا، وحين كانوا يتصلون بالنبي مصبحين وممسين، وحين كانوا إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون.
وسنرى أن أسباب الفتن ودواعي الغرور كانت كثيرة قوية خلابة، لا يثبت لها إلا أولو العزم، وأولو العزم قلة في كل زمان ومكان.
Bog aan la aqoon
وما أريد أن أتزيد ولا أن أتكلف، ولا أن أوذي بعض الضمائر، ولا أن أحفظ بعض الصدور، ولكني مع ذلك ألاحظ أن جماعة من أصحاب النبي قد حسن بلاؤهم في الإسلام حتى رضي النبي عنهم وبشرهم بالجنة أو ضمنها لهم، ثم طال عليهم الزمن واستقبلوا الأحداث والخطوب، وامتحنوا بالسلطان الضخم العظيم، وبالثراء الواسع العريض، ففسدت بينهم الأمور، وقاتل بعضهم بعضا، وقتل بعضهم بعضا، وساء ظن بعضهم ببعض إلى أبعد ما يمكن أن يسوء ظن الناس بالناس، فما عسى أن يكون موقفنا نحن من هؤلاء؟ لا نستطيع أن نرضى عن أعمالهم جميعا، فلا نلغي عقولنا وحدها، وإنما نلغي معها أصول الدين التي تأمر بالعدل والإحسان وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا نستطيع أن نحكم بالخطيئة على من نظن أنه قد خطئ؛ لمكانهم من النبي أولا، ولما بشرهم به النبي من الجنة ورضا الله ثانيا، ولحسن ظنهم بالله ورسوله وثقتهم بما وعد الله ورسوله، وإيمانهم بالجنة التي بشروا بها، وما نحب أن نذهب في أمرهم مذهب الذين عاصورهم من خصومهم وأنصارهم، فنحكم على بعضهم بالخير، ونحكم على بعضهم الآخر بالشر؛ فالذين عاصروهم من الأنصار والخصوم كانوا شركاءهم فيما ألم بهم من الفتنة، فكانوا يرضون أو يسخطون حسب مكانهم من أولئك أو هؤلاء. أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشاركهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلك أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاما، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطئ من نخطئ ونصوب من نصوب منهم من هذه الجهة وحدها دون أن نقضي في أمر دينهم بشيء؛ فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول كما كان يقول أنصارهم وخصومهم: هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار؛ ذلك شيء لا نخوض فيه وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره إلى الله وحده. فأما الذي إلينا فهو أن نتبين من أعمالهم وأقوالهم وسيرهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمها، وهذا في نفسه كثير، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
فالعنصر الأول إذن من عنصري نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام، وهو الضمير الديني اليقظ الحي، معرض كما رأيت لكل هذه الأخطاء، ولو قد عصم أصحاب النبي جميعا من الخطأ وأمنوا التعرض للفتنة واستقامت لهم أمورهم على ما يلائم تلك العصمة وهذا الأمن، لما كان بد من أن يتعرض أبناؤهم وحفدتهم لضروب الفتن والمحن والغرور.
فلم يكن بد إذن من أن يصل المسلمون في ذلك العصر إلى ما يمكنهم من ألا يتركوا أمورهم إلى حساب الضمير وحده، أو إلى ما بين الخليفة وبين الله، إلى ما يمكنهم من أن يضعوا النظام المقرر المكتوب الذي يبين حدود الحكم جملة وتفصيلا، ويبين للخلفاء ما يجب عليهم أن يفعلوا، وما يجب عليهم أن يتركوا، وما يجوز لهم أن يترخصوا فيه، ويبين للشعب حقوقه وواجباته مفصلة، والوسائل التي يختار بها الخليفة ويراقبه بها بعد اختباره ويعاقبه بها إن حاد عن الطريق؛ كان المسلمون في حاجة إلى أن ينشئوا لأنفسهم في حدود القرآن والسنة دستورا مكتوبا مبين الحدود والأعلام يعصمهم من الفرقة والاختلاف، ولو قد فعلوا لما تعرضوا لما تعرضوا له من الشر أيام عثمان. وانظر إلى هذا المثل الذي يقف الناس أمامه حائرين يرضى منهم الراضي ويسخط منهم الساخط؛ فقد كلم عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: «إن عمر كان يحرم قرابته احتسابا لله، وأنا أعطي قرابتي احتسابا لله، ومن لنا بمثل عمر؟» فقد كان عمر إذن محسنا حين كان يحرم ذوي قرابته مال المسلمين، وكان عثمان محسنا حين كان يصل أرحامه من مال المسلمين؛ لأن الله أمر أن توصل الأرحام.
