Fitna Kubra Cuthman
الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان
Noocyada
فلما كثر ذلك من زياد شكاه عبيد الله إلى عثمان، فدعا عثمان زيادا فنهاه عن ذلك فلم ينته، وإنما قال في عثمان نفسه:
أبا عمرو عبيد الله رهن
فلا تشكك، بقتل الهرمزان
فإنك إن غفرت الجرم عنه
وأسباب الخطا فرسا رهان
لتعفو إذ عفوت بغير حق
فما لك بالذي تخلي يدان
فغضب عثمان وزجر زيادا حتى انتهى. ولكن قوما من المسلمين لم يرضوا قضاء عثمان، ويقال: إن عليا كان من هؤلاء، ويقال: إنه لو قدر على عبيد الله أثناء خلافته لأقاد منه، ولكن عبيد الله خرج مع الغاضبين لعثمان وقاتل مع معاوية بصفين فقتل هناك. والذي أسخط هؤلاء المسلمين مراعاتهم لظاهر النص القرآني أولا، وتحرجهم بعد ذلك من أن يعفى عن عبيد الله لأنه ابن خليفة، ولأنه قتل مسلما أعجميا حديث عهد بالإسلام وآخرين من أهل الذمة، ففي هذا العفو ما يشبه أن يكون تمييزا بين المسلمين، تمييزا بين العربي وهو عبيد الله، وبين الأعجمي وهو الهرمزان، والله لم يفرق بين المسلمين فيما ضمن لهم من حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم مهما يكن آباؤهم ومهما تكن أجناسهم، وفي هذا العفو ما يشبه أن يكون إهدارا لدماء أهل الذمة على ما تقرر لهم في الدين من الحرمة ورعاية الحقوق، ولو ترك الأمر على هذا النحو وأبيح لأبناء الخلفاء وأمثالهم من أبناء كبار الأنصار والمهاجرين أن يثأروا لأنفسهم بأنفسهم، يتبعون في ذلك شهواتهم ونزواتهم، ولا يرفعون أمرهم إلى السلطان، ولا يقيمون البينة على أصحاب ثأرهم، لفسد الأمر وضاع العدل، وكانت الفوضى وطمست آيات الدين.
ونعود فنقول: إن عثمان كان ولي أمر المسلمين، وله بحكم هذه الولاية أن يعفو، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدا من حدود الله ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه، وإنما أدى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده، ولكن هذا النحو من العفو لا يخلو مما يريب المتشددين في الدين؛ فعبيد الله لم يعاقب على شيء مما أتى، وإنما احتمل العقوبة عنه عثمان حين أدى الدية من ماله هو، ولو قد عفا فحقن دم عبيد الله، ثم فرض عليه وعلى أسرته دية القتلى؛ لأقام الحد في غير ريبة، ولما استطاع أحد أن ينكر من قضائه شيئا، ولو أنه إذ أدى الدية من ماله رفقا بآل الخطاب أمسك عبيد الله في السجن تعزيرا له وتأديبا، حتى يتوب إلى الله من إثمه، ويندم على إراقة الدم في غير حقه، وعلى الاستخفاف بالسلطان استجابة للحفيظة الجاهلية - لو قد فعل ذلك لكان له مخرج من هذا الحرج، ولأعلم فتيان قريش من أمثال عبيد الله أن دماء المسلمين والذميين أعظم حرمة عند الله وعند السلطان من أن تراق بغير الحق ثم لا يعاقب من أراقها عقابا يسيرا أو خطيرا، وإنما يخلى بينه وبين الحياة يحياها آمنا، ويخلى بينه وبين طيبات الحياة يستمتع بها في غير رهب ولا خوف.
ومهما يكن من شيء فقد استقبل عثمان خلافته بهذا النحو من السياسة الذي يصور رحمته ورأفته وإيثاره للعافية، وتجنبه لما يحفظ القلوب؛ قلوب العرب خاصة، وقلوب هذه الطبقة الممتازة من المهاجرين وأبناء المهاجرين بنوع أخص، فرضي عن هذه السياسة قوم وسخط عليها آخرون، وكان بدء خلافة عثمان محاطا بشيء من هذا الشك والاختلاف. ولو قد كان عمر مكان عثمان وقدم إليه فتى من فتيان قريش مهما يكن أبوه ومهما تكن عشيرته، لقام في هذا الأمر مقام صاحب الجد الذي لا تأخذه في حدود الله لومة لائم. وما من شك في أن قضاء عثمان في هذه القضية قد رسم خلافته بما يميزها تمييزا تاما من خلافة عمر، وهو الرفق واللين.
Bog aan la aqoon