فهذا كلام قد يستقيم عند الذين يحاولون أن يتأولوا في الفقه؛ فأما المصالح العامة فلا تحتمل هذا التأول، فالأموال العامة إما أن تكون للشعب فلا يحل للإمام أن يتصرف فيها إلا بإذنه، وإما أن تكون للإمام فلا يحل للشعب أن يعترض عليه إن تصرف فيها؛ فأما أن يتقرب بعض الأئمة إلى الله بحفظها على المسلمين ، وأن يتقرب بعضهم الآخر إلى الله بصلة رحمه منها؛ فهذا شيء لا يستقيم. وواضح أنا نذهب في ذلك مذهب عمر؛ لأنه وحده يلائم الحق والعدل وما ينبغي للأئمة من التعفف، ويلائم فقه الأمور العامة كما نفهمه الآن.
ومثل آخر يرويه المؤرخون، وما ندري أنقف منه موقف الإعجاب أم نقف منه موقف العجب؟ فقد قال عثمان لخصومه حين اشتد عليه الحصار: «إن رأيتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فافعلوا.» أقال هذا معتبا لهم نازلا عند حكم الله في كتابه؟ وإذن فأين هذا الحكم الذي يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد؟ أم قال هذا متحديا؛ لأنه يعلم أن ليس في كتاب الله نص يبيح للمسلمين أن يضعوا رجلي إمامهم في القيد حين يخطئ أو حين ينحرف عن الجادة عن عمد؛ لأن القرآن لم يعرض لشيء من هذا؟ وإذن فقد كان عثمان على هذا الفرض يرى أن ليس لخصومه عليه سبيل من كتاب الله، وأن له أن يفعل ما فعل دون أن يكون قد قارف ذنبا أو تورط في إثم، ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو خلاف.
وربما كان من أوضح الأمثلة على حاجة المسلمين في ذلك الوقت إلى هذا النظام المكتوب ما يروى من أن عليا حين عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على أن يلزم الكتاب والسنة وسيرة الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك، أبى أن يعطي ما طلب إليه من العهد وقال: «اللهم لا، ولكن أجتهد في ذلك رأيي ما استطعت.» يريد أنه لا يستطيع أن يلتزم ما لا سبيل إلى التزامه، فالقرآن مكتوب محفوظ في الصدور، ولكنه لم يعرض لسياسة الحكم في تفصيلها ووقائعها اليومية.
وسنة النبي معروفة في جملتها، ولكن منها ما يجهله الحاضر ويحفظه الغائب، ومنها ما ذهب مع من ذهب من أصحاب النبي فيما كان من حرب الردة والفتوح، وسيرة الشيخين كسنة النبي؛ منها المعلوم ومنها ما قد يكون النسيان عرض له، ولعلي بعد الحق كل الحق في أن يخالف عن سيرة الشيخين إن تغير الزمن أو رأى في المخالفة عن هذه السيرة منفعة للرعية ونصحا للمسلمين، فلما عرض عبد الرحمن هذا العهد على عثمان قبله وأعطى مثله وقال: «اللهم نعم!» يريد أنه سيجتهد في إنفاذ كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين، وأنه متى اجتهد في ذلك مخلصا فقد التزم الكتاب والسنة ونهج الشيخين. وقد أصاب علي ما في ذلك شك، ولم يبعد عثمان، ولكن انظر إلى ما حدث بعد أن مضت أعوام على إمرة عثمان: ذهب في أموال المسلمين مذهبا مخالفا لمذهب عمر وسيرته؛ فأما الذين بايعوه على التزام هذه السيرة فيما التزم فقد رأوا أنه خالف عنها ولم يف بالعهد كاملا، وأما هو فرأى أنه لم يخالف بحال من الأحوال؛ لأن قوام سيرة عمر إنما هو التقرب إلى الله، وهو قد وصل رحمه تقربا إلى الله، فهو يتقرب إلى الله كما كان عمر وأبو بكر يفعلان، ولا عليه أن تختلف وسائل هذا التقرب إلى الله. ولو قد كان للمسلمين في ذلك الوقت نظام مكتوب بين الحدود واضح الأعلام، لما أبى علي أن يبايع على هذا الدستور، ولما احتاج عثمان إلى أن يبايع ثم يتأول، ولما انقسم الناس بعد ذلك فريقين: فريقا يشتد ويتحرج كما تحرج علي ومن لاموا عثمان، وفريقا يتأول كما تأول عثمان.
نعم، ولكن ينبغي ألا ننسى أن عمر قد قتل سنة ثلاث وعشرين للهجرة، أي قبل أن يمضي على الهجرة وتأسيس الدولة ربع قرن، وأن هذه المدة القصيرة لم تنفق في حياة هادئة مطمئنة قد استقرت فيها الأمور وفرغ فيها البال، وإنما أنفق منها عشرة أعوام في حمل العرب على الإسلام، ثم أنفق منها عام وبعض عام في رد العرب إلى الإسلام بعد أن انتقضوا عليه، ثم أنفق سائرها في دفع العرب إلى نشر الإسلام في أقطار الأرض: في الإدالة من الفرس، وإخراج الروم من الشام ومصر، ثم في تمصير الأمصار وتجنيد الأجناد، ووضع النظم الأولى لسياسة الحرب والسلم، وللإدارة خارج بلاد العرب وداخل بلاد العرب؛ فليس من العدل ولا من الإنصاف أن يقال إن المسلمين في صدرهم ذاك قد قصروا أو تخلفوا أو تركوا ما كان يمكن أن يفعلوا دون أن يفعلوه.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الشيخين إنما كانا يبتكران ما كانا يقبلان عليه من تنظيم أمور الحكم ابتكارا في هذه البيئة العربية البدوية التي لم تكن لها سابقة ذات خطر في الإدارة أو السياسة أو الحضارة بوجه عام، ثم لم يكونا يبتكران فحسب، وإنما كانا يسوسان قوما لم يتعودوا أن يساسوا، ويحضران قوما لم يتحضروا من قبل، عرفت أن من الشطط أن يقال إن الشيخين لم يضعا للمسلمين من النظم السياسية ما كان ينبغي أن يضعا. وقد كان عمر رحمه الله يجتهد في ذلك ما وسعه الاجتهاد، لا يكاد يعرف من نظم الأمم التي سبقت إلى الحضارة شيئا إلا استقصاه واستخلص منه ما يلائم المزاج العربي، وما يلائم الإسلام، وما يلائم هذه الدولة الناشئة التي أسرعت إلى النمو والانتشار إسراعا عظيما سبقت به تفكير المفكرين وتدبير المدبرين.
أما العنصر الثاني من عناصر هذا النظام السياسي، وهو هذه الأرستقراطية الممتازة من أصحاب النبي؛ فقد كان بطبعه معرضا للزوال حين يمضي الزمن ويبلغ الكتاب أجله، وتنشأ أجيال جديدة ليس لها ما كان لهذا الجيل من الامتياز. وقد كان من الطبيعي أن يوضع لهذه الأجيال النظام الذي يعلمها كيف تختار خلفاءها وكيف تراقبهم وتحاسبهم وتعاقبهم إن تعرضوا لما يقتضي العقاب. ولو قد وضع هذا النظام لما تفرق أمر المسلمين بعد مقتل عثمان على النحو الذي عرفه التاريخ، ولما ذهب فريق من المسلمين مذهب المحافظة الهوجاء على سنة النبي والشيخين: وهم الخوارج، وفريق آخر مذهب المحافظة على أن تكون الإمامة في آل بيت النبي، وفريق ثالث على أن تستحيل الخلافة ملكا قيصريا أو كسرويا، وفريق رابع إلى أن يكون الأمر شورى بين المسلمين دون أن يعرفوا لهذه الشورى نظاما ولا حدودا. ولكن ما قلناه بالقياس إلى العنصر الأول نقوله بالقياس إلى هذا العنصر الثاني؛ فلم يتح للشيخين وأصحابهما من الوقت ولا من الفراغ والدعة ولا من التطور والاتصال بأسباب الحضارة ما كان من شأنه أن يمكنهم من وضع هذا النظام. إنما السبيل على الذين جاءوا بعدهم فأتيحت لهم السعة والدعة والفراغ، ولم يفكروا مع ذلك لا في أن يضعوا نظاما لتداول الحكم، ولا في أن يضعوا نظاما يكفل رعاية العدل السياسي والاجتماعي، وإنما أهملوا ذلك إهمالا وآثروا أنفسهم بالحكم والغلب والاستعلاء.
Bog aan la aqoon